الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠
٢٠١

سورة

البلد

مكيّة

وعدد آياتها عشرون آية

٢٠٢
٢٠٣

«سورة البلد»

محتوى السّورة :

هذه السّورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى :

١ ـ في بداية هذه السّورة ، بعد قسم ذي محتوى عميق ، تقرّر الآية أنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب ؛ وبذلك تعدّ الإنسان من جهة ليصارع العقبات ، ومن جهة اخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم ، فالراحة المطلقة والنعيم المطلق في الحياة الآخرة لا غيرها.

٢ ـ في مقطع آخر من هذه السّورة ، إشارة إلى أهم النعم الإلهية ، ثمّ ذكر جحود الإنسان بهذه النعم.

٣ ـ وفي آخر هذه السّورة تقسيم النّاس إلى : «أصحاب الميمنة» و «أصحاب المشئمة» ، ثمّ يأتي ذكر جانب من أعمال المجموعة الأولى وصفاتها (المجموعة المؤمنة الصالحة) وما ينتظرها من جزاء ، ثمّ المجموعة الثّانية ، (وهي الكافرة المجرمة) وما تواجهه من مصير.

عبارات السّورة قاطعة قارعة ، والجمل قصيرة ذات إيقاع قوي ، والألفاظ واضحة مؤثرة معبّرة ، وشكل آياتها تدلّ على أنّها مكّية.

فضيلة السّورة :

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم

٢٠٤

القيامة» (١).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «من كان قراءته في فريضته «لا اقسم بهذا البلد» كان في الدنيا معروفا أنّه من الصالحين ، وكان في الآخرة معروفا أنّ له من الله مكانا ، وكان يوم القيامة من رفقاء النّبيين والشّهداء والصّالحين» (٢).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٠.

(٢) ثواب الأعمال ، نقلا عن نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧٨.

٢٠٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧))

التّفسير

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١)

في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة ... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل .. بالقسم المرتبط ارتباطا خاصّا بالموضوع المطروح.

وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم : قسما بهذه المدينة المقدسة مكّة : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان ، هي إنّ هذه الحياة مقرونة

__________________

(١) (لا) : زائد للتأكيد ، وقيل إنّها نافية (لمزيد من التوضيح راجع مطلع سورة القيامة).

٢٠٦

بالآلام والأسقام.

(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)

لم يرد ذكر «مكّة» في الآية صريحا ، لكن الدلالات تشير إلى أن المقصود بالبلد مكّة ، فالسّورة مكّية ، وأهميّة هذه المدينة المقدّسة لا تبلغها مدينة ، والمفسّرون مجمعون على ذلك.

أرض مكّة مشرّفة ومعظمة ، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة الله سبحانه ، وكان هذا المركز مطاف أنبياء الله العظام ... ولذلك أقسم الله بها ... ولكنّ السّورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفا وكرامة : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ...) فالبلد استحق أن يقسم به الله لوجودك أنت أيّها النّبي الكريم فيه!

فلا يتصورن كفار مكّة أنّ القرآن يقسم ببلدهم تكريما لهم ولأوثانهم ، لا فهذا البلد مكرم لما يحمله من تاريخ الرسالات السماوية .. ولما يحتضنه من رسالة خاتمة ، ونبي خاتم.

وفي الآية تفسير آخر يعتبر (لا) في الآية السابقة نافية ويكون المعنى : «لا اقسم بهذا البلد المقدس حال كون حرمته قد هتكت والأنفس والأموال والأعراض فيه قد أحلّت وأبيحت».

ويكون ذلك ـ على هذا التّفسير ـ توبيخا وتقريعا لكفار قريش وهم الذين يعتبرون أنفسهم خدمة الحرم وسدنته ، ويكنّون له احتراما يفوق كلّ احترام حتى أن الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له ... بل حتى قيل إنّ الرجل يحمل معه شيئا من لحاء أشجار مكّة فلا يتعرّض له أحد. فلما ذا إذن لم تراعوا هذه الآداب والتقاليد في حقّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

لما ذا تماديتم في إيذائه وإيذاء صحابته ، حتى سولت لكم أنفسكم استباحة دمه؟! وقد ورد هذا التّفسير في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام

٢٠٧

أيضا (١).

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)

للمفسّرين آراء عديدة عن المقصود بالوالد والولد في الآية.

قيل : إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.

والتّفسير هذا يتناسب مع القسم بمكّة ... ونعلم أنّ إبراهيم وابنه رفعا القواعد من البيت ، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين. والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وابنه ويفخرون في الانتساب إليهما.

وقيل : إنّ المقصود بالوالد والولد آدم وذرّيته.

وقيل : آدم والأنبياء من ذرّيته.

وقيل : كلّ والد وما ولد. متوالي الأجيال.

وتعاقبها بالولادة من أعجب بدائع الكون ، ولذلك خصّها الله تعالى بالقسم ولا يستبعد الجمع بين هذه التفاسير وإن كان الأوّل أنسب.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ).

وهذا هو الهدف النهائي للقسم «الكبد» كما يقول الطبرسي في مجمع البيان في الأصل بمعنى «الشدّة» ولذا يقال للّبن إذا استغلظ «تكبّد اللّبن» ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ «كبد» ألم يصيب الكبد ، ثمّ اطلق على كلّ ألم ومشقّة.

نعم ... الإنسان يمرّ في دورة حياته بمراحل كلّها مشوبة بالألم ومقرونة بالعناء. منذ أن يستقرّ نطفة في رحم امه حتى ولادته ، ثمّ بعد ولادته في مراحل طفولته وشبابه وشيخوخته يعاني من ألوان والمشاق والآلام ، هذه طبيعة الحياة ، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر :

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفوا من الأكدار والأقذار

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٣.

٢٠٨

ومكلّف الأيّام ضد طباعها

متطلب في الماء جذوة نار

وهذه الحالة تشمل كلّ أبناء البشر دونما استثناء ، بمن فيهم أنبياء الله وأولياؤه الصالحون.

وإذا خيل إلينا أن ثمّة مجتمعات تبدو بعيدة عن الآلام والأتعاب وتعيش في دعة ورفاه ، فذلك نتيجة نظرة سطحية ، ولو تعمقنا في دراسة هذه المجتمعات ، ونظرنا إليها عن كثب لتلمسنا ما تعانيه من عميق الألم وشدّة النصب .. ثمّ إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ). (١)

فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته ، هذه الحقيقة تردّ على أولئك الذين يمتطون مركب الغرور ، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي أو أنّهم مانعتهم حصونهم ومناصبهم وثرواتهم ، فيرتكبون الذنوب ويمارسون العدوان ويديرون ظهورهم لشريعة الله.

ويحتمل أنّ المقصود هم الأثرياء الذين يتصورون أنّ لا أحد بإمكانه سلب ثروتهم منهم ... وقيل أنّ المراد من الآية الأشخاص الذين يتصورون بأنّه لا أحد يحاسبهم على أعمالهم.

ولكن مفهوم الآية عام بإمكانه أن يستوعب جميع هذه التّفاسير.

وقيل إنّ الآية أشارت إلى «أبي الأسد بن كلدة» وهو رجل من «جمح» كان قويا شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجرّه عشرة رجال من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه (٢).

غير أن إشارة الآية إلى فرد ، أو أفراد مغرورين لا يمنع شمولية مفهومها.

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً).

__________________

(١) «أن» في الآية مخففة من الثقيلة والتقدير : أنّه لن يقدر عليه أحد.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٣.

٢٠٩

إشارة إلى قول الذين يطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات ، فيأبون ويقولون بغرور : إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيرا من الأموال ، بينما لم ينفق هؤلاء شيئا ، وإنّ أعطوا لأحد شيئا فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.

وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معادة الرّسول والرسالة ، وتباهوا بذلك ، يؤيد ذلك قول «عمرو بن عبدود» في حرب الخندق حين عرض عليه علي عليه‌السلام الإسلام قال : فأين ما أنفقت فيكم مالا لبدا؟ (١) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النّبي.

وقيل إنّها نزلت في بعض رجال قريش وهو «الحرث بن عامر» ، وذلك أنّه أذنب ذنبا ، فستفتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمره أن يكفّر. فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات ، منذ دخولي دين محمّد (٢).

والجمع بين التّفاسير المذكورة جائز ، وإن كان التّفسير الأوّل أكثر انسجاما مع سياق الآيات التالية :

والفعل «أهلكت» يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.

و «لبد» : تعني الشيء المتراكم ، وهنا تعني المال الوفير.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ).

إنّه غافل عن هذه الحقيقة ... حقيقة اطلاع الباري تعالى على كلّ الأمور وعلى ظواهر الأعمال ، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب ، وما يدور في الخلد والنّية ... وهل من المعقول أن لا يحيط المطلق الحق بكلّ شيء؟! هؤلاء الغافلون دفعهم جهلهم لأن يروا أنفسهم بمعزل عن الرقابة الإلهية.

نعم ، الله سبحانه يعلم مصدر حصولهم على هذه الأموال ، ويعلم السبيل الذي أنفقوها فيه.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨٠ ، الحديث ١٠.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٣.

٢١٠

وروي عن ابن عباس أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة : عن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من اين جمعه ، وفي ما ذا أنفقه ، وعن عمله ماذا عمل به ، وعن حبّنا أهل البيت» (١).

بعبارة موجزة : كيف يعتري الإنسان الغرور ويدعي القدرة وحياته ممزوجة بالآلام والأكدار؟! وكيف يدعي أنّه أنفق مالا كثيرا في سبيل الله بينما الباري سبحانه عليهم بنواياه ، عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال ، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٤ ، وبهذا المعنى أيضا ورد في تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٢١١

الآيات

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

التّفسير

نعمة العين واللسان والهداية :

استتباعا للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في الطاغين ، تذكر هذه الآيات الكريمة جانبا من أهم ما أنعم الله به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية ... كي تكسر روح الغرور ، وتدفع إلى التفكير في خالق هذه النعم ، ولكي تحرّك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثمّ تسوقه إلى معرفة الخالق :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ؟ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ؟ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)

في هذه العبارات القصيرة إشارة إلى ثلاث نعم مادية هامّة ونعمة معنوية كبرى هي بمجموعها من أعظم النعم الإلهية : نعمة العين واللسان والشفة من جانب ، ونعمة الهداية ومعرفة الخير والشرّ من جانب آخر.

«النجد» في الأصل يعني المكان المرتفع ، ويقابلها «تهامة» وهي الأرض

٢١٢

المنخفضة ، وهنا كناية عن الخير والشرّ وعن سير السعادة والشقاء (١).

ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ :

«العين» أهم وسيلة لارتباط الإنسان بالعالم الخارجي ، عجائب العين تدفع الإنسان حقّا إلى الخضوع أمام خالقه ، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية ، والمشيمية ، والعنبية ، والجلدية ، والزلالية ، والزجاجية ، والشبكية ، لكلّ منها تركيب عجيب دقيق مدهش ، روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه ، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو.

لو لم يكن في الكون سوى الإنسان ، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين ، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم الله الواسع وقدرته الجبّارة جلّ وعلا.

وأمّا «اللسان» ، فهو أهم وسائل ارتباط الإنسان بغيره من أبناء جلدته ، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة ، وبدون هذه الوسيلة الهامّة من وسائل الارتباط ما كان بإمكان الإنسان إطلاقا أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة.

و «الشفتان» : تلعبان أوّلا دورا في هامّا في النطق ، إذ أن الشفتين مخرج لكثير من الحروف ، والشفتان تقومان بدور أيضا في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم ، وشرب الماء ، ترى لو انعدمت الشفتان فما ذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟!

إنّ درك الحقائق يتمّ أوّلا بالعين واللسان ... ولذلك تقدم ذكرهما في

__________________

(١) روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قيل له : إنّ أناسا يقولون في قوله (وهديناه النجدين) أنّهما الثديان (أي ثديا الأم) فقال : «لا ، هما الخير والشرّ» مجمع البيان ، ذيل الآيات المذكورة ، وضمنا التعبير ب «نجد» على الخير من أجل عظمته وفي مورد الشرّ من باب التغليب.

٢١٣

السياق ... ثمّ تبع ذلك ذكر الهداية ، الهداية العقلية والفطرية (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، ويشمل التعبير أيضا «الهداية التشريعية» التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء والأولياء.

نعم ... لقد أنعم الله على الإنسان بالبصر والبصيرة ، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الانحراف عنه ، كي تكتمل الحجّة على الإنسان.

ومع كلّ هذه النعم ، نعم الهداية ، لو انحرف الإنسان عن جادة الحقّ ، فلا يلومنّ إلّا نفسه.

عبارة (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان ، تدلّ أيضا على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء ، لأنّ «النجد» مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كدا وسعيا وجهدا ، غير أن طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضا ، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعى على طريق الخير.

مع ذلك ، فانتخاب الطريق بيد الإنسان ... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها ... في الحلال أو الحرام ، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير» أو «الشر».

وفي الحديث القدسي أن الله سبحانه يخاطب أبناء آدم يقول : «يا ابن آدم إنّ نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ...» (١).

فالله سبحانه منح هذه النعم ، ومنح وسائل السيطرة عليها ، وتلك من الألطاف الإلهية الكبرى.

والملفت للنظر أنّ الآيات التي نحن بصددها أشارت إلى الشفتين بعد اللسان ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨١.

٢١٤

ولكن لم تشر إلى الجفنين بعد ذكر العين ، ولعل ذلك يعود إلى أهمية الشفتين في الكلام والطعام وغيرها من الأمور أهمية تفوق بكثير أهمية الجفنين ، وقد يعود أيضا إلى أن السيطرة على اللسان أهم وأخطر بكثير من السيطرة على العين.

* * *

بحوث

١ ـ عجائب العين

العين يشبهونها عادة بآلة التصوير (الكاميرا) ، فهي تلتقط الصور من عدستها الدقيقة ، بدلا من أن تعكسها على اللوح الحساس (الفيلم) كما تفعل الكاميرا ، تعكس الصور على شبكية العين ، ومن ثمّ تنتقل عن طريق الأعصاب البصرية إلى الدماغ.

آلة التصوير الدقيقة الظريفة هذه قد تلتقط يوميا ملايين الصور ، غير أنّها من جهات مختلفة لا يمكن مقارنتها حتى بأعقد وأحدث أجهزة التصوير ، لأنّه :

١ ـ فتحة تنظيم النور (ديافراغم) في جهاز العين ، وهو بؤبؤ العين ، يعمل بشكل تلقائي أمام تغيير النور ، فيتقلص أمام النور القوي ، ويتسع أمام النور الضعيف ، بينما أجهزة التصوير بحاجة إلى تنظيم بيد المصور.

٢ ـ عدسة العين خلافا لأنواع عدسات أجهزة التصوير تتغير بتغير بعد الصورة عنها ، فيكون قطرها حينا ٥ ، ١ ملم ، ويصل أحيانا إلى ٨ ملم ، وهذا التغيير يتمّ بواسطة عضلات تتقلص وتنبسط حسب بعد الصورة المرئية ، فعدسة العين تستطيع أن تعمل ما تعمله مئات العدسات الزجاجية.

٣ ـ العين تستطيع أن تتحرك في الجهات الأربع بمساعدة العضلات وتلتقط الصور في الأنحاء المختلفة.

٤ ـ والمهم ، أن أجهزة التصوير بحاجة إلى تبديل أفلامها ، فإذا انتهت حلقة

٢١٥

فيلم ، فلا بدّ من فيلم آخر. لكن عين الإنسان تلتقط الصور طوال عمر الإنسان دون أن تحتاج إلى تعويض شيء ، ويعود السبب إلى أن الشبكية التي تنعكس عليها الصور تحتوي على نوعين من الخلايا «المخروطية» ، و «الأسطوانية» فيها مادة حساسة للغاية تجاه النور تتحلل بأقل شعاع من نور في الشبكية وتتحول إلى أمواج تنتقل إلى الدماغ ، ثمّ يزول الأثر وتستعد الشبكية لالتقاط صور جديدة.

٥ ـ أجهزة التصوير مصنعة من مواد قويّة جدّا ، لكن جهاز العين لطيف وظريف إلى درجة كبيرة ، لذلك وضع في محفظة عظيمة مستحكمة ، والعين مع ظرافتها ولطافتها أكثر دواما بكثير من الحديد والفولاد.

٦ ـ مسألة تنظيم النور ذات أهمية فائقة للمصورين ، وقد يطول الزمن بالمصور كي يستطيع تنظيم إضاءة الصورة ، بينما تستطيع العين في جميع ظروف النور القوي والمتوسط والضعيف بل حتى في الظلام شريطة وجود بصيص من النور أن تلتقط الصور ، وهذا من عجائب العين.

٧ ـ حين ننتقل فجأة من النور إلى الظلمة ، أو حين تنطفئ مصابيح الغرفة في الليل ، لا تستطيع أعيننا في البرهة الاولى أن ترى شيئا ، ثمّ بالتدريج تعتاد العين على الظرف الجديد فترى ما حولها ، وهذا التعوّد هو تعبير بسيط عن التحول المعقد الذي يحدث في العين ، ويؤدي خلال لحظات بسيطة إلى الانسجام بين العين والظروف الجديدة.

وعكس ذلك يحدث عند ما ننتقل من الظلام إلى النور ، فالعين في البداية لا تتحمل النور القوي ، ولكن بعد لحظات تتواءم مع الظرف الجديد ، ومثل هذه الخصائص لا توجد إطلاقا في أجهزة التصوير.

٨ ـ أجهزة التصوير تستطيع أن تصور زاوية محدودة ممّا يقع أمامها ، بينما عين الإنسان تستطيع أن تلتقط كلّ ما في نصف الدائرة الافقية أيامها بزاوية مقدارها ١٨٠ درجة تقريبا.

٢١٦

٩ ـ من عجائب العينين أنّهما تلتقطان الصورة لتعكساها معا في نقطة واحدة ، وإذا اختل هذه التنظيم تصاب العين بالحول ويرى الفرد الشيء الواحد شيئين.

١٠ ـ ومن الطريف أن صورة الأجسام تنعكس على الشبكية مقلوبة ، بينما لا نرى نحن الأشياء مقلوبة.

١١ ـ سطح العين يجب أن يبقى رطبا دائما ، وإذا جفّ اضرّ بالعين كثيرا ، وهذه الرطوبة تفرزها الغدد الدمعيّة ، فتدخل العين من جانب وتخرج عن طريق قنوات دقيقة تقع في جانب من العين إلى الأنف ، فترطب الأنف أيضا.

وإذا جفت الغدد الدمعية ، تتعرض العين للخطر ، وتتعذر حركة الأجفان ، وإن زاد نشاط هذه الغدد أكثر من المطلوب يسيل الدمع باستمرار على الوجه ، وإذا انسدّ طريق القنوات التي تدفع الدمع من العين إلى الأنف ، فلا بدّ للفرد أن ينشغل دائما بتجفيف الماء المتصبب على وجهه.

١٢ ـ تركيب الدمع معقد فيه أكثر من عشرة عناصر تشكل معا أفضل سائل للحفاظ على العيم.

بعبارة موجزة عجائب العين من الكثرة بحيث تتطلب كتابة المجلدات الضخام ، وليست هي أكثر من شحمة صغيرة ، وحقّا ما قاله أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ، ويسمع بعظم ، ويتنفس من خرم» (١).

٢ ـ عجائب اللسان

اللسان بدوره من الأعضاء الهامة في بدن الإنسان ، وينهض بأعباء هامّة فهو عامل مهم في مضغ الطعام وبلعه ، يدفع باللقمة إلى الأسنان ويلتقطتها دون أن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٨.

٢١٧

يتعرض هو للقطع.

وقد يحدث نادرا أن يقع اللسان في مصيدة الأسنان أثناء الأكل ، فنستغيث من الألم ، ونفهم عندئذ مدى مهارة اللسان في تجنب الانزلاق تحت الأسنان مع أنّه ملاصق لها!!

واللسان بعد ذلك ينظف جوف الفم والأسنان من بقايا الطعام.

وأهم من ذلك ، دور اللسان في الكلام بتحركه السريع المتواصل المنظم في الجهات الست ، وهو دور عجيب ، والإمعان فيه يثير الدهشة والحيرة فقد يسرّ الله تعالى للإنسان وسيلة سهلة للتكلم وفي متناول الجميع فلا يصيبها تعب ولا نصب ولا ملل ولا تكلّف الإنسان خرجا!!

وأعجب من ذلك موضوع استعداد الإنسان للكلام ، وهذا الاستعداد أودعه الله في الإنسان ليستطيع من خلال تكوين الجمل باشكال لا تعدّ ولا تحصى أن يبيّن ما لا نهاية له من الغايات.

وأهم من ذلك أيضا تنوّع اللغات وقابلية الإنسان على وضع لغات مختلفة ، وتتّضح هذه الأهمية من خلال مطالعة مفردات آلاف اللغات المنتشرة في العالم ... حقّا «العظمة لله الواحد القهار!».

٣ ـ هداية النجدين

«النجد» كما ذكرنا الارتفاع أو الأرض المرتفعة ، و «النجدين» هنا طريق الخير وطريق الشر ، وورد في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا أيّها النّاس! هما نجدان : نجد الخير ونجد الشرّ ، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير». (١)

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٤ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧١٥٥.

٢١٨

تحمل «التكليف» والمسؤولية غير ممكن دون شك ، بغير المعرفة والوعي وحسب هذه الآية فإنّ الله سبحانه منح الإنسان هذه المعرفة.

وهذه المعرفة يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق : من الإدراكات العقلية والاستدلال ، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الاستدلال ، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بيّنه الله سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معا.

ويلاحظ أن الحديث المذكور يصرّح بأن نجد الشرّ ليس أحبّ إلى طبع الإنسان من نجد الخير ، وهذا يردّ على القائلين بأن الإنسان مطبوع على الشرّ وإن سلوك طريق الشرّ أيسر له وأسهل.

ومن المؤكّد أن البيئة الاجتماعية لو خلت من التربية الخاطئة والانحرافات لوفرت الأجواء لرغبة متزايدة في الإنسان نحو الخير ، ولعل تعبير «نجد» وهي الأرض المرتفعة لطريق الخير يعود إلى أن الأرض المرتفعة ذات هواء أنقى وجوّ أبهج ، وإنّما اطلق النجد للشرور أيضا من باب التغليب (١).

وقيل أيضا أنّ التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريقي الخير والشرّ وبروزهما ، كبروز وظهور الأرض المرتفعة.

* * *

__________________

(١) كما يقال للشمس والقمر : القمران.

٢١٩

الآيات

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

التّفسير

العقبة!

بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة ، تنحي هذه الآيات باللائمة على أولئك الذين يكفرون بهذه النعم ، ولا يسخرونها على طريق النجاة ، يقول سبحانه : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١)

__________________

(١) الظاهر أن (لا) في الآية «نافية» و «خبرية» ونستبعد أن تكون على وجه الدعاء على ضمير الفعل أو أن تكون

٢٢٠