الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

بعين بصيرة ولبّ شغول.

ثمّ إلى الأرض : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ).

فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية ، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة اخرى .. ولو كانت كلّ الأرض عبارة عن جبال ووديان ، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه!

ولا بدّ لنا من التأمل والتفكير في من جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماما لحياة الإنسان؟ ..

ولكن ، ما علاقة الربط بين الإبل والسماء والجبال والأرض ، حتى تذكرها الآيات بهذا التوالي؟

يقول الفخر الرازي في ذلك : إنّ القرآن نزل على لغة العرب ، وكانوا يسافرون كثيرا لأنّ بلدتهم بلدة خالية من الزراعية ، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإيل ، فكانوا كثيرا ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين ، منفردين عن النّاس ، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء ، لأنه ليس معه من يحادثه ، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره ، وإذا كان كذلك لم يكن له بدّ من أن يشغل باله بالفكرة ، فإذا فكر في ذلك وقع بصره أوّل الأمر على الجمل الذي ركبه ، فيرى منظرا عجيبا ، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء ، وإذا نظر يمينا وشمالا لم ير غير الجبال ، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض ، فكأنّه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر ، ثمّ إنّه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئا سوى هذه الأشياء ، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣١ ، ص ١٥٨.

١٦١

وإذا ما ابتعدنا المحيط العربي القديم وما كان فيه ، وتوسعنا في مجال تأملنا ليشمل كلّ محيط البشرية ، لتوصلنا إلى أنّ هذه الأشياء الأربع تدخل في حياة الإنسان بشكل رئيسي ، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء ، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات وما يتغذى به ، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة ، وما الإبل إلّا نموذج شاخص متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان.

وعليه ، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كلّ مستلزمات «الزراعة» و «الصناعة» و «الثروة الحيوانية» ، وحري بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة ، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى ، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر.

وبعد هذا البحث التوحيدي ، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) .. (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

نعم ، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود ، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف ...

فذكّرهم بهدفية الخلق ، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني ، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري.

وليس باستطاعتك إجبارهم ، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه ، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والإختيار ، وليس ثمّة من معنى للتكامل الإجباري.

وقيل : إنّ هذا الأمر الإلهي نزل قبل تشريع «الجهاد» ، ثمّ نسخ به!

وما أعظم هذا الاشتباه!!

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مارس عملية التذكير والتبليغ منذ الوهلة الاولى للبعثة الشريفة واستمر على هذا النهج حتى آخر لحظة من حياته الشريفة المباركة ، ولم

١٦٢

تتوقف العملية عن الممارسة من بعده ، حيث قام بهذه المهمّة الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء من بعدهم ، حتى وصلت ليومنا وسوف لن تتوقف بإذن الله تعالى ، فأيّ نسخ هذا الذي يتكلمون عنه!

ثمّ إنّ عدم إجبار النّاس على الإيمان يعتبر من ثوابت الشريعة الإسلامية السمحاء ، أمّا هدف الجهاد فيتعلق بمحاربة الطغاة الذين يقفون حجر عثرة في طريق دعاة الحقّ وطالبيه.

وثمّة آيات اخرى في القرآن قد جاءت في هذا السياق ، كالآية (٨٠) من سورة النساء : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، وكذا الآية (١٠٧) من سورة الأنعام ، والآية (٤٨) من سورة الشورى – فراجع

«مصيطر» : من (السطر) ، وهو المعروف في الكتب ، و (المسيطر) : الذي ينظم السطور ، ثمّ استعمل لكلّ من له سلطة على شيء ، أو يجبر أحدا على عمل ما.

وفي الآيتين التاليتين .. يأتي الاستثناء ونتيجته : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) .. (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ).

ولكن ، إلى أية جملة يعود الاستثناء؟

ثمّة تفاسير مختلفة في ذلك :

الأوّل : إنّه استثناء لمفعول الجملة «فذكّر» ، أي : لا ضرورة لتذكير المعاندين الذين رفضوا الحق جملة وتفصيلا ، كما جاء في الآية (٨٣) من سورة الزخرف : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

الثّاني : إنّه استثناء لجملة محذوفة ، والتقدير : فذكّر إنّ الذكرى تنفع الجميع إلّا من تولى وكفر ، كما جاء في الآية (٩) من سورة الأعلى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ، (على أن يكون لها معنا شرطيا).

الثّالث : إنّه استثناء من الضمير «عليهم» في الآية السابقة ، أي : (إنّك لست

١٦٣

عليهم بمصيطر إلّا من تولّى وكفر فأنت مأمور بمواجهتها) (١).

كلّ ما ذكر من تفاسير مبنيّ على أنّ الاستثناء متصل ، ولكن ثمّة من يقول بأنّ الاستثناء منقطع ، فيكون معناه بما يقارب معنى (بل) ، فيصبح معنى الجملة : (بل من تولّى وكفر فإنّ الله متسلط عليهم) أو (إنّه سيعاقبهم بالعذاب الأكبر).

ومن بين هذه التفاسير ، ثمّة تفسيران مناسبان.

الأوّل : القائل بالاستثناء المتصل لجملة (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) فيكون إشارة لاستعمال القوّة في مواجهة من تولى وكفر.

الثّاني : القائل بالاستثناء المنفصل ، أيّ ، سينالهم العذاب الأليم ، الذي ينتظر المعاندين والكافرين.

ويراد ب (الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) «عذاب الآخرة» الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة ، بقرينة الآية (٢٦) من سورة الزمر : (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).

وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة ، لأنّ عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع.

وبحدّية قاطعة ، تقول آخر آيتين في السّورة : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) .. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

والآيتان تتضمّنان التسلية لقلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهته لأساليب المعاندين ، لكي لا يبتئس من أفعالهم ، ويستمر في دعوته.

وهما أيضا ، تهديد عنيف لكلّ من تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين ، فيخبرهم بأنّ حسابهم سيكون بيد جبار شديد! بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضا ، كما تمّت الإشارة فيما

__________________

(١) ونستفيد من حديث شريف ورد في (الدرّ المنثور) .. أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا بمحاربة عبدة الأصنام ، وفي غير ذلك فهو مأمور بالتذكير.

١٦٤

بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنّبوة ، وهما دعامتا المعاد.

كما وتضمّنت السّورة عرضا لبعض ما سيصيب المجرمين من عقاب ، وعرضت في قبال ذلك ما سينعم به المؤمنون في جنّات النعيم الخالدة.

كما وأكّدت السّورة على حرية الإنسان في اختيار الطريق الذي يسلكه ، وذكّرت بعودة الجميع إلى مولاهم الحق ، وهو الذي سيحاسبهم على كلّ ما فعلوا في دنياهم

كما وبيّنت السّورة أن مهمّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إبلاغ الرسالة ، وأنّه غير مسئول عن كفر وانحراف النّاس وذنوبهم ، وهذه هي مهمّة مبلغي طريق الحقّ.

اللهم ، ارحمنا يوم تعود الخلائق إليك ويكون حسابهم عليك ..

اللهم ، نجّنا برحمتك الكبرى من عذابك الأكبر ..

اللهم ، إنّ مواهب أهل الجنّة التي أوردت هذه السّورة قسما منها عظيمة ومذهلة. فإن كنّا لا نستحقها بأعمالنا فتفضل علينا بها بلطفك ورحمتك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الغاشية

* * *

١٦٥
١٦٦

سورة

الفجر

مكيّة

وعدد آياتها ثلاثون آية

١٦٧
١٦٨

«سورة الفجر»

محتوى السّورة :

كبقية السور المكيّة ، فسورة الفجر ذات آيات قصار وأسلوب واضح ومصحوب بالإنذار والتحذير ..

وتقدّم لنا الآيات الاولى أقساما نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي.

وتنقل لنا بعض آياتها ما حلّ ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فسادا (قوم عاد ، ثمود وفرعون) ، وجعلهم عبرة لاولي الأبصار ، ودرسا قاسيا لكلّ من يرى في نفسه القوّة والاقتدار من دون الله.

ثمّ تشير باختصار إلى الامتحان الربّاني للإنسان ، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات ..

وفي آخر ما تتحدث عنه السّورة هو «المعاد» وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل ، وأيضا ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأها في ليال عشر غفر الله له ، ومن

١٦٩

قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة» (١).

كما وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنّها سورة الحسين بن علي ، من قرأها كان مع الحسين بن علي يوم القيامة في دوحته من الجنّة». (٢)

يمكن أن يكون وصف السّورة بسورة الإمام الحسين عليه‌السلام بلحاظ أنّه أفضل مصاديق ما جاء في آخر آياتها ، حيث فيما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية الأخيرة من السّورة : إنّ «النفس المطمئنة» هو الحسين بن علي عليهما‌السلام.

أو قد يكون بلحاظ ل «ليال عشر» المقسوم بها في أوّل السّورة ، حيث من ضمن تفاسيرها أنّها : ليالي محرم العشرة ، المتعلقة بشهادة الإمام الحسين عليه‌السلام وعلى أيّة حال ، فثوابها لمن تبصر في قراءتها وعمل على ضوءها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨١.

(٢) مجمع البيان ، ١٠ ، ص ٤٨١.

١٧٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥))

التّفسير

والفجر ..!

بدأت السّورة بخمسة أقسام :

الأوّل : (وَالْفَجْرِ) .. والثّاني : (وَلَيالٍ عَشْرٍ).

«الفجر» : في الأصل ، بمعنى الشقّ الواسع ، وقيل للصبح «الفجر» لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.

وكما هو معلوم فالفجر فجران ، كاذب وصادق.

الفجر الكاذب : هو الخيط الأبيض الطويل الذي يظهر في السماء ، ويشبّه بذنب الثعلب ، تكون نقطة نهايته في الأفق ، وقسمه العريض في وسط السماء.

الفجر الصادق : هو النور الذي يبدأ من الأفق فينتشر ، وله نورانية وشفافية خاصة ، كنهر من الماء الزلال يغطي أفق الشرق ثمّ ينتشر في السماء.

١٧١

ويعلن الفجر الصادق عن انتهاء الليل وابتداء النهار ، وعنده يمسك الصائمون ، وتصلى فريضة الصبح.

وفسّر «الفجر» في الآية بمعناه المطلق ، أي : بياض الصبح.

ولا شك فهو من آيات عظمة الله سبحانه وتعالى ، ويمثل انعطافا في حركة حياة الموجودات الموجودة على سطح الأرض ، ومنها الإنسان ، ويمثل كذلك حاكمية النور على الظلام ، وعند مجيئه تشرع الكائنات الحية بالحركة والعمل ، ويعلن انتهاء فترة النوم والسكون.

وقد أقسم الله تعالى ببداية حياة اليوم الجديد.

وفسّره بعض ، بفجر أوّل يوم من محرم وبداية السنة الجديدة.

وفسّره آخرون ، بفجر يوم عيد الأضحى ، لما فيه من مراسم الحج المهمّة ولاتصاله بالليالي العشرة الاولى من ذي الحجّة.

وقيل أيضا : إنّه فجر أوّل شهر رمضان المبارك ، أو فجر يوم الجمعة.

ولكنّ مفهوم الآية أوسع من أن تحدد بمصداق من مصاديقها ، فهي تضم كلّ ما ذكر.

وذهب البعض إلى أوسع ممّا ذكر حينما قالوا : هو كلّ نور يشع وسط ظلام ..

وعليه ، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر ، وكذا بزوغ نور قيام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الرّوايات) (١).

ومن مصاديقه أيضا ، ثورة الحسين عليه‌السلام في كربلاء الدامية ، لشقها ظلمة ظلام بني اميّة ، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام النّاس.

ويكون من مصاديقه ، كلّ ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٥٧ ، الحديث ١.

١٧٢

مرّ التاريخ.

وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة ، فهو «فجر».

وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية ، أمّا ظاهرها فيدل على «الفجر» المعهود.

والمشهور عن «ليال عشر» : إنّهن ليالي أوّل ذي الحجّة ، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض ، (وورد هذا المعنى فيما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

وقيل : ليالي أوّل شهر محرم الحرام.

وقيل أيضا : ليالي آخر شهر رمضان ، لوجود ليلة القدر فيها.

والجمع بين كلّ ما ذكر ممكن جدّا.

وذكر في بعض الرّوايات التي تفسّر باطن القرآن : إنّ «الفجر» هو «المهدي» المنتظر» «عجّل الله تعالى فرجه الشريف» .. و «ليال عشر» هم الأئمّة العشر قبله عليهم‌السلام ..

و «الشفع» ـ في الآية ـ هما عليّ وفاطمة عليهما‌السلام.

وعلى أيّة حال ، فالقسم بهذه الليالي يدّل على أهميتها الاستثنائية نسبة لبقية الليالي ، وهذا هو شأن القسم (٢) ، ولا مانع من الجمع بين كلّ ما ذكر من معان.

ويأتي القسم الثّالث والقسم الرّابع : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ).

للمفسّرين آراء كثيرة فيما أريد ب «الشفع والوتر» حتى ذكر بعضهم عشرين قولا (٣) ، فيما ذهب آخرون لذكر (٣٦) قولا في ذلك (٤).

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ج ١٢ ، ص ٧٤.

(٢) جاءت «ليال عشر» بصيغة النكرة للدلالة على عظمتها وأهميتها ، وإلّا فهي تنطبق على كلّ ما ذكر أعلاه.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣١ ، ص ١٦٤.

(٤) نقل ذلك كلّ من : العلّامة الطباطبائي في الميزان عن بعض المفسّرين في الجزء ٢٠ ، ص ٤٠٦ .. وفي كتاب روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير ، ج ٣٠ ، ص ١٢٠.

١٧٣

وأهم تلك الأقوال ، ما يلي :

١ ـ مراد الآية العددان الزوجي والفردي ، فيكون القسم بجميع الأعداد ، تلك الأعداد التي تدور عليها وبها كلّ المحاسبات والأنظمة والمغطية لجميع عالم الوجود ، وكأنّه سبحانه وتعالى يقول : قسما بالنظم والحساب.

وحقيقة الحساب والنظم في عالم الوجود ، تمثل الاسس الواقعية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية.

٢ ـ المراد ب «الشفع» المخلوقات ، لوجود قرين لكلّ منها ، والمراد ب «الوتر» الباري جلّ شأنه ، لعدم وجود شبيه له ولا نظير.

إضافة إلى أنّ الممكنات تتركب من (ماهية) و (وجود) ، وهو ما يعبّر عنه بالفلسفة ب (الزوج التركيبي) ، أمّا الوجود المطلق الخالي من الماهية فهو «الله» حده ، (وأشارت بعض الرّوايات المنقولة عن المعصومين عليهم‌السلام إلى ذلك) (١).

٣ ـ المراد ب «الشفع والوتر» جميع المخلوقات ، لأنّها من جهة بعضها زوج والبعض الآخر فرد.

٤ ـ المراد ب «الشفع والوتر» الصلاة ، لأنّ بعضها زوجي والبعض الآخر فردي ، (وورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت عليهم‌السلام أيضا) (٢) .. أو هما ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل.

٥ ـ المراد ب «الشفع» يوم التروية (الثامن من شهر ذي الحجة ، حيث يستعد الحجاج للوقوف على جبل عرفات) ، و «الوتر» يوم عرفة (حيث يكون حجاج بيت الله الحرام في عرفات .. أو «الشفع» هو يوم عيد الأضحى (العاشر من ذي الحجّة ، و «الوتر» هو يوم عرفة.

__________________

(١) روي ذلك أبو سعيد الخدري عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجع مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٥.

(٢) المصدر السابق.

١٧٤

ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في روايات أهل البيت عليهم‌السلام أيضا (١)

والمهم .. إنّ الألف واللام في «الشفع والوتر» إن كانا للتعميم ، فكلّ المعاني تجتمع فيهما ، وكلّ معنى سيكون مصداق من مصاديق «الشفع» و «الوتر» ، ولا داعي والحال هذه إلى حصر التّفسير بإحدى المعاني المذكورة ، بل كلّ منها تطبيق على مصداق بارز.

أمّا إذا كانا للتعريف ، فستكون إشارتهما إلى زوج وفرد خاصين ، وفي هذه الحال سيكون تفسيران من التّفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقربا مع مراد الآية ، وهما :

الأوّل : المراد بهما يومي العيد وعرفة ، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الاولى من شهر ذي الحجّة ، وفيهما تؤدى أهم فقرات مناسك الحج.

الثّاني : أنّهما يشيران إلى «الصلاة» ، بقرينة ذكر «الفجر» ، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى الله عزوجل.

وقد ورد هذان التّفسيران في روايات عن أئمّة أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام.

ونصل هنا ، إلى القسم الخامس : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٢).

فما أدّق هذا التعبير وأجمله؟! فقد نسب السير إلى الليل ، وذلك لأنّ «يسر» من (سرى) وهو السير ليلا على قول الراغب في مفرداته.

وكأنّ الوصف يقول : بأنّ الليل موجود حسي ، له حس وحركة ، وهو يخطو في ظلمته وصولا لنور النهار.

نعم ، قسما بالظلام السائر نحو النور ، قسما بالظلام المتحرك ، لا الثابت الذي يثير الخوف والرعب في الإنسان ، والليل يكون ذا قيمة فيما لو كان سائرا نحو النور.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) «يسر» : في الأصل (يسري) من (السري) ، وحذفت الياء للتخفيف ، ولمناسبة الآيات السابقة.

١٧٥

وقيل : هو ظلمة الليل التي تتحرك على سطح الكرة الأرضية ، والليل نافع بحركته وتناوبه مع النهار على سطح الأرض ، لينعم نصفها بالسبات والنوم ، وينعم النصف الآخر بالحركة والعمل تحت نور الشمس الرائع.

اختلف المفسّرون في مراد الآية من «الليل» ، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة ، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي ، كآية من آيات الله ومظهر من مظاهر الحياة المهمّة.

وإن كانت الألف واللام للتعريف ، فليلة عيد الأضحى ، بلحاظ الآيات السابقة ، حيث يتجه حجاج بيت الله الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة) ـ المشعر الحرام ـ ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس ، وعند الصبح يتجهون نحو (منى).

(وقد ورد في هذا روايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام) (١).

والذين حضروا مثل تلك الليلة في عرفات ومشعر ، قد رأوا كيف يتحرك أكثر من مليون مسلم وهم متجهون من عرفات إلى المشعر وكأن الليل بكلّه يتحرك وتشاطره في ذلك الأرض وكذا الزمان.

وهناك يتلمس الإنسان معنى (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) بكلّ دقائقه.

وعلى أيّة حال ، فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى ، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود.

فالليل يكيّف حرارة الجو ، ويعم على جميع الكائنات الاستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل ، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجاة مع الله جلّ وعلا.

وأمّا ليلة عيد الأضحى (ليلة الجمع) فهي من أعجب الليالي في ذلك الوادي

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧١.

١٧٦

المقدس (المشعر الحرام).

وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر ، ليال عشر ، الشفع ، الوتر ، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيّام ذي الحجّة ومراسم الحج العظيمة.

وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمّة ، والتي تبيّن جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ثمّ تأتي الآية التالية لتقول : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ). «الحجر» هنا بمعنى : العقل ، وفي الأصل بمعنى (المنع) ، كأن يقال : حجر القاضي فلانا ، أو كأن يطلق على الغرفة (حجرة) لأنّها محل محفوظ ويمنع دخوله من قبل الآخرين ، وكذلك يقال للحضن (حجر) ـ على وزن فكر ـ لحفظه وإحاطته ، واطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة ، كما أنّ مصطلح (العقل) هو بمعنى (المنع) أيضا ، ومنه (العقال) الذي به تربط أرجل البعير ليمنعه من الحركة.

ولكن ... أين جواب القسم؟

ثمّة احتمالان ، هما :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

الثّاني : جواب القسم محذوف وتدلّ عليه الآيات التالية ، التي تتحدث عن عقاب الطغاة ، والتقدير : (قسما بكلّ ما قلناه لنعذبنّ الكافرين والطغاة).

* * *

١٧٧

الآيات

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

التّفسير

إمهال الظالمين .. والانتقام!

بعد أن تضمّنت الآيات الاولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة ، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض من الذين توفرت لهم بعض سبل القوّة والقدرة ، فأهوتهم أهوائهم في قاع الغرور والكفر والطغيان ، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة ، محذرة المشركين في كلّ عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم بعد أن يعيدوا حسابهم ويستيقظوا من غفلتهم ، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة ، وينبغي الاتعاظ بعاقبتهم ، وإلّا فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه.

وتبتدأ الآيات ب : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ).

١٧٨

المراد «بالرؤية» هنا ، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحال بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشيء الكثير وكأنّه يراهم بامّ عينيه ولذا جاء في الآية : (أَلَمْ تَرَ).

ومع أنّ المخاطب في الآية هو النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الخطاب موجّه إلى الجميع.

«عاد» : هم قوم نبي الله هود عليه‌السلام ، ويذكر المؤرخون أنّ اسم «عاد» يطلق على قبيلتين .. قبيلة كانت في الزمن الغابر البعيد ، ويسميها القرآن الكريم ب «عاد الاولى» ، كما في الآية (٥٠) من سورة النجم ، (ويحتمل أنّها كانت قبل التاريخ).

ويحددون تاريخ القبيلة الثّانية بحدود (٧٠٠) سنة قبل الميلاد ، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.

وكان أهل عاد أقوياء البنية ، طوال القامة ، لذا كانوا يعتبرون من المقاتلين الأشداد ، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من تقدّم مدني ، وكانت مدنهم عامرة وقصورهم عالية وأراضيهم يعمها الخضار.

وقيل : إنّ «عاد» هو اسم جدّ تلك القبيلة ، وكانت تسمى القبيلة ب (عادة).

ويضيف القرآن قائلا : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ).

اختلف المفسّرون في علام يطلق اسم «إرم». هل هو شخص أم قبيلة أم مدينة؟

ينقل الزمخشري في الكشاف عن بعضهم ، قوله : إنّ عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وسمّيت القبيلة باسم الجدّ وهو (إرم).

ويعتقد آخرون : إنّ (إرم) هم «عاد الاولى» ، و «عاد» هي القبيلة الثّانية ، يقال أيضا : إنّ «إرم» هو اسم مدينتهم. (١)

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٧٤٧ ، وذكر ذلك أيضا القرطبي في تفسيره ، وغيره.

١٧٩

وما يناسب الآية التالية ، أن يكون (إرم) هو اسم مدينتهم.

«عماد» : بمعنى العمود وجمعه «عمد» وهي على ضوء التّفسير الأوّل ، تشير إلى ضخامة أجسادهم كأعمدة البناء ، وعلى ضوء التّفسير الثّاني تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلو قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة.

وعلى القولين فهي : إشارة إلى قدرة وقوّة قوم عاد. (١)

ولكنّ التّفسير الثّاني (أعمدة قصورهم العظيمة) أنسب.

ولذا تقول الآية التالية : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ).

والآية تبيّن أنّ المراد ب «إرم» المدينة وليس شخص أو قبيلة ، ولعل هذه الآية هي التي دعت بعض كبار المفسّرين من اختيار هذا التّفسير ، ونراه كذلك راجحا (٢).

وقد ذكر بعض المفسّرين قصّة اكتشاف مدينة «إرم» العظيمة في صحاري شبه الجزيرة العربية وصحاري عدن ، وتحدثوا بتفصيل عن رونقها وبنائها العجيب ، ولكنّ القصّة أقرب للخيال منها للواقع.

وعلى أيّة حال ، فقوم «عاد» كانوا من أقوى القبائل في حينها ، ومدنهم من أرقى المدن من الناحية المدنية ، وكما أشار إليها القرآن الكريم : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ).

وثمّة قصص كثيرة عن «جنّة شداد بن عاد» في كتب التاريخ ، حتى أنّها أصبحت مضربا للأمثال لما شاع عنها بين النّاس وعلى مرّ العصور ، إلّا أنّ ما ورد بين متون كتب التاريخ لا يخرج عن إطار الأساطير التي لا واقع لها.

وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) ، وصنعوا منها البيوت والقصور.

__________________

(١) وعلى ضوء التّفسير الأوّل يكون التعبير ب «ذات» لأنّ الطائفة والقبيلة مؤنث لفظي.

(٢) «إرم» ممنوع من الصرف ، لذا فقد نصب في حالة الجر.

١٨٠