الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

قال : «مائة واربعة كتب ، أنزل الله منها على آدم عليه‌السلام عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خط بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزّبور والفرقان» (١).

(أنزلت على موسى وعيسى وداود ومحمّد على نبيّنا وآله وعليهم‌السلام).

و «الصحف الاولى» : مقابل «الصحف الأخيرة» التي أنزلت على المسيح عليه‌السلام وعلى النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

بحث

شرح الحديث الشريف : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»

لما كان تفضيل الآخرة على الدنيا من الأمور الجليّة لدى المؤمنين ، فكيف تصيب الغفلة الإنسان المؤمن فيقع في فخ الخطايا والذنوب؟!

ويكمن الجواب في جملة واحدة : عند غلبة الشهوات على وجود الإنسان ومصدر قوّة الشهوات هو : حبّ الدنيا.

يتضمّن حبّ الدنيا : حبّ المال ، المقام ، الشهوة الجنسية ، حبّ التفوق ، حبّ الذات ، وحبّ الانتقام ... إلخ .. وإذا ما غلب هذا الحبّ على وجود الإنسان فسيهتز كيانه بإعصار شديد ولا تستطيع كلّ معارف وعلوم وعقائد الإنسان من أن تقف أمام جموحه ، حتى يصل الإنسان لفقدان قدرة التشخيص ، فيقدم بالنتيجة الدنيا على الآخرة.

فـ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» أمر محسوس ومجرّب في حياتنا وحياة الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٧٤٦.

١٤١

الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.

وعليه .. فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلّا بإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية ، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة انتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة ، فما يبذر اليوم يحصد غدا ، ولا بدّ للإنسان أن العاقل ن يختار الطريق الذي يوصله إلى الهدف المنشود فيما إذا وقف بين مفترق طريقين ، واحد يؤدي للحصول على متاع الدنيا الزائل ، والآخر يوصل إلى نيل رضا الباري سبحانه وتعالى.

ونظرة ـ وإن كانت سريعة ـ إلى ملفات الجرائم سترينا واقعية الحديث المذكور ، وإذا ما تأملنا في بواعثها الحقيقة ، فسيتوضح الحديث أكثر فأكثر.

ولا تخرج علل الحروب وسفك الدماء (حتى بين الاخوة والأصدقاء) عن هذا الإطار المهلك (حبّ الدنيا).

فكيف النجاة ، وكلنا أبناء هذه الدنيا و «لا يلام الولد على حبّه لامه» كما جاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام؟!

إنّ زورق النجاة من تلاطم أمواج وهيجان حبّ الدنيا لا يبنى إلّا بالتربية الفكرية والعقائدية ، ومن ثمّ تهذيب النفس ومجاهدتها ، بالإضافة إلى الإعتبار من عواقب عبدة الدنيا.

فما كانت عاقبة الفراعنة مع كلّ ما كان لهم من قوّة؟! وأين هو الآن قارون وكنوزه التي لا يقدر مجموعة من الرجال على حمل مفاتيحها إلّا بشقّ الأنفس؟! وحتى القوى المتسلطة في عصرنا المعاش ، ليس لهم سوى فترة زمنية محدودة ، فترى عروشها تتهاوى ، وهم بين فار ومختبئ في أقذر المكانات وبين من سيلفه التراب ، لينتقل بعدها إلى العالم الذي كان يكذّب وجوده .. أو ليس ذلك أفضل واعظ لنا؟!

١٤٢

سئل عن أيّ الأعمال أفضل عند الله؟

قال : «ما من عمل بعد معرفة الله عزوجل ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا ، فإنّ لذلك لشعبا كثيرة ، وللمعاصي شعب.

فأوّل ما عصى الله به «الكبر» ، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ، ثمّ «الحرص» وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عزوجل لهما : (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه ، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة ، وذلك إنّ أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ، ثمّ «الحسد» وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعب من ذلك حبّ النساء ، وحبّ الدنيا (١) ، وحبّ الرئاسة ، وحبّ الراحة ، وحبّ الكلام ، وحبّ العلو والثروة ، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهن في حبّ الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء بعد ذلك : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» (٢).

اللهم ، اخرج حبّ الدنيا من قلوبنا ..

اللهم ، خذ بأيدينا إلى صراطك القويم ، وأبلغنا مغرمنا ..

اللهم ، إنّك تعلم الجهر وما يخفى ، فاغفر لنا ما ظهر من ذنوبنا وما خفى ..

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الأعلى

* * *

__________________

(١) يبدو أنّ «حبّ الدنيا» هنا ، بمعنى (حبّ البقاء في الدنيا) ، باعتباره كأحد الشعب السبعة ، ويبدو أنّه يرادف (طور الأمد).

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ، باب حبّ الدنيا والحرص عليها ، الحديث ٨ ، وفي هذا الباب توجد رواية اخرى بهذا الشأن.

١٤٣
١٤٤

سورة

الغاشية

مكيّة

وعدد آياتها ست وعشرون آية

١٤٥
١٤٦

«سورة الغاشية»

محتوى السّورة :

تدور محتويات السّورة على ثلاثة محاور :

الأوّل : بحث «المعاد» ، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة ، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

الثّاني : بحث «التوحيد» ، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض ، ونظر الإنسان إليها.

الثّالث : بحث «النبوّة» ، مع عرض لبعض وظائف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعموما ، فالسّورة تسير على منهج السور المكّية في تقوية أسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السّورة :

ورد في فضيلة هذه السّورة في الحديث النبوي الشريف : «من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا». (١)

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «من أدمن قراءة (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) في فرائضه أو نوافله غشاه الله برحمته في الدنيا والآخرة ، أو أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النّار» (٢).

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلّا لمن تلاها بتأمل وعمل.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٧.

(٢) المصدر السابق.

١٤٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

التّفسير

المتعبون .. الأخسرون!

تبتدأ السّورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ).

«الغاشية» : من (الغشاوة) ، وهي التغطية ، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كلّ شيء.

وقيل : بما أنّ الأوّلين والآخرين سيجمعون في ذلك اليوم ، فالقيامة تغشاهم جميعا.

وقيل أيضا : يراد بها نار جهنم ، لأنّها ستغطي وجوه الكافرين والمجرمين

١٤٨

ويبدو لنا التّفسير الأوّل أنسب من غيره.

وظاهر الآية : إنّها خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما حوته من صيغة الاستفهام فلبيان عظمة وأهمية يوم القيامة.

ويبدو بعيدا ما احتمله البعض من كون خطاب الآية موجّه إلى كلّ إنسان.

وتصف الآيات التالية ، حال المجرمين في يوم القيامة ، فتقول أوّلا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ).

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي ، تنعكس آثاره على وجه صاحبه ، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وقيل : «الوجوه» هنا ، بمعنى وجهاء القوم ورؤساء الكفر والطغيان ، لما سيكون لهم من ذل وهوان وعذاب أشد من غيرهم.

ولكنّ المعنى الأوّل أنسب

وتصف حال تلك الوجوه ثانيا : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ).

فكلّ ما سعوا وكدوّا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلّا التعب والنصب ، وذلك : لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند الله ، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم ، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر الله لهم ، فما اصدق هذا القول بحقّهم : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ).

وقيل : المراد ، إنّهم يعملون في الدنيا ، ولهم التعب والألم في الآخرة.

وقيل أيضا : إنّ المجرمين سيقومون بأعمال شاقّة داخل جهنم ، زيادة في عذابهم.

ويبدو التّفسير الأوّل أصح من غيره.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أنّ : (تَصْلى ناراً حامِيَةً).

«تصلى» : من (صلى) ـ على زنة نفى ـ وهو دخول النّار والبقاء فيها ،

١٤٩

والاحتراق بها (١).

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد ، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذ : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ).

«آنية» : مؤنث آني من (الأني) ـ على زنة حلي ـ وهو التأخير ، ويستعمل لما يقرب وقته ، وجاء في الآية بمعنى : الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته وجاء في الآية (٢٩) من سورة الكهف : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وقد تعددت الآراء في معنى «الضريع».

فقال بعض : نبت ذو شوك لا صق بالأرض ، تسمّيه قريش (الشبرق) إذا كان رطبا ، فإذا يبس فهو (الضريع) ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه ، وهو سم قاتل. (٢) وقال الخليل (أحد علماء اللغة) : الضريع نبات أخضر منتن الريح ، يرمي به البحر.

وعن ابن عباس : هو شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها.

وجاء في الحديث النبوي الشريف : «الضريع شيء يكون في النّار يشبه الشوك ، أشدّ مرارة من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحر من النّار ، سمّاه الله ضريعا».

وقال بعض آخر : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ، ويتضرعون منه إلى الله

__________________

(١) صلي بالنّار ، لزمها واحترق بها.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧١١٩.

١٥٠

(ويذكر أن (الضرع) بمعنى الضعف والذلة والخضوع). (١)

ولا تعارض بين هذه التفاسير ، ويمكن قبولها كلها في تفسير الآية المذكورة.

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ).

فهو ليس لسد جوع أو تقوية بدن ، وإنّما هو طعام يغص به ، ايغالا في العذاب ، كما ورد هذا المعنى في الآية (١٣) من وسورة المزمل : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً).

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم ، على حساب ظلم النّاس والتجاوز على حقوقهم ، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين ، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

ونعود لنكرر القول : إنّ ما نصفه ونتصوره عن نعيم الجنّة وعذاب جهنم ، لا يتعدى عن كونه مجرد إشارات وأشباح نراها من بعيد ونحن نعيش في سجن الدنيا المحدود ، وإلّا فحقيقة ما سينعم به أهل الجنّة وما يعانيه أهل النّار فمما لا يمكن لأحد وصفه!.

* * *

__________________

(١) بحثنا موضوع طعام أهل النّار ، الذي يسميه القرآن تارة ب «الضريع» واخرى ب «الزقوم» وثالثة ب «غسلين» ، وما بينها من تفاوت .. في ذيل الآية (٣٦) من سورة الحاقة.

١٥١

الآيات

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

التّفسير

صور من نعيم الجنّة :

بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النّار ، تنتقل عدسة السّورة لتنقل لنا مشاهدا رائعة لنعيم أهل الجنّة .. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية ، وما بين الوعيد والبشارة.

فتقول الآية الاولى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) ، على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة» : من (النعمة) ، وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة الله ، وجوه طرية ، مسرورة ونورانية ، كما أشارت لهذا الآية (٢٤) من سورة المطففين : (تَعْرِفُ

١٥٢

فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ).

وترى الوجوه : (لِسَعْيِها راضِيَةٌ).

على عكس أهل جهنّم ، فوجوههم «عاملة ناصبة» ، أمّا أهل الجنّة ، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم ، وحصلوا على أحسن ما يتمنون ، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجة بإذن الله ولطفه أضعافا مضاعفة ، فتارة عشرة أضعاف ، واخرى سبعمائة ضعف ، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب ، كما أشارت الآية (١٠) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ).

«عالية» : قيل بإرادة المكان (في طبقات الجنّة العليا) ، وقيل أريد بها المقام الرفيع ، ومع أنّ التّفسير الثّاني أرجح ، إلّا أنّه لا مانع من الجمع بينهما :

وكذا .. : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً). (١)

فليس هناك ثمّة : جدال ، كلام نفاق ، عداوة ، حقد ، حسد ، كذب ، تهمة ، افتراء ، غيبة ولا أيّ إيذاء ، بل ولا حتى الكلام الفارغ.

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا ، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئا عن سماع هكذا أحاديث ، والتي تؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي ، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معا.

وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنّة من نعمة روحية ، يبيّن بعض النعم المادية في الجنّة : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ).

__________________

(١) «لاغية» : بالرغم من كونها اسم فاعل ، ولكنّها تأتي بما يرادف (اللغو) ، أي (ذات لغو).

١٥٣

ظاهر كلمة «عين» في الآية ، إنّها عين واحدة بدليل مجيئها نكرة ، إلّا أنّه بالرجوع إلى بقية الآيات في القرآن الكريم ، يتبيّن لنا إنّها للجنس ، فهي والحال هذه تشمل عيونا مختلفة ، ومن قرائن ذلك ما جاء في الآية (١٥) من سورة الذاريات : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

وقيل : في كلّ قصر من قصور أهل الجنّة ، ثمّة «عين جارية» ، وهو المراد في الآية ، ومن ميزة تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنّة ، فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنّة أشربة طاهرة ومتنوعة ، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة ، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصّة به.

وينتقل الوصف إلى أسرة الجنّة : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ).

«سرر» : جمع (سرير) ، وهو من (السرور) ، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الانس والسرور (١).

وجعلت تلك الأسرة من الارتفاع بحيث يتمكن أهل الجنّة من رؤية كلّ ما يحيط بها والتمتع بذلك.

يقول ابن عباس : إذا أراد أن يجلس عليها ، تواضعت له حتى يجلس عليها ، ثمّ ترتفع إلى موضعها. (٢)

ويحتمل أيضا : وصفت بالمرفوعة إشارة إلى رفعتها وعلو شأنها.

وقيل : إنّها من الذهب المزين والمرصع بالزبرجد والدرّ والياقوت.

ولا مانع من الجمع بين ما ذكر.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به ، فقد قالت الآية التالية : (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ).

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (سرّ).

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٩.

١٥٤

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون ، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب» : جمع (كوب) ، وهو القدح ، أو الظرف الذي له عروة.

وبالاضافة إلى ذكر ال «أكواب» فقد ذكر القرآن الكريم تعابير اخرى لها ، مثل : «أباريق» جمع (إبريق) وهو ظرف معروف ، و «كأس» بمعنى القدح المملوء بالشراب ، كما جاء في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الواقعة : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنّة : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ).

«نمارق» : جمع (نمرقة) ، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة» : إشارة إلى تعددها بنظم خاص ، ليظهر أنّ لأهل الجنّة جلسات انس جماعية ، التي لا يتخللها أي لغو وباطل ، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمة الخالدة ، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة ، وكيف أنّهم قد نجوا وخلصوا من الآم وأتعاب الدنيا.

ثمّ تكون الإشارة إلى فرش الجنّة الفاخرة : (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ).

«زرابية» : جمع (زرب) أو (زربيّة) ، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

ذكرت الآيات المبحوثة سبع نعم رائعة من نعم الجنّة ، وكلّ منها أكثر روعة من الاخرى.

والخلاصة : فمنزل الجنّة لا مثيل له من كلّ الجهات ، فهو الخالي من أي ألم أو عذاب أو حرب أو جدال .. وتجد فيه كلّ ألوان الثمار والأنعام والعيون الجارية والأشربة الطاهرة والولدان المخلدين والحور العين والأسرة المرصعة والفرش الفاخرة وأقداح جميلة في متناول اليد وجلساء أصفياء ، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن عدّه بلسان أو وصفه بقلم ولا حتى تخيله إذا ما سرحت المخيّلة في عالمها

١٥٥

الرحب! ..

وكلّ ما ذكر وغيره سيكون في انتظار من آمن وعمل صالحا ، بعد حصوله على إذن الدخول إلى تلك الدار العالية.

وفوق هذا وذاك فثمّة «لقاء الله» ، الذي ليس من فوز يوازيه.

* * *

١٥٦

الآيات

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

التّفسير

الإبل .. من آيات خلق الله :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنّة ونعيمها ، تأتي هذه الآيات لتوضيح معالم الطريق الموصل إلى الجنّة ونعيمها.

فمفتاح المعرفة «معرفة الله» ، ووصولا لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة ، داعية الإنسان للتأمل ، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.

وتشير أيضا إلى أنّ قدرة الله المطلقة هي مفتاح درك المعاد ..

١٥٧

فتقول الآية الاولى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ).

ولكن ، لم اختص ذكر «الإبل» قبل غيره؟

للمفسّرين حديث طويل في ذلك ، لكنّ الواضح إنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكّة قبل غيرهم ، والإبل أهم شيء في حياة أهل مكّة في ذلك الزمان ، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة.

أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقية الحيوانات ، ويعتبر بحق آية من آيات خلق الله الباهرة.

ومن خصائص الإبل :

١ ـ لو نظرنا إلى موارد الاستفادة من الحيوانات الأليفه ، فسنرى أنّ قسما منها لا يستفاد إلّا من لحومها ، والقسم الآخر يستفاد من ألبانها على الأغلب ، وقسم لا يستفاد منه إلّا في الركوب ، وقسم قد تخصص في حمل ونقل الأثقال ، ولكنّ الإبل تقدم كلّ هذه الخدمات (اللحم ، اللبن ، الركوب والحمل).

٢ ـ قدرة حمل وتحمل الإبل أكثر بكثير من بقية الحيوانات الأهلية ، حتى أنّها لتبرك على الأرض فتوضع الأثقال عليها ثمّ تنهض بها ، وهذا ما لا تستطيع فعله بقية الحيوانات الأهلية.

٣ ـ تتحمل العطش لأيّام متتالية (بين السبعة إلى عشرة أيّام) ، وقابليتها على تحمل الجوع مذهلة.

٤ ـ يطلق عليها اسم (سفينة الصحراء) ، لما لها من قابلية فائقة على طي مسافات طويلة في اليوم الواحد ، رغم الظروف الصحراوية الصعبة ، فلا يعرقل حركتها صعوبة الأرض أو كثرة المنخفضات الرملية ، وهذا ما لا نجده في أي حيوان أخر وبهذه المواصفات.

٥ ـ مع إنّها تتغذى على أي شوك وأيّ نبات ، فهي تشبع بالقليل أيضا.

١٥٨

٦ ـ لعينها واذنها وأنفها قدرة كبيرة على مقاومة الظروف الجوية الصعبة في الصحراء ، وحتى العواصف الرملية لا تقف حائلا أمام مسيرها.

٧ ـ والإبل مطيعة وسهلة الانقياد ، لدرجة أنّ بإمكان طفل صغير أن يأخذ بزمام مجموعة كبيرة من الإبل وتتحرك معه حيث يريد.

والخلاصة : إنّ ما يتمتع به هذا الحيوان من خصائص تدفع الإنسان لأن يلتفت إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.

وها هو القرآن ينادي بكلّ وضوح : يا أيّها الضالون في وادي الغفلة ألّا تتفكرون في كيفية خلق الإبل ، لتعرفوا الحق وتخرجوا من ضلالكم؟!

ولا بدّ من التذكير ، بأنّ «النظر» الوارد في الآية ، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة.

وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ).

السماء التي حيّرت العقول بعظمتها وعجائبها وما فيها من نجوم وما لها من بهاء وروعة .. السماء التي يتصاغر وجود الإنسان أمامها ليعد لا شيء بالنسبة لها ..

السماء التي لها من دقّة التنظيم والحساب الدقيق ما بهر فيها عقول العلماء المتخصصين.

ألا ينبغي للإنسان أن يتفكر في أمر مدبر هذا الخلق ، وما الأهداف المرجوة من خلقه؟!

فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة؟ وما هو سرّ استقرارها في أماكنها وبكلّ هذه الدقّة؟ ولم لم يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها؟!!!

ومع تطور الاكتشافات العلميّة الحديثة ، نرى أنّ عالم السماء وما يحويه يزداد عظمة وجلالا بدرجات ملموسة نسبة إلى ما كان عليه قبلا ...

مع كلّ هذا وذاك ، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير ،

١٥٩

والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!

وينقلنا إلى الجبال : (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ).

الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض ، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدّة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض ، وكذا ما لها من دور في حفظ الأرض من عملية المدّ والجزر الناشئة من تأثيرات الشمس والقمر .. الجبال التي لو لا وجودها بهذه الهيئة لما توفرت ظروف عيش الإنسان على سطح الأرض ، لما تمثله من سد منيع أمام قوّة أثر العواصف .. وأخيرا ، الجبال التي تحفظ الماء في داخلها لتخرجه لنا على صورة عيون فياضة نعم الأرض ليخضر بساطها بأنواع المزارع والغابات.

ولعل ذلك كلّه كان وراء وصفها «أوتادا» في القرآن الكريم.

فهي عموما .. مظهر الابهة والصلابة والشموخ ، وهي مصدر خير وبركة معطاة ، ولعل ذلك من علل تفتح ذهنية الإنسان عندها ، كما وليس من العبث أن يتّخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبل النور وغار حراء محلا لعبادته قبل البعثة المباركة.

«نصبت» : من (النصب) ، وهو التثبيت ، وربّما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضا.

فقد توصل العلم الحديث إلى أنّ تكّون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدّة أنواع :

فمنها : ما تكون نتيجة للتراكمات الحاصلة على الأرض.

ومنها : ما تكون من الحمم البركانية.

ومنها : ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار.

وكذا منها : ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية).

نعم ، فالجبال وبكلّ ما فيها ولها تعدّ آية من آيات القدرة الإلهية ، لمن رآها

١٦٠