الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

«سورة الأعلى»

محتوى السّورة :

تحتوي السّورة على قسمين من المواضيع :

القسم الأوّل : يحوي خطابا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة ، ثمّ ذكر سبعا من صفات الله عزوجل ، لها صلة ربط بالأمر الرّباني إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

القسم الثّاني : يتحدث عن المؤمنين الخاشعين ، والكافرين الأشقياء ، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحقّ.

وفي آخر السّورة ، يأتي التأكيد على أنّ ما جاء في هذه السّورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط ، بل وتناولته كتب وصحف الأولين أيضا ، كصحف إبراهيم وموسى عليهما‌السلام.

فضيلة السّورة :

روي عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأها أعطاه الله عشر حسنات بعدد كلّ حرف أنزل الله على إبراهيم وموسى ومحمّد عليهم‌السلام» (١).

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا ، أنّه قال : «من قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) في فرائضه أو نوافله قيل له يوم القيامة ادخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٥٣.

١٢١

شئت إن شاء الله» (١).

وورد في روايات عديدة : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، كانوا إذا قرءوا (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، قالوا : «سبحان ربّي الأعلى» (٢).

وروي عن أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إنّه قال : صليت خلفه عشرين ليلة ، وليس يقرأ إلّا (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، وقال : «لو تعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة ، وأنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفى» (٣).

وخلاصة القول :

فيبدو أنّ السّورة من الأهمية بحيث : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحب هذه السّورة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) كما روي عن الإمام علي عليه‌السلام (٤).

وقد اختلف في مكان نزول الآية ، فمع أنّ المشهور ، نزولها في مكّة ، لكنّ ثمّة من يقول بنزولها في المدينة.

ويرجح العلّامة الطباطبائي (قدس‌سره) أن يكون قسمها الأوّل مكّيّا والآخر مدنيا ، فيقول : وسياق الآيات في صدر السّورة سياق مكّي ، وأمّا ذيلها ، أعني قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلخ فقد ورد في طرق أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنّ المراد به «زكاة الفطرة» و «صلاة العيد» ، ومن المعلوم أنّ الصوم وما يتبعه من زكاة الفطرة وصلاة العيد إنّما شرّعت بالمدينة بعد الهجرة (٥).

ويحتمل أيضا أنّ الأمر بالصلاة العيد والزكاة الواردين في آخر السّورة ، هما

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٤٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٢.

(٥) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٨٦.

١٢٢

أمران عامان ، وما صلاة وزكاة الفطرة إلّا مصداقان لهما ، والتّفسير بالمصداق كثير في روايات أهل البيت عليهم‌السلام.

وعليه .. فلا يبعد أن تكون السّورة كلّها مكّية كما هو المشهور ، بقرينة انسجام مقاطع الآيات الاولى منها والأخيرة أيضا.

ويصعب اعتبار كون بعضها مكّي والآخر مدني ، خصوصا وأنّ الرّوايات تذكر ، بأنّ كلّ مجموعة من المسلمين حينما يصلون المدينة ، كانوا يقرءون هذه السّورة لأهل المدينة (١).

فمن المستبعد أن يقرأ صدر السّورة في مكّة ، ومن ثمّ ينزل ذيلها في المدينة.

* * *

__________________

(١) للتفصيل ـ راجع الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٣٧.

١٢٣

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

التّفسير

تسبيح الله :

تبدأ السّورة بخلاصة دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، حيث التسبيح والتقديس أبدا لله الواحد الأحد ، فتخاطب النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

يذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المراد بال «اسم» هنا هو (المسمى) ، في حين قال آخرون هو (اسم الله) سبحانه وتعالى.

وليس ثمّة فرق كبير بين القولين ، فالإسم يدّل على المسمى.

وعلى أيّة حال ، فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام ، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كلّ عيب ونقص ، ومن كلّ صفات المخلوق وعوارض الجسم ، أي أن لا يحد.

١٢٤

فينبغي على المؤمنين ألّا يتعاملوا مع اسمه الجليل كتعامل عبدة الأصنام ، بأن يضعوا اسمه تعالى مع أسماء أصنامهم ، ولا يفعلوا كما يفعل المجسمة ، ممن وقعوا في خطأ كبير وفاحش حينما نسبوا إلى الباري جلّ جلاله الصفات الجسمية.

(الْأَعْلَى) : أي الأعلى من كلّ : أحد ، تصوّر ، تخيّل ، قياس ، ظن ، وهم ، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي.

(رَبِّكَ) : إشارة إلى أنّه غير ذلك الرّب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.

وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى) ، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية الله العليا .. : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى فَسَوَّى)

(سوّى):من (التسوية) ، وهي الترتيب والتنظيم ، ويضم هذا المفهوم بين جناحيه كلّ أنظمة الوجود ، مثل : النظام السماوي بنجومه وكواكبه ، والأنظمة الحاكمة على المخلوقات في الأرض ، ولا سيما الإنسان من حيث الروح والبدن.

أمّا ما قيل ، من كونها إشارة إلى نظام اليد أو العين أو اعتدال القامة ، فهذا في واقعه لا يتعدى أن يكون إلّا بيان لمصداق محدود من مصاديق هذا المفهوم الواسع.

وعلى أيّة حال ، فنظام عالم الخليقة ، بدءا من أبسط الأشياء ، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (٤) من سورة القيامة (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ، وانتهاء بأكبر منظومة سماوية ، كلها شواهد ناطقة على ربوبية الله سبحانه وتعالى ، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزوجل.

وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم ، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى).

والمراد ب (قدّر) ، هو : وضع البرامج ، وتقدير مقادير الأمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلّا لأجلها.

والمراد ب (هدى) هنا ، هي : الهداية الكونية ، على شكل غرائز وسنن طبيعية

١٢٥

حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).

فمثلا ، إنّ الله خلق ثدي المرأة وجعل في اللبن لتغذية الطفل ، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الامومة شديدة عند المرأة ، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلا غريزيا نحو ثدي امّه ، فكلّ هذه الاستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الام والابن والثدي مقدّر بشكل دقيق ، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.

وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.

وبنظرة ممعنة لبناء كلّ موجود ، وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة ، تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية : (ثمّة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود ، وثمّة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له) ، وهذه بحد ذاتها علامة جليّة لربوبية الله جلّ وعلا.

وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم‌السلام ، لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.

وتوصلنا الآية (٥٠) من سورة طه لهذا المعنى ، وذلك لمّا نقلت لنا سؤال فرعون إلى موسى عليه‌السلام بقوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ، فأجابه عليه‌السلام : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

وقد فهم قول موسى عليه‌السلام بشكل مجمل في زمانه ، وحتى في زمان نزول الآية المباركة في صدر الدعوة الإسلامية ، ولكنّ .. مع دوران عجلة الأيّام ، وتقدم العلوم البشرية ، توصل الإنسان إلى معارف كثيرة ومنها ما يختص بمعرفة أنواع أحوال الموجودات الحيّة ، فتوضح قول موسى عليه‌السلام أكثر فأكثر ، حتى كتبت آلاف الكتب في موضوع (التقدير) و (الهداية التكوينية) ، ومع ما توصل إليه العلماء من معلومات

١٢٦

باهرة ، إلّا إنّهم يؤكّدون على أنّ ما بقي خافي عليهم ، هو أكثر بكثير ممّا توصلوا لمعرفته!

وتشير الآية التالية إلى النباتات ، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى).

واستعمال كلمة (أَخْرَجَ) فيه وصف جميل لعملية تكوّن النباتات ، حيث إنّه يتضمّن وجودها داخل الأرض فأخرجها الباري منها.

وممّا لا شك فيه إنّ التغذية الحيوانية هي مقدمة لتغذية الإنسان ، وبالنتيجة فإنّ فائدة عملية تغذية الحيوان تعود إلى الإنسان.

ثمّ : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى).

«الغثاء» : هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري ، ويطلق أيضا على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ ، ويستعمل كناية عن : كلّ ضائع ومفقود ، وجاء في الآية بمعنى : النبات اليابس المتراكم.

«أحوى» : من (الحوة) ـ على زنة قوّة ـ وهي شدّة الخضرة ، أو شدّة السواد ، وكلاهما من أصل واحد ، لأنّ الخضرة لو اشتدّت قربت من السواد ، وجاء في الآية بمعنى : تجمع النبات اليابس وتراكمه حتّى يتحول لونه تدريجيا إلى السواد.

ويمكن أن يكون اختيار هذا التعبير في مقام بيان النعم الإلهية ، لأحد أسباب ثلاث :

الأوّل : إنّ حال هذه النباتات يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا ، لتكون دوما درسا وعبرة للإنسان ، فهي بعد أن تنمو وتخضر في الربيع ، شيئا فشيئا ستيبس وتموت بعد مرور الأيّام عليها ، حتى يتحول جمالها الزاهي في فصل الربيع إلى سواد قاتم ، ولسان حالها يقول بعدم دوام الدنيا وانقضائها السريع.

الثّاني : إنّ النباتات اليابسة عند ما تتراكم ، فستتحول بمرور الوقت إلى سماد طبيعي ، ليعطي الأرض القدرة اللازمة لإخراج نباتات جديدة اخرى

١٢٧

الثّالث : إنّ الآية تشير إلى تكوّن الفحم الحجري من النباتات والأشجار.

فكما هو معلوم ، إنّ الفحم الحجري ، والذي يعتبر من المصادر المهمّة للطاقة ، قد تكوّن من النباتات والأشجار التي يبست منذ ملايين السنين ، ودفنت في الأرض حتى تحجرت واسود لونها بمرور الزمان.

ويعتقد بعض العلماء ، بأنّ مناجم الفحم الحجري قد تكوّنت من جراء النباتات اليابسة المدفونة في داخل الأرض منذ (٢٥٠) مليون سنة تقريبا!

ولو أخذنا بنظر الاعتبار مقدار الاستهلاك الفعلي للفحم الحجري في العالم ، لوجدنا أنّها تؤمن احتياج النّاس لأكثر من (٤٠٠٠) سنة.

وتفسير الآية بالمعنى الأخير دون غير بعيد حسب الظاهر ، ولا يستبعد أن تكون الآية قد أرادت كل ما جاء في المعاني الثلاث أعلاه.

وعلى أيّة حال ، فللغثاء الأحوى منافع كثيرة .. فهو غذاء جيد للحيوانات في الشتاء ، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض ، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.

فما ذكرته الآيات من صفات الربوبية ، الأعلى ، الخلق ، التسوية ، التقدير ، الهداية وإخراج المرعى ، توصلنا إلى الربوبية الحقّة لله جلّ وعلا ، وبقليل من التأمل يتمكن أيّ إنسان من إدراك هذا المعنى ، ليصل نور الإيمان إلى قلبه ، فيشكر المنعم على ما أعطى.

* * *

بحث

مسألة التقدير والهداية العامّة للموجودات ، التي تناولتها الآيات الآنفة الذكر كمظهر من مظاهر ربوبية الله عزوجل ، تعتبر من المسائل الحيوية والتي كلما تقدم الزمان وتوسعت مدارك وعلوم الإنسان ، إزداد في الوصول إلى حقائق جديدة تضاف إلى معلوماته السابقة.

١٢٨

فالاكتشافات العلمية الجديدة في كلّ يوم تحيطنا علما لرؤية وجوه جديدة رائعة لتقدير الله مخلوقاته وهدايته لها.

ويزيّن المفسّرون تفاسيرهم ببعض النماذج من تلك الأسرار الرائعة في خصوص الهداية التكوينية لحركة الحيوانات ، واعتمد البعض على ما ذكره العالم المعروف (كريسي موريسن) في كتابه (أسرار خلق الإنسان) ، وإليكم مختصرا ممّا جاء فيه :

١ ـ تقطع الطيور المهاجرة ـ في بعض الأحيان ـ آلاف الكيلومترات في السنة ، عابرة الصحارى والغابات والبحار ، وعند عودتها تعرف طريق موطنها الأصلي بكل دقّة ، ولا تضل عنه أبدا.

ومن النحل ما يبتعد عن خليته لمسافات بعيدة جدّا ، ولكنّه يعود إلى خليته بكلّ سهولة ويسر ، في حين نرى الإنسان في حال عودته إلى وطنه يحتاج إلى عناوين وعلامات دقيقة ، حتى لا يضل الطريق!

٢ ـ الحشرات تتمتع بعيون مجهرية ذات دقّة فائقة حيّرت عقول العلماء ، من حيث بنائها وقدرتها على النظر في حين أن عيون الصقور تلسكوبية تعينها على النظر لمسافات بعيدة جدّا.

٣ ـ حينما يسير الإنسان بين عتمة الليل الداكنة فلا بدّ له من إضاءة تعينه في مسيره ، إلّا أنّ كثيرا من الطيور تصل أهدافها في حلكة الليل الدامس ، مستعينة بما لعيونها من قدرة على التحسس بالأشعة ما دون الحمراء! ولبعضها مراكز حسّاسة تشبه في عملها الرادارات المتطورة!

٤ ـ للكلاب حاسة شم مميزة ، تستطيع من خلالها معرفة أيّ كائن حي يقع في طريقها ، وهذا ما لا يتوفر عند الإنسان ، بالرغم من التقدم التقني الذي وصل إليه.

٥ ـ حاسة السمع عند جميع الحيوانات أقوى وأدق من سمع الإنسان بدرجات ، على الرغم من استعمال الإنسان للأجهزة العلمية المتطورة في سمعه ،

١٢٩

بحيث يستطيع أن يستمع إلى حركة أجنحة ذبابة على بعد عدّة كيلومترات منه! ولعل السرّ في هذا التفاوت بين قدرة حواس الإنسان والحيوان ، يرجع إلى القدرة العقلية المودعة في الإنسان ، والتي بها يسد كلّ نقص ، فيما لا تمتلك الحيوانات هذه القدرة الفعالة

٦ ـ وثمّة حركة عجيبة عند بعض الأسماك الصغيرة ، فهي تقضي السنين من عمرها في البحار ، ولكن حين يحين وقت وضع البيض ، فإنّها تترك البحار متجهة إلى تلك الأنهار التي فيها ولدت ، فتسير بعكس التيار لمدّة طويلة حتى تصل إلى مسقط رأسها ، المكان المناسب لتكاثرها!

٧ ـ والأعجب منها حياة بعض الأسماك وحيوانات الماء التي تسلك في حياتها عكس الصنف السابق.

* * *

١٣٠

الآيات

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

التّفسير

التوفيق الرّباني :

فيما كان الحديث في الآيات السابقة عن ربوبية الله وتوحيده جلّ شأنه ، والهداية العامّة للموجودات ، وكذا عن تسبيح الرّب الأعلى .. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن : القرآن والنّبوّة ، وهداية الإنسان ، وكذا البيان القرآني للتسبيح.

فتقول الآية الاولى مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).

فلا تتعجل نزول القرآن ، ولا تخف من نسيان آياته ، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها ، ويخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبدا.

١٣١

وتدخل الآية في سياق الآية (١١٤) من سورة طه : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ، وكذا الآية (١٦) من سورة القيامة : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) تدخل في سياقهما.

ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى ، وأنّ كلّ خير منه ، تقول الآية : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى).

ولا يعني هذا الاستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرا ، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى ، ومشيئته هي الغالبة أبدا ، وإلّا لتزعزعت الثقة في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعبارة اخرى ، إنّما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم الله تعالى الذاتي ، وعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعطى له من بارئه.

والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية (١٠٨) من سورة هود ، بخصوص خلود أهل الجنّة : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

ف (خالِدِينَ فِيها) دليل على عدم خروج أهل الجنّة منها أبدا ، فإذن .. عبارة (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) تكون إشارة إلى حاكمية الإرادة والقدرة الإلهية ، وارتباط كلّ شيء بمشيئته جلّ وعلا ، سواء في بداية الوجود أم في البقاء.

وممّا يشهد على ذلك أيضا .. أنّ حفظ بعض الأمور ونسيان اخرى تعتبر حالة طبيعية بين بني آدم ، ولكنّ الله تعالى ميزّ حبيبه المصطفى بأن جعل فيه ملكة حفظ جميع آيات القرآن ، والأحكام والمعارف الإسلامية ، حينما خاطبه ب : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).

وقيل : أريد بهذا الاستثناء تلك الآيات التي نسخ محتواها ونسخت تلاوتها أيضا.

ولكن لعدم ثبوت وجود هكذا آيات ، فلا يمكننا الاعتماد على هذا القول

١٣٢

الآنف أعلاه.

وقيل أيضا : إنّ الاستثناء يختص بقراءة بعض الآيات ، فعلى هذا يكون مفهوم الآية هو : إنّنا سنقرئك آيات القرآن إلّا بعض الآيات التي أراد الله عزوجل أن تبقى في مخزون علمه ..

ولا يتوافق هذا القول مع سياق الآية.

أمّا جملة : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) فلبيان علّة أمر تضمّنته جملة (سَنُقْرِئُكَ) ، أي : إنّ العليم جلّ اسمه عالم بجميع قائق الوجود ، أمّا ما يوحيه إليك ، فهو ما يحتاج إليه البشر ، ويصلك بالكامل دون أن ينقص منه شيء.

وقيل أيضا : إنّ مراد الآية هو : على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يتعجل في أخذ الوحي ، وأنّ لا يخشى نسيانه ، فالله الذي يعلم الأمور ما خفي منها وما ظهر ، سوف لا يتركه وقد تعهد له بالحفظ.

وعلى أيّة حال ، فمن معاجز النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل عليه‌السلام ، دون أنّ ينسى منها شيئا أبدا.

وتخاطب الآية التالية النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلية له : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (١).

أي ، إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصعوبة الطريق في كافة محطاته ، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به ، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية ، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويمكن كذلك أن تكون إشارة الآية إلى أن طبيعة الرسالة الإسلامية والتكاليف التي تضمّنتها ، طبيعة سهلة وسمحة ، خالية من الحرج والمشقّة.

وهذا المعنى يعطي شمولية أكثر لمفهوم الآية ، بالرغم من أنّ أكثر المفسّرين قد حددوا الآية ببعد واحد من أبعاد مفهومها.

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إنّ مفهوم الآية هو : «نيسّر اليسرى لك» ، وإنّما حصل فيها التقديم والتأخير للتأكيد ، وهذا على أن لا تكون «نيسرك» بمعنى (نوفقك) ، وإلّا لم تكن هناك حاجة للتقديم والتأخير.

١٣٣

وحقّا ، فلو لا توفيق الله وتيسيره للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أمكنه من التغلب على كل تلك المشاكل والصعاب التي واجهته في حياته الرسالية ، وحياته الشريفة تنطق بذلك.

فنراه بسيطا في لباسه ، قنوعا في طعامه ، متواضعا في ركوبه ، وتارة ينام على الفراش واخرى على التراب بل وعلى رمال الصحراء أيضا.

فليس في حياته الشريفة أيّ تكلف ، ولا أدنى تشريف من التشريفات الزائفة الواهية المحيطة بزعماء ورؤساء أيّ قوم أو أمّه.

وبعد أن تبيّن الآيات العناية الرّبانية للنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى).

قيل : الإشارة هنا إلى أنّ التذكير بحدّ ذاته نافع ، وقليل أولئك من الذين لا ينتفعون به ، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجّة على المنكرين ، وهذا بنفسه نفع عظيم (١).

ولكن ثمّة من يعتقد أنّ في الآية محذوف ، والتقدير : (فذكّر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع) ، وهذا يشبه ما جاء في الآية (١٨) من سورة النحل : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، فذكر «الحر» وأضمر (البرد) لوضوحه بقرينة المقابلة.

وهناك من يؤكّد على أنّ الجملة الشرطية في الآية ، لها مفهوم ، والمراد : أنّه يجب عليك التذكير إذا كان نافعا ، فإن لم يكن نافعا فلا يجب.

وقيل : «إن» : ـ في الآية ـ ليست شرطية ، وجاءت بمعنى (قد) للتأكيد والتحقيق ، فيكون مراد الآية : (ذكر فإنّ الذكرى مفيدة ونافعة).

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل مرجح على بقية التّفاسير الثّلاث ، بقرينة سلوك

__________________

(١) وما في الآية بخلاف ما جاء في الآية (٦) من سورة البقرة : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، لأنّها تختص بفئة قليلة من النّاس ، وإلّا فأكثر النّاس يتأثرون بالبلاغ المبين ، وإن كانوا بدرجات متفاوتة ، وعليه .. فالجملة الشرطية في الآية المبحوثة من قبيل القيد بالغالب الأعم.

١٣٤

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نشره الإسلام ، تبليغه الحق ، فإنّه كان يعظ وينذر الجميع.

وتقسم الآيات التالية النّاس إلى قسمين ، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار ، الذي مارسه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى)

نعم ، فإذا ما فقد الإنسان روح «الخشية» ، والخوف ممّا ينبغي أن يخاف منه ، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق ـ والتي هي من مراتب التقوى ـ فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية ، ولا حتّى تذكيرات الأنبياء ستنفعه ، على هذا الأساس كان القرآن «هدى للمتقين».

وتذكر الآية التالية القسم الثّاني ، بقولها : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (١).

وجاء عن ابن عباس ، إنّ الآية السابقة : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) نزلت في (عبد الله بن ام مكتوم) (٢) ، ذلك البصير المؤمن الذي جاء إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبا للحق والتبصر به.

وروي ، إنّ الآية : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) نزلت في (الوليد بن المغيرة) و (عتبة بن ربيعة) من رؤوس الشرك والكفر (٣).

وقيل : يراد بالأشقى ، المعاندين للحق بعداء ، فالنّاس على ثلاثة أقسام : إمّا عارف وعالم ، وإمّا متوقف شاك ، أو معاند ، وأفراد الطائفة الاولى والثّانية ينتفعون من التذكير طبيعيا ، فيما لا ينفع القسم الثّالث منهم ، وليس للتذكير من أثر عليه سوى إتمام الحجّة.

ويفهم من سياق الآية ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينذر ويعظ حتى المعاندين ، لكنّهم كانوا يتجنبونه ويهربون منه.

يبدو من خلال الآيتين الآنفتي الذكر أنّ «الشقاء» يقابل «الخشية» في حين

__________________

(١) يعود ضمير «يتجنبها» على «الذكرى» الواردة في الآيات السابقة.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧١١٠.

(٣) تفسير الكشّاف ؛ روح المعاني (في ذيل الآيات المبحوثة).

١٣٥

أنّ (السعادة) هي التي تقابله ، ولعل هذا التقابل يستبطن حقيقة كون أساس سعادة الإنسان مبنية على إحساسه بالمسؤولية وخشيته.

ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثّاني : (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) .. (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى).

أيّ ، لا يموت ليخلص من العذاب ، ولا يعيش حياة خالية من العذاب ، فهو أبدا يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة!

ولكن ما هي «النّار الكبرى»؟

قيل : إنّها أسفل طبقة في جهنم ، وأسفل السافلين ، ولم لا يكون ذلك وهم أشقى النّاس وأشدّهم عنادا للحق.

وقيل أيضا : إنّ وصف تلك النّار ب «الكبرى» مقابل (النّار الصغرى) في الحياة الدنيا.

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنّم ، وقد أطفئت سبعين مرّة بالماء ثمّ التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطيقها» (١).

وفي وصف نسبة بلاء الدنيا إلى بلاء الآخرة ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في دعاء كميل : «على أنّ ذلك بلاء مكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدّته ...».

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨ : ص ٢٨٨ ، الحديث ٢١.

١٣٦

الآيات

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

التّفسير

أسس دعوة الأنبياء جميعا عليهم‌السلام :

بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله ، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى ، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام ، وخشعت قلوبهم لذكر الله .. ويقول القرآن : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى).

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).

فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد ، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية : «التزكية» ، «ذكر اسم الله» و «الصلاة».

وقيل في معنى «التزكية» عدّة أقوال :

الا

١٣٧

أوّل : تطهير الروح وتزكيتها من الشرك ، بقرينة الآيات السابقة ، وباعتبار أن التطهير من الذنوب وعبادة الله ، يعتمد بالأساس على التطهير من الشرك ، فهو مقدمته اللازمة.

الثّاني : تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية ، والقيام بالأعمال الصالحة ، بدلالة آيات الفلاح الواردة في كتاب الله الكريم ، كالآيات الاولى من سورة المؤمن التي ذكرت أعمالا صالحة بعد أن قالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، وكذا الآية (٩) من سورة الشمس التي قالت ، بعد ذكر مسألة التقوى والفجور : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها).

الثّالث : «زكاة الفطرة» التي تؤدى يوم عيد الفطر ، لأنّها تدفع أوّلا ثمّ يصلى صلاة العيد ، وهذا المعنى قد ورد في جملة رّوايات ، رويت عن الإمام الصادق عليه‌السلام (١) ، كما وروي في كتب أهل السنة ما يؤيد هذا المعنى نقلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

ويواجه القول الثّالث بالإشكال التالي : إنّ سورة الأعلى مكيّة ، في حين أن تشريع زكاة الفطرة وصوم شهر رمضان وصلاة العيد قد نزل في المدينة.

فأجاب البعض : لا مانع من اعتبار أوائل آيات السّورة مكّية وأواخرها مدنية ، فتكون الآيات المبحوثة مدنية.

ويحتمل أن يكون التّفسير المذكور من قبيل بيان مصداق واضح للآية ، وليس مطلق مراد الآية.

الرّابع : يراد ب «التزكية» في الآية بمعنى : إعطاء الصدقة.

المهم أن «التزكية» ذات مداليل واسعة تشمل : تطهير الروح من الشرك ، تطهير الأخلاق من الرذائل ، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء ، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل الله ، (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٥٦ ، الحديثين (١٩ و ٢٠).

(٢) روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ١١٠ ، وتفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٧٤٠.

١٣٨

وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

وبهذا تجمع كلّ الأقوال المذكورة لتدخل في مفهوم التزكية الواسع المداليل.

والجدير بالذكر أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن التزكية أولا ، ثمّ ذكر الله ثمّ الصلاة.

وقد أشار بعض المفسّرين إلى هذه المراتب ، بعد أن جدولها بالمراحل العملية الثلاثة للمكلف :

الاولى : إزالة العقائد الفاسدة من القلب.

الثّانية : حضور معرفة الله وصفاته وأسمائه في القلب.

الثّالثة : الإشتغال بخدمته وفي سبيله جلّ وعلا.

ويمكن القول : إنّ الصلاة فرع لذكر الله ، فإذا لم يذكر الإنسان ربّه ، لم يسطع نور الإيمان في قلبه ، وعندها فسوف لن يقوى على الوقوف للصلاة ، والصلاة الحقّة هي تلك التي يصاحبها التوجّه الكامل والحضور التام بين يديه عزوجل وهذان التوجّه والحضور إنّما يحصلان من ذكره سبحانه وتعالى.

أمّا ما ذكره البعض ، من أنّ ذكر الله هو قول «الله أكبر» أو «بسم الله الرّحمن الرّحيم» في بداية الصلاة ، فإنّما هو بيان لأحد مصاديق الذكر ليس إلّا.

ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الانحراف عن جادة الفلاح : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) .. (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

ونقل الحديث النّبوي الشريف هذا المعنى ، بقوله : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» (١).

فالإنسان العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية ، ولا أن يستبدل اللذائذ المحدودة والمحفوفة بألوان الآلام بالنعم الخالدة والنقية الخالصة.

__________________

(١) وروي الحديث بصور عدّة عن الإمام الصادق عليه‌السلام والإمام السجاد عليه‌السلام ، وورد معنى الحديث عن الأنبياء عليهم‌السلام أيضا ، ممّا يشير إلى أهميته البالغة.

١٣٩

وتختم السّورة ب : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) .. (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١).

ولكن ، ما المشار إليه ب «هذا»؟

فبعض قال : إنّه إشارة إلى الأمر بالتزكية وذكر اسم الله والصلاة وعدم إيثار الحياة الدنيا على الآخرة.

وذلك من أهم تعاليم جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، كما وورد هذا الأمر في جميع الكتب السماوية.

واعتبره آخرون : إنّه إشارة لجميع ما جاء في السّورة ، حيث أنّها ابتدأت بالتوحيد مرورا بالنبوة حتى ختمت بالأعمال.

وعلى أيّة حال ، فهذا التعبير يبيّن أهميّة محتوى السّورة ، أو خصوص الآيات الأخيرة منها ، حيث اعتبرها من الأصول الأساسية للأديان ، وممّا حمله جميع الأنبياء عليهم‌السلام إلى البشرية كافة.

«الصحف» : جمع و (صحيفة) ، وهي اللوح الذي يكتب عليه.

ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى عليهما‌السلام كتبا سماوية.

وروي عن أبي ذر رضى الله عنه ، إنّه قال : قلت يا رسول الله ، كم الأنبياء؟

فقال : «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا».

قلت : يا رسول الله ، كم المرسلون منهم؟

قال : «ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وبقيتهم أنبياء».

قلت : كان آدم عليه‌السلام نبيّا؟

قال : «نعم ، كلمة الله وخلقه بيده .. يا أبا ذرّ ، أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيّك». قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله من كتاب؟

__________________

(١) يمكن أن تكون «صحف إبراهيم وموسى» توضيحا للصحف الاولى ، كما ويمكن أن تكون إشارة لأحد مصاديق الصحف ، وإلّا فهي تشمل جميع كتب الأنبياء السابقين.

١٤٠