الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-61-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٠

«سورة الطّارق»

محتوى السّورة :

تدور مواضيع السّورة حول محورين :

١ ـ محور المعاد والقيامة.

٢ ـ محور القرآن الكريم وأهميته القيمة

تبتدأ السّورة بجملة أقسام تبعث على التأمل والتفكير ، ثمّ تشير إلى المراقبين الإلهيين على الإنسان.

وتنتقل السّورة لإثبات إمكانية المعاد من خلال الإشارة الى كيفية خلق الإنسان من نطفة.

فالقادر على خلق الإنسان من نطفة نتنة لقادر على إعادة حياته بعد موته.

وتعرض لنا السّورة بعد ذلك معالم المرحلة التالية من خلال تبيان بعض ملامح يوم القيامة ، ثمّ تذكر جملة أقسام اخرى للتأكيد على أهمية القرآن ، ومن ثمّ نختم بإنذار الكفار بالعذاب الإلهي.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأها أعطاه الله بعدد كلّ نجم في السماء

١٠١

عشر حسنات» (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : «من كانت قراءته في الفريضة ب (والسماء والطارق) كان له عند الله يوم القيامة جاه ومنزلة ، وكان من رفقاء النبيّين وأصحابهم في الجنّة» (٢)

وبديهي ، أنّ التأمل بمحتوى السّورة والعمل على ضوءها هو الذي يضمن حصول ثوابها ، وحركة اللسان الفارغة عن كل محتوى وتطبيق ، لا تغني عن الحق شيئا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٦٩.

(٢) ثواب الأعمال ، ص ١٢٢ ، وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٤٩.

١٠٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

التّفسير

ممّ خلق الإنسان؟!

تبتدأ السّورة ـ كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم ـ بعدّة أقسام بليغة تبعث على التأمل ، وهي مقدمة لبيان أمر مهم.

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) .. (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) .. (النَّجْمُ الثَّاقِبُ).

«الطارق» : من (الطرق) ـ على زنة برق ـ وهو الضرب ، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة ، و (المطرقة) هي الآلة التي يطرق بها الحديد وغيره.

١٠٣

ويقال للقادم ليلا (الطارق) ، لأنّ البيوت عادة ما تغلق أبوابها ليلا ، فكلّ قادم يلزمه والحال هذه طرق الباب.

وعند ما جاء المنافق (الأشعث بن قيس) لزيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلا ، جلب معه الحلوى ، ظنا منه أنّ هذه الحلوى ستجعل من أمير المؤمنين عليه‌السلام ظهيرا له في قضية معينة.

فذكر الأمير عليه‌السلام هذه الواقعة متعجبا وذاما : «وأعجب من ذلك طرقنا بملفوفة في وعائها». (١)

ويفسّر القرآن الكريم «الطارق» بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) ، النجم اللامع الذي مع علوّه الشاهق وكأنّه يريد أن يثقب سقف السماء ، وكأنّ نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك ، فيجلب الأنظار بميزته هذه.

ولكن ، أيّ نجم هو الطارق؟ هل هو الثريا (لبعدها الغائر في عمق السماء) ، زحل ، الزهرة ، أم الشهب (لما لها من نور جذّاب) ، أم كل النجوم؟

ثمّة احتمالات متباينة في هذا الموضوع ، ولكن وجود صفة «الثاقب» لهذا النجم تعطي الإشارة إلى أنّ النجوم المتلألئة التي تثقب أنوارها ظلمة الليل ، وتجذب الأنظار إليها ، هي المرادة وليس كلّ نجم.

وفسّرت بعض الرّوايات «النجم الثاقب» بكوكب (زحل) من المنظومة الشمسية لشدّة نوره ولمعانه.

وروي أنّ منجما سأل الإمام الصادق عليه‌السلام ، بقوله : فما يعني بالثاقب؟ قال : «لأنّ مطلعه في السماء السابعة ، وأنّه ثقب بضوءه حتى أضاء السماء الدنيا ، فمن ثمّ سمّاه الله النجم الثاقب» (٢).

ويعتبر (زحل) من أبعد النجوم أو الكواكب في مجموعتنا الشمسية التي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٥٠ ، ح ٤.

١٠٤

يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ، ويقع في المدار السابع للشمس ، ولذا عبّر عنه الإمام عليه‌السلام بأنّه في السماء السابعة.

وما لهذا الكوكب من خصائص تؤهله لأن يقسم به ، فهو أبعد ما يمكن رؤيته من منظومتنا الشمسية ، لذا فالعرب يشبهون كلّ عال به ، ويطلقون عليه أحيانا (شيخ النجوم) (١) ، وله حلقات رائعة تحيط به ، وله أيضا ثمانية أقمار ، وتعتبر من حلقاته من أعجب ظواهر السماء.

ومع كلّ ما توصل إليه علماء الفلك بخصوصه ، فثمّة أسرار لم يكشف عنها الستار بعد.

وقيل : إنّ لزحل عشرة أقمار ، يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي (تلسكوب) ، ولا يمكن رؤية الآخرين إلّا بالنواظير الكبيرة (٢).

وممّا لا شك فيه ، إنّ هذه الحقائق ما كانت مكتشفة في عصر نزول الآية المباركة ، وتوصل إليها بعد قرون من نزولها.

وعلى أية حال ، فيمكن تفسير : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) بكوكب زحل ، على اعتبار كونه أحد مصاديقه الواضحة ، ولا ينافي تفسيره بأية نجوم اخرى عالية ووضاءة ، فالتّفسير المصداقي كثير الاستعمال في رواياتنا.

وفي الآية (١٠) من سورة الصافات : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) ، فوصف «الشهاب» بأنّه «ثاقب» يحمل الإشارة لاحتمال أنّ تكون الظاهرة السماوية المذكورة هي ظاهرة «الشهب» ، لتكون أحد تفاسير الآية المبحوثة ، ويؤيد ذلك أيضا بعض ما ذكر في شأن نزول الآية. (٣)

__________________

(١) دائرة المعارف دهخدا مادة زحل.

(٢) دائرة المعارف دهخدا مادة زحل.

(٣) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٧.

١٠٥

ولنرى لأي شيء كان هذا القسم : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (١).

يحفظ عليه أعماله ، وتسجل كل أفعاله ، ليوم الحساب.

كما جاء في الآيات (١٠ ـ ١٢) من سورة الإنفطار : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ).

فلا تظنوا بأنّكم بعيدون عن الأنظار ، بل أينما تكونوا فثمّة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كلّ ما يبدر منكم .. وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان. مع أنّ الآية لم تحدد هوية «الحافظ» ، ولكن الآيات الاخرى تبيّن بأن «الحفظة» هم الملائكة وأنّ «المحفوظ» هو أعمال الإنسان من الطاعات والمعاصي.

وقيل : يراد بها حفظ الإنسان من الحوادث والمهالك ، ولولا ذلك لما خرج الإنسان من الدنيا بالموت الطبيعي ، والأطفال بالخصوص.

أو المراد هو : حفظ الإنسان من وساوس الشيطان ، ولو لا هذا الحفظ لما سلم أحد من وساوس شياطين الجنّ والأنس.

وبلحاظ ما تتطرق إليه الآيات التالية (حول المعاد والحساب الإلهي) ، يكون التّفسير الأول أقرب من غيره وأنسب ، ولو أنّ الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة غير بعيد عن مراد الآية.

والعلاقة ما بين المقسوم به وما أقسم له وثيقة ، حيث أنّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مسارات منظمة ، دليل على وجود النظم والحساب الدقيق في عالم الوجود ، فكيف يمكن أنّ نتصور بأنّ أعمال الإنسان دون باقي الأشياء لا تخضع لهذه السّنة ، لتبقى سائبة بلا ضبط وتسجيل وليس عليها من حافظ؟!! ..

__________________

(١) «إن» في الآية : نافية ، و «لمّا» : بمعنى (إلّا).

١٠٦

ثمّ يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ).

وبهذا .. أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أول خلقهم ، مستفهما عمّا خلق منه الإنسان.

وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) ، وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيا من ، ويخرج بدفق.

ويستمر في تقريب المراد : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ).

«الصلب» : الظهر : و «الترائب» : جمع (تريبة) ، وهي ـ على ما هو مشهور بين علماء اللغة ـ عظام الصدر العليا وضلوعه.

وكما يقول ابن منظور في لسان العرب : قال أهل اللغة أجمعون : الترائب موضع القلادة من الصدر.

وذكرت معان اخرى للترائب ، منها : إنّها القسم الأمامي للإنسان (في قبال الصلب ، الذي هو ظهر الإنسان) ، إنّها اليدان والرجلان والعينان ، إنّها عظام الصدر ، أو ما يلي الترقوتين منه ، وقيل : أربعة أضلاع من يمين الصدر وأربعة من يساره.

وأدناه ، نذكر بعض الآراء الكثيرة للمفسّرين بخصوص المراد من «الصلب والترائب» الواردة في الآية المباركة.

١ ـ «الصلب» إشارة إلى الرجال ، و «الترائب» إشارة إلى النساء ، لأنّ في الرجال مظهر الصلابة ، وفي النساء مظهر الرقة واللطافة.

وعليه ، فالآية بصدد ذكر حيمن الرجل وبويضة المرأة ، ومنهما تتشكل نطفة خلق الإنسان.

٢ ـ «الصلب» إشارة إلى ظهر الرجل ، و «الترائب» إشارة إلى صدره ، فيكون مراد الآية نطفة الرجل التي تقع ما بين ظهره وصدره.

٣ ـ إرادة ، خروج الجنين من رحم امّه ، لأنّه يكون بين ظهرها والجزء

١٠٧

الأمامي لبدنها.

٤ ـ قيل : إنّ في الآيتين سرّا من أسرار التنزيل ، ووجها من وجوه الأعجاز ، إذ فيهما معرفة حقائق علميّة لم تكن معروفة حينذاك وقد كشف عنها العلم أخيرا.

وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصيّة الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات ، التي حيرت الألباب ، فقد ثبت أن خصيّة الرجل ومبيض المرأة في بداية ظهورهما في الجنين يقعان في مجاورة كلية الجنين ، أي بين وسط الفقرات (الصلب) والأضلاع السفلى للصدر (الترائب) ثمّ مع نمو الجنين ينتقلان تدريجيا إلى الأسفل ، وبما أن تكون الإنسان يمثل تركيبا من نطفة الرجل والمرأة والمحل الأصلي لجهاز توليد النطفة فيهما هو بين الصلب والترائب ، أختار القرآن لذلك هذا التعبير. وهذا ما لم يكن معروفا حينذاك.

وبعبارة اخرى : إنّ كلّ من الخصيّة والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلي ويقع بين الصلب والترائب ، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع. (١) ويشكل على هذا التّفسير ب : إنّ القرآن إنّما يقول : (ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ، فهو يمرّ من بينهما حال الخروج ، في حين لا يقول التّفسير المذكور ذلك ، ويشير إلى محل توليده بينهما أثناء النمو الجنيني ، بالإضافة إلى أنّ تفسير «الترائب» بأسفل الضلوع لا يخلو من نقاش.

٥ ـ مراد الآية ، هو المني ، لأنّه في الحقيقة مأخوذ من جميع أجزاء البدن ، ولذا عند ما يقذف إلى الخارج فإنّه يقترن مع انفعال وهيجان البدن كلّه وبعده فتور البدن بأجمعه ، فيكون مقصود «الصلب» و «الترائب» في هذه الحال تمام قسمي بدن الإنسان ، الإمامي والخلفي.

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٣٠ ، ص ١١٣.

١٠٨

٦ ـ وقيل أيضا : إنّ المصدر الأساس لتكوين المني هو النخاع الشوكي الواقع في ظهر الإنسان ، ثمّ القلب والكبد ، فالأوّل يقع تحت أضلاع الصدر ، والآخر بين المكانين المذكورين ، وعلى هذا الأساس قالت الآية : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ).

ويكفينا الرجوع إلى الآيات المبحوثة لدفع الغموض الحاصل ، فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة ، بقرينة «ماء دافق» ، وهذا لا يصدق إلّا على الرجل ، وعليه يعود الضمير في «يخرج».

وعليه ، فينبغي إخراج المرأة من هذه الدائرة ، ليكون البحث منصبا على الرجل فقط ، وهو المشار إليه في الآية.

و «الصلب والترائب» هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي ، لأنّ ماء الرجل إنّما يخرج من هاتين المنطقتين (١).

وهذا التّفسير واضح ، خال من أيّ تكلف ، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين.

كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمّة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد ، وربّما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان.

ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ).

فالإنسان ترابا قبل أن يكون نطفة ، ثمّ مرّ بمراحل عديدة مدهشة حتى أصبح إنسانا كاملا ، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار ترابا ، فالذي خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اخرى.

__________________

(١) عند ما تتحدث الآيات القرآنية الاخرى عن خلق الإنسان ، فإنّها غالبا ما تشير إلى نطفة الرجل ، باعتبارها أمرا محسوسا (راجع الآية ٤٦ من سورة النجم ، والآية ٣٧ من سورة القيامة).

١٠٩

وقد ورد هذا المعنى في الآية (٥) من سورة الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ، بالإضافة إلى الآية (٦٧) من سورة مريم : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً).

وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١).

«تبلى» : من (البلوى) ، بمعنى الاختبار والامتحان ، وهو هنا الظهور والبروز ، لأنّ الامتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها.

«السرائر» : جمع (سريرة) ، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية.

نعم ، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم ، «يوم البروز» و «يوم الظهور» ، فسيظهر على الطبيعة كلّ من : الإيمان ، الكفر ، النفاق ، نيّة الخير ، نيّة الشر ، الإخلاص ، الرياء ...

وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين ، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين ...

وما أشد ما سيلاقي من قضى وطرا من عمره بين النّاس بظاهر حسن ونوايا خبيثة! وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كلّ الخلائق! وربّما ذلك من أشدّ عذاب جهنم عليه ...

وتصف لنا الآية (٤١) من سورة الرحمن هيئتهم بالقول : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) ، وكذا الآيات (٣٨ ـ ٤١) من سورة عبس : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ).

نعم ، فكما إنّ «الطارق» والنجوم الاخرى تظهر من خفائها ليلا على صفحة السماء ، فكذا حال الإنسان في عرصة يوم القيامة ، فالحفظة والمراقبين الإلهيين

__________________

(١) «يوم» ظرف زمان متعلق بالرجع في الآية السابقة.

١١٠

المكلفين لتسجيل أعمال الإنسان سيظهرون كلّ شيء ، كظهور ضوء النجم في الليل الداج.

عن معاذ بن جبل أنّه قال ، سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة؟

فقال : «سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكلّ مفروض ، لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة ، فإن شاء الرجل قال صليت ولم يصل ، وإنّ شاء قال توضيت ولم يتوضأ ، فذلك قوله تعالى يوم تبلى السرائر» (١).

ولكن أشدّ صعاب ذلك اليوم على الإنسان : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ).

فلا يملك تلك القوّة التي تخفي أعماله ونياته ، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب الله سبحانه وتعالى.

وقد ورد هذا المعنى في آيات قرآنية اخرى ، ففي ذلك اليوم : لا ناصر ولا معين ، ولا يقبل فداء ، ولا رجعة ، وليس من وسيلة للفرار من قبضة العدل حينها ، إلّا وسيلة واحدة للنجاة وهي «الإيمان والعمل الصالح» فقط.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٢. ومثله في تفسير الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٣٦.

١١١

الآيات

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

التّفسير

خواء خطط الأعداء :

بعد أن تضمّنت الآيات السابقة استدلالا على المعاد ، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه ، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرّة اخرى ، لتشير إلى بعض الأدلة الاخرى عليه فتقول : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) .. (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) .. (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) .. (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ).

«الرجع» : من (الرجوع) ، بمعنى العود ، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنّها تبدأ من مياه الأرض والبحار ، ثمّ تعود إليها تارة اخرى عن طريق الغيوم ، أو لأنّ هطول المطر يكون في فواصل زمنية مختلفة.

ويسمّى الغدير رجعا .. إمّا للمطر الذي فيه ، وإمّا لتراجع أمواجه ، وتردده في

١١٢

مكانه (١).

«الصدع» : هو الشق في الأجسام الصلبة.

وبملاحظة معنى «الرجع» في الآية السابقة ، نصل إلى أنّ مراد الآية بالصدع هو شق الأرض اليابسة بالأمطار ، وخروج النباتات منها.

فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار ، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد ، كما في قوله تعالى في الآية (١١) من سورة «ق» : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

وهنا تتجسد بلاغة الأسلوب القرآني ، من خلال ربطه الدقيق فيما بين ما يقسم به وما يقسم له.

وبعبارة اخرى ، فالسّورة قد استندت إلى المقارنة فيما بين خلق الإنسان من نطفة وبين إحياء الأرض الميتة بالأمطار ، في استدلالها ، وجاء شبيه هذا الاستدلال في الآية (٥) من سورة الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَ) (... وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

وقيل أيضا : إنّ الآية : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) تشير إلى دوران الكواكب في مسارات معينة ، كدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس ، وحركة الكواكب السيّارة للمنظومة الشمسية ، وكذلك شروق وغروب الشمس والقمر والنجوم ، حيث أنّ كلّ هذه الحركات تتضمّن الرجوع والعودة.

وهذا الرجوع علامة لرجوع النّاس العام إلى الحياة.

ولكن من خلال ما تقدم يظهر لنا أنّ التّفسير الأوّل أنسب وأقرب لقرائن السّورة ، حيث أنّه أشارة إلى مسألة شقّ الأرض مع أدلة المعاد.

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (رجع).

١١٣

«القول الفصل» : هو القول أو الحديث الذي يفرق بين الحق والباطل ، وقيل : هو في الآية يشير إلى المعاد ، بقرينة الآيات السابقة ، وقيل أيضا : هو إشارة إلى القرآن ، وهناك بعض الرّوايات عن أهل البيت عليهم‌السلام تؤيد هذا المعنى. وقد ورد التعبير عن القيامة ب «يوم الفصل» في الكثير من الآيات القرآنية.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد هو الإشارة إلى الآيات القرآنية والتي تتضمّن الحديث عن المعاد ، وبذلك يتمّ الجمع بين التّفسيرين.

فقد روي عن الإمام علي عليه‌السلام : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّها ستكون فتنة!» قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟!

قال : «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله». (١)

وتسلّي الآيات التالية قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين من جهة ، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة اخرى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) ، فالكفار يخططون من جهة ، وأنا أخطط لإحباط تلك الخطط من جهة اخرى .. (وَأَكِيدُ كَيْداً).

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) ، حتى يروا عاقبتهم!

نعم ، إنّهم دوما يكيدون في حربك والحرب ضد دينك.

فتارة بالاستهزاء ..

واخرى بالحصار الاقتصادي ..

ومرّة بتعذيب المؤمنين ..

واخرى يقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه كي تنتصروا ..

ويقولون عنك : ساحرا ، كاهنا ، مجنونا ..

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ١٠٠ ؛ وتفسير المراغي ، ج ٣٠ ، ص ١١٨ ؛ عن صحيح الترمذي وسنن الدارمي.

١١٤

ويمارسون النفاق : بأن يؤمنوا بك صباحا ويكفروا مساء ، كي يؤثّروا على البسطاء ..

ويقولون لك : أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك

وأحيانا يقولون : آمن ببعض آلهتنا حتى نؤمن بك ..

ويكيدون لإبعادك وقتلك ..

والخلاصة : فشغلهم الشاغل هو : التخطيط المستمر لمواجهتك ، لتفريق من آمن بك ، والضغط على أصحابك ، أو قتلك لإطفاء نور الله بذلك! ولا يعلمون بأنّ الله متمّ نوره ولو كرهوا.

«الكيد» (١) : ضرب من الاحتيال والتغلب على المشكل بتهيئة المقدمات ، وفيه جنبة خفية ، وقد يكون مذموما وممدوحا كقوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) (٢) ، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر.

ومراد الآية هو كيد الأعداء كما هو واضح ، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه ، فيما تناولت هذا الموضوع آيات قرآنية كثيرة.

ولكن .. ما المقصود بالكيد الإلهي؟

قيل : إنّه الإمهال الذي ينتهي بالأخذ الشديد والعذاب الأليم.

وقيل أيضا : إنّه نفس العذاب الذي ينتظرهم.

والأنسب أن يقال : إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه من المؤمنين ، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم.

ويحمل التاريخ الإسلامي بين طياته شواهد كثيرة على هذا المعنى.

وتأمر الآيات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على الأخص ـ بأن يمهلهم ولا يتعجل على

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) سورة يوسف ، الآية ٧٦.

١١٥

عذابهم ، وأنّ يتمّ الحجّة عليهم ، فعسى أن يعود قسم منهم إلى رشده ويسلم وأساسا فالعجلة لمن يخاف الفوت ، وهذا ما لا يصدق على القاهر القادر سبحانه وتعالى.

والملاحظ في الآية ، إنّها شرعت ب (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) فيما أكّدت ذلك بقولها «أمهلهم» ، فالأوّل من باب (التفعيل) ، والثّاني من باب (الأفعال) وقد جاء للتأكيد دون تكرار اللفظ بعينه.

«رويدا» : من (الرود) ـ على وزن عود ـ وهو التردد في طلب الشيء يرفق ، ولها هنا معنى مصدريا مع تصغير ، أي أمهلهم مهلة صغيرة (١).

وبهذا يوصي الله عزوجل نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الجملة المختصرة ثلاث مرات بامهال ومداراة الكافرين وهذا في الحقيقة درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم ، وخصوصا إذا ما كانوا أعداء أقوياء وشرسين ، فلا بدّ من الصبر والتأني والدقّة في حساب خطوات المواجهة ، وينبغي عدم التسرع في العمل ، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة.

مضافا إلى التبليغ والدعوة إلى الحق لا بدّ فيها من تجنب العجلة والتسرّع حتّى تتاح الفرصة لكلّ من يمكن هديه ، فلا بدّ من تفهيم الإسلام بكل لطف وسعة صدر مع الدليل القاطع ، وبهذا تتمّ الحجّة على الآخرين.

أمّا السبب في طلب الإمهال القليل ، ففيه احتمالين :

الأوّل : كان الإمهال لحين حدوث معركة بدر ، حيث أحرز المسلمون فيها نصرا مبينا على الكفار بعد مدّة قليلة من نزول الآية.

ومعركة بدر أوّل ضربة موجعة تلقاها المشركون من المسلمين ، ثمّ تلتها ضربات في معركة الأحزاب ومعركة خيبر وغيرها ، ممّا أفشل مخططات الكفرة

__________________

(١) ف «رويدا» في محل مفعول مطلق ، والمعنى : أمهلهم إمهالا قليلا ، أمّا ما قيل من كونها تحمل معنى الأمر ، فهو بعيد ، لأنّ ذلك سيستلزم للآية ثلاثة أوامر. ومع أنّ «رويدا» جاءت بمعنى الأمر ، وعلى صيغة اسم فعل ، لكن الأنسب لها في هذا الموضع أن تكون منصوبة كمفعول مطلق.

١١٦

لدحر الإسلام.

وحينما وافى عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجل ، كان نور الإسلام قد غطى كلّ أرجاء شبه الجزيرة العربية ، ولم يمض قرن واحد على عمر الرسالة الخاتمة حتى تفيئت معظم أجزاء العالم تحت ظله الآمن.

الثّاني : لأنّ عذاب القيامة سيقع حتما ، وكلّ حتمي الوقوع قريب.

وعلى أيّة حال ، فقد بدأت السّورة بالقسم بالسماء والنجوم ، وانتهت بتهديد الكافرين والمتآمرين على الحقّ ، وفيما بين البدء والانتهاء ، تعرضت إلى بعض أدلة المعاد بأسلوب رائع ومؤثر ، وإلى بيان شيّق للرقابة الإلهية على أعمال الإنسان ، بالاضافة إلى ما قدمته من تسلية لترطيب خواطر المؤمنين ، بلسان في غاية اللطف البليغ.

اللهم ، ردّ كيد أعداء دينك ، ولا سيما المتأخرين منهم الذين عاثوا في الأرض فسادا ، واقطع دابر المتجبرين ...

اللهم ، سدّ عوراتنا يوم تبلى السرائر ...

اللهم ، لا قوّة لنا ولا ناصر سواك ، فلا تكلنا لغيرك ...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الطّارق

* * *

١١٧
١١٨

سورة

الأعلى

مكيّة

وعدد آياتها تسع عشرة آية

١١٩
١٢٠