الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

فيقول أوّلا : بأنّهم قالوا : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) التعبير بـ «الرّشد» تعبير واسع وجامع ، ويمكن أن يستوعب كل امتياز ، فهو الطريق المستقيم من دون اعوجاج ، وهو الضياء والوضوح الذي يوصل المتعلقين به إلى محل السعادة والكمال.

وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك بالله تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات الله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً).

«جد» : لها معان كثيرة في اللغة ، منها : العظمة ، والشدّة ، والجد ، والقسمة ، والنصيب ، وغير ذلك ، وأمّا المعنى الحقيقي لها كما يقول الراغب في المفردات فهو «القطع» ، وتأتي بمعنى «العظمة» إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات ، وكذلك يمكن الأخذ بما يناسب بقية المعاني التابعة لها ، وإذا ما أطلقنا لفظة «الجد» على والدي لأبوين فإنّما يعود ذلك إلى كبر مقامهما أو عمرهما ، وذكر آخرون معاني محدودة لهذه الكلمة فقد فسّروها بالصفات ، والقدرة ، والملك ، والحاكمية ، والنعمة ، والاسم ، وتجتمع كل هذه المعاني في معنى العظمة ، وهناك ادعاء في أنّ المقصود هنا هو الأب الأكبر «الجد» وتشير الرّوايات إلى أنّ الجنّ ولقلّة معرفتهم اختاروا هذا التعبير غير المناسب ، هذا إشارة إلى نهيهم عن ذكر هذه التعابير (١).

ويمكن أن يكون هذا الحديث ناظرا إلى الموارد التي يتداعى فيها هذا المفهوم ، وإلّا فإنّ القرآن يذكر هذا التعبير بلحن الموافق في هذه الآيات ، وإلّا لم وقد ذكر هذا التعبير أيضا في نهج البلاغة ، كما في الخطبة (١٩١): «الحمد لله الفاشي في الخلق حمده ، والغالب جنده ، والمتعالي جدّه».

وورد في بعض الرّوايات أنّ أنس بن مالك قد قال : كان الرجل إذا قرأ سورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٨ ، ونور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٣٥ ، وذكر هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم.

٨١

البقرة جد في أعيننا (١).

على كل حال فإنّ استعمال هذه اللفظة في المجد والعظمة مطابق لما ورد في نصوص اللغة ، ومن الملاحظ أنّ خطباء الجن معتقدون بأنّ الله ليس له صاحبة ولا ولد ، ويحتمل أن يكون هذا التعبير نفي للخرافة المتداولة بين العرب حيث قالوا : إنّ لله بنات لزوجة من الجن قد اتّخذها لنفسه ، وورد هذا الاحتمال في تفسير الآية (١٥٨) من سورة الصافات : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً).

ثمّ قالوا : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً).

ويحتمل أنّ التعبير بـ «السفيه» هنا بمعنى الجنس والجمع ، أي أنّ سفهاءنا قالوا : إنّ لله زوجة وأطفالا ، واتّخذ لنفسه شريكا وشبيها ، وإنّه قد انحرف عن الطريق ، وكان يقول شططا ، واحتمل بعض المفسّرين أنّ «السفيه» هنا له معنى انفرادي ، والمقصود به هو «إبليس» الذي نسب إلى الله نسب ركيكة ، وذلك بعد مخالفته لأمر الله ، واعتراضه على الله في السجود لآدم عليه‌السلام ظنّا منه أنّ له الفضل على آدم ، وأنّ سجوده لآدم بعيد عن الحكمة.

ولمّا كان إبليس من الجن ، وكان قد بدا منه ذلك ، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططا ، وإن كان عالما وعابدا ، ولأن العالم بلا عمل ، والعابد المغرور من المصاديق الواضحة للسفيه.

«شطط» على وزن وسط ، وتعني الخروج والابتعاد عن قول الحقّ ، ولهذا تسمّى الأنهار الكبيرة التي ترتفع سواحلها عن الماء بـ «الشط».

ثمّ قالوا : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).

لعل هذا الكلام اشارة إلى التقليد الأعمى للغير ، حيث كانوا يشركون بالله وينسبون إليه الزوجة والأولاد ، وفهنا يقولوا : لقد كنّا نصدقهم بحسن ظننا بهم

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٠١.

٨٢

ونقول بمقالتهم الخاطئة ، وما كنّا نظنهم يتجرءون على الله بهذه الأكاذيب ، ولكننا الآن نخطّئ هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن ، ونقر بما التبس علينا ، بانحراف المشركين من الجنّ.

ثمّ ذكروا احدى الانحرافات للجن والإنس وقالوا : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

«رهق» على وزن (شفق) ويعني غشيان الشيء بالقهر والغلبة ، وفسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه ، وقيل إنّ هذه الآية تشير إلى إحدى الخرافات المتداولة في الجاهلية ، وهي أنّ الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه (١).

وبما أنّ الخرافات كانت منشأ لازدياد الانحطاط الفكري والخوف والضلال فقد جاء ذكر هذه الجملة في آخر الآية وهي : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

وذكر في الآية (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) ممّا يستفاد منه أنّ فيهم إناثا وذكورا (٢).

على كل حال فإنّ للآية مفهوما واسعا ، يشمل جميع أنواع الالتجاء إلى الجنّ ، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها ، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٩ ، وروح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٨٥.

(٢) نقل عن بعضهم في تفسير الآية أعلاه أنّ لجوء جماعة من الإنس بالجن ادّى إلى أن يتمادى الجن في طغيانهم وظنوا أن بيدهم زمام الأمور المهمّة ، والتّفسير الأوّل أوجه (والضمير حسب التّفسير الأوّل في (زادوا) يرجع إلى الجن ، والضمير «هم» يرجع إلى الإنس ، بعكس التّفسير الأوّل).

٨٣

الآيات

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

التّفسير

كنّا من قبل نسترق السمع ولكن ...

يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن ، وتبيان الدعوة لقومهم ، ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة ، وفيقولون : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً).

لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنا عند سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق ، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر فتبتلوا بما ابتلوا به.

وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن وتحكيمهم

٨٤

وليتمسكوا بالقرآن وبالنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال البعض : إنّ الآية (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) تشير إلى إنكار البعث لا إلى إنكار بعثة الأنبياء ، وقال آخرون : إنّ هذه الآية والتي قبلها هي من كلام الله تعالى وليست من كلام مؤمني الجنّ ، وإنّها آيات عرضية جاءت في وسط حديثهم ، والمخاطبون هم مشركو العرب ، وطبقا لهذا التّفسير يكون المعنى هكذا ، يا مشركي العرب ، إنّهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ، ولمّا سمعوا الذكر أدركوا خطأهم ، وقد حان لكم أن تفيقوا ، ولكن هذا القول يبدو بعيدا ، بل الظاهر أن الخطاب هو لمؤمني الجن والمخاطبون هم الكفار منهم.

ثمّ يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة ، فيقولون : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (١) (٢).

وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكننا منعنا من ذلك الآن : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتاب الله السماوي ، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع ، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنّبوة؟

«شهاب» لهب من النار ، ويطلق أيضا على الأنوار النّارية الممتدة في السماء ، وهي قطع حجرية صغيرة متحركة في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية ، كما يقول علماء الفلك ، وتتأثر بجاذبية الأرض عند وصولها إلى مقربة منها فتسقط على شكل شعلة نارية حارقة ، لأنّها عند ما تصل إلى طبقات الهواء

__________________

(١) «لمسنا» من لمس ، وتعني هنا الطلب والبحث.

(٢) «حرس» على وزن قفص ، جمع حارس ، وقيل اسم جمع لحارس ، وتعني الشديد الحفاظ.

٨٥

الكثيفة وتصطدم لها تتحول إلى شعلة نارية ، ثمّ تصل إلى الأرض بصورة رماد ، وقد ذكرت الشهب كرارا في القرآن المجيد ، وأنّها كالسهام ترمى صوب الشياطين الذين يريدون أن يسترقوا السمع من السماء ، وقد أوردنا بحوثا مفصّلة حول كيفية إخراج الشياطين من السماء بالشهب ، وما يراد من استراق السمع ، وذلك في ذيل الآية (١٨) من سورة الحجر وما يليها ، وفي ذيل الآية (١٠) من سورة الصافات وما يليها.

«رصد» على وزن حسد ، وهو التهيؤ لانتظار شيء ويعبّر عنه بـ (الكمين) وتعني أحيانا اسم فاعل بمعنى الشخص أو الشّيء الذي يمكن ، وهذا ما أريد به في هذه الآيات.

ثمّ قالوا : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً).

أي مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض ، أم أراد الله بذلك المنع أن يهديهم ، وبعبارة أخرى أنّنا لا ندري هل هذه هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من الله ، أم مقدمة لهدايتهم ، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مقدمة لهداية البشرية ، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الأخرى ، وليس هذا إلّا انتهاء لعصر الظلام ، وابتداء عصر النّور.

ومع هذا ، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصّة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة ، وإلّا فمن الواضح أن الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.

والجدير بالذكر أنّ مؤمني الجنّ صرّحوا بالفاعل لإرادة الهدية فنسبوه إلى الله ، وجعلوا فاعل الشّر مجهولا ، وهذا إشارة إلى أنّ ما يأتي من الله فهو خير ، وما يصدر من الناس فهو الشرّ وفساد إذا ما أساءوا التصرف بالنعم الإلهية ، ثمّ إنّ

٨٦

المفروض أن يذكر لفظ «الخير» في مقابل «الشرّ» ، ولكن بما أنّ الخير هنا تعني الرّشد والهداية ، لذا اكتفى بذكر المصداق فقط.

* * *

٨٧

الآيات

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))

التّفسير

إنّ سمعنا الحقّ فأطعناه :

في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالّين فيقولون : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً).

ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أن وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم ، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة ، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.

٨٨

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية ، وفيهم الصالح والطالح ، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية ، وأساسا فإنّ أحد العوامل المؤثرة في التبليغ هو إعطاء الشخصية للطرف المقابل ، وتوجيهه إلى وجود عوامل الهداية والكمال في نفسه.

واحتمل أيضا أنّ الجن قالوا ذلك لتبرئة ساحتهم من موضوع الإساءة في مسألة استراق السمع أي : وإن كان منّا من يحصل على الأخبار عن طريق استراق السمع ووضعها بأيدي الأشرار لتضليل الناس ، ولكن لا يعني ذلك أنّ الجن كلهم كانوا كذلك ، ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن ، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والانحراف ، وسياق هذا الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة ، صالحون وطالحون.

«قدد» على وزن (ولد) وهو جمع قد ، على وزن (ضد) وتعني المقطوع ، وتطلق على الجماعات المختلفة ، لأنّها تكون على شكل قطع منفصلة عن بعضها.

وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من جزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الجملة الأولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة الإلهية في الأرض ، والجملة الثّانية إشارة إلى الفرار المطلق ، الأرض والسماء.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنّه الجملة الأولى إشارة إلى أنّه لا يمكن الغلبة على الله ، والجملة الثّانية إشارة إلى أنّه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة ، فإذا لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار ، فلا علاج إلّا التسليم لأمر الله تعالى وعدالته.

٨٩

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلا ، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.

ثمّ بيّنوا عاقبة الإيمان في جملة قصيرة واحدة فقالوا : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

«بخس» : على وزن (شخص) ويراد به النقص على سبيل الظلم.

«رهق» : على وزن (سقف) يراد به ـ وكما أشرنا من قبل ـ غشيان السيء بالقهر ، وقال البعض : إنّ البخس هو عدم نقصان شيء من حسناتهم ، والرهق : هو عدم إضافه شيء إلى سيئاتهم ، قيل البخس : هو نقص الحسنات ، والرهق : التكاليف الشاقة ، على كل حال فالمراد هو أن المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيرا كان أو صغيرا فإنّهم يستوفون أجور ذلك بلا نقص أو قلّة ، وصحيح أنّ العدالة الإلهية غير منحصرة بالمؤمنين ، لكنّ الطالحين ليس لهم عمل صالح ، فليس هناك ذكر لأجورهم.

وفي الآية الأخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ (١) فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً). (٢)

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً).

الملاحظ في الآيات أن كلمة «المسلم» جاءت مقابل كلمة «الظالم» ، وإشارة إلى أن ما يقي الإنسان من الظلم هو الإيمان ، وإذا لم يكن الفرد مؤمنا فإنّه سوف يظلم بأي شكل من الأشكال ، وكذا تشير إلى أنّ المؤمن الحقيقي هو

__________________

(١) «القاسط» من أصل (قسط) وتعني التقسيم العادل ، فإن أتت على وزن (أفعال) ، (أقساط) فإنّها تعني إجراء العدالة ، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها تعطي معنى الظلم والانحراف عن سبيل الحقّ.

(٢) «تحروا» : من أصل تحري وتعني توخيه وقصده.

٩٠

المؤمن الذي لا يظلم ، كما في حديث النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمن من آمنه الناس على أنفسهم وأموالهم». (١)

وجاء في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». (٢)

والتعبير بـ (تَحَرَّوْا رَشَداً) يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق والتوجه الصادق ، وليس بالغفلة والأغماض ، وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية ، والظالمون هم في أسوأ حال ، حيث إنّهم حطب لجهنم ، أي أنّ النار تلتهب في أعماق وجودهم.

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ١٩٥.

(٢) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

٩١

الآيات

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩))

التّفسير

الفتنة باغدق النعمة :

هذه الآيات تشير ظاهرا إلى استمرار الجن في حديثهم مع قومهم : (وإن كان بعض المفسّرين يعتبرون هذه الآية معترضة بين كلام الجن) ولكن اعتراضها خلاف الظاهر ، وسياق هذه الآيات يشابه السابقة والذي كان من كلام الجن ، ولذا يستبعد أن يكون هذا الكلام هو لغير الجن. (١)

__________________

(١) من الملاحظ أنّ السبب الوحيد الذي دعا المفسّرين إلى أن يعتبروا هذا الكلام من كلام الله تعالى وأنّها جملة اعتراضية هو ضمائر (المتكلم مع الغير) ففي موضع يقول : لأسقيناهم ماء غدقا ، وفي موضع آخر يقول : لنفتنهم فيه ، ولكن لا ضمير عند ما نعتبر هذه التعابير من باب النقل ، كما لو تحدث شخص عن صاحبه فيقول : إنّ فلانا يعتقد بأنّي شخص حسن ، (بالطبع هو لم يستعمل كلمة (أنا) وإنّما استعمل كلمة (هو) ولكن القائل يختار مثل هذا التعبير).

٩٢

على كل حال فإنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة ، وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)

ننزل عليهم مطر رحمتنا ، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شيء وعلى هذا فإنّنا نشملهم بأنواع النعم.

«غدق» على وزن شفق ، وتعني الماء الكثير

القرآن المجيد اكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعا للبركات المعنوية ، بل تؤدّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران ، أي (البركة والمادية).

(لنا بحث مفصل في هذا الباب في نفس المجلد في تفسير سورة نوح عليه‌السلام ذيل الآية ١٢ تحت عنوان الرابطة بين الإيمان والتقوى وبين العمران).

الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الاستقامة على الإيمان ، وليس أصل الإيمان ، لأنّ الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات ، فالمهم هو الاستقامة والاستمرار على الإيمان والتقوى ، ولكن هناك الكثير ممن تزل أقدامهم في هذا الطريق.

والآية الأخرى إشارة إلى حقيقة أخرى بنفس الشأن ، فيضيف : (لِنَفْتِنَهُمْ) هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى الله؟

ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الامتحان الإلهي ، وما يتفق عليه هو أنّ الاختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيدا من الاختبار بالعذاب ، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الانحلال والكسل والغفلة ، والغرق في الملذات والشهوات ، وهذا ما يبعد الإنسان عن الله تعالى ويهيء الأجواء لمكائد الشيطان ، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هو الذاكرون لله

٩٣

على كلّ حال ، غير الناسين له تعالى ، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين (١).

ولذا يضيف تعقيبا على ذلك : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً).

«صعد» : على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى ، وأحيانا الشعب المتعرجة في الجبل ، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق ، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأمور الشّاقة ، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق ، وهو مماثل لما جاء في الآية (١٧) من سورة المدّثر حول بعض المشركين : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً).

ولكن ، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّا شديدا فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل ، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة ، رابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة أخرى ورابطة الإعراض عن ذكر الله تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة ، وهذه حقائق أشير إليها في الآيات القرآنية الأخرى كما نقرأ في الآية (١٢٤) من سورة طه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً).

وكذا في الآية (٤٠) من سورة النمل عن لسان سليمان عليه‌السلام : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ، وما جاء في الآية (٢٨) من سورة الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ).

وقال مؤمنو الجن في الآية الأخرى وهم يدعون إلى التوحيد : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وللمساجد في هذه الآية تفاسير عديدة منها :

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من «الطريقة» هو سبيل الكفر وزيادة النعم الحاصلة نتيجة للاستقامة في هذه الطريقة في الحقيقة هي مقدمة العقوبات ومصداق الاستدراج في النعم ، ولكن هذا التّفسير لا يتناسب أبدا مع سياق الآيات السابقة واللاحقة.

٩٤

أولا : قيل هي المواطن التي يسجد فيها لله تعالى كالمسجد الحرام وبقية المساجد ، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلّي فيها ويسجد عليها ، وهو مصداق القول الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». (١)

وهذا ردّ لمن اتّخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك بالله ، ومن اتّخذ الكعبة معبدا للأصنام ، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد الأرباب الثّلاثة في الكنائس والله تعالى يقول : (أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)

ثانيا : المراد بالمساجد السبعة الأعضاء السبعة ، فيجب أن يكون وضعها على الأرض خالصا لله ، ولا يجوز أن يكون لغيره ، كما ورد في الحديث عن الإمام محمّد بن علي الجواد عليهما‌السلام وهو يجيب المعتصم في مجلسه الذي كان قد جمع فيه العلماء من أهل السنة حيث سأله عن يد السارق من أي موضع يجب أن تقطع؟ فقال بعض الجالسين تقطع من الساعد واستدلوا في ذلك بآية التيمم ، وقال آخرون من المرفق واستدلوا في ذلك بآية الوضوء ، فأراد المعتصم جواب ذلك من الإمام الجواد عليه‌السلام فرفض وقال : «أعفني عن ذلك» فأصرّ عليه المعتصم.

فقال الإمام الجواد عليه‌السلام : «ما قيل في ذلك خطأ ، وإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فتترك الكف». فقال : وما الحجّة في ذلك؟

قال الإمام عليه‌السلام : «قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السجود على سبعة أجزاء ، الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ، فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يد يسجد عليه ، وقال الله تعالى شأنه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ...) أي إنّ هذه الأعضاء السبعة خاصّة لله ، فما كان لله لا يقطع» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ٩٧٠ ، الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٤٩٠ (أبواب حدّ السرقة الباب الرّابع الحديث ٥).

٩٥

فتعجب المعتصم لجواب الإمام عليه‌السلام وأمر أن تقطع يد السارق من مفصل اصول الأصابع ، كما قال الإمام عليه‌السلام وذكرت في ذلك أحاديث كثيرة. (١)

ولكن الأحاديث المنقولة بها الشأن هي مرسلة غالبا ، أو أنّ سندها ضعيف ، وهناك نقائض لها ليس من السهل الإجابة عليها ، فمثلا ما هو مشهور في أوساط الفقهاء أنّ السارق إذا ما سرق للمرّة الثّانية تقطع الأقسام الأمامية لقدمه ، ويتركون كعب القدم سالما (هذا بعد إقامة الحدّ عليه جزاء السرقة الاولى) والواضح أنّ الأصبع الكبير للقدم يعتبر من المساجد السبعة ، وكذا في شأن المحارب فإنّ إحدى عقوباته هو مقطع قسم من اليد والقدم.

ثالثا : قيل إنّ المراد بالمساجد هو السّجود ، أي أنّ السجود يجب أن يكون دائما لله تعالى ولا يكون لغيره ، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث لا دليل عليه.

ويستفاد من مجموع ما قيل أنّ ما يناسب ظاهر الآية هو التّفسير الأوّل ، وكذا يناسب ظاهر الآيات السابقة واللاحقة في شأن التوحيد ، وتخصيص العبادة لله ، والتّفسير الثّاني يمكن أن يكون موسعا لمعنى الآية ، وأمّا الثّالث فلا دليل عليه.

ويضيف في إدامة الآية بيانا عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام الرّسول للدّعاء فيقول : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (٢) ، أي عند ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم للصلاة ، فإنّ طائفة من الجن كانوا يجتمعون عليه بشكل متزاحم.

«لبد» : على وزن (فعل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة ، وهذا التّعبير بيان لتعجب الجنّ ممّا يشاهدونه من عبادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله ، وقيل في ذلك قولان آخران :

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٣٩ و٤٤٠

(٢) ما يطابق هذا التّفسير وكون هذه الآية من حديث مؤمني الجنّ فإنّ إتيان الضمير الغائب بدل المتكلم هو من باب الالتفات ، أو من باب أنّ بعضهم يبيّن حال البعض الآخر.

٩٦

الأوّل : أنّهم ـ أي الجن ـ يبيّنون حال أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجتمعين عليه المقتدين به في صلاته إذا صلّى والمنصتين لما يتلوه كلام الله ، والمراد من ذلك هو الاقتداء الجنّ بهم والإيمان في ذلك.

الثّاني : لبيان حال المشركين ، أي لمّا قام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعبد الله بالصلاة كاد المشركون بازدحامهم أن يكونوا عليه لبدا مجتمعين متراكمين ليستهزئوا به.

والوجه الأخير لا يلائم هدف مبلغي الجن الذين أرادوا ترغيب الآخرين في الإيمان والمناسب هو أحد القولين السابقين.

* * *

ملاحظة

التّحريف في تفسير الآية : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ)

إنّ مسألة التوسل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأولياء دين الله عليهم‌السلام تعني اتّخاذهم وسيلة وذريعة الى الله تعالى ، وهذا ممّا لا يتنافى مع حقيقة التوحيد ولا مع آيات القرآن ، بل هي تأكيد على التوحيد وعلى أنّ كلّ شيء هو من عند الله ، وأشير إلى الشفاعة وطلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المغفرة للمؤمنين في كثير من آيات القرآن (١) وبهذا يصرّ بعض المبتعدين عن التعاليم الإسلامية والقرآن الكريم على إنكار شيء من قبيل التوسل والشفاعة.

وقد تذرعوا بعدة ذرائع لإثبات مقاصدهم ، منها ما يقولهم : إنّ الآية : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) تعني أنّ الله يأمر ألّا تدعوا معه أحدا ، ولا ندعوا غيره أو نطلب الشفاعة من غيره! والإنصاف أنّ ما قالوه لا يناسب سياق الآية ولا يرتبط هذا المعنى بالآية ، بل الهدف من الآية نفي الشرك ، أي جعل

__________________

(١) بحثنا مسألة (الشفاعة في نظر القرآن والحديث) بحثا مفصلا في ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة وحول حقيقة (التوسل) في ذيل الآية (٣٥) من سورة المائدة.

٩٧

الشيء مع الله في مرتبة واحدة في العبادة أو طلب الحاجة ، وبعبارة أخرى أنّ المشرك هو من يبتغي الحوائج من غير الله تعالى ويجعل له الخيرة ويظن أنّ قضاء حوائجه منه.

كما أنّ كلمة (مع) في الآية : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) تشير إلى هذا المعنى ، وهو ألّا يجعل مع الله أحدا ، ويكون ذلك مبدءا للتأثير المستقل ، وليست نفيا لتشفع الأنبياء أو جعلهم وسطاء عند الله تعالى ، بل إنّ القرآن الكريم يطلب أحيانا ذلك من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه وأحيانا أخرى يأمر بطلب الشفاعة من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما نقرأ في الآية (١٠٣) من سورة التوبة : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).

وكذا الآية (٩٧) من سورة يوسف عن لسان إخوته وهم يخاطبونه أباهم : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ)

فلم يرفض النّبي يعقوب عليه‌السلام ذلك الطلب ، بل وعدهم في ذلك وقال : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

ولهذا فإنّ مسألة التوسل وطلب الشّفاعة كما تقدم هي من المفاهيم الصريحة في القرآن.

* * *

٩٨

الآيات

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

التّفسير

الأمور كلّها بيد الله لا بيدي :

في هذا الآيات يأمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) وذلك لتقوية قواعد التوحيد ، ونفي كلّ أنواع الشرك ، كما مرّ في الآيات السابقة ، ثمّ يأمره أن : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً).

ثمّ يضيف : قل لهم بأنّي لو خالفت أمر الله تعالى فسوف يحيق بي العذاب

٩٩

أيضا ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (١) وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شيء يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية لله تعالى ، وإلى نفي كلّ أنواع الغلو في شأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أخرى ، ويشير من جهة ثالثة إلى أنّه الأصنام ليس فقط لا تنفع ولا تحمي ، بل إنّ نفس الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا مع ماله من العظمة لا يمكنه أن يكون ملجأ من عذاب الله ، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يريهم المعاجز الإلهية ، ويثبت أن التوسل والشفاعة أيضا لا يتحققان إلّا بإذنه تعالى.

«ملتحدا» : هو المكان الآمن وهو من أصل (لحد) ، وتعني الحفرة المتطرفة ، كالذي يتّخذ للأموات في عمق القبر حتى لا ينهال التراب على وجه الميت ويطلق على كل مكان يلجأ ويطمأن إليه.

ومن الملاحظ أنّ الآية : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) وقد جعلت الضرّ في قابل الرشد ، لأنّ النفع الحقيقي يمكن في الهداية ، كما في حديث الجن في الآيات السابقة إذ اتّخذ الشرّ في قبال الرشد ، والاثنان متماثلان معا.

ويضيف في الآية الأخرى : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) (٢) ، وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مرارا في آيات القرآن الكريم ، كما في الآية (٩٢) من سورة المائدة : (أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

وكذا في الآية (١٨٨) من سورة لأعراف : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا

__________________

(١) قيل في سبب نزول هذا الآية : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عد إلى ديننا لنجيرك فنزلت الآية جوابا على قولهم (تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢٩٣).

(٢) بما أن البلاغ يتعدى بـ (عن) فقد قال البعض : إن (من) بمعنى (عن) ويتعلق بمحذوف تقديره (كائنا) فيكون المعنى (إلا بلاغا كائنا من الله).

١٠٠