الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

سورة

نوح

مكيّة

وعدد آياتها ثمان وعشرون آية

٤١
٤٢

«سورة نوح»

محتوى سورة :

هذه السورة ، كما هو واضح من اسمها ، تشير إلى قصّة نوح عليه‌السلام ، وأشير إلى قصّة هذا النّبي العظيم كذلك في سورة متعددة في القرآن المجيد ، منها : سورة الشعراء ، والمؤمنون ، والأعراف ، والأنبياء ، وبشكل أوسع في سورة هود ، وتحدثت (٢٥) آية حول هذا النّبي العظيم الذي يعتبر من اولي العزم (من الآية ٢٥ إلى ٤٩).

وما جاء في سورة نوح عن قصّته عليه‌السلام هو مقطع خاص من حياته ، وهو أقل ممّا ذكر في بقية السور ، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى التوحيد ، وترتبط بكيفيتها وعناصرها ، والتخطيط الدقيق الماهر في هذا الأمر الهام ، وذلك مقابل قوم معاندين ومتكبرين يأنفون من الانقياد إلى الحقّ.

بلحاظ أنّ هذه السورة نزلت في مكة ، وأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين القلائل في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفا مشابهة لظروف عصر نوح عليه‌السلام وأعوانه ، فإنّها تعلمهم أمور كثيرة ، وكانت هذه واحدة من أهداف إيراد هذه القصّة ، ومنها :

١ ـ أنّها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الاستدلال المنطقي المقترن بالمحبّة والمودّة ، واستخدام كلّ طريقة تكون مفيدة ومؤثرة في الدعوة.

٢ ـ أنّها تعلّمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة إلى الله وعدم التكاسل مهما طالت الأعوام ، ومهما وضع الأعداء العوائق.

٣ ـ أنّها تعلّمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارة ، وتكون لديهم عوامل

٤٣

الإنذار والرّهبة تارة أخرى والاستفادة من كلا الطريقين في الدعوة إلى الله جلّ وعلا.

٤ ـ الآيات الأخيرة من هذه السورة هي تحذير للمشركين المعاندين ، بأن عاقبتهم وخيمة إذا لم يستسلموا للحق ، وتخلّفوا عن أمر الله.

٥ ـ بالاضافة إلى ذلك ، فإنّ هذا السورة جاءت لتهدئة مشاعر النّبي والمؤمنين الأوائل ومن يعيش مثل ظروفهم ، ليصبروا على الصعوبات ، ويطمئنوا في مسيرهم بلطف من الله.

وبعبارة أخرى فإنّ هذه السورة ترسم أبعاد الكفاح الدائم بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل ، ترسم منهج أصحاب الحق الذي يجب عليهم إتّباعه.

فضيلة هذه السورة :

ورد في حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح». (١)

وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) فأي عبد قرأها محتسبا صابر في فريضة أو نافلة ، أسكنه الله مساكن الأبرار وأعطاه ثلاث جنان من جنّته كرامة من الله». (٢)

ولا يخفى أنّ الهدف من قراءة السورة هو الاقتباس من منهج وسلوك هذا النّبي العظيم من صبره واستقامته في طريق الدعوة إلى الله تعالى ليدركوا دعوة النّبي ، وليس المراد القراءة الخالية من التفكير ، ولا التفكر الخالي من العمل.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٩.

(٢) المصدر السّابق.

٤٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

التّفسير

رسالة نوح الأولى :

قلنا : إنّ هذه السورة تبيّن من أحوال نوح عليه‌السلام وما يرتبط بأمر دعوته ، وتعلم السائرين في طريق الله تعالى أمورا مهمّة في إطار الدعوة إلى الحق وبالخصوص في قابل الأمم المعاندة ، وتبدأ أوّلا بذكر في بعثته عليه‌السلام فيقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

من الممكن أن يكون هذا العذاب الأليم هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، والأنسب أن يكون الاثنان معا ، وإن كانت القرائن في آخر آيات هذه السورة تشير إلى أن هذا العذاب هو عذاب الدنيا.

التأكيد على الإنذار والترهيب غالبا ما يؤثر تأثيرا بالغا ، مع أنّ الأنبياء كانوا

٤٥

منذرين تارة ومبشرين تارة أخرى ، كما يتمّ الاعتماد في سائر الدينا على التحذيرات والعقوبات لضمان تطبيق القوانين.

نوح عليه‌السلام الذي كان هو من أولى العزم ، وصاحب أوّل شريعة إلهية ، وله دعوة عالمية ، جاء إلى قومه بعد صدور هذا الأمر إليه قال : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

الهدف هو أن تعبدوا الله الذي لا إله إلّا هو ، وتتركوا من دونه ، وتتقوا وتطيعوا أمري الذي هو أمر الله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ).

في الحقيقة أنّ نوحا عليه‌السلام قد لخّص مضمون دعوته في ثلاث جمل : عبادة الله الواحد ، والحفاظ على التقوى ، وطاعة القوانين والأوامر التي جاء بها من عند الله والتي تمثل مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام.

ثمّ ذكر النتائج المهمّة المترتبة على استجابتهم الدعوة في جملتين لترغيبهم فقال : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). (١)

في الحقيقة أنّ القاعدة المعروفة «الإسلام يجب ما قبله» هي قانون موجود في كل الأديان الإلهية والتوحيدية وليست منحصرة بالإسلام.

ثمّ يضيف : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، يستفاد جيدا من هذا الآية أنّ «الأجل» وموعد عمر الإنسان قسمان ، هما : الأجل المسمّى ، والأجل النهائي ، أو بعبارة أخرى الأجل الأدنى ، والأجل الأقصى أو الأجل المعلق ، والأجل الحتمي ، القسم الأوّل للأجل قابل للتغير والتبديل ، فقد يتدنى ويقل عمر الفرد كثيرا بسبب الذنوب والأعمال السيئة

__________________

(١) «من» في هذه الجملة زائدة وللتأكيد ، لأنّ الإيمان بالله يبعث على غفران جميع الذنوب السابقة ، هذا ما يرتبط بحق الناس ، وأمّا من باب الذنوب وحكم الحرمة أيضا يكون مشمولا بالمغفرة ، وما احتمل بعض المفسّرين (كالفخر الرازي في التّفسير الكبير والعلّامة الطباطبائي قدس سرّه في الميزان) من أنّ (من) هنا تبعيضية وهي تخص الذنوب السابقة لا الآتية يبدو بعيدا ، لأنّ الذنوب الآتية غير مذكورة في سياق الآية.

٤٦

وهذا نوع من أنواع العذاب الإلهي ، وبالعكس فإنّ التقوى وحسن العمل والتدبير يمكن أن تكون سببا لتأخير الأجل ، ولكن الأجل النهائي لا يتغير بأي حال من الأحوال ، ويمكن توضيح هذا الموضوع بمثال واحد ، وهو أنّه ليس باستطاعة الإنسان أن يبقى خالدا ، وإذا كانت جميع الأجهزة البدنية تعمل جيدا ففي النهاية سوف يصل شيئا فشيئا إلى زمن ينتهي عمره بعجز في القلب ، ولكن تطبيق الأوامر الصحية ومجابهة الأمراض يمكن أن يطيل في عمر الإنسان ، وفي حالة عدم مراعاة هذه الأمور فإنّ من المحتمل أن يقلل ذلك من عمر وينهي عمره بسرعة. (١)

* * *

ملاحظة

العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر :

النقطة الأخرى التي يمكن استفادتها من هذه الآية هو تأثير الذنوب في تقصير العمر ، لأنّه يقول : «إنّ كنتم تؤمنون بالله وتتقوه يهب لكم عمرا طويلا ويؤخر موتكم» وهذا يعني أنّ الذنوب توجّه ضربات مهولة للجسم والروح بحيث تساعد في القضاء عليه.

وفي الرّوايات الإسلامية أيضا تأكيد كبير على هذا المعنى ، منها ما ورد في حديث غني المحتوى عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال ، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار». (٢)

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث آخر حول الأجل النهائي والأجل المعلق وذلك في ذيل الآية (٢) من سورة الأنعام.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٤٨٨ ، مادة (ذنب).

٤٧

الآيات

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩))

التّفسير

استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم ، ولكن!!!

تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمّة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرّة جاء الحديث على لسانه مخاطبا ربّه وشاكيا إليه أمره معهم بعبارة مأثرة بليغة.

خطاب نوح عليه‌السلام في هذا الإطار يمكن أن يعبّد الطريق لكلّ المبلغين الرساليين ، فيقول : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً).

وإنّني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم ، ثمّ يقول : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً).

ومن العجيب أن تكون الدعوة سببا لفرارهم ، ولكن بما أنّ كلّ دعوة تحتاج

٤٨

إلى نوع من الاستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيبا أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة ، وبمعنى آخر أنّ أعداء الحق المعاندين عند ما يستمعون لدعوة المؤمنين الرساليين يظهرون لهم المقاومة والإصرار على العناد ، وهذا ما يبعدهم عن الله بصورة أكثر ، ويقوي عندهم روح الكفر والنفاق.

وهذا ما أشير إليه في سورة الإسراء (٨٢) : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

وما نقرأ كذلك في آيات هذا الكتاب السماوي أنّه سبب لهداية المتقين : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ...). (١) ولهذا لا بدّ أن يكون هناك مرحلة من التقوى في وجود الإنسان وإن كانت ضعيفة ، حتى يتهيأ لقبول الحقّ ، هذه المرحلة هي مرحلة (الروح الباحثة عن الحقيقة) والاستعداد لتقبل كلمات الحق.

ثمّ إنّ نوحا عليه‌السلام يضيف : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً).

ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ، ويلفون ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل أمواج الصوت إلى أدمغتهم! وربّما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النّبي العظيم ، وفي الحقيقة كانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر!

وهذا في الواقع أمر مدهش أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من العداوة للحق إلى حدّ لا يعطي لنفسه فرصة النظر والسماع والتفكر.

وقد ورد في بعض التفاسير أنّ بعض أولئك المعاندين كان يذهب بابنه إلى نوح عليه‌السلام فيقول له : إحذر هذا لا يغوينك ، فإنّ أبي قد جاء بي إليه وأنا صغير مثلك

__________________

(١) البقرة ، ٣.

٤٩

فحذّرني مثل ما حذّرتك (١) ، (حتى أكون ممّا وفى بحق الوصية وحبّ الخير).

هذا يدل على أنّ نوحا عليه‌السلام كان مستمرا في دعوته الإلهية طوال عمره الشريف ولعدّة أجيال وكان لا يعرف التعب أبدا.

وكذلك تتضمّن الآية الإشارة إلى أحد الأسباب المهمّة لتعاستهم وهو الغرور والتكبر ، لأنّهم كانوا يرون أنفسهم أكبر من أن يتنازلوا لإنسان مثلهم ، وإن كان ممثلا عن الله وتقيّا ، ومهما كان قلبه عامرا بالعلم ، فكان هذا الغرور والكبر أحد الموانع المهمّة والدائمة في طريق الحق ، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك على طول التاريخ في حياة أناس لا إيمان لهم.

واستمر نوح عليه‌السلام في حديثه عند المقام الإلهي ، فيقول : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً).

دعوتهم إلى الإيمان في حلقات عامّة وبصوت جهور ، ثمّ لم اكتفي بهذا : (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) قال بعض المفسّرين : إنّ نوحا عليه‌السلام اتّبع في دعوته ثلاثة أساليب مختلفة حتى يستطيع من النفوذ في هذا الجمع المعاند والمتكبر : كان يدعو أحيانا في الخفاء فواجه أربعة أنواع من الرفض (وضع الأصابع في الآذان ، تغطية الوجوه بالملابس ، الإصرار على الكفر ، والاستكبار).

وكان يدعو أحيانا بالإعلان ، وأحيانا أخرى يستفيد من طريق التعليم العلني والسري ولكن أيّا من هذه الأمور لم يكن مؤثرا (٢).

من المعلوم أنّ الإنسان إذا ما نهج طريق الباطل إلى حدّ تتعمق في وجوده جذور الفساد وتنفذ في أعماق وجوده حتى تتحول إلى طبيعة ثانية فيه ، فإنّه سوف لا تؤثر فيه دعوة الصالحين ولا ينفع معه خطابات رسل الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦١

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٣٦.

٥٠

ملاحظتان

١ ـ أسلوب الإبلاغ ومنهجه

ما جاء في هذا الآيات حول دعوة نوح يمثل برنامج عام لجميع المبلغين في طريق الله ، وفي نفس الوقت تسلية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المؤمنين القلائل الذين كانوا قد التفوا حوله في مكّة.

إنّه عليه‌السلام لم يكن يتوقع أن يستجيب الناس لدعوته ، ولم يكونوا يجتمعون في وسط المدينة ليلقي فيهم خطابه الإلهي بهدوء واطمئنان ، والناس يصغون إليه ، ويشخصون إليه أعينهم ، بل يستفاد من سياق الآيات (كما جاء أيضا في بعض الرّوايات) أنّه كان أحيانا يذهب إلى بيوتهم ، أو أنّه يدعوهم في الأزقة والأسواق على انفراد ، ويبلغهم المفاهيم ويتحدّث إليهم بتودد وتحبب وتصبر ، وأحيانا كان يخاطبهم بأوامر الله تعالى علنا وبصوت عال ، وذلك باغتنامه فرص انعقاد المحافل أو مجالس العزاء ، فكان يقابل بالإهانة والاستهزاء وأحيانا بالضرب المبرح ، ولكنّه مع ذلك كان لا ينتهي عن ذلك ويواصل مسيره.

كان صبره عجيبا ، والأعجب ما فيه رأفته ، وكانت همته واستقامته الفريدة رأس ماله في السير في طريق الدعوة إلى دين الحق.

والأعجب من ذلك هو أنّ طيلة دعوته التي دامت (٩٥٠) عاما لم يؤمن به إلّا ثمانون شخصا ، ولو قسمنا هذه المدّة على عدد الأنفار يتّضح لنا أنّ مدّة هدايته لكل فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريبا!!

لو كان المبلّغون يتعاملون بمثل هذه الاستقامة والهمة لأصبح الإسلام عالميا غني المحتوى.

٢ ـ لماذا الفرا من الحقيقة؟

يتعجب الإنسان أحيانا ويتساءل هل يمكن أن يكون هناك أناس يعيشون

٥١

تحت هذه السماء ليس لديهم الاستعداد لسماع كلمة الحق بل يفرون منه؟

والسؤال عن السماع فقط وليس عن قبول الكلمة.

ولكن التاريخ يتحدّث عن كثرة أمثال هؤلاء ، ليس فقط قوم نوح هم الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم وغشوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم عند دعوته لهم ، بل هناك فئة في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبصريح القرآن كانوا يستعينون بالصفير والتهريج والصراخ العالي ليحولوا بين صوت النّبي وهو يتلو آيات الله وبين الناس : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (١).

وجاء في تاريخ كربلاء الدامية كذلك أنّه عند ما كان سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه‌السلام يدعو الأعداء المنحرفين إلى الرشاد ويوقظهم كانوا يستخدمون هذا الأسلوب من الصراخ والتهريج حتى لا يسمع الناس تصوته (٢) ، وهذه الخطة مستمرة إلى يومنا هذا ، ولكن بأشكال وصور أخرى ، فلقد وفّر أصحاب الباطل جوا من المسليات المفسدة كالموسيقى الراقصة والمواد المخدرة وغير ذلك يبغون بذلك الفصل بين الناس ـ بالخصوص الشباب ـ وبين سماع أصوات أهل الله تعليماتهم.

* * *

__________________

(١) فصلت ، ٢٦

(٢) بحار الأنوار ، ج ، ٤٥ ، ص ٨.

٥٢

الآيات

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤))

التّفسير

ثمرة الإيمان في الدنيا :

يستمر نوح عليه‌السلام في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة ، ويعتمد هذه المرّة على عامل الترغيب والتشجيع ، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كل جهة إذا ما تابوا من الشرك والخطايا ، فيقول : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً).

ولا يطهركم من الذنوب فحسب بل : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١).

والخلاصة : إنّ الله تعالى يفيض عليكم بأمطار الرحمة المعنوية ، وكذلك

__________________

(١) «مدرارا» : من أصل (درّ) على وزن (جرّ) وتعني في الأصل انسكاب الحليب من ثديي الام ويعطي معنى هطول الأمطار ، ومدرارا صيغة للمبالغة.

٥٣

بالامطار المادية المباركة.

ومن الملاحظ في سياق هذه الآية أنّه يقول «يرسل السماء» فالسماء تكاد أن يهبط من شدّة هطول الأمطار! وبما أنّها أمطار رحمة وليست نقمة ، فلذا لا تسبب خرابا وأضرارا ، بل تبعث على الإعمار والبركة والحياة.

ثمّ يضيف : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) وبهذا فإنّه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة ، وبخمس نعم أخرى مادية كبيرة ، والنعمة المعنوية الكبيرة هي غفران الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان ، وأمّا النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها ، كثرة الأموال ، كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية) ، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.

نعم ، إنّ الإيمان والتقوى يبعثان على عمران الدنيا والآخرة بشهادة القرآن المجيد ، وورد في بعض الرّوايات انّ قوم نوح المعاندين لما امتنعوا من قبول دعوته حلّ عليهم القحط وهلك كثير من أولادهم ، وتلفت أموالهم ، وأصاب نساءهم العقم ، وقلّ عندهنّ الإنجاب ، فقال لهم : نوح عليه‌السلام : إن تؤمنوا فسيدفع عنكم كل هذه البلايا والمصائب ، ولكنّهم ما اتعظوا بذلك واستمروا في غيّهم وطغيانهم حتى حلّ العذاب النهائي.

ويعود نوح عليه‌السلام مرّة أخرى لينذرهم ، فيقول : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١) ، ولا تخافون عقابه وقد خلقكم في مراحل مختلفة : ويقول أيضا : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً).

كنتم في البداية نطفة لا قيمة لها ، ثمّ صوركم علقة ثمّ مضغة ، ثمّ وهبكم الشكل الإنساني ، ثمّ ألبسكم لباس الحياة ، فوهب لكم الروح والحواس والحركة ، وهكذا طويتم المراحل الحنينية المختلفة الواحدة بعد أخرى ، حتى

__________________

(١) «الوقار» : الثقل والعظمة ، و «ترجون» من أصل رجاء بمعنى الأمل وهو ملازم للخوف ، ومعنى الآية لماذا لا تخضعون لعظمة الله تعالى.

٥٤

ولدتكم أمهاتكم بهيئة الإنسان الكامل ، وهكذا تستمر المراحل الأخرى والمختلفة للمعيشة في الحياة ، وأنتم خاضعون دائما لربوبيته تعالى ، وتتجددون دائما ، وتخلقون خلقا جديدا ، فكيف لا تطأطئوا رؤوسكم أمام خالقكم؟

ولستم تتخذون أشكالا مختلفة من جهة الجسم ، بل أنّ الروح هي أيضا في تغيّر مستمر ، ولكلّ منكم استعداده الخاص ، ففي كل رأس ذوق خاصّ ، وفي كل قلب جحّ خاصّ ، وكلكم تتغيرون باستمرار ، فتنتقل مشاعر وأحاسيس الطفولة إلى أحاسيس الشبيبة ، وهذه بدورها إلى الكهولة والشيخوخة ، وعلى هذا فإنّه معكم في كلّ مكان هو يهديكم في كل خطوة ويشم لكم بلطفه وعنايته ، فلم كل هذا الكفران والاستهانة؟!

* * *

ملاحظة

الرّابطة بين التقوى والعمران :

نستفيد من الآيات المختلفة في القرآن ، ومنها الآيات التي هي محل بحثنا ، أنّ الإيمان والعدالة سبب لعمران المجتمعات ، والكفر والظلم والخطايا سبب للدمار ، نقرأ في الآية (٩٦) من سورة الأعراف : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). وفي الآية (٤١) من سورة الروم نقرأ : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) وفي الآية (٣٠) من سورة الشورى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وفي الآية (٦٦) من سورة المائدة : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).

وآيات أخرى من هذا القبيل.

هذه الرابطة ليست رابطة معنوية ، بل هناك رابطة مادية واضحة في هذا

٥٥

المجال أيضا.

الكفر وعدم الإيمان هو عين الإحساس بالمسؤولية ، وهو الخروج عن القانون ، وتجاهل القيم الأخلاقية ، وهذه الأمور هي التي تسبب فقدان وحدة المجتمعات ، وتزلزل أعمدة الاعتماد والطمأنينة ، وهدر الطاقات البشرية والاقتصادية ، واضطراب العدالة الاجتماعية.

ومن البديهي أنّ المجتمع الذي تسيطر عليه هذه الأمور سوف يتراجع بسرعة ، ويتخذ طريقه إلى السقوط والفناء.

وإذا كنّا نرى أنّ هناك مجتمعات تحظى بتقدم نسبي في الأمور المادية مع كفرهم وانعدام التّقوى فيهم ، فإنّ علينا أن نعرف أيضا أنّه لا بدّ أن يكون ذلك مرهونا بالمحافظة النسبية لبعض الأصول الأخلاقية ، وهذا هو حصيلة ميراث الأنبياء والسابقين ، ونتيجة أتعاب القادة الإلهيين والعلماء على طول القرون ، وبالإضافة إلى الآيات السالفة هناك روايات كثيرة أيضا اعتمدت هذا المعنى ، وهو أنّ الاستغفار وترك المعاصي يبعث على إصلاح المعيشة وازدياد الرّزق.

ففي حديث ورد عن الإمام علي عليه‌السلام : «أكثر الاستغفار تجلب الرّزق» (١).

ونقل في حديث آخر عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله تعالى ومن استبطأ الرّزق فليستغفر الله ، ومن حزنه أمر فيقل : لا حول ولا قوّة إلّا بالله» (٢).

ونقرأ في نهج البلاغة أيضا (٣) : «وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا على الرّزق ورحمة الخلق ، فقال سبحانه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٢٤.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٣.

٥٦

والحقيقة أنّ الحرمان في هذا العالم سببه العقوبات على الذنوب ، وفي الوقت الذي يتوب فيه الإنسان ويتخذ طريق الطهارة والتقوى يصرف الله تعالى عنه هذه العقوبات (١).

* * *

__________________

(١) لنا شرح آخر في هذا الباب تحت عنوان «الذنوب وهدم المجتمعات» في تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٥٢) من سورة هود عليه‌السلام.

٥٧

الآيات

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

التّفسير

خلقكم الله من الأرض كالنبات :

كان نوح عليه‌السلام يبيّن للمشركين المعاندين حقائق عميقة ومستدلة ، إذ كان يأخذ بهم إلى أعماق وجودهم ليرون حقائق هذه الآيات (كما مرّ في الآيات السابقة) ودعاهم إلى ما خلق الله من علامات في هذا العالم الكبير ، فكان يسير بهم إلى تلك الآفاق (١).

__________________

(١) هذا الخطاب تابع لكلام نوح عليه‌السلام ، أو أنّها جمل مستقلة ومعترضة من الله تعالى إلى المسلمين ، وهو محل بحث بين المفسّرين ، والكثير منهم يرجح أن يكون ذلك تابعا لكلام نوح عليه‌السلام ، وسياق الآيات يشير أيضا إلى ذلك ، وإذا ما وردت جملة : (وقال نوح) بعد هذه الآيات فإنّها تشير إلى أنّ نوح عليه‌السلام قد انتهى من كلامه مع الناس وتوجه بعد ذلك إلى الله تعالى ليشكو من قومه.

٥٨

يبدأ أوّلا بالسماء فيقول : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (١) «

طباقا» : مصدر من باب (مفاعلة) بمعنى «مطابقة» ، وأحيانا تأتي بمعنى وضع الشيء فوق شيء آخر ، وتأتي أحيانا أخرى بمعنى مطابقة ومماثلة شيئين أحدهما مع الآخر ، والمعنيان يصدقان هنا.

وما طبق للمعنى الأوّل أنّ السماوات بعضها فوق بعض ، وكما قلنا في سابقا حسب تفسير السموات السبع فإنّ كل ما نراه من الكواكب المتحركة والثابتة بالعين المجرّدة أو غيرها هي من السماء الاولى ، ثمّ تليها السموات الست الأخرى متطابقة بعضها فوق الأخرى ، ولم يصل علم الإنسان إلى هذه المرتبة فعلا ، ولكن يمكن في المستقبل أن يتطور علم الإنسان فيكشف ما في السموات من عجائب الواحدة بعد الأخرى (٢).

وعلى الاحتمال الثّاني فإنّ القرآن يشير إلى مطابقة وتناسق السماوات السبع في النظم والعظمة والجمال.

ثمّ يضيف : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٣).

صحيح أنّ في السماوات السبع مليارات من الكواكب المضيئة والتي هي أكثر ضياء من الشمس ، ولكن ما يهمنا وما يؤثر في حياتنا هي هذه الشمس وكذلك القمر ، هذه المنظومة الشمسية التي تضيء الشمس فيها بالنهار والقمر بدوره ينير الليل.

التعبير بالسراج للشمس وبالنور للقمر هو أنّ نور الشمس ينشأ من ذاتها كالسراج ، وأمّا نور القمر فإنّه ليس من باطنه بل انعكاس لنور الشمس ، ولهذا فإنّ

__________________

(١) «طباقا» : يحتمل أن يكون مفعول مطلق أو حال.

(٢) أوضحنا الكلام في التفاسير المختلفة للسماوات السبع في ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة.

(٣) من هنا أنّ ضمير «فيهنّ» والذي يرجع في الظاهر إلى «السماوات السبع» لا يثير مشكلة لأنّ الخطاب في النور والضياء هو لنا ، لأجل هذا لا يلزم أن نجعل «في» بمعنى «مع» أو نجعل الضمير «هن» بمعنى «السماء الدنيا» (فتدبّر).

٥٩

كلمة نور ذات المفهوم العام هي المستخدمة في هذا المورد ، ويشاهد اختلاف التعابير في آيات القرآن أيضا ، وقد أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في ذيل الآية (٥) من سورة يونس عليه‌السلام.

ثمّ يعود ذلك إلى الإنسان فيقول : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١).

التعبير بـ «الإنبات» ، في شأن الإنسان لأسباب ، أوّلا : خلق الإنسان الأوّل من التراب.

ثانيا : إنّ المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وبها ينمو ويحيى هي من الأرض ، فهو إمّا يتناول الخضار والحبوب الغذائية أو الفواكه مباشرة ، أو بطريق غير مباشر كلحوم الحيوانات.

ثالثا : هناك تشابه كثير بين الإنسان والنبات ، وهناك كثير من القوانين التي يسري حكمها على نمو وتغذية النباتات هي سارية أيضا على الإنسان.

وهذا التعبير في شأن الإنسان غني بالمعاني ، ويدل على أنّ التدبير الإلهي في مسألة الهداية ليس فقط كتدبير وعمل المعلم وحسب ، بل هو كعمل الزارع الذي ينثر البذور في محيط جيد يساعدها على النمو ، وفي الآية (٣٧) من سورة آل عمران يقول الله تعالى بشأن مريم عليها‌السلام : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) وكلّ هذا إشارة إلى ذلك المضمون اللطيف.

ثمّ يمضي إلى مسألة المعاد والتي كانت من المسائل المعقدة عند المشركين فيقول : (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً).

كنتم في البدء ترابا ، ثمّ تعودون إلى التراب ثانية ، ومن كانت له القدرة على أن يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.

هذا الانتقال من التوحيد إلى المعاد الذي جاء في سياق هذه الآيات بصورة

__________________

(١) يجب أن تلفظ هذه الكلمة حسب القاعدة «إنباتا» لكن لهذه الآية تقدير هو : «أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا» تفسير (الفخر الرازي وأبو الفتوح الرازي).

٦٠