الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١
٤٤١

سورة

التّكوير

مكيّة

وعدد آياتها تسع وعشرون آية

٤٤٢

«سورة التكوير»

محتوى السورة :

كثير من القرائن المختلفة في السورة تدل على أنّها مكّية : نسبة الجنون إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل أعداء الإسلام ، وهذا ما كان يحدث كثيرا في مكّة ، خصوصا في بداية الدعوة المحمّدية ، لتصور الأعداء أنّهم بافتراءتهم تلك سيصرفون أنظار الناس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته الإلهية.

وعلى أيّة حال ، فالسورة تدور حول محورين أساسيين :

المحور الأوّل : هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة ، وما يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.

المحور الثّاني : الحديث عن عظمة القرآن ومن جاء به ، وأثره على النفس الإنسانية ، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدّة لإيقاظ الإنسان من غفلته.

فضيلة السورة :

وردت أحاديث كثيرة تبيّن أهمية السورة وفضل تلاوتها ، ومنها : ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أعاذه الله تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته» (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤١.

٤٤٣

وفي حديث آخر ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أحبّ أن ينظر إليّ يوم القيامة فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)» (١).

وروي الحديث بشكل آخر : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة (كأنّه رأي عين) فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)». (لأنّ هذه السور تعرض علائم يوم القيامة وأحداثه بشكل وكأنّ التالي لها يشاهد يوم القيامة بعينه). (٢)

وفي حديث آخر ، سئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ظهور آثار كبر السن عليه ، فقال : «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت». (٣)

وعن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ عبس وتولّى وإذا الشمس كوّرت كان كان تحت جناح الله من الخيانة وفي ظلّ الله وكرامته ، وفي جنانه ، ولا يعظم ذلك على ربّه إن شاء الله».

وتلاوة القرآن المقصودة في الأحاديث أعلاه ، ينبغي أن يكون بشروطها من : التأمل ، الإيمان ، والعمل.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٧٠١٧ ، ويحتمل أن يكون معنى هذا الحديث شامل للحديث السابق.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥١٣.

٤٤٤

الآيات

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩))

التّفسير

يوم تطوى الكائنات فيه!

نواجه في بداية السورة ، إشارات قصيرة ، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة ـ بداية يوم القيامة ـ فتنقل الإنسان في فكره وأحاسيسه إلى مفاجئات ذلك اليوم الرهيب ، قد تحدثت تلك الإشارات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.

وأول مشهد عرضته عدسة العرض القرآني ، هو : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).

«كورت» : من (التكوير) ، بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس) ، وأخذ هذا المعنى من كتب اللغة والتفسير والمختلفة.

واستعملت كذلك بمعنى : (الرومي) أو (إطفاء شيء) .. والمعنيان ـ كما يبدو ـ

٤٤٥

مستمدان من المعنى الأصلي.

وعلى أيّة حال ، فالمقصود هو : خود نور الشمس وذهابه ، وتغيّر نظام تكوينها.

وكما بات معلوما ... فالشمس في وضعها الحالي ، عبارة عن كرة مشتعلة ، على هيئة غازية ملتهبة ، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة ، قد يصل ارتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات!

ولو قدّر وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها ، فإنّها تستحيل فورا إلى رماد وكتلة من الغازات!!

ولكن ... عند حلول وقت نهاية العالم ، والاقتراب من يوم القيامة ، سيخمد ذلك اللهب المروع ، وستجمع تلك الشعلات ، فيطفأ نور الشمس ، ويصغر جمها ... وهو ما أشير إليه بالتكوير.

وجاء في (لسان العرب) : (كورت الشمس : جمع ضوءها ولف كما تلف العمامة).

وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة ، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة ، بأنّ الشمس تسير تدريجيا نحو الظلام والانطفاء.

ويأتي المشهد الثّاني : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ).

«انكدرت» : من (الانكدار) ، بمعنى السقوط والتناثر ، واشتق من (الكدورة) ، وهي السواد والظلام.

ويمكن جمع المعنيين في الآية ، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء ، كما تشير إلى ذلك الآية (٢) من سورة الإنفطار :

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ، والآية (٨) من سورة المرسلات : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ).

والمشهد الثّالث : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ).

٤٤٦

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال ، ابتداء من السير والحركة وانتهاء بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية (٢٠) من سورة النبأ).

وثمّ يأتي در والمشهد الرّابع : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ).

«العشار» : جمع (عشراء) ، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر ، فأضحت على أبواب الولادة ، بعد ما امتلأت أثداؤها باللبن.

وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.

«عطلت) : تركت لا راعي لها.

فهول ووحشة القيامة ، سينسى الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.

وقال العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : وقيل : العشار ، السحاب تعطل فلا تمطر. أي : إنّ الغيوم ستظهر في ذلك اليوم ، ولكن لا تمطر (ويمكن أن يكون الغيوم ناشئة من الغازات والمختلفة ، أو تكون غيوما ذرية ، أو طبقات من الغبار الناتج من تدمير الجبال .. وكلّ ذلك لا تمطر).

ويضيف الطبرسي قائلا : قال الأزهري : لا أعرف هذا في اللغة.

وثمّة علاقة بين ما ذهب إلى الشيخ الطريحي في (مجمع البحرين) بقوله : العشار : بمعنى الناقة الحامل ثمّ اطلق على كلّ حامل ، وبين إطلاقها في الآية. فلا غيوم غالبا ما تكون محملة بالأمطار ، ولكن الغيوم التي ستظهر في السماء على أعتاب ذلك اليوم سوف لا تكون حاملة بالمطر ـ فتأمل.

وقيل : «العشار» : هي البيوت أو الأراضي الزراعية التي ستتعطل بذلك اليوم ، وستخلو من الناس والزراعة.

وأشهر ما فسّرت به الآية هو التفسير الأوّل.

وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ).

فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الأخرى خوفا من الافتراس والبطش ، ستراها وقد جمعت في محفل واحد ، وكلّ

٤٤٧

منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيطاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير ، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها!!

ونقول : إذا اضمحلت كلّ خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة ، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ الآية تشير إلى حشر الحيوانات الوحشية في عرصة يوم القيامة لمحاسبتها على قدر ما تحمل من إدراك ، ويستدلون بالآية (٣٨) من سورة الأنعام على ذلك ، والتي تقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١).

وما يمكننا قوله : إنّ الآية تتحدث عن علائم نهاية الدنيا المهولة ، وبداية عالم الآخرة ، وعليه .. فالتّفسير الأوّل أنسب.

وتصوّر البحار في المشهد السادس : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ).

«سجّرت» : من (التسجير) ، بمعنى إضرام النّار.

وإذا خالج القدماء التعجب والاستغراب لهذا الوصف القرآني ، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية ، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين ، القابلات للاشتعال بسرعة ، ولا يستبعد أن يوضع الماء ـ في إرهاصات يوم القيامة ـ تحت ضغط شديد ممّا يؤدي إلى تجزئة وتفكيك عناصره ، وعند ما سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النّار.

وقيل : «سجّرت» : بمعنى (امتلأت) ، كما يقال للنور الممتلئ بالنّار (مسجّر) ، وعلى ضوء هذا المعنى ، يمكننا أن نتصور امتلاء البحار ممّا سيتسبب من الزلازل الحادثة وتدمير الجبال في إرهاصات يوم القيامة ، أو ستمتلئ بما

__________________

(١) بحثنا موضوع حشر وحساب الحيوانات في هذا التفسير ذيل الآية (٣٨) من سورة الأنعام ، فراجع.

٤٤٨

يتساقط من أحجار وصخور سماوية ، فيفيض ماؤها على اليابسة ليغرق كلّ شيء.

ويأتي درو المشهد السابع : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ).

فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا ... فالصالحون مع الصالحين ، والمسيؤون مع المسيئين ، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال ، فإذا ما جاور المؤمن مشركا ، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا ، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك ، فهو يوم الفصل الحق.

وثمّة احتمالات اخرى ، منها :

ردّ الأرواح إلى أجسادها ..

زواج الصالحين بالحور العين ..

قرن الضالين بالشياطين ..

لحوق الإنسان بحميمه ، بعد أن فرّق الموت بينهما ..

قرن الإنسان بأعماله.

والتّفسير الأوّل أقرب ، بدلالة الآيات (٧ ـ ١١) من سورة الواقعة : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

فبعد أن تحدثت الآيات السابقة لهذه الآية عن ستة تحولات ، كمقدمات يوم القيامة ، تأتي الآية أعلاه لتخبر عن اولى خطوات يوم القيامة ، المتمثلة بالتحاق كلّ شخص بقرينه.

ونصل إلى المشهد الثّامن : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).

«الموءودة» : من (الوأد) على وزن (وعد) ، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.

وقيل : الوأد بمعنى الثقل ، وتوسع معناه (لما ذكر) ، لما فيه من دفن البنات في

٤٤٩

القبر وإلقاء التراب عليهن.

وأطلق الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام مفهوم الوأد ، ليشمل كلّ قطع رحم وقطع مودّة ... حينما سئل الإمام الباقر عليه‌السلام عن معنى الآية ، قال : «من قتل في مودّتنا». (١)

وفي رواية اخرى : إنّ الدليل على ذلك هو آية القربى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢).

ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية ، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.

* * *

ملاحظات

١ ـ وأد البنات

تعتبر عادة (الوأد) ـ والتي أشار إليها القرآن الكريم مرارا ـ من أقبح جرائم وعادات عصر جاهلية ما قبل الإسلام.

وإذا كان البعض قد حصرها في قبيلة (كندة) أو بعض القبائل الصغيرة المتناثرة هنا وهناك دون بقية القبائل العربية الاخرى ، فالمسلم به إنّها كانت من الشيوع بحيث تناول القرآن الكريم ذكرها لأكثر من مرّة وبتأكيد شديد.

ولكن ، حتى مع افتراضنا لندرة هذا العمل القبيح ، فإنّه من القباحة والشناعة ما يدعونا لبحثه ودراسته ...

يقول المفسّرون : كانت المرأة في الجاهلية إذا ما حان وقت ولادتها ، حفرت حفرة وقعدت على رأسها ، فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته ، وقال شاعرهم مفتخرا :

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٣٢ ، ح ١١.

(٢) المصدر السابق ، ح ٧.

٤٥٠

سميتها إذا ولدت (تموت)

والقبر صهر ضامن ذميت (١)

وثمّة أسباب كثيرة وراء هذه الجريمة البشعة ، منها :

احتقار المجتمع الجاهلي للمرأة ...

وجود الفقر الشديد في تلك الحقبة الزمنية ، والمرأة كانت مستهلكة غير منتجة ، إضافة لعدم اشتراكها في الغارات التي تقوم بها القبيلة لتوفير لقمة العيش.

الخوف من وقع النساء أسرى في شباك الأعداء ، نتيجة للمعارك التي كانت دائرة على الدوام بين القبائل ، لأنّ في هكذا أسر جرح للشرف وإذلال شديد.

وتجمعت هذه الأسباب (بالإضافة لأسباب اخرى) فأدت إلى ظهور عادة (الوأد) الوحشية بين أفراد القبائل في ذلك العصر القابع تحت ظلام الجهل المقيت.

وممّا يؤسف له ، إنّ جاهلية القرون الأخيرة قد كررت تلك الممارسات البشعة وبصور اخرى ، حتى وصل ببعض الدول تدّعي التمدن والتحضر لأنّ تقنن وتقرّ (حرية) إسقاط الجنين! نعم ، فالحال واحدة .. فإذا كان أهل الجاهلية الاولى يقتلون البنت ، فمتمدني هذا العصر يقتلون الأطفال وهم في بطون أمهاتهم (بنتا أو ابنا)!!

وللحصول على تفاصيل هذا الموضوع ، راجع ذيل الآية (٥٩) من سورة النحل.

٢ ـ أهمية المرأة في الإسلام

بإمكان أن نستشف مدى اهتمام الإسلام بالمرأة وبالدم الإنساني (خصوصا دم الأبرياء) ، من خلال اهتمام الباري جلّ شأنه بمسألة وأد البنات ، ويكفي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٤.

٤٥١

القرآن الكريم دلالة على أن قدّم ذكر بحث مسألة الوأد في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة على مسألة نشر صحف الأعمال وبقية المسائل الأخرى ، لما فيها من قباحة وشناعة في حق المرأة كإنسانة لها حقّ الحياة كما للرجل من حقّ.

٣ ـ من الإنسان .. الموءودة أم الوائد؟

لو أمعنا النظر في أسلوب كلام الآية ، لرأينا أنّ السؤال سيوجه يوم القيامة إلى الموءودة دون الرائد على الذنب الذي قتلت من أجله ، وكأنّ القاتل لا قيمة له حتى يسأل عن قباحة جريمته ، بالإضافة إلى الاكتفاء بشهادة الموءودة لإثبات جريمة الوائد عليه ... فالموءودة تعامل يوم القيامة باعتبارها إنسان محترم له حقوقه ، والرائد مهمل مهان.

* * *

٤٥٢

الآيات

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

التّفسير

يوم يرى الإنسان ما قدّم!!

فبعد مرحلة الفناء العام ، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم ، لتقام محكمة العدل الالهي. ومن خطوط هذه المرحلة : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ).

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى المبسوط من الشيء ، كصحيفة الوجه ، والصحيفة التي يكتب عليها.

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكلّ سيعرف جزاءه بعد الاطلاع على صحيفة أعماله ، كما تشير إلى ذلك الآية (١٤) من سورة الإسراء : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سرورا ، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثمّ يضيف : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ).

٤٥٣

«كشطت» : من (الكشط) على وزن (كشف) ، بمعنى قلع جلد الناقة ، كما قال الراغب في مفرداته ، وأمّا في (لسان العرب) فتعني : كشف الغطاء عن الشيء ، و «تكشط السحاب» أي ، تقطع وتفرّق.

وما يراد من «كشطت» في الآية ، هو : رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي ، التي تمنع رؤية الناس للملائكة أو الجنّة والنّار ، فيرى الإنسان حينها عالم الوجود شاخص أمام ناظريه شخوصا حقيقيا ، وكما تصور الآيات التالية ذلك ، حيث أنّ الجنّة ستقترب من الإنسان ليرى نعيمها ، وتزداد النّار سعيرا لاهبة.

نعم ، أو ليس يوم القيامة (يوم البروز) .. فلا الحقائق ستخفى ، ولا يكون للحجب أثرا.

فالآية وما سبقها وسيلحقا إذن (حسب التفسير أعلاه) قد تحدثت عن المرحلة الثّانية للقيامة ـ مرحلة ما بعد البعث ـ فما ذكره كثير من المفسرين ، من كون الآية تشير إلى انهيار وتحطم السماوات ، والمتعلق بحوادث المرحلة الاولى للقيامة (مرحلة الفناء العام) ، يبدو أنّه بعيد ، لأنّه لا ينسجم مع معنى «كشطت» من جهة اخرى.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ).

فجهنّم موجودة في كل الأوقات ، ولكنّ حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها ، فالآية على سياق الآية (٤٩) من سورة التوبة : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، وكما أنّ جهنّم موجودة فالجنّة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة (١).

ويبّين البيان القرآني بذات السياق السابق : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ).

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (٩٠) من سورة الشعراء : (وَأُزْلِفَتِ

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٣٣ ؛ والحديد ، الآية ٢١ ... إلخ.

٤٥٤

الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).

«أزلفت» : من (زلف) على وزن (حرف) .. و «زلفى» : على وزن (كبرى) ، بمعنى القرب ، فيمكن أن يكون المراد هو : القرب المكاني ، أو القرب الزماني ، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات ، ويمكن أيضا أن تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معان.

فستكون الجنّة قريبة من المؤمنين من حيث : المكان ، زمان دخولها ، من حيث تسهيل أسبابها لهم.

وقد تجلت مكانة المؤمنين عند الله حينما صرحّت الآية باقتراب الجنّة من المؤمنين ، ولم تقل : اقترب المؤمنين من الجنّة.

وكما قلنا آنفا ... فالجنّة والنّار موجودتان في كلّ وقت ، ولكن مع حلول يوم القيامة تكون الجنّة والنّار أشدّ اشتعالا من أي وقت مضى.

وتأتي الآية الأخيرة (من الآيات المبحوثة) لتتم ما جاء قبلها من جمل ، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (١٢) آية : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ).

فستحضر أعمال الإنسان كاملة ، ولا من محيص من العلم والاطلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات ، منها ... الآية (٤٩) من سورة الكهف : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) ، والآية الأخيرة من سورة الزلزال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

فالآية إذن ... تبيّن مسألة (تجسم الأعمال) في يوم القيامة ، فأعمالنا التي نتصورها قد انتهت وفنت في عالمنا الدنيوي ، هي ليست كذلك ، فكل عمل قمنا به سيتجسم بصورة ما ، ليحضر أمام أعيننا في عرصة المحشر الرهبية.

* * *

٤٥٥

بحثان

١ ـ تناسق الآيات

تمّت الإشارة إلى (١٢) حادثة من حوادث يوم القيامة ، فالحوادث الستة الأولى قد ارتبطت بمرحلة الفناء العام للعالم (المرحلة الأولى) ، والستة الثّانية قد اختصت بمرحلة عودة الحياة بعد الموت من جديد.

وكان الحديث في الستة الأولى عن : ذهاب ضوء الشمس ، تساقط وتناثر النجوم ، إزالة الجبال عن واقعها وتحولها إلى غبار منتشر ، إضرام البحار نارا ، نسيان المال والثروة ، اجتماع الحيوانات الوحشية في مكان واحد ...

فيما كان الحديث في لستة الثانية عن : حشر الناس فرادى ، سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت من أجله! ، ونشر الصحف ، ارتفاع الحجب عن صفحة السماء ، اشتعال أوار جهنّم واقترب الجنّة ، واطلاع الإنسان على كل أعماله مجسدة.

ورغم قصر جمل الآيات إلّا أنّها حملت الكثير من المعاني وبأسلوب مثير يعمل على تحريك ضمير الإنسان ويدفعه للتوغل في أعماق التأمل والفكر ...

وقد جسّمت الآيات نهاية العالم بتصوير رائع ، بحيث قربت إلى الأذهان كيفية حدوث القيامة ، كل ذلك في عبارات وجيزة وبألفاظ سهلة ، وكلّ هذا يعطي مدى قوّة بيان وبلاغة القرآن الكريم ... فما أجمل وأعذب القرآنية ، وما أغزرها بالمعاني والإشارات!!

٢ ـ هل ستنطفئ المنظومة الشمسية ، وهل ستخمد النجوم؟؟

قبل البدء بالإجابة لا بدّ من بيان بعض ما توصل إليه العلم الحديث بخصوص المنظومة الشمسية :

إنّ الشمس (التي تعتبر مركز المنظومة الشمسية) متوسطة الحجم نسبة إلى

٤٥٦

بقية النجوم السابحة في السماء ، ولكنّها نسبة إلى الأرض كبيرة جدّا ، حيث قدّر العلماء حجمها بما يعادل (٠٠٠ ، ٣٠٠ ، ١) مرة بقدر حجم الأرض ، ونظرا لبعدها عن الأرض ، (حيث قدرت بـ (٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١٥٠) كيلومتر) ، فترى لناظرينا بهذا الحجم المحدود ...

ويكفينا أن نتلمس عظمة حجم الشمس ، فيما لو فرضنا بإدخال الكرة الأرضية مع القمر في باطن الشمس وبذات الفاصلة الموجودة حاليا ما بين الأرض والقمر ، ففي هذه الحال. سوف لا يواجه القمر أية صعوبة بالدوران حول الأرض من دون أن يخرج من سطح الشمس!

أمّا درجة حرارة سطح الشمس فتبلغ (٠٠٠ ، ٦) درجة مئوية ، وتصل درجة حرارة أعماق الشمس إلى عدّة ملايين درجة مئوية!!

وإذا ما أردنا أن نزن الشمس بالأطنان ، فسيواجهنا العدد (٢) وبيمينه (٢٧) صفرا ، أي (ملياري مليار مليار طن)!

وتصل ألسنة نيران سطح الشمس في بعض الأوقات إلى ارتفاع (٠٠٠ ، ٦٠) كيلومتر ، وبإمكان تلك الألسنة أن تلف الأرض وما عليها وبكل يسر ، لأنّ قطر الكرة الأرضية لا يتجاوز ال (٠٠٠ ، ١٢) كيلومتر.

ومصدر حرارة ونور الشمس الخارجة منها ، على خلاف ما يتصوره البعض من كونهما ناشئين من احتراق شي ما ، وكما يقول مؤلف كتاب (ولادة وموت الشمس) ، أن لو كانت الشمس ، عبارة عن جرم من الفحم الحجري الخالص ، لما استمرت لهذا اليوم ، ولو قدّرنا بدأ احتراقها منذ عصر أول فراعنة مصر ، لكان في يومنا المعاش قد احتراق بأكمله ونفد ، وإذا ما قيل بأيّة مادة أخرى غير الفحم الحجري ، فلا تغيّر من النتيجة الحاصلة.

وحقيقة الأمر ، أنّ مفهوم الاحتراق لا ينطبق على الشمس ، بقدر ما ينطبق عليها مفهوم الطاقة الحاصلة من التجزئة الذريّة ، ولمّا كانت الطاقة عظيمة جدّا ،

٤٥٧

فذرات الشمس في حالة تجزئة وتبديل إلى طاقة وبشكل مستمر.

واستنادا إلى حسابات العلماء : فإنّ كلّ ثانية تمرّ من عمر الشمس ينتقص من وزنها ما يقارب «اربعة ملايين طنا»! أمّا حجمها فلم يمسسه أيّ شي من التغيير رغم مرور السنين المديدة على عمرها!

وينبغي التسليم أنّ خاتمة الشمس لا بدّ منها ، وعجلة الزمن الدائبة ستوصل إلى ذلك الحدث ، ولا بدّ من مجيء ذلك اليوم الذي سيشهد اضمحلال حجم هذا الجرم الكبير وإخماد نوره ، كما هو حال وشأن بقية النجوم (١).

فالعلم الحديث إذن ، قد أثبت الحقائق العلمية التي طرحها قبل ألف وأربعمائة سنة إلّا دليل قاطع على ما نقول.

* * *

__________________

(١) اقتبس هذا الكلام من ثلاثة كتب : (ولادة وموت الشمس) ، (النجوم من دون تلسكوب) و (بناء الشمس).

٤٥٨

الآيات

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥))

التّفسير

نزل به رسول كريم :

بعد أن تناولت الآيات السابقة مواضيع : المعاد ، مقدمات يوم القيامة ، وحوادث يوم القيامة ... تأتي الآيات أعلاه لتطرق عن : أحقّية القرآن وصدق نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآيات في حقيقتها تأكيد على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع «المعاد» ، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.

وتشرع الآيات بـ : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١) ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ).

«الخنّس» : جمع (خانس) ، من (خنس) وهو الانقباض والاختفاء ، ويقال

__________________

(١) تعرض المفسّرون في بحوث عديدة لكلمة «لا» ، هل هي : نافية ، زائدة ، للتأكيد ... وقد تناولنا ذلك مفصلا في أول سورة القيامة (في نفس هذا الجزء) ، فراجع.

٤٥٩

للشيطان : «الخنّاس» ، لأنّه إذا ذكر الله تعالى ، وكما ورد في الحديث الشريف : «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس». (١)

«الجوار» : جمع (جارية) ، وهي الشيء الذي تتحرك بسرعة.

«الكنّس» : جمع (كانس) ، من (كنس) ، على وزن (شمس) ، وهو الاختفاء ، و «كناس» الطير والوحش : بيت يتخذه.

ولكن ... ما هي الأشياء المقصودة بهذا القسم؟

يعتقد كثير من المفسّرين ، إنّها الكواكب (٢) الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة (عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري وزحل).

ونقول توضيحا : لو تأملنا السماء عدّة ليال ، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها ، وكأنّها لئالئ خيطت على قطعة قماش داكن الألوان ، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب ، إلّا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة ، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقية النجوم فواصل ثابتة ، وكأنّها لئالئ قد وضعت على تلك القطعة وضعا ، من دون أن تخيّط بها!

وهذه الكواكب الخمس هي المقصود في هذا التفسير ، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا لا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.

ومن جهة أخرى : ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة) ، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت ،

__________________

(١) لسان العرب : مادة (خنس).

(٢) الفرق بين النجوم والكواكب ، إنّ الأولى شموس كشمسنا ، والثانية عبارة عن أجسام باردة كالأرض ، تنعكس عليها أشعة الشمس فتضيء ، ويمكن تمييزها على صفحة السماء بثبوت نورها ، في حين تكون النجوم متلألئة بالنور.

٤٦٠