الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ).

«الحافرة» : من (الحفر) ، بمعنى شقّ الأرض ، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة) ، يقال : حافر الفرس ، تشبيها لحفرة الأرض في عدوه ، و «الحافرة» : كناية لمن يرد من حيث جاء ، كما لو سار إنسان على أرض ، فيترك فيها حفرا لتحمل آثار قدمه ، ثمّ يعود إلى نفس تلك الحفر ، فالحافرة : تعني الحالة الاولى (١).

وتستمر الآية في سرد كلامهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (٢).

فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد ، وبقولهم المعروف : كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اخرى جسما كاملا ، والأكثر من هذا .. أن تسري فيه الحياة ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب ، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئا؟

«نخرة» : صفة مشبهة ، من (النخر) ، بمعنى الشجرة المجوفة البالية ، والتي إذا دخل فيها الهواء أعطت صوتا معينا ، مثله (النخير) ، وعمم الاستعمال ليشمل كلّ شيء بال في حال تآكل وتلاش.

ولا يكتفي منكر والمعاد بحال الاعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه ، بل وتحولوا إلى حال الاستهزاء بأحد اصول دين الله! : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ).

وثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية يقول : إنّهم جادون في قولتهم غير مستهزئين ، لأنّهم يعتقدون أن لو كان ثمّة عود ورجعة فهي عبث زائد وخاسر ، إذ لو كانت الحياة الطيبة هي التي نعيشها ، فلما ذا لا تخلد؟ وإن كانت سيئة فما فائدة العود؟

__________________

(١) اسم فاعل هنا بمعنى اسم المفعول ، فالحافرة إذا بمعنى المحفورة.

(٢) وتقدير الجملة مع محذوفها : (أإذا كنّا عظاما نخرة نرد أحياء) أو (أإنا لمبعوثون).

٣٨١

ويمكن اعتبار «الحافرة» الواردة في : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) قرينة لهذا الاحتمال ، بلحاظ كونها بمعنى (الحفرة).

ولكنّ المعروف بين المفسّرين هو التّفسير الأوّل.

وقد عبّرت الآية السابقة عن قولهم بصيغة المصارع «يقولون» اشارة إلى دوام ترديدهم لما يقولون به ، في حين ذكر الفعل في الآية المبحوثة بصيغة الماضي «قولوا» إشارة إلى أنّهم قليلا ما يقولون ذلك.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة ، وبلسان قاطع ، يقول : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر ، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثّانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق ، نعم .. فتشرع كلّ تلك العظام النخرة وما صار منها ترابا للتجمع على الهيئة الاولى ، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة!

«الزجرة» : بمعنى صيحة بشدّة وانتهار ، ويراد بها : نفخة الصور الثّانية.

«زجرة واحدة» : إشارة إلى سهولة الأمر أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، وإلى سرعة تنفيذ أمره سبحانه (لقيام القيامة) ... فبصوت واحد من ملائكة القيامة ، أو من صور إسرافيل يرتدي جميع الأموات لباس الحياة من جديد ليحضروا عرصة المحشر للحساب.

«الساهرة» : من (السهر) ، وهو الأرق ، وقيل : لأرض القيامة «الساهرة» لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة. وقيل : الساهرة : اسم للصحراء ، لأنّ جميع الصحاري مخيفة ، وكأنّ الخوف فيها يطرد النوم من العين (١).

* * *

__________________

(١) لسان العرب : سهر ، مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٤٢٩ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٩٠.

٣٨٢

الآيات

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

التّفسير

افتراء فرعون!

يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصّة موسى عليه‌السلام وفرعون ، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ ، وما حدى بفرعون من مصير أسود ، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة ، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

ويشير البيان القرآني كذلك ، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء

٣٨٣

الظاهرية ، لأنّ دمارهم وهلاكهم على الله أسهل من أن يتصور .. فهذا البيان القرآني إذا ، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيبا لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبيّ عليه‌السلام بصيغة الاستفهام : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصّة ذات العبر.

ثمّ يقول : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١).

«طوى» : يمكن أن يكون اسما لأرض مقدّسة ، تقع في الشام بين (مدين) و (مصر) ، وهو الوادي الذي كلّم الله تعالى فيه موسى عليه‌السلام أوّل مرّة.

وقد رود الاسم أيضا في الآية (١٢) من سورة طه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

وقد تكون «طوى» صفة من (الطي) ، إشارة إلى ما انطوت عليه تلك الأرض من القداسة والبركة.

أو كما يقول الراغب في مفرداته ، إشارة إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء ، فكان ينبغي عليه السير في طريق طويل ، ليكون لائقا لنزول الوحي ولكن الله تعالى طوى له هذا الطريق وقرّب له الهدف.

ثمّ أشار القرآن إلى تعليمات الله عزوجل إلى موسى عليه‌السلام في الواد المقدّس : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقا للقاء الله ، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى).

ولمّا كانت كلّ دعوة تحتاج إلى دليل صحتها ، يضيف القرآن القول : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢).

__________________

(١) اعتبر أكثر المفسّرين «إذ» ظرف زمان متعلق بـ «حديث» ويصح الإعتبار لو كانت بمعنى نفس الحادثة وليست حكايتها .. وثمّة احتمال آخر ، يقول «إذ» : ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره (اذكر) ، فالتقدير : (اذكر إذ ناداه ...) ـ فتأمل.

(٢) إنّ الفاصلة الزمنية ما بين توجيه الأمر الإلهي إلى موسى عليه‌السلام وبين إرائة المعجزة كانت كبيرة ، ولكنّ البيان القرآني اختصرها في هذا الموضع.

٣٨٤

ولكن ، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى عليه‌السلام التي تحولت إلى أفعى عظيمة ، أو إخراج يده بيضاء ، أم كليهما؟ (على اعتبار أنّ الألف واللام في «الآية الكبرى» إشارة إلى الجنس). وعلى أيّة حال ، فالمهم في المسألة إنّ موسى عليه‌السلام استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».

لقد وردت في الآيات الأربعة المذكورة جملة ملاحظات ، هي :

١ ـ طغيان فرعون يمثل علّة الأمر الإلهي لذهاب موسى عليه‌السلام إليه ... وتبيّن لنا هذه الملاحظة : إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

٢ ـ راح موسى عليه‌السلام يدعو فرعون بلين ورفق وأسلوب جميل ، وبأسلوب مرغّب دعاه لأن يتطهر (طهارة مطلقة من الشرك والكفر ، ومن الظلم والفساد) وتنقل لنا الآية (٤٤) من سورة طه هذا المعنى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).

٣ ـ وثمّة إشارة لطيفة وردت بخصوص رسالة الأنبياء عليهم‌السلام ، فدعوتهم للحق تعتمد على محاولة تطهير الناس وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة.

كما وأشار البيان القرآني إلى أنّ المخاطبة قد تمّت بكلمة «تزكّي» بدلا من (ازكيك) ، للدلالة على أنّ التزكية الحقّة إنّما هي تلك النابعة من الذات ، ولا تبنى باسس موضوعية خارجية.

٤ ـ ذكرت الهداية بعد التزكية ، للدلالة على أنّ التزكية مقدّمة وبمثابة الأرضية المهيئة للهداية.

٥ ـ إنّ تعبير «إلى ربّك» في حقيقة تأكيد على أنّ من أهديك إليه هو مالكك ومربيك ، فلم الميل عنه؟!

٦ ـ «الخشية» نتيجة للهداية : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) ، وبما أنّ الخشية لا تحصل إلّا بمعرفة حقّة ، فتكون ثمرة شجرة الهداية والتوحيد هي الإحساس بالمسؤولية الملقاة على العواتق أمام جبار السماوات والأرض ، ولهذا تقول الآية

٣٨٥

(٢٨) من سورة فاطر : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ ، مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

٧ ـ ابتدأ موسى عليه‌السلام أسلوب دعوته بالهداية العاطفية ثمّ تدرج إلى الهداية العقلية والمنطقية حتى أرى فرعون الآية الكبرى.

وقد بيّن لنا البيان القرآني أفضل طرق الدعوة والإرشاد ، حيث ينبغي إحاطة من يراد هدايته بالرعاية والعطف وتحسيسه بحسن نيّة الداعية أو المرشد ، ومن ثمّ تأتي مرحلة الدليل المنطقي والحوار العلمي.

لكنّ فرعون المتجبّر قابل كلّ تلك المحبّة ، اللطف ، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى ، قابل كلّ ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله : (فَكَذَّبَ وَعَصى).

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له ، كما هو حال التصديق الإيمان باعتباره مقدّمة للطاعات.

وازداد فرعون عنوّا : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) (١).

وقد هددت معجزة موسى عليه‌السلام كل وجود فرعون الطاغوتي ، ممّا دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة ، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كلّ سحرة البلاد ـ على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية ـ ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة ، وليظهروا مثلها!! : (فَحَشَرَ فَنادى).

مع أنّ كلمة «حشر» ذكرت بصورة مطلقة مبهمة ، ولكننا نستطيع معرفة تفصيل الأمر من خلال الآيات القرآنية الاخرى ، ففي الآيتين (١١١ و١١٢) من سورة الأعراف ، يكمل تفصيل ذلك : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ).

وكذا الحال بالنسبة لكلمة «نادى» ، فيمكننا التوصل لمعناها من خلال الآية

__________________

(١) يمكن اعتبار «ثمّ» في الآية إشارة إلى المدّة التي استغلها فرعون ليدرس ويخطط لكيفية مواجهة موسى عليه‌السلام ، لأنّ «ثمّ» عادة ما تستعمل للتعبير عن الفاصلة الزمنية بين الأحداث.

٣٨٦

(٣٩) من سورة الشعراء ، والتي تناولت نفس الموضوع : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ).

ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه ، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها ، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّا ، وافترى على الله وعلى نفسه بأقبح ادعاء ، حينما ادعى نفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته! : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى).

نعم .. فحينما يقبع المتجبّر في عرش الغرور ، وحينما تلّفه أمواج الأنانية المفرطة ، حينها .. سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية ، بل ويجره فقدان بصيرته ، وانحسار فطرته بين ظلمات أنانيته لأن يدعي أنّه (ربّ الأرباب)!!

وأوصل فرعون قولته إلى الناس ليخبرهم بأنّه لا يعارض ما لهم من أصنام يعبدونها ، لكنّه فوقها جميعا فهو (المعبود الأعلى)!

وألطف ما في الأمر ، إنّ فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام ، بشهادة الآية (١٢٧) من سورة الأعراف : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) ، فادعاؤه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده! .. نعم ، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وقد ادعى فرعون بأكثر من (ربّ الأرباب) ، ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة ، حينما ورد قوله في الآية (٣٨) من سورة القصص : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)! ...

وعلى أيّة حال ، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان ، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (١)

__________________

(١) «نكال» : منصوب بنزع الخافض ، والتقدير : (فأخذه الله بنكال الآخرة) ويحتمل كونه مفعول مطلق للأخذ ، بمعنى (نكّل) ،

٣٨٧

«النكال» : لغة : العجز والضعف. ويقال لمن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل). و (النكل) ـ على وزن فكر ـ القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.

و «نكال» : في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان ، ويخيف الآخرين ، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب ،.

«نكال الآخرة» : عذاب جهنّم الذي سينال فرعون وأصحابه ومن سار على خطوه ، و «عذاب الاولى» : إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا ، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل : «الاولى» : تشير إلى كلمة فرعون الاولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الالوهية) ، كما جاء في الآية (٣٨) من سورة القصص.

و «الآخرة» : إشارة الى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعي (الرّبوبية العليا) ، فعذّبه الله بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعاءيه الباطلين.

وقد أشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : «إنّ الفترة ما بين قوله الاولى والآخرة كانت أربعين عاما ، وقد أخّر الله تعالى عذابه كلّ هذه المدّة إتماما للحجّة عليه» (١).

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كلّ العقاب في الدنيا ، وتعضده الآية التالية التي تعدّ العذاب عبرة للآخرين.

__________________

فيكون التقدير : (نكّل الله ناكال الآخرة).

(١) وفي مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٢ ، رواية اخرى تحمل نفس المضمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثر تفصيلا ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٠٠.

٣٨٨

ويستخلص القرآن نتيجة القصّة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى).

فتبيّن الآية بكلّ وضوح ، إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من الله ، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية ، ومن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

نعم .. فقد أغرق فرعون ، وأهلك ملكه ودولته ، وصار درسا شاخصا لكل فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان ، وعبرة لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر ومصر ، ولا يجني من سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه ، وهي سنّة الله ، ولا تغيير ولا تبديل لسنّته جلّ شأنه.

* * *

بحث

بلاغة القرآن :

بنظرة ممعنة في الآيات الإحدى عشر المبحوثة ، تتجلى لنا ذروة فصاحة وبلاغة القرآن الكريم ، فبعبارات موجزة وسريعة ، عرضت قصّة موسى عليه‌السلام مع فرعون وبتفصيل بياني محكم ، حيث تناولت : بيان سبب الرسالة ، هدف دعوة الرسالة ، وسائل التطهير ، كيفية الدعوة ، أسس مواجهة مخططات الأعداء ، نماذج من الادعاءات الباطلة ، والانتقام من الطغاة ... فكل هذا وما حمل بين ثناياه من دروس حيّة للإنسانية ، قد ورد في هذه الآيات القليلة الموجزة!

* * *

٣٨٩

الآيات

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

التّفسير

اللمسات الرّبانية في عالم الطبيعة ونظام الكون :

ينتقل البيان القرآني مرّة اخرى إلى عالم القيامة ، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصّة موسى عليه‌السلام مع فرعون ، فيعرض صورا من قدرة الله المطلقة في عالم الوجود ، ليستدل به على إمكان المعاد ، ويشرح بعض النعم الإلهية على البشرية (التي لا تعدّ ولا تحصى) ، ليحرك فيهم حس الشكر والذي من خلاله يتوصلون لمعرفة الله.

وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ

٣٩٠

السَّماءُ بَناها) (١).

والآية في واقعها جواب لما ذكر من قولهم في الآيات السابقة : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) ـ أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاولى ـ فكلّ إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى ، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات ، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان ... وإذا فمن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق ، أيعقل أن يكون عاجزا عن إعادة الحياة مرّة اخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء ، فيقول شارحا بتفصيل : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها).

«سمك» : ـ على وزن سقف ـ لغة : بمعنى الارتفاع ، وجيئت بمعنى (السقف) أيضا ، وعلى قول الفخر الرازي في تفسيره : إنّ الشيء المرتفع لو قيس ارتفاعه من الأعلى إلى الأسفل فالنتيجة تسمّى (عمق) ، أمّا لو قيس الارتفاع من الأسفل إلى الأعلى فهو (سمك) (٢).

«سواها» : من (التسوية) ، بمعنى التنظيم ، وهي تشير إلى دقّة التنظيم الحاكمة على الأجرام السماوية ، وإذا اعتبرنا «سمكها» بمعنى «سقفها» ، فهي إشارة إلى الغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية كالسقف المحكم البناء ، والذي يحفظها من شدّة آثار الأحجار السماوية ، والشهب ، والأشعة الكونية والمميتة والمتساقطة عليها باستمرار.

وقيل : إنّ «سواها» إشارة إلى كروية السماء وإحاطتها بالأرض ، حيث أنّ التسوية هنا تعني تساوي الفاصلة بين أجزاء هذا السقف نسبة إلى المركز الأصلي (الأرض) ، ولا يتحقق ذلك من دون كروية الأرض وما حولها (السماء).

__________________

(١) في الآية حذف ، والتقدير : (أم السماء أشدّ خلقا). و «بناها» : جملة استئنافية ، وهي مقدّمة للآيات التالية.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣١ ، الآية المبحوثة.

٣٩١

وقيل أيضا : إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض ، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ المحيط بالأرض.

وعلى أيّة حال ، فالآية قد نهجت بذات سياق الآية (٥٧) من سورة المؤمن : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ثمّ تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير ، الكبير ، (نظام النور والظلمة) ، : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها).

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّا في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات ، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور ، لما له من ارتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان ، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة ، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش» : من (الغطش) ، بمعنى الظلام ، ولكنّ الراغب في مفرداته يقول : وأصله من «الأغطش» وهو الذي في عينه شبه عمش.

«الضحى» : انبساط الشمس وامتداد النهار (١).

وتنتقل بنا الآية الاخرى من السماء إلى الأرض ، فتقول : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها).

«دحاها» : من «الدحو» بمعنى الانبساط ، وفسّرها بعضهم : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها).

وللمعنيين أصل واحد ، لوجود التلازم بينهما.

ويقصد بدحو الأرض ، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة ، ثمّ استقرت تلك المياه تدريجيا في منخفضات الأرض ، فشكلت البحار والمحيطات ، فيما علت اليابسة على أطرافها ، وتوسعت

__________________

(١) يرجع ضميرا «ليلها» و «ضحاها» إلى السماء ، فنسبة النور والظلمة إلى السماء باعتبار أنّ لهما منشأ سماويا.

٣٩٢

تدريجيا ، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل ، (وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض) (١).

وبعد دحو الأرض ، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان ، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معا : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها).

ويظهر من التعبير القرآني ، إنّ الماء قد نفذ إلى دخل الأرض بادئ ذي بدء ، ثمّ خرج على شكل عيون وأنهار ، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى» : اسم مكان من (الرعي) (٢) ، وهو حفظ ومراقبة امور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها.

ولهذا ، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الأمور ، وكلّ من يسوس نفسه أو غيره يسمّى (راعيا) ، ولذا جاء في الحديث الشريف : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

ثمّ ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال» ، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض ، مثل : الفيضانات ، العواصف العاتية ، المدّ والجزر ، والزلازل .. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض ، فجعل الله عزوجل «الجبال» تثبيتا للأرض ، ولهذا تقول الآية : (وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣).

«أرسى» : من (رسو) ، بمعنى الثبات ، وأرسى : فعل متعد ، أي ، ثبّت الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

__________________

(١) فسّر بعض المفسّرين «بعد ذلك» في الآية ، بمعنى (إضافة لهذا) ، فيكون معنى الآية : (إضافة إلى ما في الآيات السابقة فالأرض دحاها).

(٢) واعتبره البعض : مصدرا ميميا ، بمعنى الحيوانات السائمة ، ولكنّ المعنى المذكر أعلاه أقرب.

(٣) بحثنا مفصلا موضوع الجبال وأهميتها في حياة الإنسان وفي تثبيت الأرض ، في ذيل الآية (٣) من سورة الرعد ـ فراجع.

٣٩٣

نعم .. فالسماء رفعها.

خلق نظام النور والظلمة.

دحى الأرض.

أخرج من الأرض ماء ونباتا.

أرسى الجبال لحفظ الأرض.

هيأ مستلزمات عيش الإنسان ، وسخر له كلّ شيء.

كلّ ذلك ، ليغرف الإنسان من نعم الله ، ولكي لا يغفل عن طاعة الله والوصول لساحة رضوانه جلّ شأنه.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة ، ويدلل من جهة اخرى على وجود الله تعالى وعظمة شأنه ، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة الله وتوحيده.

* * *

٣٩٤

الآيات

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١))

التّفسير

التنزّه عن الهوى :

وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانبا من صور عالم القيامة ، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب من عبد أهواءه في الحياة الدنيا : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (١).

«الطامة» : من (الطم) ـ على زنة فنّ ـ وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ

__________________

(١) يقول بعض المفسّرين ، إنّ جواب الشرط في «إذا» الشرطية ، يأتي في الآيات (فَأَمَّا مَنْ طَغى ... وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ...) ولكن الأفضل أن نقول : إنّ الجزاء محذوف يدل عليه ما في الآيات التالية ، والتقدير : (فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يجز كلّ إنسان بما عمل) ، وقيل : يستفاد جزاء الشرط من «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» ـ ولكنّه بعيد.

٣٩٥

والحفر ، ويطلق بالطامة على كلّ شيء بلغ حدّه الأعلى ، ولهذا فقد أطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار ، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كلّ هول ، واتبعت بـ «الكبرى» زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف : حال حلول الحدث ... سيفلت الجميع من نياط غفلتهم ، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى).

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر ، فسيقرعون بـ (كَلَّا).

وإذا ما اعتذروا تائبين ، فلا محيص عن ردّهم ، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

وعندها : لا يبقى لهم إلّا الحسرة والندامة ، والهم والغم ، وكما تقول الآية (٢٧) من سورة الفرقان : (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ).

وثمّة نكتة في الآية ترتبط بصيغة الفعل «يتذكر» ، فقد جاء الفعل مضارعا ليدل على استمرارية التذكر ، فالإنسان أمام ذلك المنظر الرهيب ، وقد أزيلت الحجب عن قلبه وروحه ، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه ، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتشخص الآية التالية ما سيقع : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى).

فالجحيم موجودة ، كما تشير إلى ذلك الآية (٥٤) من سورة العنكبوت : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها ، وأمّا في يوم الفصل ، يوم البروز ، فسيبرز كلّ شيء ولا يستثنى من ذلك جهنّم.

وجملة «لمن يرى» ، تشير إلى رؤية جهنّم من قبل الجميع بلا استثناء (الصالح والطالح) ، فهي غير خافية عن الأنظار.

٣٩٦

وقيل : إنّها لمن سيكون له نظر في يوم القيامة ، لأنّ الآية (١٢٤) من سورة طه قد صرّحت بأنّ البعض سيحشر أعمى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ، ويعتمد ستكون أكثر المفسّرين على التّفسير الأوّل لمناسبته للمقام ، لأنّ رؤية جهنّم من قبل العاصين ستكون أكثر إيلاما لهم ، إضافة إلى أنّ العمى المشار إليه ، ربّما يكون في موقف معين من مواقف يوم القيامة ، وليس دائما (١).

وفي الآيات الثلاثة التالية ، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٢).

والآية الاولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة ، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور ، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال الله يتصاغر الإنسان ويتصاغر حتى يكاد لا يرى لنفسه أثرا ، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة ، ما دام سلوكه يصب في رافد معرفة الله.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي ، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل ، فينساق واهما لأنّ يجعلها فوق كلّ شيء!

والأمران في واقعهما كالعلة والمعلول ، فالطغيان وفساد العقدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط ، ولا يجران إلّا إلى سوء عقبى الدار ، نار جهنّم خالدين فيها أبدا.

وعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، أنّه قال : «ومن طغى ضل على عمل بلا حجّة» (٣)

، فالغرور يرى صاحبه الهوى حقّ : على الرغم من عدم امتلاكه الدليل أو

__________________

(١) لزيادة التوضيح ، راجع ذيل الآية (١٢٤) من سورة طه.

(٢) تقدير الآية الثالثة مع محذوفها : (هي المأوى له) أو (هي مأواه) ، وحذف الضمير لوضوحه.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٠٦ ، الحديث ٤٣.

٣٩٧

الحجّة ، وبالرغم من مخالفة المنطق له!.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنّة : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى).

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنّة والاستقرار بها هو الخوف من الله من خلال معرفته (معرفة الله والخوف من التمرد والعصيان على أوامره) ، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها ، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون الله ، لأنّه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد ، ولذا فـ «أبغض إله عبد على وجه الأرض : الهوى».

وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان ، نعم ... فالشيطان الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي في منحاه ، ويفتح له أبواب الدخول ، كما تشير إلى ذلك الآية (٤٢) من سورة الحجر : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ).

* * *

ملاحظات

١ ـ مقام الرّب؟

جاء في الآية (٤٠) (... مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ..) ، ولم يقل (من خاف ربّه) ، ، فما ذا يقصد بهذا المقام؟

طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور :

١ ـ المقام : مواقف القيامة ، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي ربّه للحساب ، فسيكون «مقام ربّه» ـ على ضوء هذا الاحتمال ـ بمعنى (مقامه عند ربّه).

٣٩٨

٢ ـ المقام : علم الله ومقام مراقبته للإنسان ، بدلالة الآية (٣٣) من سورة الرعد : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ).

وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : قوله : «من علم أنّ الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى» (١).

٣ ـ مقام العدالة الإلهية ، لأنّ العبد لا يخاف من ذات الله المقدّسة بل خوفه من عدل الله حسابه وفي الحقيقة إنّ هذا الخوف ناشئ من قياس أعماله بميزان العدل ، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتزّ دواخلهم حين رؤية القاضي العادل ، ولا يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة ، بعكس من لم يقم بأي ذنب ، فرؤيته للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات ... ولا تباين بين هذه التفسيرات الثلاثة ، ويمكن ادغامها في معنى الآية.

٢ ـ علاقة الطغيان بعبادة الدنيا

رسمت الآيات المبحوثة وبأسلوب رائع اصول سعادة وشقاء الإنسانية ، فجسدت بريشتها البيانية زبدة تعاليم الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

فشقاء الإنسان يكمن في طغيانه وعبادته لجواذب الدنيا ، وسعادته في خوفه من الله وتركه ما يبعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى.

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : إتّباع الهوى وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصد عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة» (٢).

و ... هوى النفس : يضع حجابا على عقل الإنسان ، يزيّن له الأعمال القبيحة ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٢.

٣٩٩

يشغل الإنسان بنفسه ، يسلبه قدرة التمييز بين الصالح والطالح والتي هي أعظم نعمة على الإنسان ، وبها يتميزّ الإنسان عن الحيوان ، وهذا هو ما أشارت إليه الآية (١٨) من سورة يوسف في وقول نبيّ الله يعقوب عليه‌السلام لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً).

وباب الحديث أوسع بكثير من أن يلخص بوريقات ، ولكننا سنكتفي بذكر حديثين عن أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم‌السلام ، لتناولهما مختلف جوانب الموضوع :

فعن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دحل الجنّة ، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النّار» (١).

وعن الإمام الصادق ، أنّه قال : «لا تدع النفس وهواها ، فإنّ هواها في رداها ، وترك النفس وما تهوى داؤها ، وكفّ النفس عمّا تهوى دواؤها» (٢).

ولا يدخل اتباع الهوى جهنّم فقط ، فله من الآثار السلبية حتى في الحياة الدنيا ، ومن نتائجه : فقدان الأمن ، وتخلخل النظام ، ونشوب الحروب ، وسفك الدماء ، وإثارة النزاعات والأحقاد ...

٣ ـ فريقان لا ثالث لهما

تحدثت الآيات محل البحث عن فريقين من الناس ، أمّا من طغى وعبد هواه فمأواه جهنّم خالدا فيها ، وأمّا من اتقى وخاف مقام ربّه فالجنّة مأواه أبدا.

وثمّة فريق ثالث لم تتطرق له الآيات ، وهو المؤمنين الذين قصروا في أداء بعض الأعمال والوظائف ، أو أصابهم بعض تلوثات هوى النفس الأمارة بالسوء ، فهؤلاء وإن كانوا فريقا ثالثا ـ حسب لظاهر ـ إلّا أنّهم سرعان ما يلتحقون بأحد

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٠٧ ، الحديث ٤٥.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٤٦.

٤٠٠