الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

وقد روي أنّه حينما سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية ، قال : «نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».

فقال الراوي : وأيّ شيء تقولون؟

فقال عليه‌السلام : «نمجد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا ، ونشفع لشيعتنا ، فلا يردنا ربّنا» (١).

ونستفيد من هذه الرواية : إنّ الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام سيقفون صفّا يوم القيامة مع الملائكة والروح ، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة ، وسيكون حديثهم منصبّا حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزوجل.

ثمّ إنّ وصف قولهم بكلمة «صوابا» للدلالة على أنّهم لا يشفعون إلّا لمن ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب (٢).

ويشير القرآن واصفا ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل ، يوم عقاب العاصين وثواب المتقين ، يشير بقوله : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ).

«الحقّ» : هو الأمر الثابت واقعا ، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماما على يوم القيامة ، لأنّه سيعطي كلّ إنسان حقّه ، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين ، وتتكشف كلّ الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين .. فانّه بحق : يوم الحقّ ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو الله عزوجل للحصول على رضوانه سبحانه بامتثال أوامره تعالى .. ولهذا يقول القرآن مباشرة : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً).

فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو الله متوفرة بعد أن بيّن طريق الحقّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٧.

(٢) بحثنا مسألة «الشفاعة» من حيث : شروطها ، خصائصها وفلسفتها ، مع الإجابة على الإشكالات الواردة بشأنها في تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.

٣٦١

وأشار إلى معالم سبل الشيطان ، بلغ الله أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي ، أودع في الإنسان العقل (النّبي الباطن) ، رغّب للمتقين بالمفاز ، أنذر المجرمين عذابا أليما ، عيّن يوما لمحكمة العدل الإلهي بيّن أسلوب المحاكمة ، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآبا ، وبمحض إرادته.

و «المآب» : هو محل رجوع ، ويأتي أيضا بمعنى «الطريق».

ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة ، يقول القرآن .. إنّ عقاب المجرمين لواقع ، ويوم القيامة لقريب : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً).

وما عمر الدنيا بكامله إلّا ساعة من زمن الآخرة الخالد ، وكما قيل : (كل ما هو آت قريب) ، وتقول الآيات (٥ ـ ٧) من سورة المعارج ، في هذا المجال : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً).

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كل آت قريب دان» (١).

ولم لا يكون قريبا ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢).

وبعد أن وجّه الإنذار للناس ، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة ، حين لا ينفع ندم ولا حسرة ، إلّا من أتى الله بقلب سليم : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة «ينظر» في الآية بمعنى «ينتظر» ، والمراد : انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله.

وفسّرها بعض آخر بـ : النظر في صحيفة الأعمال.

وقيل : النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٣.

(٢) العنكبوت ، ٥٤.

٣٦٢

وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة ، ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة.

وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة ، وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة ، ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة.

وأساسا فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.

كما نجد في الآية (٤٩) من وسورة الكهف : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) ، وكذا في آخر سورة الزلزال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

في جملة «ما قدمت يداه» تغليب ، لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالبا بيديه ، ولكنه لا يعني الحصر ، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واذن ، في الحياة الدنيا.

وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (١).

وعلى أيّة حال ، فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة ، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا ، وعند ما خلقنا في الدنيا ، ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب ، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد!

فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيرا منهم ، لأنّه : تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلا ، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الاخرى ، مهد لحياة

__________________

(١) الحشر ، ١٨.

٣٦٣

الإنسان ، ومع ما له من فوائد جمّة فهو لا يضرّ قط ، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم ، فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم ، فليس فيهم إلّا الضرر والأذى!

نعم ، فقد يصل الأمر بالإنسان ، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات ، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة ، لما بدر منه كفر وذنوب!

وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين ، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم ، يوم الفزع الأكبر ، فتقول الآية (٥٦) من سورة الزمر : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

وتقول الآية (١٢) من سورة السجدة : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً).

أو ما يقوله كل فرد منهم ـ كما جاء في الآية المبحوثة ـ (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

* * *

بحث

النظرة الصائبة لمسألة «الجبر والإختيار»

!! تعتبر مسألة (الجبر والإختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط العلماء ، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان ، ومنهم من يرى بأنّ الإنسان مجبور في أعماله ، وكلّ منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى.

ومن اللطيف أنّ كلا الفريقين ، يقبلون عمليا بأنّ الإنسان مختار في أفعاله.

وبعبارة أخرى : إنّ البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث العلمي ، أمّا على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الإختيار للإنسان.

وهذا يظهر لنا بوضوح بأنّه أصل حرية الإرادة والإختيار من الأصول التي انطوت عليها الفطرة الإنسانية ، ولولا الوساوس المختلفة لا تفق الجميع على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان.

٣٦٤

إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموما من أوضح أدلة الإختيار ، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان.

وعليه .. فإذا كان الإنسان لا يقبل بالاختيار ويعتبر نفسه مجبورا في أعماله فلما ذا إذن :

١ ـ يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها ، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر به مستقبلا ، فإذا لم يكون مختارا ، فلما ذا الندم؟!

٢ ـ يلام ويوبّخ كلّ من يسيء ، فلما ذا يلام إن كان مجبورا في فعله؟!

٣ ـ يمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.

٤ ـ يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلا زاهرا ، وإذا كانت الأعمال جبرية ، فلما ذا هذا التعليم.

٥ ـ يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟

٦ ـ يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب ، أو هل للجبر من توبة؟!

٧ ـ يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟

٨ ـ يحاكم المجرمون والمنحرفمون في كل دول العالم ، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟

٩ ـ تضع جميع الأمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟

١٠ ـ من يقول بالجبر يصرخ متغنيا في وجه المحاكم لمعاقبة من اعتدى عليه؟

والخلاصة : إن لم يكن للإنسان اختيار ، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟

أمن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهرا؟! ثمّ لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم.

والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماما ، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية ، فلا مفهوم لها بدون الاعتراف أولا

٣٦٥

بحرية الإنسان ...

ثمّ إن كنّا قد جعلنا على أعمالنا جبرا ، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولم الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح ، والأكثر ظلما معاقبته؟!! وكلّ ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية ، وهو ما ينسجم تماما والوجدان البشري العام ، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل ، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة ، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم ، وكما قيل في هذا الجانب : (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون).

والقرآن الكريم حافل بما يؤكّد هذه الحقيقة ، ونظرا لكثرة الآيات التي تؤكّد على حرية إرادة الإنسان ـ مضافا الى الآية المبحوثة : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ـ سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم.

ففي الآية (٣) من سورة الدهر : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

وفي الآية (٢٩) من سورة الكهف ، يقول تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

وجاء في الآية (٢٩) من سورة الدهر أيضا : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدّا ، وقد كتبت في ذلك كتب ومقالات عديدة ، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و (الوجدان) ، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمّة وهي : إنّ الدوافع النفسية والاجتماعية قد اختلطت مع الاستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن يقولون بالجبر.

فكثير ممن اعتقدوا بالجبر ، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولية : أو أنّهم جعلوها غطاء لفشلهم الناتج عن تقصيرهم

٣٦٦

وتساهلهم في أداء وظائفهم ، أو جعلوها مبررا لاتباع أهوائهم ونزواتهم الشيطانية.

استغل المستعمر ـ في بعض الأحيان ـ هذه المقولة ، وجدّ على نشر وتأكيد هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب ، بعد أن يوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل الله على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاء وقدرا ليأمن المستعمر من المقاومة ، يكسب رضاهم وتسليمهم له!

فالاعتقاد بهذا الرأي ... يعني تبرير كلّ ما يقوم به الطغاة والجناة ، وتبرير جميع ذنوب المذنبين ، وبالنتيجة : لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي!! ...

اللهمّ! قنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة ..

اللهمّ! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنّم للطاغين مرصادا ، والجنّة للمتقين مفازا ...

اللهمّ! يا واسع المغفرة ، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا ..

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النبأ

* * *

٣٦٧
٣٦٨

سورة

النّازعات

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وأربعون آية

٣٦٩
٣٧٠

«سورة النّازعات»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل «المعاد» ، وتتلخص مواضيعها عموما بستة أقسام :

١ ـ التأكيد مرارا على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

٢ ـ الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

٣ ـ عرض سريع لقصة موسى عليه‌السلام مع الطاغي فرعون ، تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وإنذارا للمشركين الطغاة ، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

٤ ـ طرح بعض النماذج المظاهر قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض ، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

٥ ـ تعود الآيات مرّة اخرى ، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب ، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

٦ ـ وفي النهاية ، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة ، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

وسميت السورة بـ (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية ، وبها تبدأ السورة من بعد البسملة.

فضيلة السورة :

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه

٣٧١

وحسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنّة» (١).

وعن الإمام الصادق ، أنّه قال : «من قرأها لم يمت إلّا ريّان ، ولم يبعثه الله إلّا ريّان ، ولم يدخله الجنّة إلّا ريّان» (٢).

وليس غربيا أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاء من عند الله ، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة ، والمعرّفة بوظائف الإنسان في حياته ، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة ، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٨.

(٢) المصدر السابق.

٣٧٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥))

التّفسير

القسم بالملائكة :

جاء القسم القرآني بخمسة أشياء مهمّة ، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة «المعاد» ، فيقول :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ...).

وقبل البدء بالتّفسير لا بدّ من توضيح معاني بعض الكلمات ..

«النازعات» : من (النوع) ، ونزع الشيء جذبه من مقرّه ، كنزع القوس عن كبده ، ومنه نزع العداوة والمحبّة من القلب (١). وبذلك تشمل الأمور المعنوية أيضا.

(الغرق) : بالفتح (على وزن الشفق) ، هو الرسوب في الماء ، (على قول كثير من أهل اللغة) ، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء.

__________________

(١) مفردات الرغب ، مادة (نزع).

٣٧٣

و «الغرق» : (على وزن الفرق) ، يقول عنه (ابن منظور) في لسان العرب : إنّه اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي ، بمعنى الإغراق ، والإغراق بالنزع هو : أن يباعد السهم ويسحب القوس إلى آخر نقطة ممكنة ، ويضرب مثلا للغو والإفراط.

ومن هنا يتّضح أنّ المعنى المقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء ، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن. (١)

«النّاشطات» : من (النشط) ، هي العقد التي يسهل حلها ، وبئر (إنشاط) : هي القريبة القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة ، ويقال للإبل التي تتحرك من غير أن يحدى لها (النشيطة) .. فيكون المعنى عموما : هو التحرك بسهولة.

«السابحات» : من (السبح) ، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء ولهذا تطلق السابحات على : السباحة في الماء ، الحركة السريعة للخيل ، وأيّة حركة سريعة في عمل ما .. و «التسبيح» : هو تنزيه الله تعالى من كل عيب ونقص ، وأصله : الحركة السريعة في عبادة الله تعالى.

«السابقات» : من (السبق) ، وهو التقدم في السير ، وبما أنّ السبق لا يتمّ إلّا بالحركة الأسرع فهو يتضمّن معنى الشرعة كذلك.

«المدبرات» : من (التدبير) ، وهو التفكير في عاقبة الأمور ، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير :

إنّ القسم بهذه الأمور الخمسة قد لفّته هالة من الإبهام والغموض وتبعث على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنّها لمن تشير ، وأي شيء تقصد؟

وقد عرضت تفاسير مختلفة ، وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع ، إلّا أنّ

__________________

(١) راجع : لسان العرب ، تفسير مجمع البيان ، تفسير الكشّاف ، ومجمع البحرين.

٣٧٤

معظمها تدور حول ثلاثة محاور :

الأوّل : إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفّار والمجرمين ، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق ، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك ، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويسر ، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثمّ الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

وأخيرا ، يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

الثّاني : تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من أفق لتنتقل إلى أفق آخر وبحركة دائبة لا تعرف السكون.

فبعض منها تمشي الهوينا ، والبعض الآخر واسعة الخطوات.

وتراها سابحة في السماء.

وتتسابق فيما بينها.

وأخيرا ، تشترك في تدبير امور الكون ، بما لها من تأثيرات ، (كنور الشمس وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض).

الثّالث : تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل الله ، أو بخيولهم الخارجة من أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن.

و ... تتسابق فيما بينها ... مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير امور الحرب.

وقد جمع بعض المفسّرين هذه الآراء ، فبعضها مقتبس من الأوّل ، والقسم الآخر من الثّاني أو الثالث ، لمعنى خاص ، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك يعود إلى

٣٧٥

التّفاسير الثّلاثة المذكورة (١).

ولا يوجد أيّ تضاد بين كلّ ما ذكر ، ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى كلّ هذه المعاني ... وعموما يبدو أنّ التفسير الأوّل أقرب من غيره ، للأسباب التالية :

أوّلا : تناسبه مع يوم القيامة .. هو ممّا تدور السورة حوله عموما.

ثانيا : نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة في أوّل سورة المرسلات.

ثالثا : ملائمة تفسير : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) للملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمر الله ، والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به ، كما تشير الآية (٢٧) من سورة الأنبياء إلى ذلك : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، وخصوصا أنّ (تدبير الأمر) ورد بصيغة مطلقة من دون أيّ قيد أو شرط.

وعلاوة على كلّ ما تقدم فثمّة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب معها التفسير الأوّل ، ومن جملتها :

ما روي عن علي عليه‌السلام في تفسير (النَّازِعاتِ غَرْقاً) ، إنّه قال : «إنّها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بشدّة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المسد» (٢).

وروي عنه عليه‌السلام في تفسير : «والناشطات» و «السابحات» و «فالمدبرات» ما

__________________

(١) وثمّة رأي يقول : المقصود بهذا القسم ، تلك الحركات الطبيعية والإرادية والصناعية للموجودات ، فمثلا : تتحرك النطفة حركة طبيعية ، فتنفصل من صلب الأب لتستقر في رحم الام ، ثمّ تديم مسيرها بهدوء ، ولتسرع بعد ذلك ، ثمّ تبدأ المواد الحياتية بالتسابق في النطفة حتى يتشكل في النهاية إنسان كامل الهيئة لتقوم بتدبيره ، وكذا الحال بالنسبة للحركات الإرادية حيث يبدأ الإنسان باتخاذ قرار معين وبعده يتحرك بهدوء لتجسيد اولى خطوات التنفيذ ، ثمّ يسرع الخطوات ، ويتسابق مع الآخرين ، ويقوم بكلّ ذلك لتدبير أمره وحياته الاجتماعية والوسائل الصناعية لا تبتعد عن هذا التسلسل ، كما في المراحل التي تطويها الطائرة في مسيرها. (إلّا أنّ هذا التفسير يفتقد الدليل).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٧ ، الحديث ٤.

٣٧٦

يشبه ذلك (١).

ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم ، إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح المؤمنين والكفّار مصداق من مصاديق التّفسير وليس كلّ محتواه ، وعليه فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامّة ، ويتمّ تنفيذ الأمر الإلهي من قبلهم على خمس مراحل : الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور الأمر الإلهي .. الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة .. الإسراع في خطوات التنفيذ ..

فالتسابق .. ومن ثمّ يكون تدبير الأمر.

وعلى أيّة حال ، فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلّي ، ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول «المعاد».

* * *

ملاحظتان

ويبقى ، بعد كلّ ما تقدم ، سؤالان :

الأوّل : ما سبب مجيء «النازعات» و «الناشطات» بصيغة المؤنث؟

الثّاني : كان القسم في الآيات الثلاثة الاولى بـ «الواو» ، وفي الآيتين الرابعة والخامسة استعملت «الفاء» عوضا عن «الواو» .. فهل هي للعطف أم للتفريع؟

الجواب الأوّل : «النازعات» جمع (نازعة) ، وهي الطائفة أو المجموعة من الملائكة التي تعمل على تنفيذ ما أمرت به ، وكذا الحال بالنسبة لـ «الناشطات» وبقية صيغ الجمع الاخرى ... وبما أنّ (الطائفة) مؤنث لفظي ، فقد جاء الجمع بصيغة المؤنث السالم.

الجواب الثّاني : يمكننا القول : أنّ التسابق الحاصل هو نتيجة الحركة السريعة

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٧ ـ ٨ ـ ١٢.

٣٧٧

المقصودة في «السابحات» ، وتدبير الأمور نتيجة لمجموع هذه الحركة.

وآخر ما ينبغي قوله في هذا المجال : إنّ القسم الوارد في الآيات الخمسة الاولى من السورة ، إنّا هو قسم على أمر محذوف (وهو جواب القسم) ، ولكنّ قرينة المقام وما تشير إليه الآيات التالية يبيّن البعث والحشر والقيامة ، وحتمية تحققها ، فيكون التقدير لجواب القسم : (لتبعثن يوم القيامة ولتحشرنّ ولتحاسبن).

* * *

٣٧٨

الآيات

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

التّفسير

صيحة الموت المرعبة!

بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة ، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث ، فتقول : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، أي : يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثمّ : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ).

«الراجفة» : من (الرجف) ، بمعنى الاضطراب والتزلزل ، ولذا يقال للأخبار التي توقع الاضطراب بين أوساط الناس بـ (الأراجيف).

«الرادفة) : من (الردف) ، وهو الشخص أو الشيء الذي يأتي بعد نظيره تتابعا ،

٣٧٩

ولذا يقال لمن يركب خلف آخر ، (رديفه).

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ «الراجفة» : هي الصيحة ونفخة الصور الاولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق ، و «الرادفة» هي الصيحة ونفخة الصور الثّانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اخرى ليعيشوا يوم القيامة (١).

وعليه ، فالآيتان تشيران إلى نفس ما أشارت إليه الآية (٦٨) من سورة الزمر : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

وقيل : «الراجفة» : إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر الأرض ، و «الرّادفة» : إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر السماوات ..

والتّفسير الأوّل كما يبدو أقرب للصواب.

وتأتي الآية الاخرى لتقول : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ).

فقلوب العاصين شديدة الاضطراب خوفا من الحساب والجزاء.

«واجفة» : من (الوجف) ، بمعنى سرعة السير ، و (أوجفت البعير) : حملته على الإسراع ، وتستعمل أيضا للاضطراب الشديد لما يصاحبه من اهتزاز وإسراع.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كلّ المذنبين ، ولذا يقول القرآن : (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٢).

فيبدو الاضطراب والخوف ظاهرا على أعين المذنبين ، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا :

__________________

(١) ينبغي ملاحظة أنّ فعل (رجف) قد يأتي متعديا وقد يأتي لازما ، فعلى الحالة الاولى تكون «الراجفة» بمعنى الزلزلة العظيمة التي تزلزل كلّ الأرض والموجودات ، وعلى الحالة الثّانية تعني الأرض دون غيرها ـ فتأمل.

(٢) يعود ضمير «أبصارها» إلى القلوب ، التي تشير هنا إلى معنى (النفوس والأرواح) ، وترجع الإضافة إلى أنّ مركز تأثيرات حواس الإنسان إنّما من روحه ، وما يظهر من اضطراب وخوف على الأعين هو نتيجة لما يسيطر على الروح من خوف.

٣٨٠