الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

عن ذلك المشهد العظيم : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ).

وثمّة احتمال آخر في معنى «فردا» : هو انفصال الإنسان في ذلك اليوم عن أحبائه ومتعلقيه ، ولا يكون معه يومئذ إلّا ما كسبت يداه.

وتأتي الآية الاخرى لتقول : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً).

فما الأبواب؟ وكيف تفتح؟

يقول البعض : إنّ المقصود بهذه الأبواب هي أبواب عالم الغيب تفتح على عالم الشهود ، وتزول الحجب ويتصل عالم الملائكة بعالم الإنسان (١).

ويرى البعض الآخر أنّها تشير إلى ما ورد في آيات قرآنية اخرى ، من قبيل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (٢) ، و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (٣).

فما سيحصل من أثر ذلك الإنشقاق والإنفطار وكأنّ النجوم والكرات السماوية أبواب تفتحت على مصراعيها.

وثمّة من يذهب إلى أنّها إشارة إلى عدم استطاعة الإنسان في هذه الدنيا من اختراق السماوات والسير فيها ، وإن استطاع فبشكل محدود جدّا وبصعوبة بالغة ، وكأن أبواب السماء موصدة أمامه ، ولكنّ حال يوم القيامة سيتغير تماما ، حيث ترى الإنسان يغوص في أعماق السماء بعد تحرره من ممسكات الأرض ، وكان أبواب السماء قد تفتحت له.

وبعبارة أخرى : إنّ السماوات والأرض ستتلاشى في ذلك اليوم ثمّ تتبدلان إلى سماء وأرض أخريين كما تشير الآية (٤٨) من سورة إبراهيم لذلك : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وعندها. ستفتح أبواب السماء أمام أهل الأرض ، ويفتح الطريق للإنسان ليسلك الصالحون سبيل الجنّة فتفتح أبوابها لهم :

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ذيل الآية المذكورة.

(٢) الإنشقاق ، ١.

(٣) الإنفطار ، ١.

٣٤١

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (١).

وحين يدخلون الجنّة يراد عليهم الملائكة للتهنئة : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢).

وتتفتح أبواب جهنم للكافرين كذلك : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) (٣).

وبذلك يرد الإنسان حينها إلى عرصة واسعة كوسع السماوات والأرض : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٤).

وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً).

بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة ، تبدأ حركتها من : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (٥).

ثمّ تحمل وتدك : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٦).

فتكون تلالا من الرمال المتراكمة : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (٧).

فتصبح كأصواف منفوشة : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٨).

فتتحول غبارا متناثرا في الفضاء : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً

__________________

(١) الزمر ، ٧٣.

(٢) الرعد ، ٢٣.

(٣) الزمر ، ٧١.

(٤) آل عمران ، ١٣٣.

(٥) طور ، ١٠.

(٦) الحاقة ، ١٤.

(٧) المزمل ، ١٤.

(٨) القارعة ، ٥.

٣٤٢

مُنْبَثًّا) (١).

ولا يبقى منها أخيرا إلّا الأثر ، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة ، وكأنّها يلوح في الأفق ، ويصبح سطح الأرض مستويا بعد أن تمحى الجبال من فوقها : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) (٢).

«السراب» : من (السرب) .. هو الذهاب في طريق منحدر ، فعند ما يسير الإنسان بين المنحدرات في الصحراء ، يتراءى له من بعيد تلألؤا يطنّه ماء ، وما هو إلّا انكسار في الأشعة يسمى (السراب) ، ثمّ أطلقت كلمة السراب على كلّ ظاهر خال من المحتوى.

وبهذا تكون الآية قد أشارت إلى بداية حركة الجبال ونهاية أمرها ، فيما تعرضت بقية الآيات (التي ذكرناها) إلى المراحل المختلفة بين البداية والنهاية.

فإذا كانت عاقبة الجبال على ما لها من شموخ وصلابة ستنتهي إلى غبار متناثر في الفضاء وعلى صورة سراب ، فما حال ذلك الإنسان الذي يتصور أنّه جبار شديد البطش عريك القوى ، ولكنّه لا يستطيع أن يتحدى الجبل صلابة! ... إنّه يوم القيامة ...

ولكن .. هل أن هذه الحوادث تتعلق بالنفخة الاولى للصور التي تحكي عن نهاية العالم ، أم هي متعلقة بالنفخة الثّانية والتي تقوم القيامة بها؟!

بلا شك أنّ الآية : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) تشير إلى نفخة الصور الثّانية ، لأنّها تحكي عن إحياء الأموات ومحبتهم في عرصة المحشر أفواجا ، وكذا الحال بالنسبة للحوادث المذكورة فإنّها متعلقة بنفخة الصور الثّانية ، إلّا أنّه من الممكن حمل بداية حركة الجبال على النفخة الاولى ، ونهاية (السراب) ستكون بعد النفخة الثّانية.

__________________

(١) الواقعة ، ٥ و٦.

(٢) طه ، ١٠٥ و١٠٦.

٣٤٣

ويحتمل أيضا : إنّ كلّ ما تمرّ به الجبال من مراحل تتعلق بالنفخة الاولى للصور ، وقد ذكرتا معا لقرب الفاصلة الزمنية ما بين النفختين ، وجريا مع سياق بعض الآيات القرآنية التي تناولت حوادث النفختين معا ، كما جاء ذلك في سورتي التكوير والإنفطار.

ومن جميل التصوير القرآني وصفه للجبال بـ «الأوتاد» والأرض بـ «المهاد» ، وتأتي الآيات لتخبر عن فناء الأرض التي هي مهد الإنسان بعد ما تقتلع الجبال حينما ينفخ في الصور ، ويتناسب هذا التصوير تماما مع معارفنا ، حيث أننا لو أخرجنا أوتاد أي شيء فمعنى ذلك حكمنا على ذلك الشيء بالانهيار.

* * *

٣٤٤

الآيات

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

التّفسير

جهنّم .. المرصاد الرهيب :

بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسما من حوادث يوم القيامة ، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين ، فيقول :

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً).

وهي : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) (١).

__________________

(١) يوجد محذوف في الآية ، والتقدير : (كانت للطاغين مآبا).

٣٤٥

وأنّهم : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً).

«المرصاد» : اسم مكان يختفي فيه للمراقبة ، ويقول الراغب في مفرداته : «المرصد» موضع الرصد ، والمرصاد نحوه ، لكن يقال للمكان الذي أختص بالترصد.

وقيل : إنّه صيغة مبالغة ، ويطلق على الذي يكمن كثرا للرصد ، مثل «المعمار» الذي يكثر من البناء والعمران.

والمعنى الأوّل أشهر وأنسب ، ولكن .. من سيقوم بعملية الرصد في جهنّم؟

قيل : هم وملائكة العذاب بدلالة الآية (٧١) من سورة مريم التي تحكي عن مرور جميع الناس صالحهم وطالحهم من جانب جهنّم أو من فوقها : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) وخلال ذلك المشهد تقوم ملائكة العذاب برصد أهل النّار والتقاتهم من بين الخلق!

وأمّا لو قلنا في تفسير الآية بأنّها (صيغة المبالغة) فسيكون جهنّم هي المرصاد للطاغين ، وتقوم بعملية جذب أهل النّار إليها حال مرور الخلق واقترابهم منها. وعلى أية حال ، فلا يستطيع أيّ من الطاغين من تخطي ذلك المعبر المحتوم ، فإمّا أن تخطفه ملائكة العذاب أو تجذبه جهنّم.

«المآب» : هو محل الرجوع ، ويأتي أحيانا بمعنى المنزل والمقر ، وهو المقصود في هذه الآية.

و «الأحقاب» : جمع (حقب) على وزن (قفل) ، بمعنى برهة زمانية غير معينة ، وقد قدرها بعض بثمانين عاما ، وقيل سبعين ، وقيل : أربعين عاما.

وعلى أيّ من التقادير ، فثمّة مدّة معينة للبقاء في جهنّم ، وهو ما يتعارض مع ما جاء في آيات أخر والتي تصرح بخلود أهل النّار في جهنّم ، ولذلك سعى المفسّرون لإيجاد ما يوضح هذا الموضوع.

المعروف بين المفسّرين : إنّ المقصود بـ «الأحقاب» في الآية هو تلك

٣٤٦

الفترات الزمانية الطويلة التي تتعاقب فيما بينها ، المتسلسلة بلا نهاية ، فكلما تنتهي فترة تحل محلها اخرى ، وهكذا.

وقد جاء في إحدى الرّوايات ... إنّ الآية جاءت في المذنبين من أهل الجنّة ، الذين يقضون فترة في جهنّم يتطهّرون فيها ثمّ يدخلون الجنّة ، وليست واردة في الكافرين المخلدين في النّار (١).

وتشير الآيات ـ بعد ذلك ـ إلى جانب صغير من عذاب جهنّم الأليم ، بالقول : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً).

(إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) ، إلّا ظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (٤٣) من سورة الواقعة : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ).

«الحميم» : هو الماء الحار جدّا ، و «الغسّاق» : هو ما يقطر من جلود أهل النّار من الصديد والقيح ، وفسّرها بعضهم بالسوائل ذات الروائح الكريهة.

في حين أنّ أهل الجنّة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة ، كما جاء في الآية (٢١) من سورة الدهر : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) ، حتى الأواني التي يشربون بها وعلى ما لها من الرونق فهي مختومة بالمسك ، كما أشارت لذلك الآية (٢٦) من سورة المطففين : (خِتامُهُ مِسْكٌ) .. فانظر لعقبى الدارين!

ولكن ، لم هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية : إنّما هو : (جَزاءً وِفاقاً) (٢).

ولم لا يكون كذلك .. وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين ، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى ، فجزاهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.

وكما قلنا مرارا ، إنّ الآيات القرآنية حينما تشير إلى عقوبات يوم القيامة ، إنّما تطرحها كجزاء لما اقترفت أيدي الناس بظلمهم ، كما نقرأ في الآية (٧) من سورة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٤ ، ح ٢٣ و٢٦.

(٢) «جزاء» : مفعول مطلق لفعل محذوف تظهره قرينة الكلام ، «وفاقا» : صفة الجزاء ، والتقدير : يجازيهم جزاء ذا وفاق!

٣٤٧

التحريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (حين تجسمت أعمالكم وحضرت أمامكم).

ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً).

وبعبارة اخرى : إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان ، فيكون الطغيان سببا لذلك الجزاء الأليم.

«لا يرجون» : من «الرجاء» ويأتي بمعنى «الأمل» وكذلك بمعنى «عدم الخوف» ، ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف في حال الأمل والانتظار ، وإلّا لم يخف .. فبين الأمرين تلازم ، ولهذا فالذين ليس لديهم أمل ورجاء لا يحسون بخوف أيضا.

«إنّ» في «إنّهم» : للتأكيد. و «كانوا» : للماضي المستمر. و «حسابا» : نكرة جاءت بعد نفي لتعطي معنى العموم .. وكل هذا البيان جاء ليبيّن أنّهم ما كانوا ينتظرون حسابا مطلقا ، وما كانوا يشعرون لا خوف من ذلك! وبعبارة اخرى : إنّهم تناسوا حسابا يوم القيامة بالكلية : ولم يفرزوا له مكانا في كلّ حياتهم! ولا جرم أنّ عاقبة أمرهم سيؤول إلى العذاب الأليم لما اقترفوه من جرائم عظمى وكبائر الذنوب.

ومباشرة يضيف القرآن القول : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) (١).

فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات الله تكذيبا شديدا ، وأنكروها إنكارا قاطعا ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم الغاربة.

وبما أنّ معنى «آياتنا» من الوسع بحيث يشمل كلّ آيات التوحيد والنبوّة والتكوين والتشريع ومعجزات الأنبياء والأحكام السنن ، فعملية تكذيب كلّ هذه

__________________

(١) «كذّابا» ـ بكسر الكاف ـ إحدى صيغ المصدر من باب التفعيل ، بمعنى التكذيب ، وقال بعض أهل اللغة : إنّه مصدر ثلاثي مجرّد معادل لكذب .. وعلى أية حال ، فهو : مفعول مطلق لكذبوا ، وجاء للتأكيد.

٣٤٨

الأدلة الإلهية في عالم التكوين والتشريع ، إنّما تستحق أشدّ العقوبات المخبر عنها في القرآن الكريم.

ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي ، فيقول : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) (١).

فلا تظنوا أنّ شيئا من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب ، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.

فما أكثر الآيات القرآنية التي تحكي عن حقيقة ضبط إحصاء كلّ ما يبدر من الإنسان ، سواء كان من الأعمال الصغيرة أم الكبيرة ، سرية أم علنية ، بل ويخضع لذلك حتى عقائد ونيّات المرء.

وفي هذا المجال ، يقول القرآن : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٢) .. وفي موضع آخر يقول : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٣) ..

وفي مكان آخر يقول : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٤).

ولذلك يصرخ المجرمون بالقول : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٥) ، حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كلّ ما فعلوه في الحياة الدنيا.

وممّا لا شك فيه ، أنّ إدراك حقيقة الآيات الرّبانية بكامل القلب ، سوف يدفع الإنسان لأنّ يكون دقيقا في جميع أعماله ، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب ، ومن العوامل المهمّة والمؤثرة في العملية التربوية.

__________________

(١) «كلّ» : مفعول به لفعل مستتر يدل عليه الفعل «أحصيناه». و «كتابا» : مفعول مطلق لأحصينا ، لأنّه بمعنى كتبنا ، واعتبره البعض : حالا.

(٢) القمر ، ٥٢ و٥٣.

(٣) يونس ، ٢١.

(٤) سورة يس ، ١٢.

(٥) الكهف ، ٤٩.

٣٤٩

ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة ، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر : ويهدد القرآن بنبرات غاضبة أولئك المجرمين ، ويقول : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).

فصرخاتكم بـ «يا وليتنا» وطلبكم العودة إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدتم ، لن ينفعكم ، وكل ما ستنالونه هو الزيادة في العذاب ولا من مغيث.

وهذا هو جزاء أولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى الله والإيمان والتقوى ، بقولهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) (١).

وهذا هو جزاء الذين ينفرون من سماع واستماع ما تتلى عليهم من آيات الله ، كما قال تعالى : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٢).

وأخيرا .. فالعذاب الأليم جزاء كلّ من لا يتورع عن اقتراف الذنوب ، ولا يسعى صوب الأعمال الصالحة.

حتى روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النّار» (٣).

كيف لا .. وهي التي تحمل بين ثناياها الغضب الإلهي ، وتسدّ كلّ أبواب الأمل للخلاص من جهنّم ، ولا تعد أهل النّار إلّا زيادة في العذاب.

* * *

__________________

(١) الشعراء ، ١٣٦.

(٢) الإسراء ، ٤١.

(٣) تفسير الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٦٩٠ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٠٧ ؛ وتفسير الصافي في ذيل الآية المذكورة.

٣٥٠

الآيات

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))

التّفسير

ممّا وعد الله المتقين :

كان الحديث في الآيات السابقة منصبا حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته ، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل بعض ما وعد الله المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل ، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كلّ من الفريقين ، على ضو تفكيره بمصيره الأبدي.

وكذا هو الحال في الاسولب القرآني ، كما في بقية السور الاخرى ، فهو يضع متضادات الحالات والأحوال في طبق واحد ، ليتمكن الإنسان بسهولة من اكتشاف خصائص وشؤون أيّا منها.

فيقول ، مبتدء الحديث : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً).

٣٥١

«المفاز» : اسم مكان ، أو مصدر ميمي من (الفوز) بمعنى الوصول إلى الخير بسلام ، ويأتي بمعنى النجاة أيضا وهو من لوازم المعنى الأوّل.

وقد جاءت «مفازا» بصيغة النكرة للإشارة إلى الفتح العظيم والوصول إلى خير وسعادة لا يعلم قدرهما إلّا الله عزوجل.

ومن مفردات الفوز والسعادة : (حَدائِقَ وَأَعْناباً) (١).

«الحدائق» : جمع «حديقة» ، وهي قطعة أرض مزروعة بالورود والأشجار ومحاطة بسور لحفظها ، ويقول الراغب في مفرداته «الحديقة» قطعة من الأرض ذات ماء ، سمّيت تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها.

أمّا ذكر «العنب» دون بقية الفواكه فلما له من مزايا تفضله على بقية الفواكه ، ويقول علماء التغذية في هذا المجال : إضافة لكون العنب غذاء كاملا من حيث الخاصية الغذائية الموجودة فيه والتي تشبه حليب الام في كونه ثري بالمواد الغذائية اللازمة للإنسان ، إضافة لكل هذا ، فهو يعطي للبدن ضعف ما يعطيه اللحم من سعرات حرارية ، حتى وصف بصيدلية متكاملة لما يحويه من مواد مفيدة.

ومن خواص وفوائد العنب ، أنّه : مقاوم للسموم ، مفيد لتصفية الدم ، يقي من الروماتيزم والنقرس ، مضاد فعّال ضد زيادة السموم الحاصلة في الدم ، مقو للأعصاب ومنشط ويعطي للإنسان القوّة والقدرة الكافية لما فيه من كميات مناسبة لأنواع (الفيتامينات).

وقد روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خصوص العنب أنّه قال : «خير فواكهكم العنب».

ويتطرق القرآن إلى نعمة اخرى ممّا وعد الله به المتقين في الجنّة ، فيقول : (وَكَواعِبَ أَتْراباً).

__________________

(١) «الحدائق» : بدل «مفازة» ، أو عطف بيان لها.

٣٥٢

«الكواعب» : جمع «كاعب» ، وهي البنت حديثة الثدي ، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنّة.

«الأتراب» : جمع «ترب» ، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في العمر ، واستعماله في الإناث أكثر ، قيل : إنّها من «الترائب» وهي : أضلاع الصدر ، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.

ويحتمل أن يكون المراد من «أتراب» التساوي بين نساء أهل الجنّة في العمر ، فيكون شابات متساويات في القد والقامة والجمال ، أو تساوي العمر بينهن وبين أزواجهن من المؤمنين ، لأنّ للتساوي في العمر له أثره النفسي على إدراك مشاعر الطرف الآخر. إلّا أن المعنى الأوّل أكثر تناسبا.

وتأتي النعمة الرابعة : (وَكَأْساً دِهاقاً).

شراب ليس كأي شراب ، فلا يهب بالعقول ولا يحدر الإنسان إلى دركات الحيوانية ، بل هو مذك للعقل ، منشط للروح ومنعش للقلب.

«الكأس» : هو القدح المملوء بالشراب ، وقد يطلق على القدح دون الشراب أو على شراب القدح.

«دهاقا» : بمعنى الامتلاء ، عند أكثر المفسّرين وأهل اللغة ، لكنّ (ابن منظور) قد ذكر معنيين آخرين هما : التتابع على شاربيها ، صافية.

وعليه .. فيمكن حمل معنى الآية ، على ضوء ما ذكر من معان ، على أنّ لأهل الجنّة أقداح مملوءة بشراب زلال طاهر.

ودفعا لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني ، يقول القرآن : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً).

إنّ شراب الدنيا .. يذهب العقل ، يفقد الإحساس ، يوقع شاربه بالهذيان واللغو .. وأمّا شراب الآخرة فنفحاته الطاهرة تضفي على العقل والروح نورا وصفاء.

٣٥٣

وثمّة احتمالات بخصوص ضمير «فيها».

الأوّل : إنّه يعود إلى الجنّة.

الثّاني : إنّه يعود إلى الكأس.

فعلى الاحتمال الأوّل ، يكون معنى الآية إنّ أهل الجنّة لا يسمعون فيها لغوا ، كما جاء في الآيتين (١٠ و١١) من سورة الغاشية : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً).

وعلى الاحتمال الثّاني ، يكون معنى الآية : إنّه سوف لا يصدر اللغو والهذيان والكذب من أهل الجنّة بعد شرابهم ما في كأس الجنّة من شراب ، كما جاء في الآية (٢٣) من سورة الطور : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ).

وعلى أيّة حال ، فالجنّة خالية من : الأكاذيب ، الهذيان ، التهم ، الافتراءات ، تبرير الباطل ، بل وكلّ ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا .. إنّها الجنّة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (٦٢) من سورة مريم : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً).

وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كلّ النعم علوّا : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً). (١)

وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل ، من أن أكون وأنا العبد الضعيف ، موضع ألطاف وإكرام الله جلّ وعلا ، فيطعمني ويكسوني ويغرف عليّ بنعمه التي لا تحصى عددا ولا تضاهى حبّا وكرما ، وفطوبى للمؤمنين في دار الخلد وهم منعمون بكل ما لذّ وطاب.

والتعبير بكلمة «ربّ» مع ضمير المخاطب ، وكلمة «عطاء» ، لتبيان ما أودع من لطف خاص في النعم التي وعد بها أهل التقوى.

__________________

(١) «جزاء» : حال لإعطاء النعم التي ذكرت في الآيات السابقة ، فيكون التقدير : أعطاهم جميع ذلك جزاء من ربّك ، واحتمل البعض : إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف ، واعتبره آخرون : إنّه مفعول لأجله ، لكنّ التّفسير الأوّل أقرب.

٣٥٤

«حسابا» : يعتقد الكثير من المفسّرين إن معناها هنا (كافيا) : من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي (١).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عزوجل : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً)» (٢).

ونستفيد من الرواية المذكورة أنّ نعم الله في الآخرة وإن كانت بصفة الفضل.

واللطف والزيادة ، إلّا أن مقدمتها الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في حياته الدنيا ، وعليه .. فيمكن تفسير «حسابا» في الآية بمعنى (الحساب) ، ولا مانع من إرادة كلا المعنيين ـ فتأمل.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة ، يضيف : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ).

نعم : إنّه مالك العالم ، ومدبّر ما فيه ، وموجه كلّ حركاته وسكناته ، إنّه الرحمن الذي شملت رحمته كلّ شيء ، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.

وبما أنّ صفة «الرحمن» تشمل رحمة الله العامّة لكلّ خلقه ، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ الله تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا ، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنّة.

وذيل الآية ، يقول : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً).

ويمكن شمول «لا يملكون» جميع أهل السماوات والأرض ، أو جميع المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.

وعلى أيّ القولين .. فالآية تشير إلى عدم القدرة على الاعتراض أو الردّ من قبل كلّ المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي ، لأنّ حسابه جلّ اسمه من الدقّة

__________________

(١) تفسير البيضاوي في ذيل الآية المبحوثة.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٩٥ ، ح ٢٩.

٣٥٥

والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.

بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأيّ كان إلّا بإذن خاص منه جلّت عظمته ، وهو ما تشير إليه الآية (٢٥٥) من سورة البقرة : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

* * *

بحثان

١ ـ ثواب المتقين وعقاب العاصين

يلاحظ ثمّة مقايسة بين الآيات المبحوثة وما سبقها من آيات .. فقد تحدثت الآيات السابقة عن نوعين من الجزاء لكلّ من المجرمين والمؤمنين ، فالآيات محل البحث تحدثت عن بعض ما للمؤمنين من ثواب ونعيم ، وفيما تقدمها من آيات تحدثت عن بعض ما للمجرمين من عقوبات.

فهنا تحدثت عن «المفاز» وهناك عن «المرصاد» ...

وهنا تحدثت عن «حدائق وأعنابا» وهناك عن التخبط بالعذاب إلى مدّة لا متناهية «أحقابا» ...

وهنا كان الحديث عن «الشراب الطهور» وهناك عن الماء الحارق «حميما وغساقا» ...

وهنا تحدثت الآيات عن عطايا ومواهب «الرحمان» ، وهناك عن الجزاء العادل «جزاء وفاقا» ...

وهنا الحديث عن زيارة «النعمة» وهناك زيادة «العذاب» ...

والخلاصة : إنّ هذين الفريقين يقعان في قطبين متنافرين من كلّ الجهات نتيجة لما كانا يعيشانه في الحياة الدنيا من تنافر وتباعد من حيث الإيمان والعمل.

٣٥٦

٢ ـ أشربة الجنّة!

أوردت الآيات الشريفة أوصافا متنوعة لأشربة الجنّة ، ويظهر أنّ لشاربيها من اللذّة الروحية المعنوية ما لا يمكن وصفه أو خطّه بقلم.

فالآية (٢١) من سورة الدهر ، تصفه بالطهور : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

والآيات (٤٥ ـ ٤٧) من سورة الصافات ، تصفه بالزلال واللذّة والصفاء ، وأنّه لا يؤدي لأذى ولا يذهب بالعقول : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ).

والآية (٥) من سورة الدهر ، تصفه بأنّه مخلوط بمادة باردة ملطفة (الكافور) : (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً).

والآية (١٧) من سورة الدهر ، تقول عنه بأنّه مخلوط بالزنجبيل : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً).

وجاء في الآيات المبحوثة : (وَكَأْساً دِهاقاً) أي : زلالا صافيا.

وفوق كلّ هذا وذاك ، فمن هو الساقي ... إنّه الله تعالى!! يسقيهم بيد قدرته وعلى بساط رحمته ، تقول الآية (٢١) من سورة الدهر : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) ...

اللهمّ! اشملنا بعفوك ، واسقنا من فيض شربك يا أرحم الراحمين ...

* * *

٣٥٧

الآيات

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

التّفسير

الندم الشديد :

رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت ، وبعض المواهب والنعم والمتعلقة بالصالحين في يوم القيامة ، وتتناول الآيات أعلاه بعض الصفات وحوادث يوم القيامة ، وتشرع بالقول بـ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (١).

وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّا يوم القيامة ، وعدم تكلمهم إلّا بإذنه سبحانه ، إنّما هو مثالا للأوامر الإلهية وطاعة ، كما هو حالهم قبل قيام القيامة ، فهم

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلق بفعل «لا يملكون» ـ حسب اعتقاد كثير من المفسّرين ـ وثمّة احتمال آخر : إنّه متعلق بكل ما جاء في الآيات السابقة ، فيكون التقدير : (كل ذلك يكون يوم يقوم الروح).

٣٥٨

بأمره يعملون ولكنّ في يوم القيامة سيتجلّى امتثالهم لله أكثر وبشكل أوضح.

أمّا عن المقصود بكلمة «الروح» فقد بسط المفسّرون في كتبهم تفاسير كثيرة ، حتى وصل معناها في بعض التفسير إلى ثمانية احتمالات (١) .. وإليك أهم ما قيل فيه :

١ ـ هو مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها.

٢ ـ هو أمين الوحي الإلهية جبرائيل أشرف الملائكة.

٣ ـ هو أرواح أناس يقومون مع الملائكة.

٤ ـ هو ملك عظيم الشأن ، وأشرف من جميع الملائكة قاطبة (حتى جبرائيل) : وهو الذي يصاحب الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام على الدوام.

وقد جاءت كلمة «الروح» في القرآن الكريم بصور شتى .. فتارة تأتي مجرّدة عن أيّة قرينة ، وغالبا ما تأتي في قبال الملائكة ، كقوله تعالى : في الآية (٤) من سورة المعارج : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، وفي الآية (٤) من سورة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ).

ونلاحظ أنّ ذكر كلمة «الروح» في الآيتين أعلاه قد جاء بعد ذكر «الملائكة» ، في حين جاء ذكرها في الآيات المبحوثة قبل «الملائكة» ... ويمكن حمل هذا التغاير على باب ذكر العام بعد الخاص ، أو ذكر الخاص قبل العام.

وذكرت كذلك كلمة «الروح» مع الإضافة ، أو صيغة الوصف المقارن كـ «روح القدس» كما جاء في الآية (١٠٢) من سورة النحل : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) ، وك «الروح الأمين» كما جاء في الآية (١٩٣) من سورة الشعراء (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).

وقد أضاف سبحانه وتعالى صفة «الروح» إلى ذاته المقدسة ، كما في الآية

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ذيل الآية المبحوثة.

٣٥٩

(٢٩) من سورة الحجر : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، والآية (١٧) من سورة مريم : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا).

وكما هو ظاهر أنّ لكلمة «الروح» في القرآن معان متفاوتة ، وقد تطرقنا لمعانيها حسب ورودها في الآيات.

وأقرب ما يمكن التعويل عليه من معاني «الروح» في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة الله العظام ، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل» (١).

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم : «الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل وكان مع رسول الله وهو مع الأئمّة» (٢).

وجاء في تفاسير أهل السنة ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل ، ثمّ قرأ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) ، قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند» (٣).

(وقد بحثنا موضوع روح الإنسان وتجرّدها واستقلالها بشكل مفصل في ذيل الآية (٨٥) من سورة الإسراء ـ فراجع).

وعلى أيّة حال ، فسواء كان «الروح» من الملائكة أو من غيرهم ، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّا بانتظار أوامر الخالق سبحانه ، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه ، والذين سيتكلمون أو يشفعون لا يقومون بذلك إلّا بعد إذنه جلّ شأنه ، وما واقع الكلام إلّا حمد الله وثناؤه أو التشفع لمن هم أهلا للشفاعة.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٧.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٤٠٢.

(٣) تفسير الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٠٩.

٣٦٠