الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

الآيات

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨))

التّفسير

أوصاف المؤمنين :

بعد ذكر أوصاف الصالحين وجوانب من أنواع العذاب في يوم القيامة ، يأتي هنا وصف المؤمنين للتعرف عن سبب انقسام النّاس إلى صنفين ، وهنا : المعذبون والناجون ، يقول أوّلا : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً).

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً).

يراد بـ «الهلوع» كما يقول المفسّرون وأصحاب اللغة «الحريص» ، وآخرون

٢١

فسّروه بالجزع ، وبناء على التّفسير الأوّل فإنّه يشار إلى ثلاثة أمور رذيلة يتصف بها هؤلاء وهي : الحرص ، والجزع ، والبخل ، وللتّفسير الثّاني صفتان هما : الجزع ، والبخل ، لأنّ الثّانية والثّالثة هي تفسير لمعنى الهلوع.

وهنا احتمال آخر وهو أنّ المعنيين يجتمعان في هذه الكلمة ، لأنّ هاتين الصفتين متلازمتان مع بعضهما ، فالناس الحريصون غالبا ما يكونون بخلاء ، ويجزعون عند الشدائد ، بالعكس أيضا صحيح.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو كيف أنّ الله خلق الإنسان للسعادة والكمال وجعل فيه الشرّ والسوء؟

وهل يمكن أن يخلق الله شيئا ذا متصفا بصفة ، ثمّ وبعد يذم خلقه؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ القرآن الكريم يصرّح في سورة التين الآية (٤) : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

بالتأكيد ليس من أن ظاهر الإنسان حسن وباطنه سيء ، بل إنّ الخلقة الكلية للإنسان هي في صورة «أحسن تقويم». وهناك كذلك آيات أخرى تمدح المقام الرفيع للإنسان ، فكيف تتفق هذه الآيات مع الآية التي نحن بصددها؟

أجوبة هذه الأسئلة تتّضح بالالتفات إلى نقطة واحدة ، وهي أنّ الله خلق القوى والغرائز والصفات في الإنسان كوسائل لتكامل الإنسان وبلوغ سعادته ، لكن عند ما يستخدمها الإنسان في الطريق المنحرف ويسيء تدبيرها والاستفادة منها فستكون العاقبة هي التعاسة والشرّ والفساد ، فمثلا الحرص هو الذي لا يتيح فرصة الإنسان للتوقف عن السعي والحركة والاكتفاء بما لديه من نعمة وهو العطش المحرق الذي يسيطر على الإنسان ، فلو أنّ هذه الصفة وقعت في الطريق العلم لوجدنا الإنسان حريصا على التعلم ، أو بعبارة أخرى يتعطش العلم ويعشقه ، وبذلك سوف يكون سببا لكماله ، وأمّا إذا أخذت مسيرها في الماديات فإنّها ستكون سببا للتعاسة والبخل ، وبتعبير آخر : إنّ هذا الصفة فرع من فروع حبّ

٢٢

الذات ، وحبّ الذات غريزة توصل الإنسان إلى الكمال ، ولكن إذا انحرف في مسيرة فإنّه سوف يجرّه إلى الحسد والبخل وإلى غير ذلك.

وفي هذا الشأن هناك مواهب أخرى أيضا بهذا الشكل : إنّ الله أودع قدرة عظيمة في قلب الذرة ، من المؤكد أنّها نافعة ومفيدة ، ولكن إذا ما اسيء استخدام هذه القدرة وصنع من ذلك القنابل الفتاكة ولم يستخدم في توليد الطاقة الكهربائية والوسائل الصناعية والسلية الأخرى ، فسيكون مدعاة للشرّ والفساد ، وبالتعمق فيما ذكرنا يمكن أن الجمع في ما ورد في الإنسان وذلك من خلال الآيات القرآنية المبيّنة لحالات الإنسان (١).

ثمّ تذكر الآيات الكريمة صفات الأشخاص الجيدين على شكل استثناء ، وتبيّن لهم تسع صفات ايجابية بارزة ، فيقول تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ).

هذا هي الخصوصية الأولى لهم وأنّهم مرتبطين بالله بشكل دائم ، وهذه الرابطة تتوثق بالصلاة ، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصلاة التي تربي روح الإنسان وتذكره دائما بالله تعالى ، والسير بهذا الاتجاه سوف يمنعه من الغفلة والغرور ، والغرق في بحر الشهوات ، والوقوع في قبضة الشيطان وهوى النفس.

ومن الطبيعي أنّ المراد من الإدامة على الصلاة ليس أن يكون دائما في حال الصلاة ، بل هو المحافظة على أوقات الصلاة المعينة.

من المعروف أنّ كل عمل جيد يقوم به الإنسان إنّما يترك فيه أثرا صالحا فيما لو كان مستديما ، ولهذا نقرأ في الحديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ أحبّ الأعمال إلى الله ما دام وإنّ قلّ» (٢).

__________________

(١) هناك توضيح آخر أوردناه تحت عنوان «الإنسان في القرآن الكريم» في ذيل الآية (١٣) لسورة يونس من هذا التّفسير.

(٢) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ، ج ٢ ، ص ١٦٠.

٢٣

ونلاحظ في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه» (١).

وورد في حديث عنه عليه‌السلام أنّه قال : «هذه الآية تعني النافلة ، آية (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (والتي تأتي فيما بعد) تعني صلاة الفريضة». وتجوز هذه المراعاة هنا ، إذ أنّ التعبير بالمحافظة هو ما يناسب الصلاة الواجبة والتي يجب المحافظة على أوقاتها المعينة ، وأمّا التعبير بالمداومة فهو ما يناسب الصلاة المستحبة وذلك بأنّ الإنسان يمكنه الإتيان بها أحيانا وتركها أحيانا أخرى.

على كل حال بعد توضيح أهميّة الصلاة وأنّها من أهم الأعمال ومن أهم أوصاف المؤمنين تنتقل الآيات إلى ذكر الصفة الثّانية فيضيف تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

وبهذا سوف يحافظون على ارتباطهم بالخالق من جهة ، وعلاقتهم بخلق الله من جهة اخرى.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ المراد هنا من «حقّ المعلوم» هو الزّكاة المفروضة التي فيها المقدار المعين ، وموارد صرف ذلك المقدار هو السائل والمحروم ، ولكن هذه السورة مكّية وحكم الزّكاة لم يكن قد نزل في مكّة ، ولو فرض نزوله لم يكن هناك تعيّن للمقدار ، ولذا يعتقد البعض أنّ المراد من حقّ المعلوم هو شيء غير الزّكاة والذي يجب على الإنسان منحه للمحتاجين ، والشّاهد على هذا ما نقل عن الإمام الصّادق عليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير هذه الآية وهل هذا شيء غير الزّكاة فقال عليه‌السلام : «هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال ، فيخرج منه الألف والألفين والثلاثة وآلاف والأقل والأكثر ، فيصل به رحمه ، ويحمل به الكلّ عن قومه» (٢).

والفرق بين «السائل» و «المحروم» هو أنّ السائل يفصح عن حاجته ويسأل ،

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٧ ، حديث ٢٥ ـ ٢٧.

٢٤

والمحروم هو الذي لا يسأل لتعففه وحيائه ، وجاء في حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام : «المحروم من يجد المشقّة في كسبه وعمله وهو محارف» (١).

هذا الحديث هو أيضا يوافق ذلك التّفسير المذكور سلفا ، لأن مثل هؤلاء يكونون متعففين.

في جاء في تفسيرنا هذا في ذيل الآية (١٩) من سورة الذرايات بحث حول الحقّ المذكور وتفسير السائل والمحروم.

على كلّ ، فإنّ هذا العمل له أثره الاجتماعي في مجاهدة الفقر والحرمان من جهة ، ومن جهة أخرى يترك آثارا خلقية جيدة على الذين يؤدّون ذلك العمل ، وينتزع ما في قلوبهم وأرواحهم من أدران الحرص والبخل وحبّ الدنيا.

الآية الأخرى أشارت الى الخصوصية الثّالثة لهم فيضيف : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)

والخصوصية الرّابعة هي : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).

(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ).

إنّهم يؤمنون من جهة بيوم الدين ، ومع الالتفات الى كلمة «يصدقون» وهو فعل مضارع يدل على الاستمرارية ، فهذا يعني إنّهم باستمرار يدركون أنّ في الأمر حسابا وجزاء ، بعض المفسّرين فسّر ذلك المعنى «بالتصديق العملي» أي الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، ولكن الآية ظاهرها الإطلاق ، أي أنّها تشمل التصديق العلمي والعملي.

ولكن من الممكن أن هناك من يؤمن بيوم الدين ويرى نفسه ممن لا يعاقب ، لذا تقول : (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) يعني أنّهم يدركون أهمية الأمر ، فلا يستكثرون حسناتهم ولا يستصغرون سيئاتهم ، ولهذا ورد في الحديث

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٥

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو ينصح ولده : «بني خف الله أنّك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك ، وأرج الله رجاء أنّك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك» (١).

وحتى أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «لن يدخل الجنّة أحدا عمله».

قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟

قال : «ولا أنا ، إلّا أن يتغمدني الله برحمته».

* * *

__________________

(١) جامع الأخبار ص ١١٣

٢٦

الآيات

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

التّفسير

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة :

في الآيات السابقة ذكرت أربعة أوصاف من الأوصاف الخاصّة بالمؤمنين الصادقين من أهل الجنان ، وفي هذه الآيات ذكر لخمسة من الأوصاف الأخرى فيكون المجموع تسعة أوصاف.

في الوصف الأوّل يقول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ (١) حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

__________________

(١) «فروج» جمع «فرج» وهو كناية عن الآلة التناسلية.

٢٧

لا شك في أنّ الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية ، والكثير من الجرائم الكبيرة سببها هي هذه الغريزة ، ولذا كانت السيطرة على هذه الغريزة وحفظ حدودها من العلامات المهمّة للتقوى ، وبهذا ذكرت أهمية السيطرة على هذه الغريزة بعد تبيان أهمية الصلاة وإعانة المحتاجين والإيمان بيوم القيامة والإشفاق من عذاب الله.

وقد جاء في الذيل الآية استثناء يدلّ على أنّ منطق الإسلام يرفض أن يقف الإنسان موقفا سلبيا تماما من هذه الغريزة ويكون كالرهبان والقسيسين يسير بخلاف قانون الخلقة ، وهذا العمل غالبا ما يكون محالا وعلى فرض إمكانه فهو أمر غير منطقي ، ولهذا نجد الرهبان من لم يستطيعوا أيضا حذف هذه الغريزة من حياتهم ، وإذا لم يكونوا قد تزوجوا بالطريقة الرسمية فإنّ الكثير منهم ينصرف إلى ارتكاب الفحشاء عند الاختلاء.

الفضائح الناتجة من هذا المسلك ليست قليلة ، فقد كشف المؤرخون المسيحيون مثل (ول دورانت) وغيره النقاب عن ذلك.

المراد ب ـ «الأزواج» الزوجات الدائمة والمؤقتة فإنّه يشمل الإثنين ، وقد ظنّ البعض أنّ هذه الآية تنهى عن الزواج المؤقت وللم يعلموا أنّ ذلك هو نوع من الزواج.

وفي الآية الأخرى يؤكّد بشكل أكثر على نفس الموضوع فيضيف : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)

وبهذه الطريقة فإنّ الإسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية ، ولا يؤدّي به إلى الغرق بالفحشاء والفساد الجنسي والمضارّ الناتجة منه ، وبالطبع أنّ للجواري في نظر الإسلام كثيرا من شرائط الزوجة والضوابط القانونية للزوج وإن كان الموضوع منتف أساسا في زماننا الحاضر.

عندئذ يشير إلى الصفات السادسة والسابعة ، فيقول : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ

٢٨

وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)

من الطبيعي أنّ لأمانة معنى واسع وليست هي الأمانات المادية المتنوعة للناس فحسب ، بل أنّها تشمل الأمانات الإلهية وأمانات الأنبياء وكلّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

إنّ كلّ نعمة من النعم الإلهية هي من أماناته تعالى ، منها المقامات الاجتماعية وبالخصوص المسؤولون في الدولة فإنّها تعتبر من أهم الأمانات ، ولهذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر والإمام الصّادق عليهما‌السلام في تفسير الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، بأنّ المراد من الأمانات هنا «الولاية والحاكمية» (١) ، وقرأنا كذلك في سورة الأحزاب (٧٢) ، إنّ التكليف والمسؤولية تعني الأمانة الإلهية الكبيرة. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والأهم من ذلك كله هو الدين والشريعة الإلهية وكتاب الله ، وهو من الأمانات الكبيرة التي يجب الحفاظ عليها بالسعي.

«العهد» : وله مفهوم واسع أيضا ، يشمل العهود الإنسانية وكذلك العهود الإلهية ، لأنّ العهد هو كل ما التزم به الإنسان لغيره ، وممّا لا شك فيه أنّ الإيمان بالله وبرسوله يعني الالتزام بما كلّف به.

الإسلام أعطى أهمية بالغة لحفظ الأمانات والعهود والالتزام بها ، وقد عرف ذلك بأنّه أهمّ علامات الإيمان.

ولمزيد من الاطلاع راجع تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٥٨) من سورة النساء.

ويضيف في الوصف الثامن : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) لأنّ القيام بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري.

وقد يرفض بعض الناس أداء الشهادة بحجّة إننا لماذا نشتري عداوة هذا

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٨٠.

٢٩

وذاك ، ونسبب المتاعب لأنفسنا بأداء الشهادة ، هؤلاء أشخاص لا يبالون بالحقوق الإنسانية ويفقدون الروح الاجتماعية ، ولا يؤمنون بتطبيق العدالة ، ولهذا نرى القرآن الكريم في كثير من آياته يدعو المسلمين إلى أداء الشهادة ويعدّ كتمانها ذنبا (١).

وفي الوصف الأخير ، وهو الوصف التاسع من هذه المجموعة ، يعود مرّة أخرى إلى موضوع الصلاة ، كما كان البدء بالصلاة ، يقول تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

وكما أشرنا سابقا أنّ الصلاة هنا بملاحظة القرائن تشير إلى الفريضة ، وفي الآية السابقة تشير إلى النافلة.

ومن الطبيعي أن الوصف الأوّل كان إشارة إلى المداومة ، ولكن الخطاب هنا حول حفظ آداب وشروط الصلاة وخصائصها ، والآداب التي تكمن في ظاهر الصلاة والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر من جهة ، وتقوي روح الصلاة بحضور القلب من جهة أخرى وتمحو الأخلاق الرذيلة التي تكون كحجر عشرة أمام قبولها ، ولهذا لا يعتبر ذكرها مرّة أخرى من قبيل التكرار.

هذه البداية والنهاية تشير إلى أنّ الصلاة من بين الصفات الحميدة المذكورة هي الأهم ، ولم لا تكون كذلك والصلاة هي المدرسة العالية للتربية ، وأهم وسيلة لتهذيب النفوس المجتمع.

وفي النهاية تبيّن الآية الأخيرة عاقبة المتّصفين بهذه الأوصاف ، كما بيّنت في الآيات السابقة المسير النهائي للمجرمين ، فيقول تعالى هنا في جملة مختصرة وغنية بالمعاني : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ). (٢)

__________________

(١) البقرة ، ٢٨٣ و١٤٠ ، المائدة ، ١٠٦ ، الطلاق ، ٢.

(٢) «في جنات» خبر ب ـ «أولئك» و «مكرمون» خبر ثان أو أنّه خبر و «في جنات» متعلق به «تمعن».

٣٠

لماذا لا يكونون مكرمين؟ وهم ضيوف الله ، وقد وفرّ الله القادر الرحمن لهم جميع وسائل الضيافة ، وفي الحقيقة أنّ هذين التعبيرين «جنات» و «مكرمون» إشارة إلى النعم المادية والمعنوية التي يغرق فيها هؤلاء المكرمين.

* * *

٣١

الآيات

(فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١))

التّفسير

الطمع الواهي في الجنّة :

جاء البحث في الآيات السابقة من هذه السورة حول علامات المؤمنين والكفار ، ومصير كلّ من المجموعتين ، في الآيات يعود ليوضح أحوال الكفار واستهزاءهم بالمقدسات.

قال البعض : إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المشركين فعند ما كان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو على المسلمين آيات المعاد ، كان هؤلاء الكفار يقدمون من كلّ صوب وحدب ويقولون : إذا كان هناك معاد فإنّ حالنا في الآخرة أحسن من حال من آمن بك ، كما أنّ حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم.

٣٢

يقول القرآن الكريم في جوابهم : (فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي يقبلون نحوك من كل جانب مسرعين.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي جماعات متفرقين.

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) بأي إيمان وبأي عمل يستحقون ذلك؟!

«مهطعين» : جمع مهطع ، وتعني الذي يمدّ عنقه مقبلا على شيء بسرعة للبحث عنه ، وأحيانا تأتي ـ فقط ـ بمعنى مدّ العنق لاستطلاع الأمر.

«عزين» : جمع عزة ، على وزن «هبة» وتعني جماعات في متفرقين ، وأصلها «عزو» ـ على وزن جذب ـ بمعنى النسبة ، وبما أنّ كلّ جماعة يرتبط أفرادها بعضهم ببعض بنسبة معينة : أو يهدفون إلى غرض معين أطلقت كلمة «عزة» على الجماعة.

على كل حال فإنّ المشركين المتكبرين كان لهم الكثير من الادعاءات الباطلة الواهية ، وكانت الرّفاهية في حياتهم الدنيوية وغالبا ما كان يتمّ ذلك بطريق غير مشروع كالإغارة والسلب وغير ذلك ما كان يجعلهم يظنون بأنّهم قد حصلوا على هذه المقامات العالية ولمكانتهم عند الله ، فكانوا ينسبون إلى أنفسهم المقامات الرفيعة في يوم القيامة.

صحيح أنّهم لم يكونوا يعتقدون بالمعاد بتلك الصورة التي يبيّنها القرآن ، ولكنّهم كانوا يحتملون وقوعه أحيانا ، ويقولون : إذا وقع المعاد فإنّ حالنا في العالم الآخر سيكون كذا كذا ، ولعلهم كانوا يريدون بذلك الاستهزاء.

وهنا يجيبهم القرآن المجيد فيقول : (كَلَّا) ليس الأمر كذلك وليس لهم حقّ الدخول إلى الجنّة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ).

في الحقيقة أنّ الله يريد بهذه الجملة أن يحطم غرورهم ، لأنّه يقول : إنّكم تعلمون جيدا مم خلقناكم؟ من نطفة قذرة ، من ماء آسن مهين ، فلما ذا كلّ هذا

٣٣

الغرور؟ ويجيب ثانيا على المستهزئين بالمعاد فيقول : إذا كنتم في شك من المعاد فتمعنوا في حال هذه النطفة ، وانظروا كيف خلقنا موجودا بديعا من قطرة ماء قذرة يتطور فيها الجنين كلّ يوم يتّخذ شكلا جديدا ، ألم يقدر خالق الإنسان من هذه النطفة أن يعيد إليه الحياة بعد دفنه.

ثالثا : كيف يطمعون في الجنّة وفي صحائفهم كل هذه الذنوب؟ لأنّ الموجود الذي خلق من نطفة لا يمكن أن يكون له قيمة مادية ، وإذا كانت له قيمة وكرامة فإنّ ذلك لإيمانه وعمله الصالح ، وأولئك قد فقدوا هذه الصفات ، فكيف ينتظرون الدخول إلى الجنّة؟! (١)

ثمّ يقول تعالى مؤكّدا ذلك : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

لعل هذه الجملة إشارة إلى أنّنا لسنا قادرين على أن نعيد لهم الحياة بعد الموت فحسب ، بل إنّنا نستطيع أن نبدله إلى أكمل الموجودات وأفضلها ، ولا يمنعنا من ذلك شيء.

وعلى هذا فإنّ السياق هو إدامة لبحث المعاد ، أو هو إشارة إلى أنّنا نهلككم جزاء لأعمالكم ولا يمنعنا من ذلك شيء ، ونستبدل بكم مؤمنين وأعين ، ليكونوا أنصارا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يضرّنا ذلك شيئا ، ولهذا إن كنّا نلح عليكم أن تؤمنوا فليس من باب العجز والاحتياج ، بل من أجل تربية البشرية وهدايتها.

يمكن أن يكون المراد ب ـ (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) بأن الله الذي يقدر على أن يجعل للشمس العظيمة مشرقا ومغربا جديدين في كل يوم ، ويكون بنظام دقيق من دون أية زيادة ونقصان مدى ملايين السنين قادر على أن يعيد الإنسان

__________________

(١) هناك احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية : أنّ المراد من جملة «ممّا يعلمون» هو أنّنا خلقناهم ووهبنا لهم العقل والشعور لا كالحيوانات والبهائم ، ولهذا فإنّهم مسئولون عن أعمالهم ، وهناك مراد آخر وهو أنّنا خلقناهم لأهداف هم يعلمونها وهي التكليف والطاعة ، ولكن هذه الاحتمالات بعيدة ، ولذا فإنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى المعنى المذكور سابقا.

٣٤

مرّة أخرى إلى الحياة الجديدة ويستبدلهم بقوم أفضل منهم.

* * *

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب :

قد يأتي تعبير المشرق والمغرب في أحيانا بصيغة المفرد كالآية (١١٥) من سورة البقرة : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وأحيانا بصيغة المثنى كما في الآية (١٧) من سورة الرحمن : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) وأحيانا أخرى بصيغة الجمع (الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) كالآية التي هو مورد بحثنا.

البعض من ذوي النظرات الضيقة يظنون تضاد هذه التعابير ، في حين أنّها مترابطة ، وكل منها يشير إلى بيان خاص ، فالشمس في كلّ يوم تطلع من نقطة جديدة ، وتغرب من نقطة جديدة أخرى ، وعلى هذا الأساس لدينا بعدد أيّام السنة مشارق ومغارب ، ومن جهة أخرى فإنّ من بين كل هذه المشارق والمغارب هناك مشرقان ومغربان ممتازان ، إذ أن أحدهما يظهر في بدء الصيف أي الحد الأعلى لبلوغ ذروة ارتفاع الشمس في المدار الشمالي ، والآخر في بدء الشتاء أي الحد الأدنى لنزول الشمس في المدار الجنوبي ، (ويعبرون عن أحدهما بمدار «رأس السرطان» ، وعن الآخر بمدار «رأس الجدي» ،) وقد اعتمد على ذلك لأنّهما واضحان تماما ، بالإضافة إلى هذين المشرقين والمغربين الآخرين الّذين سمّيا بالمشرق والمغرب والاعتداليان (وهو أوّل الربيع وأوّل الخريف ، عند تساوي ساعات الليل والنهار في جميع الدنيا) ولذا ذهب البعض إلى هذا المعنى في تفسير الآية : «ربّ المشرقين والمغربين» وهو معنى مقبول أيضا.

وأمّا ما جاء بصيغة المفرد فإنّ المراد به ماهيته ، لأنّ الملاحظ فيه أصل

٣٥

المشرق والمغرب بدون الالتفات إلى الأفراد ، وبهذا الترتيب فإنّ لكلّ من العبارات المختلفة أعلاه مسألة تلفت نظر الإنسان إلى التغييرات المختلفة لطلوع وغروب الشمس ، والتغيير المنتظم لمدارات الشمس.

* * *

٣٦

الآيات

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

التّفسير

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام!!

هذه الآيات وهي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار المعاندين والمستهزئين ، يقول سبحانه : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (١).

لا يلزم الاستدلال والموعظة أكثر من هذا ، فإنّهم لا يتعضون وليس لهم الاستعداد للاستيقاظ ، دعهم يخوضون في أباطيلهم وأراجيفهم كما يلعب الأطفال حتى يحين يومهم الموعود ، يوم البعث ويرون كل شيء بأعينهم!

__________________

(١) «يخوضوا» من أصل خوض ـ على وزن حوض ـ وتعني في الأصل الحركة في الماء ، ثمّ جاءت بصيغة الكناية في موارد يغطس فيه الإنسان في الباطل.

٣٧

هذه الآية وبهذا التعبير وردت في سورة الزخرف (٨٣).

ثمّ تبيّن الآية التالية اليوم الموعود ، وتذكر بعض علامات ذلك اليوم المرعب فيقول تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ).

يا له من تعبير عجيب ، إنّه وصف يوم القيامة في وقت يتجهون فيه سراعا إلى محكمة العدل الإلهي اتجاها يشبه إسراعهم في يوم احتفال أو عزاء باتجاه أصنام ، ولكن أين ذلك من هذا؟ إنّه في الحقيقة استهزاء بعقائدهم المجونة التي كانوا يعتقدون بها في الدنيا.

«الأجداث» : جمع جدث ـ على وزن (عبث) ـ وتعني القبر.

«سراع» : جمع سريع ، مثل (ظراف وظريف) وتعني الحركة السريعة للشيء أو الإنسان.

«نصب» : جمع نصيب ، ويقول البعض : إنّه جمع نصب ـ على وزن (سقف) ـ المراد منه هو ما ينصب كعلامة ، وتطلق على الأصنام الحجرية إذ كانوا ينصبونها في مكان ما ليعبدوها ويقدّم لها القرابين ثمّ يلطخون دماءها عليها ، واختلافه مع الصنم هو أنّ الصنم كان على هيئة صورة وشكل خاص ، وأمّا النصب فهو قطعة من الحجر لا شكل له ، وكانوا يعبدونه لسبب ما ، ونقرأ في الآية (٣) من سورة المائدة : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي أنّ من جملة اللحوم المحرّمة هي ما يذبحون من الحيوانات على النصب.

«يوفضون» : من (إفاضة) وتعني الحركة السريعة المشابهة لحركة الماء المنحدر من العين ، وقال البعض : إنّ المراد من النصب في الآية التي نحن بصددها هو الأعلام التي ينصبونها في وسط الجيش أو القوافل ، وعلى كل منهم أن يوصل نفسه بسرعة إليها ، ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب.

ثمّ تذكر الآيات حالات أخرى لهؤلاء فتضيف : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ

٣٨

ذِلَّةٌ) (١) من شدّة الهول والوحشة وقد غرقوا في ذلّة مهينة وفي آخر الآية يتابع قوله : (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ).

نعم هذا هو اليوم الموعود الذي كان يسخرون منه ويقولون أحيانا : لنفترض أنّ هناك يوما كهذا ، فإنّ حالنا في ذلك اليوم هو أفضل من حال المؤمنين ، ولكنّهم لا يجرؤون أن يرفعوا رؤوسهم في ذلك اليوم لشدّة الخوف والوحشة ، وقد تعفرت وجوههم ورؤوسهم بغبار الذلّة ، وغرقوا في كل الهموم الهائلة ، ومن المؤكّد أنّهم يندمون في ذلك اليوم ، ولكن ما الفائدة؟

اللهم : ألبسنا ثوب رحمتك في ذلك اليوم المهول.

ربّنا : إنّ مصائد الشيطان وحبائله قوية ، وهوى النفس غالب ، والآمال الطويلة والبعيدة خداعة ، فترحم علينا باليقظة وعدم الانحراف عن المسار الصحيح.

اللهم : اجعلنا ممن آمن ووفى بعهده وبذل عمره في طاعتك.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المعارج

* * *

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المعارج

__________________

(١) «ترهقهم» من أصل (رهق) على وزن (سقف) ويراد به غشيان الشيء بقهر.

٣٩
٤٠