الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

والجواب : أنّ المشركين لا يقطعون في إنكارهم للمعاد بشكل جازم ، والكثير منهم يعتقدون بصورة إجمالية ببقاء الروح بعد البدن ، وهو ما يسمى بـ (المعاد الروحاني).

أمّا بخصوص (المعاد الجسماني) ، فالمشركون ليسوا على وتيرة واحدة في إنكاره ، فهناك من يظهر الشكّ والتردد ، كما تشير إلى ذلك الآية (٦٦) من سورة النحل .. وهناك من ينكر المعاد الجسماني بشدّة حتى دفعهم جهلهم وعنادهم لأن ينعتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (والعياذ بالله) بالجنون لقوله بالمعاد الجسماني ، وقد عرفوه تارة أخرى بالكاذب على الله! كما أخبرت بذلك سورة سبأ في الآيتين (٧ و٨) ..

وعليه ، فاختلاف المشركين في «المعاد» أمر واقع ولا يمكن إنكاره.

ويضيف القرآن قائلا : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (١) ، فليس الأمر كما يقولون أو يظنون.

ويجدد التأكيد : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ).

فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتما : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٢) ، يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٣).

بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في أولى لحظات الموت ، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بأمّ عينيه حقيقة عالم الآخرة ، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد ، ولا يبقى عنده إلّا أن يقول : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (٤).

«السين» في «سيعلمون» حرف استقبال (يستعمل للمستقبل القريب) ، وهو

__________________

(١) المعروف بين أوساط علماء اللغة بأن «كلّا» حرف ردع ، ولكنّ ثمّة من قال باستعمالات أخرى لهذا الحرف ولكنها نادرة ، وهي : أ ـ حرف تأكيد. ب ـ بمعنى (ألا) الاستفتاحية. ج ـ حرف جواب بمنزلة (نعم). (راجع مجمع البحرين وكتب اللغة).

(٢) الزمر ، الآية ٦.

(٣) الشورى ، الآية ٤٤.

(٤) المؤمنون ، ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٢١

في الآية المباركة يشير إلى قرب وقوع يوم القيامة ، وما نسبة أيّام الدنيا للآخرة إلّا ساعة من الزمن! أمّا تكرار جملة «كلّا سيعلمون» ، فقيل : للتأكيد. وقيل : لبيان وقوع أمرين ..

الأوّل : قرب وقوع العذاب الدنيوي. والثّاني : الإشارة إلى قرب عذاب الآخرة أيضا. وقد رجح المفسّرون التفسير الأوّل.

وثمّة احتمال آخر ، وهو أنّ نمو وتطور الفكر البشري سيوصل البشرية إلى التقدم العلمي الذي يثبت بالأدلة العلمية والشواهد الحيّة تحقق يوم القيامة ، بالشكل الذي يبطل كل حيل الإنكار وعدم الإقرار.

ويشكل على هذا الاحتمال .. كون ما سيحصل من تطور وتقدم إنّما يختص بالأجيال القادمة ، في حين أنّ الآية تتحدث عن المشركين في عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتناولت مسألة اختلافهم في أمر يوم القيامة.

* * *

بحوث

١ ـ «الولاية» و «النبأ العظيم»

تقدم أنّ هناك عدّة معان لل «النبأ العظيم» ، مثل : القيامة ، القرآن ، أصول الدين .. إلّا أنّ القرائن الموجودة في مجموع آيات السورة تدعم تفسير «النبأ» بـ «المعاد» وترجحه على الجميع.

ولكنّنا نجد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام وفي بعض روايات أهل السنّة أنّ «النبأ العظيم» بمعنى إمامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين ، وهناك من فسّر «النبأ العظيم» بالولاية بشكل عام.

وإليكم ثلاث روايات ، على سبيل المثال لا الحصر :

٣٢٢

١ ـ ما روى الحافظ محمّد بن مؤمن الشيرازي (أحد علماء السنّة) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في تفسير (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) : «ولاية علي يتساءلون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في برّ ولا في بحر إلّا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت ، يقولان للميت : «من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ ومن إمامك؟» (١).

٢ – وروي أنّ رجلا خرج يوم صفين عن عسكر الشام وعليه سلاح وفوقه مصحف وهو يقرأ : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) فخرج له علي عليه‌السلام ، فقال له : «أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون»؟ قال : لا.

فقال له عليه‌السلام : «أنا والله النبأ العظيم الذي فيه اختلفتم وعلى ولايته تنازعتم ، وعن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم ، وببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي نجوتم ، ويوم الغدير قد علمتم ، ويوم القيامة تعلمون ما علمتم» (٢).

٣ ـ روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال ، «النبأ العظيم الولاية» (٣).

وللجمع بين مضمون ما تناولته الروايات وما جاء في تفسير النبأ العظيم بالمعاد ، لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي :

١ ـ «النبأ العظيم» كمفهوم قرآني ـ مثل سائر المفاهيم القرآنية ـ له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان ، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه «المعاد» ، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق أخرى.

٢ ـ كما هو معلوم أنّ للقرآن بطونا مختلفة وظواهرا متعددة ، وأدلة وقرائن الاستخراج مختلفة أيضا ، وبعبارة أخرى : أنّ لمعاني آيات القرآن دلالات التزامية لا يعرفها إلّا من غاص في بحر علمها ومعرفتها ، ولا يكون ذلك إلّا

__________________

(١) رسالة الإعتقاد لأبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي (على ما ذكر في إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٨٤).

(٢) تفسير البرهان ، ج ٩ ، ص ٤٢٠.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٤١٩.

٣٢٣

للخاصّة من الناس.

وليست الآية المذكورة منفردة في أنّ لها ظاهر وباطن دون بقية آيات القرآن ، حيث أنّ الأحاديث والرّوايات الشريفة فسّرت كثير من الآيات بمعان مختلفة ، بعضها ما ينسجم مع ظاهر الآية ، والبعض الآخر يشير إلى المعنى الباطن لها.

ولا بدّ من التأكيد على حقيقة خطيرة ، وهي : لا يجوز قطعا بأن نضع للقرآن معنى باطنا بحسب رأينا وفهمنا ، بل لا بدّ من وجود قرائن وأدلة واضحة ، أو بالاعتماد على تفاسير النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام الصحيحة ، لكي لا يكون وجود بطون للقرآن ذريعة بأيد المنحرفين والمتطرفين وذوي الأهواء ليفسّروا القرآن بحسب ما يشتهون ويرغبون.

٢ ـ سرّ التأكيد على المعاد :

قلنا ، إنّ من كبريات المسائل المهمّة التي يتمّ التأكيد عليها في السور المكيّة للجزء الأخير من القرآن هي مسألة «المعاد» مع تصوير حياة الإنسان في عالم البرزخ لما لهذه المسألة من أهمية وتأثير على الإنسان في حياته الدنيا ، فمجرّد أن يحسب ويفكر الإنسان بأنّ ثمّة عالم ينتظره وفيه محاسبة دقيقة وبعدها إمّا ثواب أو عقاب ، فمجرّد هذا الإحساس كفيل لأن يدفع الإنسان بالتفكير في مستقبله الأبدي ، وأن يعمل على ضوء تحسبه.

فهناك محكمة .. لا تخفى عليها خافية ، لا ظلم فيها ولا جور ، لا تخطئ ولا تشتبه ، ولا رشوة فيها ولا توصية ، وفوق هذا وذلك فلا مجال للمتهم فيها لأن يكذب أو ينكر ... إذن فلا سبيل للنجاة من عقاب الآخرة إلّا بترك الذنوب والعمل وفق مقتضيات الشرع في هذه الحياة الفانية.

إنّ الإيمان بوجود محكمة العدل الإلهي تدفع الإنسان لأن : يتحرك ضميره ،

٣٢٤

تتيقظ نفسه من غفلتها الماكرة ، تحيى فيه روحية التقوى فيه ويتحسس عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه ، فيبدأ بتشخيص وظائفه وتكاليفه الشرعية للقيام بها على أحسن وجه.

وأساسا فإنّ شيوع الفساد في أي محيط يرجع إلى أمرين : ضعف التوجيه والمراقبة ، وفقدان القوة القضائية الرادعة ، فإذا خضعت أعمال الناس إلى توجيه مبرمج يقظ ، بالإضافة إلى توفر القوانين القضائية الصارمة لكل من يشذ عن جادة القانون ، فإنّ الفساد والاعتداء والطغيان والحال هذه يكاد ينعدم في ذلك المحيط.

الحياة الدنيوية التي تفعم ببرنامج موجه إلى طريق الحق ، وقوة قضائية ساعية لرضوانه جلّ شأنه ، وعاملة على خدمة البشرية ، تدفع الإنسان لأن يدرك بوضوح مصاديق الهداية الإلهية ، ويشعر لذة حياته الروحية.

فالإيمان بوجود من : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) (١) ، والإيمان بحتمية «المعاد» الذي تصدقه الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢) ، فهكذا الإيمان كفيل بأن يخلق في الإنسان حالة التقوى التي هي بمثابة مركز للإشعاع الرّباني على جميع أبعاد حياته.

* * *

__________________

(١) سبأ ، الآية ٣.

(٢) الزلزلة ، الآية ٧ ـ ٨.

٣٢٥

الآيات

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

التّفسير

كل شيء بأمرك يا ربّ ...

تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا «النبأ العظيم» لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون ، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان ، وذلك من جهة دليل على قدرة الباري عزوجل المطلقة ، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.

ومن جهة أخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم ، لا يمكن أن يخلق لمجرّد العبث واللهو! بل لا بدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين

٣٢٦

أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شيء ، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخال من أيّة حكمة!!

وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة «المعاد» بطريقين :

١ ـ برهان القدرة.

٢ ـ برهان الحكمة.

وقد عرضت الآيات الإحدى عشر ، اثنتي عشر نعمة إلهية ، بأسلوب ملؤه اللطف والمحبّة ، مصحوبا بالاستدلال ، لأنّ الاستدلال العقلي لو لم يقترن بالإحساس العاطفي والنشاط الروحي يكون قليل التأثير.

وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض ، فتقول : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً).

(المهاد) : كما يقول الراغب في المفردات : المكان الممهّد الموطأ ، وهو في الأصل مشتق من «المهد» ، أي المكان المهيأ للصبي.

وفسّره بعض أهل اللغة والمفسّرين بالفراش ، لنعومته واستوائه وكونه محلا للراحة.

واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزى عميق ..

فمن جهة : نجد في قسم واسع من الأرض الإستواء والسهولة ، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة.

ومن جهة ثانية : أودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأولية إلى المعادن الثمينة ، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.

ومن جهة ثالثة : تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها ، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.

ومن جهة رابعة : ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصّة ، بما ينجم عنها الليل والنهار

٣٢٧

والفصول الأربعة.

ومن جهة خامسة : خزنها لقسم كبير من مياه الأمطار الغزيرة ، وإخراج ذلك على شكل عيون ، آبار ، أنهار.

والخلاصة : إنّ جميع وسائل الاستقرار والعيش لبني آدم متوفرة في هذا المهد الكبير ، وقد لا يلتفت الإنسان إلى عظم هذه النعمة الرّبانية ، إلّا إذا ما أصاب الأرض زلزالا .. ، وعندها سيدرك معنى استقرار الأرض ، ومعنى كونها مهادا.

وبما أنّ نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال ، فقد جاءت الآية التالية لتبيّن أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً).

تشكل الجبال آية ربانية زاخرة بالعطاء ، وتؤدي وظائف كثيرة ، منها أنّها تحفظ القشرة الأرضية من الانهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها ،

وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض .. وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر .. وتشكل جدران الجبال سدا منيعا للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة .. وتهيأ للإنسان الملاجئ الهادئة في مغاراتها وبين تعرجاتها لتأمنه من ضربات العواصف المهلكة .. وتقوم بخزن المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها ..

بالإضافة لكل ما ذكر ، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر ايجابيا على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال ، يقول العلماء : لو كان سطح الكرة الأرضية مستويا كله ، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي ، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان ، لأنّ استمرار الاحتكاك

٣٢٨

الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدي بلا شك إلى زيادة حرارة القشرة الأرضية ممّا يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.

وبعد أن بيّن القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية ، عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الانفسية فقال : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (١).

«الأزواج» : جمع زوج ، المتشكل من الذكر والأنثى ، ويخرج الإنسان إلى حياة الوجود من هذين الجنسين ، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية والنفسية ، كما تشير إلى هذا الآية (٢١) من سورة الروم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

وبعبارة أخرى : إنّ كلا من الذكر والأنثى مكمل لوجود الآخر ، وعاملا على إشباع احتياجات الطرف الآخر من الناحيتين الجسمية والنفسية.

وفسّر البعض كلمة «أزواج» بالأصناف المختلفة للناس ، لأنّ من معاني (أزواج) : الأصناف والأنواع ، فاعتبروها إشارة إلى ذلك التباين الموجود بين البشر من حيث : اللون ، الجنس ، الاستعدادات والقابليات ، للدلالة على عظمة الباري جلّ شأنه والعامل على تكامل المجتمع الإنساني.

ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم ، فيقول : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً).

«السبات» : من السبت ، بمعنى القطع ، ثمّ استعملت بمعنى (تعطيل العمل) لأجل الاستراحة ، وسمي «يوم السبت» بذلك لأنّ اليهود كانوا يعطلون أعمالهم في اليوم المذكور.

ويحمل وصف «النوم» بالسبات إشارة لطيفة إلى تعطيل قسم من الفعاليات

__________________

(١) جملة (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) وما بعدها ، جاءت بصيغة الإثبات ، أمّا ما احتمله البعض من كونها جملا منفية معطوفة على قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ) المتقدم في الآية الأولى فبعيد ويحتاج إلى تقدير لا موجب.

٣٢٩

الجسمية والروحية للإنسان عند النوم.

ويعطي التعطيل فرصة : لاستراحة أعضاء البدن .. لتجديد القوى .. لتقوية الروح والجسد ، لتجديد النشاط ورفع أيّ نوع من التعب والآلام ، والاستعداد لتقبل المرحلية القادمة (بعد النوم) بفاعلية ونشاط متجدد.

وبالرغم من أنّ النوم يشكّل ثلث حياة الإنسان ، ولكنّ الإنسان لا زال يجهل الكثير من خفاياه ، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدّة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع أعضاء البدن!

وبات من المعروف ما للنوم من دور مهم في حياة الإنسان ، حتى حرص أطباء علم النفس دوما على تنظيم نوم مرضاهم بصورته الطبيعية حفاظا على حالة التوازن النفسي للمرضى.

فالذين لا يتمتعون بنوم طبيعي تراهم مصابون بحدّة المزاج ، القلق ، الاضطراب ، الكآبة ، وبالمقابل ، نرى الذين يتمتعون بنوم طبيعي ينهضون كل صباح بنشاط وحيوية وبقدرة جديدة.

ومن بين ما يقدمه النوم من تأثير مهم على الإنسان : سرعة تقبل ذهن الإنسان للدراسة والمطالعة بعد فترة نوم طبيعية وهادئة وسرعة إنجاز الأعمال الفكرية والبدنية ولعلّ من أسهل أساليب تعذيب الإنسان هو حرمانه من النوم ، خصوصا وأنّ التجارب العلمية أثبتت بأنّ قابلية الإنسان على تحمل الأرق ضعيفة جدّا ، وإذا حاول أيّ إنسان أن يجرب ذلك ، فلا تمضي عليه فترة وجيزة إلّا ويصاب في سلامته ويمرض.

وكلّ ما ذكر من فوائد النوم فإنّه يختص بالنوم الطبيعي الموزون ، وأمّا إذا زاد عن حدّه الطبيعي فلا يجني صاحبه سوى الآثار السلبية لهذا الإفراط ، كحال الإفراط في الطعام.

٣٣٠

ومن الغريب أنّ نسبة فترة النوم تختلف من إنسان لآخر ، ولا يمكن تعيين فترة محددة لكل الناس ، وعليه .. فكل إنسان يعرف الفترة التي تناسبه طبيعيا بما يناسب فعالياته الجسمية والروحية ، وتجربة الإنسان هي التي تعين نسبة النوم الضروري له.

والأغرب من ذلك ، إنّه قد يضطر الإنسان في الحوادث والشدائد إلى السهر واليقظة مدّة طويلة ، ولذلك تزداد مقاومته للنوم بشكل ملحوظ ولكنّه مؤقت ، وقد يستكفي في تلك الأحيان بساعة أو ساعتين من النوم لليوم الواحد ، ولكن .. سرعان ما ينتهي ذلك التمكن بمجرّد الرجوع إلى الحالة الطبيعية ، بل وقد يحتاج لساعات نوم أطول من السابق للتعويض عمّا فاته من نوم!

ومن النادر أن نرى إنسانا يعيش حالة اليقظة لعدة أشهر ، وفي قبال ذلك نرى بعض الناس ينامون أثناء المشي ، بل وهناك من ينام وأنت تشاطره أطراف الحديث ، ومثل هكذا أشخاص يعيشون حالة غير طبيعية وغالبا ما تكون الحوادث المؤسفة في انتظارهم ، فالضرورة تقتضي ألّا يتركوا بدون مراقب أو مرافق.

والخلاصة : إنّ هذا الحادث العجيب والظاهرة الغامضة التي تدعى بـ «النوم» مصحوبة بعجائب كثيرة وكأنّها معجزة من المعاجز (١).

ومع أنّ ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية ، إلّا أنّ الآية المباركة قد تشير بذلك إلى الموت ، لما للنوم من شبه بالموت ، والاستيقاظ بالبعث.

وبعد الانتهاء من ذكر نعمة النوم ، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل ، فيقول : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً).

__________________

(١) للتزود من عجائب عالم النوم ، راجع ما بحثناه في تفسير الآية (٣٤) من سورة الروم. وكذا الرؤيا وعجائبها في ذيل الآية (٤) من سورة يوسف.

٣٣١

وتضيف الآية التالية مباشرة : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١).

الآيتان تفندان جهل الثنويون بأسرار الخلق ، حيث يقولون : إنّ النور والنهار نعمة ، والظلام والليل شر وعذاب ، ويجعلون لكلّ منهما خالق (إله الخير وإله الشر) .. وبقليل من التأمل نجد أنّ كلاً منهما يمثل نعمة إلهية معطاءة ، حيث تنبع منها نعم أخرى.

وشبهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يلقى على الأرض ليشمل كل من على الأرض ، وليجبر فعاليات الموجودات الحيّة المتعبة على الأرض بالتعطل عن الحركة وممارسة النشاطات ، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار ، وليتمكنوا من مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأنّ النوم المريح لا يتيسر للإنسان إلّا في أجواء مظلمة.

وبالإضافة لكل ما ذكر ، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلّا لانعدمت الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.

ولذا نجد القرآن الكريم يؤكّد على هذه الحقيقة ، فتارة يقول : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) (٢). وتأتي الآية التالية لتقول : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٣) ويلاحظ في القرآن الكريم أنّه قد أقسم بأمور كثيرة ، ولكن قسمه لا يتعدى المرة الواحدة لكل ما قسم به ، ما عدا الليل فقد جاء القسم به سبع مرات! ولمّا كان القسم بشيء دليل على أهميته ، فهذا يعني

__________________

(١) «المعاش» : إمّا أن يكون اسم زمان أو اسم مكان ، بمعنى زمان ومكان الحياة .. ويمكن أن يكون مصدرا ميميا ، فيكون له محذوف ، والتقدير : (سببا لمعاشكم). والمعاش : من العيش ، أي الحياة ، إلّا أنّ تعبير الحياة يمكن إطلاقه على الباري عزوجل والملائكة ، فيما تختص كلمة العيش بحياة الإنسان والحيوان.

(٢) القصص ، الآية ٧٢.

(٣) القصص ، الآية ٧٢.

٣٣٢

فقد جاء القسم به سبع مرات! ولمّا كان القسم بشيء دليل على أهميته ، فهذا يعني أنّ للّيل أهميّة بالغة.

الأشخاص الذين يضيئون الليل بأنوار صناعية ويسهرون ليلهم ويقضون نهارهم بالنوم ، هم أناس غير طبيعيين ، وترى علامات الكسل والخمول بادية عليهم. في حين نرى القرويين أكثر صحة من أهل المدن وأسلم بدنا وحواسا ، لأنّهم ينامون بعد حلول الليل بقليل ويستيقظون مبكرا.

ومن منافع الليل الجانبية أنّ فيه (وقت السحر) الذي هو أفضل أوقات الدعاء والصلاة ومناجاة الباري جلّ شأنه لتربية وتزكية النفوس ، كما تصف الآية (١٨) من سورة الذاريات عبّاد الليل : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١).

والنهار بنوره الفياض نعمة ربانية عظيمة ، حيث يدفع الإنسان ليتحرك ويسعى لبناء حياته ومجتمعه ، وبالنور تنمو النباتات ، وتمارس الحيوانات شؤون حياتها وحقّا قال الباري : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ، بما لا يدع مجالا للتفصيل والشرح.

وخاتمة المقال : إنّ تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بيّنة من آيات خلقه سبحانه وتعالى ، إضافة إلى أنّه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة الإنسانية على مرّ التاريخ.

وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً).

قد يراد من العدد المذكور بالآية «الكثرة» ، للإشارة إلى كثرة الأجرام السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود ، والتي تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه .. ويمكن أن يراد منه العدد ، للإشارة

__________________

(١) راجع بحوثنا حول أسرار الليل والنهار ، ونظام النور والظلمة في ذيل الآيات (٧١ ـ ٧٣) من سورة القصص ، في ذيل الآية (٤٧) من سورة الفرقان ، في ذيل الآية (١٨) من سورة الذاريات.

٣٣٣

إلى أنّ الكواكب وما يبدو لنا منها إنّما تعود إلى السماء الأولى ، كما أشارت الآية (٦) من سورة الصافات إلى ذلك : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ). وثمّة سماوات ستة وعوالم أخرى وراء السماء الأولى «الدنيا» خارجة عن حدود معرفتنا.

وثمّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد منها طبقات الهواء المحيطة بالأرض فإنّها مع رقتها تتمتع باستحكام وقوة عجيبة بحيث تحمي الأرض من آثار الشهب الملتهبة والمتساقطة عليها باستمرار ، فبمجرّد دخول الشهب في الغلاف الجوي الرقيق نتيجة لجاذبية الأرض لها ، تحترق تلك الشهب لاحتكاكها السريع بالغلاف الجوي حتي تتلاشى ، ولولا تلك الطبقات الجوية المحيطة بالكرة الأرضية لكانت المدن والقرى عرضة للإصابة بتلك الصخور والأحجار السماوية المتساقطة عليها على الدوام.

وقد توصل بعض العلماء إلى أنّ سمك الغلاف الجوي يقرب من مائة كيلومتر ، وله من الأثر ما يعادل سقف فولاذي بسمك عشرة أمتار!

وبذلك نحصل على تفسير آخر لما جاء في الآية .. (... سَبْعاً شِداداً) (١).

وبعد أن أشار القرآن إجمالا إلى السماوات ، يشير إلى نعمة الشمس ، فيقول : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (٢).

«الوهّاج» : من الوهج ، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار (٣).

وإطلاق هذه الصفة على الشمس ، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما : (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.

ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان ، بل لها أثر كبير في نمو

__________________

(١) لزيادة المعلومات ، راجع ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة.

(٢) «جعلنا» : في هذا الموضوع بمعنى (خلقنا) ، فلذلك أخذت مفعولا واحدا.

(٣) مفردات الراغب : مادة (وهج) .. وفي لسان العرب : الوهج : حرارة الشمس والنار من بعيد.

٣٣٤

سائر الكائنات الحيّة.

وإضافة لكل ما تقدم ، فلحرارة الشمس أثر أساس في : تكوّن الغيوم ، حركة الهواء ، نزول الأمطار ، وسقي الأراضي اليابسة.

ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم ، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم ، ولولاها لتحولت الأرض إلى مستشفى عظيمة ، ولانتهت الحياة البشرية على ظهرها خلال مدّة محدودة جدّا.

وأشعة الشمس في واقعها : نور صحي مجاني دائمي ، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة ، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.

ونسبة ما يصلنا من الطاقة الشمسية قياسا مع بقية المصادر كثير جدّا ، وعلى سبيل الفرض : فلو أردنا إنماء شجرة تفاح بواسطة نور صناعي ، فستكلفنا التفاحة الواحدة مبلغا رهيبا ،. نعم .. فنعمة هذا السراج الوهّاج لا يمكننا تعويضها بمال كل الأغنياء (١).

وقد قدّر حجم الشمس بما يقارب المليون وثلاثمائة ألف مرّة نسبة إلى حجم الكرة الأرضية ، والفاصلة بين الشمس والأرض تقدر بحدود مائة وخمسين مليون كيلومتر .. وأنّ حرارة الشمس الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية .. وتصل حرارتها الداخلية ما يقارب مليون درجة مئوية! وهذا النظام الموزون بحكمة بالغة ، لمن الدقة بحال أنّه لو اختل قليلا (زيادة أو نقصان) لما أمكن للبشر أن يعيشوا على سطح الكرة الأرضية ، ولا يسعنا المجال لنتطرق

__________________

(١) ورد في كتاب عالم النجوم من تأليف (آنتري وايت) حسابا للنور والحرارة الواصلين من الشمس إلى الأرض ، يقول صاحب الكتاب : لو أردنا أن ندفع أجورا مقابل ما يصلنا من نور وحرارة الشمس مجانا بما يساوي ما ندفعه من أجور الكهرباء عادة ، فعلى سكان الأرض أن يدفعوا لكل ساعة من النور والحرارة مليار وسبعمائة مليون دولار ، وإذا حسبنا ما علينا أن ندفع خلال سنة واحدة فسنصل إلى رقم خيالي من الدولارات ، وبهذا يظهر قيمة ما وهبنا الله تعالى من ثروة طائلة دون مقابل. ويقول مؤلف كتاب (من العوالم البعيدة) : إنّ أهل الأرض لو أرادوا الحصول على ما يصلهم من نور الشمس من مصابيح توضع في مكان الشمس للزم لكل منهم خمسة ملايين مليار مصباح ذو مائة واط.

٣٣٥

لمزيد من التفصيل والبيان حول هذا الموضوع.

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية أخرى لها ارتباط بأشعة الشمس ، ويقول : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً).

«المعصرات» : جمع «معصر» ، من العصر بمعنى الضغط .. والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصرا لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار (١) (ينبغي ملاحظة أنّ «المعصرات» جاءت بصيغة اسم فاعل).

وفسّرها بعضهم بالغيوم المستعدة لإنزال الأمطار ، باعتبار أنّ اسم الفاعل يأتي في بعض الأحيان بمعنى الاستعداد للقيام بعمل ما.

وقال بعض آخر : إنّ «المعصرات» ليست صفة للغيوم ، وإنّما للرياح التي تقوم بضغط وعصر الغيوم.

«الثجاج» : من الثج ، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة ، و «ثجاج» صيغة مبالغة ، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.

وبالإضافة لكون المطر منبعا لكثير من مصادر الخير والبركة ، فهو : ملطف للجو ، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو ، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة ، مقلل لأسباب الأمراض ، يمنح الإنسان روحا متجددة ونشاطا ، ومع كل ذلك .. فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد أخرى له : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً).

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً).

يقول الراغب في مفرداته : «ألفافا» : أي التفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر (٢).

والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي

__________________

(١) يقول بعض العلماء : إنّ الغيوم حين تتراكم تخضع لنظام معين ، حيث تقوم بعصر نفسها فتتساقط قطرات الأمطار منها ، وهذا في واقعة يكشف عن إحدى المعاجز العلمية للقرآن في استعماله لهذا التعبير (راجع كتاب ـ الهواء والأمطار).

(٢) (ألفاف) : جمع لفيف ـ كما يقول كثير من أهل اللغة والتفسير ـ وقال بعضهم : جمع لف (بضم اللام). وقال بعض آخر : جمع لف (بكسر اللام). وقال آخرون : هي جمع لا مفرد له .. ولكنّ المشهور هو القول الأوّل.

٣٣٦

تخرج من الأرض ، فالحبوب الغذائية تشكل قسما مهمّا من المواد الغذائية «حبّا» ، والخضر تشكل القسم الآخر «ونباتا» ، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث «وجنّات».

ولا تنحصر فوائد المطر بهذه الفوائد الثلاث المذكورة في هاتين الآيتين ، فللماء دور أساسي وحيوي في عملية حياة الكائنات الحيّة ، وعلى الأخص الإنسان ، حيث أنّ الماء يشكل ما يقارب السبعين في المائة من بدنه ، بل ويتعدى ذلك ليشمل كل كائن حيّ ، كما يشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (١).

وتتجاوز فوائد الماء حدود الكائن الحيّ لتشمل : المصانع ، جمال الطبيعة ، وأفضل الطرق التجارية والاقتصادية هي الطرق المائية.

* * *

ملاحظة :

علاقة الآيات بـ «المعاد» :

أشارت الآيات المبحوثة إلى أهم العطايا الرّبانية والنعم الإلهية والتي لها الدور المهم والأساس في الحياة البشرية : النور ، الظلمة ، الحرارة ، الماء ، التراب والنباتات.

وذكر نظام الكون على ما فيه من دقة موزونة ومحسوبة لدليل على قدرة الله عزوجل المطلقة من جهة ، وبه يسد كل ثغرات التساؤل عن قدرة الله على إحياء الموتى ، وكما أجابت آخر سورة «يس» منكري المعاد بالقول : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢).

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٣٠.

(٢) سورة يس ، الآية ٨١.

٣٣٧

ومن جهة أخرى أنّه لا بدّ أن يكون لهذا الخلق العظيم من هدف ، ولا يعقل أن يكون الهدف منه هو هذه الأيّام المعدودة لحياتنا الدنيا ، إذ ليس من الحكمة أن يكون كل هذا الخلق وبما يحمل من أنظمة وعمليات من أجل الأكل والشرب والنوم وأمثال ذلك! بل لا بدّ من وجوب هدف أسمى يتناسب وحكمة الباري جلّ شأنه ، وبعبارة أخرى .. ما النشأة الأولى إلّا تذكيرا للنشأة الآخرة : ومرحلة متقدمة ، ومحطة تزود بالوقود وصولا لغاية السفر المحتوم ، وكما ينبهنا القرآن الكريم : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)؟! (١).

وبعد ذلك .. فما النوم واليقظة إلّا مثلا للموت والحياة الجديدة ، وما إحياء الأرض الميتة بنزول المطر ـ الشاخصة أمام أعين الناس على طول السنة ـ إلّا توضيحا لحالة المعاد ، وإشارات مليئة بالمعاني ترمز إلى مسألة القيامة والحياة بعد الموت ، كما جاء في سورة فاطر : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٢).

* * *

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ١١٥.

(٢) فاطر ، الآية ٩.

٣٣٨

الآيات

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠))

التّفسير

سيأتي اليوم الموعود :

الآية الاولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة ...

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (١)

والتعبير بـ «يوم الفصل» يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة ، فسيحدث في ذلك اليوم :

فصل الحقّ عن الباطل.

فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

فصل الوالدين عن أولادهم ، والأخ عن أخيه ...

و «الميقات» : من الوقت ، الميعاد من الوعد ، بمعنى الوقت المعين والمقرر ، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت الله الحرام بـ «المواقيت» لأنّ

__________________

(١) استعمال (كان) في هذا المورد لبيان حتمية الوقوع لذلك اليوم.

٣٣٩

الاجتماع فيها يكون في وقت معين.

ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم ، فيقول : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً).

ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور) .. ففي النفخة الاولى سينهار كلّ عالم الوجود ، ويخرّ ميتا كلّ من في السموات والأرض ، وفي النفخة الثّانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اخرى ، ليقول بعدها يوم القيامة.

«الصور» : بوق يستعمل لإعطاء إشارة التوقف أو الحركة للقوافل أو الكتائب العسكرية وما شابهها من الاستعمالات ، وتختلف الإشارة بين المجاميع التي تستعمل البوق ، كلّ حسب ما تعارف عليه.

واستعمل القرآن «الصور» ككناية لطيفة للتعبير عن المحدثين العظيمين المذكورين أعلاه ، وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثّانية ، أي : نفخة القيام وإعادة الحياة (١).

ومع أنّ الآية أعلاه تقول : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) ، ولكنّ الآية (٩٥) من سورة مريم تقول : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) ، والآية (٧١) من سورة الإسراء تقول : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ، فكيف يمكن تخريج ذلك؟

يمكن جمع الآيات الثلاثة بلحاظ أنّ حشر الناس أفواجا لا بعرض أنّ يتقدمهم إمام ، وأمّا الحشر فرادى فبلحاظ ما ليوم القيامة من مواقف متعددة ، حيث يمكن أن يكون ورود الناس في المواقف الاولى على شكل أفواج مع أئمّتهم (سواء كانوا أئمّة هدى أم أئمّة ضلال) ، وحينما يستقر بهم المآل سيقفون في ساحة العدل الإلهي على شكل فرادى ، كما تنقل لنا الآية (٢١) من سورة (ق)

__________________

(١) تطرقنا لهذا الموضوع بشكل مفصل في ذيل الآية (٦٨) من سورة الزمر ، فراجع.

٣٤٠