الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

قال : إنّ سورة (هل أتي) مدنيّة (١).

٥ ـ ونقل هذا المضمون أيضا بطرق مختلفة عن ابن عباس في (الدرر المنثور) (٢).

٦ ـ نقل الزمخشري في (تفسير الكشاف) ما هو مشهور في سبب نزول آيات صدر السورة وقال : هي في نذر علي وزوجته وولديه عليهم‌السلام (٣).

٧ ـ ونقل كذلك جمع كثير من كبار علماء أهل السنة في أنّ سبب نزول الآيات الواردة في صدر السورة (إِنَّ الْأَبْرارَ) ... قد نزلت في حق عليّ وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم‌السلام وهي شهادة على مدنيّة السورة (لأن ولادة الحسن والحسين عليهما‌السلام كانت في المدينة) كالواحدي في (أسباب المنزل) والبغوي في (معالم التنزيل) وسبط بن الجوزي في (التذكرة) والگنجي الشافعي في (كفاية الطالب) وجمع آخر (٤).

وهذه المسألة مشهورة بكثرة لغاية أن (محمد بن إدريس الشافعي) وهو أحد الأئمة الأربعة لأهل السنة يقول في شعره :

إلام ، إلام وحتى متى؟

أعاتب في حبّ هذا الفتى!

وهل زوجت فاطم غيره؟

وفي غيره هل أتى هل أتى؟! (٥)

وهناك أدلّة كثيرة في هذا الإطار وسنبيّن قسما منها عند توضيح سبب نزول الآية : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ...).

ومع ذلك كله فإنّ البعض يصرّ بعصبية على أنّ السورة مكية ، وينكرون ما قيل من الرّوايات التي وردت في حق السورة ونزولها في المدينة وإنكار نزولها

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٢٢١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٦٧٠.

(٤) إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٥٧ ـ ١٧٠ (مع ذكر أسماء وصفحات كتبهم).

(٥) المصدر السابق.

٢٤١

كذلك في حق علي وأهل بيته عليهم‌السلام!

وذلك من العجب حقّا ، فأينما تنتهي الآية أو الرواية إلى فضائل علي وأهل البيت عليهم‌السلام يعلو الصراخ والعويل وتظهر الحساسيات الشديدة وكأنّ الإسلام قد وقع في خطر! رغم أنّهم يدّعون أنّ عليا عليه‌السلام من الخلفاء الراشدين ومن أئمة الإسلام العظام وأنّهم يتودّدون إلى أهل البيت عليه‌السلام ، ونرى من نتائج حكم الروح الأموية على أفكار هذه الجماعة ووليدة الإعلام المضلل لتلك المرحلة المشؤومة. حفظنا الله من جميع الشبهات.

فضيلة السورة :

في حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنّة وحريرا» (١).

وورد في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوجه الله من الحور العين مأة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٢.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٢

الآيات

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

التّفسير

الإنسان مخلوق من النطفة التافهة :

تتحدث الآيات الأولى عن خلق الإنسان ، بالرغم من أنّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونعم الجنان ، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان ، لأنّ التوجه والالتفات إلى هذا الخلق يهيء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقا في تفسير سورة القيامة.

فيقول تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١).

__________________

(١) «هل» : يراد بها (قد) أو أنّها بمعنى الاستفهام التقريري أو الإنكاري ، ولكن الظاهر فيها الاستفهام التقريري ، فيكون معنى الجملة : (أليس قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).

٢٤٣

نعم ، كانت ذرات وجود هذا الإنسان متناثرة في كلّ صوب وبين الأتربة ، بين أمواج قطرات ماء البحر. في الهواء المتناثر في جو الأرض ، وهكذا اختفت المواد الأصلية لوجوده في كلّ زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة ، وقد ضاع بينها ولا يمكن ذكره مطلقا.

ولكن هل أنّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان ، ويشمل بذلك عموم البشر ، أم أنّ هذا الإنسان يختص بالنبي آدم عليه‌السلام؟

الآية الأخرى التي تقول : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) قرينة واضحة على المعنى الأوّل ، وإن كان البعض يرى أنّ الإنسان في الآية الاولى يراد به آدم عليه‌السلام ، والإنسان في الآية الثّانية يراد به أولاده ، ولكن هذا الاختلاف في هذه الفاصلة القصيرة مستبعد جداّ.

وهناك أقوال في تفسير (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) منها : إنّ الإنسان لم يكن شيئا مذكورا عند ما كان في عالم النطفة والجنين ، وإنّما أصبح ممّن يذكر عند ما طوى مراحل التكامل فيما بعد ؛ ففي حديث ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام «كان الإنسان مذكورا في علم الله ولم يكن مذكورا في عالم الخلق» (١).

وجاء في بعض التفاسير أنّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قيل انتشار العلم ، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهورا في حياتهم وبعد موتهم.

وقيل «إنّ عمر بن الخطاب» قد سمع أحدا يتلو هذه السورة فقال : «ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده» (٢) وهذا من عجائب القول ، لاعتراضه على مسألة الخلق.

ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة ، واعتبار ذكره ، فيقول تعالى (إِنَّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٦.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٤

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

«أمشاج» : جمع مشج ، على وزن (نسج) أو (سبب) ، أو أنه جمع «مشيج» على وزن (مريض) بمعنى المختلط.

ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث ، وقد أشير إلى ذلك في روايات المعصومين عليهم‌السلام بصورة إجمالية ، أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات ، أو أنّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة ، لأنّها تتركب من عشرات المواد المختلفة ، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض ، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.

ويحتمل كون «الأمشاج» إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية (١). «نبتليه» : إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والاختبار والامتحان ، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلا للتكليف وتحمل المسؤولية ، وبما أنّ الاختبار والتكليف لا يتمّ إلّا بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة ، والعين والأذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.

وقيل المراد بالابتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنسانا كاملا ، ولكن التمعن في عبارة «نبتليه» ، وكذلك في كلمة «الإنسان» نجد أنّ المعنى الأوّل هو الأوجه.

وممّا يستفاد من هذه العبارة أنّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أن النطفة جاءت بصيغة المفرد ، وجاءت صفتها بصورة الجمع ، وهي «أمشاج» ، باعتبار أنّ النطفة تركبت من أجزاء مختلفة ، وأنّها في حكم الجمع ، ويعتقد البعض كالزمخشري في الكشاف أنّ «أمشاج» مفرد رغم أنّها من أوزان الجمع.

٢٤٥

إدراكاته الحسية ، وبعبارة أخرى إنّ الإدراكات الحسية هي أمّ المعقولات ، وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضا.

إنّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين ، هما : «الهداية» و «الاختبار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها ، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١). إنّ للهداية هنا معنى واسعا ، فهي تشمل «الهداية التكوينية» و «الهداية الفطرية» وكذلك «الهداية التشريعية» وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.

توضيح :

إنّ الله قد خلق الإنسان لهدف الابتلاء والاختبار والتكامل ، فأوجد فيه المقدمات لكي يصل بها إلى هذا الهدف ، ووهبه القوى اللازمة لذلك ، وهذه هي (الهداية التكوينية) ، ثمّ جعل في أعماق فطرته عشقا لطي هذا الطريق ، وأوضح له السبيل عن طريق الإلهام الفطري ، فسمي ذلك بـ (الهداية الفطرية) ، ومن جهة أخرى بعث القادة السماويين والأنبياء العظام لإراءة الطريق بالتعليمات والقوانين النيّرة السماوية ، وذلك هو «الهداية التشريعية» ، وجميع شعب الهداية الثلاث هذه لها صبغة عامّة ، وتشمل جميع البشر.

وعلى المجموع فإنّ الآية تشير إلى ثلاث مسائل مهمّة مصيرية في حياة الإنسان : «مسألة التكليف» ، و «مسألة الهداية» ، ومسألة «الإرادة والإختيار» والتي تعتبر متلازمة ومكمّلة بعضها للبعض الآخر.

التعبير بـ (شاكرا) و (كفورا) يعتبر أفضل تعبير ممكن في هذه الآية ، لأنّه من قابل النعم الإلهية الكبيرة بالقبول واتخذ طريق الهداية مسلكا ، فقد أدّى شكر

__________________

(١) «شاكرا» وكفورا» يعتقد الكثير أنّهما حال لضمير المفعول في (هديناه) ويحتمل أن يكون خبرا لـ (يكون) محذوف وتقديره (إمّا يكون شاكرا وإمّا يكون كفورا).

٢٤٦

هذه النعمة ، وأمّا من خالف فقد كفرها.

وبما أنّ الإنسان لا يتمكن من تحقيق الشكر الحقيقي ، فقد عبّر عن الشكر باسم الفاعل ، والحال أنّ الكفران جاء بصيغة المبالغة فقال : (كفور) ، لأنّ عدم اهتمامهم بهذه النعم الكبيرة يعتبر كفرانا شديدا منهم باعتبار أنّ الله عزوجل وضع وسائل الهداية تحت تصرفهم ، ولذا فإنّ إهمال هذه الوسائل والمواهب والغضّ عنها واتخاذ السبيل المنافي لها يعتبر كفرانا شديدا.

والجدير بالذكر أنّ كلمة (كفور) تستعمل لكفران النعمة ، وكذلك للكفر الاعتقادي ، وهو ما أورده الراغب في مفرداته.

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إشارة قصيرة وغنية بالمعنى إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً).

التعبير بـ (اعتدنا) تأكيد على حتمية مجازاة هذه الثلّة ، وبالرغم من أنّ تهيئة الشيء مسبقا هو عمل من له قدرة محدودة ويحتمل أن يعجز بعد ذلك من إنجاز العمل ، ولكن هذا المعنى لا يصدق على الله تعالى ، لأنّه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون ، وفي الوقت نفسه يبيّن للكافرين أنّ هذه العقوبات حتمية ووسائلها جاهزة.

«سلاسل» : جمع (سلسلة) ، وهي القيد الذي يقاد به المجرم ، و «الأغلال» جمع غل ، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يقفل بالقيد (١).

على كلّ حال فإنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون ، وهو ما أشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل ، إنّ إطلاقهم لعنان الشهوات يسبب في تعاستهم في

__________________

(١) وضّحنا شرحا مفصلا حول معنى الأغلال في ذيل الآية (٨) من سورة يس.

٢٤٧

الآخرة ، وإشعالهم للنيران في الدنيا تتجسّد لهم في الآخرة لتلهب أطرافهم.

* * *

ملاحظة

عالم الجنين الصاخب :

من الواضح أنّ نطفة الإنسان مركّبة من ماء الرجل والمرأة ، ويسمى الأوّل (الحيمن) والثّاني (البويضة) فالأصل وجود (النطفة) ثمّ تركيبها ، وبعد ذلك تتمّ المراحل المختلفة للجنين ، وهذا هو من العجائب العظيمة لعالم الخلق ، وتطور العلم (علم الأجنّة) قد كشف الكثير من أسراره وإن كانت هناك أسرار كثيرة لم يتمّ كشفها لحدّ الآن ، ونذكر هنا قسما من العجائب والتي تعدّ زاوية صغيرة من عالم الجنين :

١ ـ «الحيمن» وهو ما يخرج مع ماء الرجل ، وهو كائن حي متحرك صغير لا يرى بالعين المجرّدة ، وله رأس وعنق وذنب متحرك ، وممّا يثير العجب أنّ الرجل في كلّ إنزال يضم ماؤه من الحيامن المليونين إلى ٥٠٠ مليون حيمن ، وهو ما يعادل نفوس عدّة دول ، ولكن لا يدخل من هذا العدد الهائل إلى البيضة إلّا واحد أو عدّة حيامن لإخصاب البيضة ، وسبب وجود هذا العدد من الحيامن يكمن في الخسائر التي تلحق بها في طريقها إلى البيضة وتلقيحها ، ولو لم يتوفر مثل هذا العدد لكان أمر الحمل صعبا.

٢ ـ إنّ حجم «الرحم» قبل الحمل يكون بحجم الجوزة الواحدة ، وعند انعقاد النطفة ونمو الجنين يتسع الرحم بشكل ملحوظ ليشغل مكانا واسعا ، والعجب أنّ جدار الرحم يكون مطأطئا إلى حد يكون قادرا على استيعاب حجم الطفل وحركاته.

٣ ـ إنّ الدم لا يجري في الرحم بواسطة العروق والشرايين ، بل يجري بين

٢٤٨

عضلات الرحم بصورة ميزاب ، لأنّ الرحم في اتساع مستمر فإذا ما وجد العرق فإنّه لن يتحمل السحب والتمدد الكبير.

٤ ـ يعتقد بعض العلماء أنّ لبيوض المرأة شحنة موجبة ، وإنّ للحيمن شحنة سالبة ، ولذا يجذب أحدهما الآخر ، ولكن عند تخصيب الحيمن للبيضة فإنّ شحنة النطفة المتشكلة تكون سالبة. وتطرد بذلك بقية الحيامن الموجودة ، وقال آخرون : عند ما يدخل الحيمن في البيضة تترشح مادة كيميائية خاصّة لتطرد بقية الحيامن.

٥ ـ إنّ الجنين يسبح في كيس كبير فيه ماء غليظ يدعى بـ «آمني بوس» له خاصية مقاومة ما يقع على بطن المرأة من الضربات ، وتحمل ما يقع من حركات الأم الشديدة ، بالإضافة إلى ذلك فإنّه يحفظ الجنين بمعدل حراري ثابت ، ولا تؤثر فيه تغيرات الحرارة الخارجية بسرعة ، والجدير بالذكر أنّ الكيس يجعل الجنين عديم الوزن ، ويمنع من حدوث الضغط على أعضاء الجنين بعضها على بعض ممّا يسبب ذلك ضررا على الجنين!

٦ ـ تتمّ تغذية الجنين عن طريق المشيمة وحبل السرّة ، أي أنّ دم الأم والمواد الغذائية والأوكسجين يدخل إلى المشيمة ثمّ يبدأ حبل السرّة بتصفية هذه المواد لتدخل إلى قلب الجنين وتتوزع منه إلى بقية أعضاء البدن ، والطريق أنّ البطين الأيسر والأيمن لقلب الجنين مترابطان مع بعضهما الآخر ، لأنّ التصفية هنا لا تتمّ إلّا عن طريق الرئة ، وذلك لأنّ الجنين لا يتنفّس ولكنّه عند تولده تنفصل الأوعية بعضها عن البعض الآخر ، ويبدأ جهاز التنفس عندئذ بالعمل.

* * *

٢٤٩

الآيات

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١))

سبب النزول

البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النّبي :

قال ابن عباس : إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام (طبقا لبعض الرّوايات أنّ الحسن والحسين أيضا قالا نحن كذلك ننذر أن نصوم) فشفيا وما كان معهم شيء ،

٢٥٠

فاستقرض علي عليه‌السلام ثلاث أصواع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزته ، فوضعوا الأرغفة بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل ، وقال : السلام عليكم ، أهل بيت محمّد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صياما.

فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه (وباتوا مرة أخرى لم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صياما) ووقف عليهم أسير في الثّالثة عند الغروب ، ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم» فانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام وقال : خذها يا محمد هنّاك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

وقيل : إنّ الذي نزل من الآيات يبدأ من : (إِنَّ الْأَبْرارَ) حتى (كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) ومجموعها (١٨) آية.

ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب «الغدير» بشيء من الاختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا الباب ، وذكر في الغدير أنّ الرّواية المذكورة قد نقلت عن طريق (٣٤) عالما من علماء أهل السّنة المشهورين (مع ذكر اسم الكتاب والصفحة).

وعلى هذا ، فإنّ الرّواية مشهورة ، بل متواترة عند أهل السنة (١).

واتفق علماء الشيعة على أنّ السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت في حق علي وفاطمة عليهما‌السلام ، وأوردوا هذه الرّواية في كتبهم العديدة واعتبروها من

__________________

(١) نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير ، ج ٣ ، ص ١٠٧ إلى ١١١ وفي كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٥٧ إلى ١٧١ عن ٣٦ نفر من علماء أهل السنّة مع ذكر المأخذ.

٢٥١

مفاخر الرّوايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، واشتهارها كان مدعاة لذكرها في الأشعار حتى أنّها وردت في شعر (الإمام الشافعي) وتثار عند المتعصبين هنا حساسيات شديدة بمجرّد سماعهم رواية تذكر فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام فيعمدون إلى اثارة العديد من الإشكالات بهذا الشأن ، ومنها :

١ ـ ادعاؤهم مكّية السورة ، والحال أنّ القصّة حدثت بعد ولادة الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وما كانت ولادتهما إلّا بالمدينة! وفي أيدينا دلائل واضحة كما بينّا في شرح صدر السورة ، إذ أنّ السورة تشير إلى أنّها مدنّية ، وإن لم تكن بتمامها فإنّ (١٨) آية منها مدنيّة.

٢ ـ قولهم : إنّ لفظ الآية عام ، فكيف يمكن تخصيص ذلك بأفراد معيّنين ، ولكن عمومية مفهوم الآية لا ينافي نزولها في أمر خاص ، وهناك عمومية في كثير من آيات القرآن ، والحال أنّ سبب نزولها الذي يكون مصداقا تامّا لها في أمر خاص ، والعجب لمن يتخذ من عمومية مفهوم آية ما دليلا على نفي سبب النزول لها.

٣ ـ نقل بعضهم أسبابا أخرى لنزول هذه السورة لا تتفق مع السبب الذي ذكرناه في نزول الآية ، منها ما نقله السيوطي في الدرّ المنثور قال : إنّ رجلا أسود كان يسأل النّبي عن التسبيح والتهليل ، فقال له عمر بن الخطاب : مه أكثرت على رسول الله ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مه يا عمر» وأنزلت على رسول الله هل أتى (١).

وفي الدرّ المنثور عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله فقال له رسول الله : «سل واستفهم» ، فقال : يا رسول الله فضّلتم علينا بالألوان والصور والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إنّي

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٩٧.

٢٥٢

لكائن معك في الجنّة؟ قال : «نعم ، والذي نفسي بيده ، إنّه ليرى بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام» ثمّ بيّن ما يترتب من الثواب لمن يقول لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده. ونزلت عليه السورة (هل أتى) (١).

إنّ ما ذكر في هذه الرّوايات لا يتناسب مع مضمون آيات السورة ، والمتوقع هو وضع هذه الرّواية من قبل عمال بني اميّة وتزويرها لدحض ما تقدم وما قيل في سبب النزول في حق علي عليه‌السلام.

٤ ـ الإحتجاج الآخر الذي يمكن ذكره هنا : كيف يمكن لإنسان أن يصوم ثلاثة أيّام ولا يفطر إلّا بالماء؟!

إنّ هذا الإشكال مدعاة للعجب ، لأنّنا نرى تطبيق ذلك عند بعض الناس ، إذ أنّ بعض المعالجات الطبية تستدعي الإمساك لمدة (٤٠) يوما ، ولا يتناول خلال الأربعين يوما إلّا الماء ، ممّا أدّى ذلك إلى شفاء الكثير من الأمراض بهذه الطريقة ، حتى أنّ طبيبا من الأطباء غير المسلمين يدّعى (الكسي سوفورين) كتب كتابا في باب الآثار المهمّة في الشفاء من جراء الإمساك مع ذكر أسلوب دقيق لذلك (٢) حتى أنّ بعض زملائنا المشتركين معنا في تأليف كتاب التفسير الأمثل قضى إمساكا لمدّة (٢٢) يوما.

٥ ـ البعض الآخر أراد الاستهانة بهذه الفضيلة فجاء من طريق آخر كالآلوسي إذ يقول : إن قلنا إنّ هذه السورة لم ترد في حق علي وفاطمة لم ينزل من قدرهم وشأنهم شيء ، لأنّ اتصافهم بالأبرار أمر واضح للجميع ، ثمّ يبدأ بتبيان بعض فضائلهم فيقول : ماذا يمكن أن يقوله الإنسان في حقّ هذين العظيمين غير أنّ عليا عليه‌السلام أمير المؤمنين ووصي رسول الله ، وأنّ فاطمة بضعة رسول الله ، وأنّها

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) اسم الكتاب (الصوم طريقة حديثة لشفاء الأمراض).

٢٥٣

جزء من الوجود المحمدي ، وأنّ الحسنين روحه وريحانتاه وسيدا شباب أهل الجنّة ، ولكن لا يعني ذلك ترك الآخرين ، ومن يتبع غير هذا فهو ضال.

ولكنّنا نقول إنّنا إذا ما تغاضينا عن هذه الفضيلة ، فإنّ عاقبة بقية الأحاديث ستكون بنفس المنوال ، وربّما يحين يوم ينكر فيه البعض جميع فضائل أمير المؤمنين وسيّدة النساء والحسنين عليهم‌السلام ، والملاحظ أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد احتج على مخالفيه في كثير من المواطن بهذه الآيات لتبيان حقوقه وفضائله وأهل بيته (١).

ثمّ إنّ ذكر الأسير الذي أطعموه ، خير دليل على نزول الآيات بالمدينة ، إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكّة لعدم شروع الغزوات.

والملاحظة الأخيرة التي لا بدّ من ذكرها هنا هو قول بعض العلماء المفسّرين ومنهم المفسّر المشهور الآلوسي ، وهو من أهل السنّة قال : إنّ كثيرا من النعم الحسية قد ذكرت في السورة إلّا الحور العين التي غالبا ما يذكرها القرآن في نعم الجنان ، وهذا إنّما هو لنزول السورة بحق فاطمة وبعلها وبنيها عليهم‌السلام وإنّ الله لم يأت بذكر الحور العين إجلالا واحتراما لسيدة نساء العالمين!

لقد طال الحديث في هذا الباب إلّا أنّنا وجدنا أنفسنا مضطرين لمجابهة وإبطال إشكالات المتعصبين وذرائع المعاندين.

* * *

التّفسير

جزاء الأبرار العظيم

أشارت الآيات السابقة الى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى

__________________

(١) احتجاج الطبرسي وخصال الصدوق طبقا لما نقله الطباطبائي في الميزان ج ٢٠ ص ٢٢٤.

٢٥٤

جماعتين وهي «الشكور» و «الكفور» ، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم الله بها على الأبرار وتذكّر بأمور ظريفة في هذا الباب. فيقول تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً).

«الأبرار» : جمع (بر) وأصله الاتّساع ، وأطلق البر على الصحراء لا تساع مساحتها ، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع ، و «البر» بكسر الباء هو الإحسان ، وقال بعض : إنّ الفرق بين البر والخير هو أنّ البر يراد به الإحسان مع التوجه والإرادة ، وأمّا الخير فإنّ له معنى أعمّ.

«كافور» : له معان متعددة في اللّغة ، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة ، وله معنى آخر مشهور هو الكافور الطبيعي ذو الرائحة القوية ويستعمل في الموارد الطبية كالتعقيم.

على كل حال فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّا فيلتذ به الإنسان من حيث الذوق والشم.

وذهب بعض المفسّرين الى أنّ «كافور» اسم لأحد عيون الجنّة. ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة «كان مزاجها كافورا». ومن جهة أخرى يلاحظ أنّ «الكافور» من مادة «كفر» أي بمعنى «التغطية» ، ويعتقد بعض أرباب اللغة كالراغب في المفردات أنّ اختيار هذا الاسم هو أنّ فاكهة الشجرة التي يؤخذ منها الكافور مغطاة بالقشور والأغلفة.

وقيل : هو إشارة إلى شدّة بياضه وبرودته حيث يضرب به المثل ، والوجه الأوّل أنسب الوجوه ، لأنّه يعد مع المسك والعنبر في مرتبة واحدة ، وهما من أفضل العطور.

ثمّ يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول :

٢٥٥

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (١) (٢).

هذه العين من الشراب الطهور وضعها الله تعالى تحت تصرفهم ، فهي تجري أينما شاءوا ، والظريف هو ما نقل عن الإمام الباقر عليه‌السلام إذ قال في وصفها : «هي عين في دار النّبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين».

نعم فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجري الى قلوب عباد الله الصالحين ، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي ، وتنحدر فروعها ، إلى بيوت المؤمنين!

«يفجرون» : من مادة تفجير ، وأخذت من أصل (الفجر) ويعني الشق الواسع ، سواء أكان شق الأرض أو غير ذلك ، و «الفجر» نور الصبح الذي يشق ستار الليل ، وأطلق على من يشق ستار الحياء والطهارة ويتعدى حدود الله (فاجر) ويراد به هنا شقّ الأرض.

والملاحظ أنّ أوّل ما ذكر من نعم الجنان في هذه السورة هو الشراب الطهور المعطّر الخاصّ. لكونه يزيل كلّ الهموم والحسرات والقلق والأردان عند تناوله بعد الفراغ من حساب المحشر ، وهو أوّل ما يقدم لأهل الجنان ثمّ ينتهون إلى السرور المطلق بالاستفادة من سائر مواهب الجنان.

ثمّ تتناول الآيات الأخرى ذكر أعمال «الأبرار» «وعباد الله» مع ذكر خمسة صفات توضّح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة : فيقول تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً).

جملة (يوفون) و (يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع

__________________

(١) وردت احتمالات عديدة في سبب نصب (عينا) وأوجه الأقوال هو أنّه منصوب لنزع الخافض وتقديره (من عين) وقيل بدل من (كافورا) أو منصوب بالاختصاص أو المدح ، أو مفعول لفعل مقدر والتقدير (يشربون عينا) ولكن الأوّل أوجه كما تقدم.

(٢) «يشرب» : يتعدى بالباء وبدونها ، ويمكن أن تكون الباء في (بها) بمعنى (من).

٢٥٦

وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم ، كما قلنا في سبب النزول فإنّ المصداق الأتم والأكمل لهذه الآيات هو أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنان عليهم‌السلام ، لأنّهم وفوا بما نذروه من الصوم ثلاثة أيّام ولم يتناولوا في إفطارهم إلّا الماء في حين أنّ قلوبهم مشحونة بالخوف من الله والقيامة.

«مستطيرا» : يراد به الاتساع والانتشار ، وهو إشارة إلى أنواع العذاب واتساعه في ذلك اليوم العظيم ، على كلّ حال فإنّهم وفوا بالنذور التي أوجبوها على أنفسهم ، وبالأحرى كانوا يحترمون الواجبات الإلهية ويسعون في أدائها ، وخوفهم من شرّ ذلك اليوم ، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.

ثمّ يتناول الصفة الثّالثة لهم فيقول : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

لم يكن مجرّد اطعام ، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسّة للغذاء ، ومن جهة أخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير ، ولهذا كانت رحمتهم عامّة وخدمتهم واسعة.

الضمير في (على حبه) يعود إلى (الطعام) أي أنّهم أعطوا الطعام مع احتياجهم له ، وهذا شبيه ما ورد في الآية من سورة آل عمران : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

وقيل : إنّ الضمير المذكور يعود إلى «الله» الوارد في ما سبق من الآيات ، أي أنّهم يطعمون الطعام لحبّهم الشديد لله تعالى ، ولكن مع الالتفات الى ما يأتي في الآية الآتية يكون المعنى الأوّل أوجه.

ومعنى «المسكين» و «اليتيم» و «الأسير» واضح ، إلّا أنّ هناك أقوالا متعددة فيما يراد بالأسير؟ قال كثيرون : إنّ المراد الأسرى من الكفّار والمشركين الذين يؤتى بهم إلى منطقة الحكومة الاسلامية في المدينة ، وقيل : المملوك الذي يكون

٢٥٧

أسيرا بيد المالك ، وقيل هم السجناء ، والأوّل أشهر.

يرد هنا سؤال : كيف جاء ذلك الأسير إلى بيت الإمام علي عليه‌السلام طبقا لما ورد في سبب النزول والمفروض أن يكون سجينا؟

ويتضح لنا جواب هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ التاريخ يؤكّد عدم وجود سجناء في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّمهم على المسلمين ، ويأمرهم بالحفاظ عليهم والإحسان إليهم ، فكانوا يطعمونهم الطعام وعند نفاذ طعامهم كانوا يطلبون العون من بقية المسلمين ويرافقونهم في الذهاب الى طلب المعونة ، أو أنّ الأسرى يذهبون بمفردهم لأنّ المسلمين كانوا حينذاك في ضائقة من العيش.

وبالطبع توسعت الحكومة الإسلامية فيما بعد ، وازداد عدد الأسرى وكذلك المجرمين ، فاتخذت عندئذ السجون وصار الإنفاق عليهم من بيت المال.

على كل حال فإنّ ما يستفاد من الآية أنّ أفضل الأعمال إطعام المحرومين والمعوزين ، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى الأسرى المشركين أيضا وقد أعتبر إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.

وقد ورد في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «استوصوا بالأسرى خيرا وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه» (١).

والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص ، فيقول : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً).

إنّ هذا المنهج ليس منحصرا بالإطعام ، إذ أنّ جميع أعمالهم خالصة لوجه الله تعالى ، ولا يتوقعون من الناس شكرا وتقديرا ، وأساسا فإنّ قيمة العمل في الإسلام بخلوص النيّة وإلّا فإنّ العمل إذا كان بدوافع غير الهية ، سواء كان رياء أو لهوى النفس ، أو توقع شكر من الناس أو لمكافات مادية ، فليس لذلك ثمن

__________________

(١) كامل ابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٣١.

٢٥٨

معنوي وإلهي.

وقد أشار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك إذ قال : «لا عمل إلّا بالنيّة وإنّما الأعمال بالنيات».

والمراد من (وجه الله) هو ذاته تعالى ، وإلّا فليس لله صورة جسمانية ، وهذا هو ما اعتمده وأكّده القرآن في كثير من آياته ، كما في الآية (٢٧٢) من سورة البقرة : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) والآية (٢٨) من سورة الكهف التي تصف جلساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).

ويقول في الوصف الأخير للأبرار : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار ، أو قولهم بألسنتهم.

وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للاستعارة ، إذ أنّها تستعمل في وصف الإنسان الذي يقبض وجهه وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم ، أي أنّ حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أنّ الإنسان لا يكون فيه عبوسا فحسب ، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوسا أيضا.

(قمطريرا) : هناك أقوال للمفسّرين في مادته ، قيل هو من (القمطر) ، وقيل : مشتق من مادة (قطر) ـ على وزن فرش ـ والميم زائدة ، وقيل هو الشديد ، وهو الأشهر (١).

ويطرح هنا سؤال ، وهو : إذا كان عمل الأبرار خالصا لله تعالى ، فلم يقولون :

إنا نخاف عذاب يوم القيامة؟ وهل يتناسب دافع الخوف من عذاب يوم القيامة مع الدافع الإلهي؟

__________________

(١) مفردات الراغب ، لسان العرب ، المنجد ، القرطبي ، مجمع البيان.

٢٥٩

ويتضح جواب هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الأبرار يسلكون السبيل على كل حال إلى الله تعالى ، وإذا كانوا يخافون من عذاب يوم القيامة فإنّما هو لأنه عذاب إلهي ، وهذا هو ما ورد في الفقه في باب النية في العبادة من أنّ قصد القربة في العبادة لا ينافي قصد الثواب والخوف من العقاب أو حتى اكتساب المواهب المادية الدنيوية من عند الله (كصلاة الاستسقاء) ، لأنّ كل ذلك يرجع إلى الله تعالى ، كالداعي على الداعي ، رغم أنّ أعلى مراحل الإخلاص في العبادة تمكن في عدم التعلّق بنعم الجنان أو الخوف من الجحيم ، بل يكون بعنوان (حبّ الله).

والتعبير بـ (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) شاهد على أنّ هذا الخوف من الله.

والجدير بالذكر أنّ الوصف الثاني والخامس من الأوصاف الخمسة ، يشيران إلى مسألة الخوف. غاية الأمر أنّ الكلام في الآية الأولى عن الخوف من يوم القيامة ، وفي الثانية الخوف من الله في يوم القيامة ، ففي مورد وصف يوم القيامة في أنّ شرّه عظيم ، ووصفه في مورد آخر بأنّه عبوس وشديد ، وفي الحقيقة فإنّ أحدهما يصف عظمته وسعته والآخر شدّته وكيفيته.

وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإجمالية للأعمال الصالحة والنيّات الطاهرة للأبرار فيقول : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).

(نضرة) : بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور النعمة والرفاه على الإنسان ، أجل ، إنّ لون وجودهم في ذلك اليوم يخبر عن الهدوء والارتياح ، وبما أنّهم كانوا يحسّون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم الرهيب ، فإنّ الله تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.

وتعبير «لقاهم» من التعابير اللطيفة والتي تدلّ على أنّ الله سوف يستقبل ضيوفه الكرام بلطف وسرور خاص وأنّه سوف يجعلهم في سعة من رحمته.

* * *

٢٦٠