الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

إلى غيره فإنّهم سوف يرون آثار الله فيها ، والنظر إلى الأثر هو نظر إلى المؤثر ، وبعبارة أخرى أنّهم يرونه في كلّ مكان. ويرون تجلي قدرته وجلاله وجماله في كل شيء ، ولذا فإنّ نظرهم إلى نعم الجنان لا يجرهم إلى الغفلة عن النظر إلى ذات الله.

ولهذا السبب ورد في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية : (إنهم ينظرون الى رحمة الله ونعمته وثوابه) (١) لأن النظر إلى ذلك هو بمثابة النظر إلى ذاته المقدّسة.

قال بعض الغافلين : إن هذه الآية تشير إلى شأنه في يوم القيامة ، ويقولون : إنّ الله سوف يرى بالعين الظاهرة في يوم القيامة. والحال إنّ مشاهدته بالعين الظاهرة تستلزم جسمانيته. والوجود في المكان ، والكيفية والحالة الخاصّة وجود جسماني ، ونعلم أنّ ذاته المقدّسة منزّهة عن مثل هذا الإعتقاد الملوث ، كما اعتمد القرآن هذا المعنى في آياته مرات عديدة ، منها ما في الآية (١٠٣) من سورة الأنعام : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) وهذه الآية مطلقة لا تختص في الدنيا.

على كل حال فإنّ عدم النظر الحسي إلى الله تعالى أمر واضح لا يحتاج البحث فيه أكثر من هذا ، ويقرّ بذلك من له أدنى اطلاع على القرآن والمفاهيم الاسلامية.

وقال البعض في معنى الناظرة أقوالا أخرى مثلا : ناظرة من مادة الانتظار ، أي أنّ المؤمنين لا ينتظرون شيئا إلّا من الله تعالى ، وحتى أنّهم لا يعتمدون على أعمالهم الصالحة وأنّهم ينتظرون رحمة الله ونعمته بشكل دائم.

وإذا قيل إنّ هذا الانتظار سيكون مصحوبا مع نوع من الانزعاج ، والحال أنّ المؤمن لا شيء يزعجه في الجنان؟ فيقال : إنّ ذلك الانتظار المصحوب

__________________

(١) تفسير روح الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٣٦٤ و٤٦٥.

٢٢١

بالانزعاج هو ما لا يطمأن عقباه ، أما إذا ما وجد الاطمئنان. فسيكون مثل هذا الانتظار مصحوبا بالهدوء (١).

والجمع بين معنى (النظر) و (الانتظار) غير بعيد ، لجواز استعمال اللفظ الواحد في المعاني المتعددة. وإذا كان المراد هو أحد المعنيين ، فإن الأرجح هو المعنى الأوّل.

وننهي هذا الكلام بحديث مسند إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار»؟

قال : «فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر الى ربّهم»! (٢)

والظريف هو ما ورد في حديث عن أنس بن مالك ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ينظرون إلى ربّهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة» (٣) ، وهذا الحديث تأكيد على المشاهدة الباطنية لا العينية.

وفي النقطة المقابلة لهذه الجماعة المؤمنة ، هناك جماعة تكون وجوههم مقطبة. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ).

«باسرة» : من مادة (بسر) على وزن (نصر) ، وهو الشيء غير الناضج والعمل الذي لم يأت حينه ، ولذا يقال لفاكهة النخل غير الناضجة (بسر) على وزن (عسر) ويطلق على عبوس الوجه. وهذا الوصف هو ردّ فعل الإنسان قبل وصول العذاب والأذى إليه.

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ (النظر) الذي يعني الانتظار لا يتعدى بـ (إلى) بل يتعدى بدون حرف الجر ، ولكن هنا شواهد من أشعار العرب تشير إلى أن (النظر) الذي يعني الانتظار يتعدى كذلك بـ (إلى) (راجع مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٩٨ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٠٠).

(٢) روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ١٤٥.

(٣) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٢٠٤.

٢٢٢

فعند ما ينظر الكافرون إلى علامات العذاب وصحائف أعمالهم الخالية من الحسنات والمملوءة بالسيئات ، يصيبهم الندم والحسرة والحزن ويعبسون وجوههم لذلك.

(تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

يرى الكثير من المفسّرين بأنّ (الظن) هنا بمعنى العلم. أي أنّهم يوقنون بمثل هذا العذاب ، والحال أنّ بعضهم يرى أنّ (ظن) هنا بمعناها المعروف أي الاحتمال القوي ، ومن الطبيعي أنّهم يوقنون إجمالا بأنّهم سوف يعذبون ، ولكن ليس بمثل هذا العذاب الشديد (١).

«فاقرة» : من مادة (فقرة) على وزن (ضربة) وجمعها (فقار) وتعني حلقات الظهر ، ويقال للحادثة الثقيلة التي تكسر حلقات الظهر «فاقرة» ، «والفقير» قيل له ذلك لهذا الوجه ، أي أنّه مكسور الظهر (٢).

على كل حال فإنّ هذا التعبير كناية للعقوبات الثقيلة والتي تنتظر هذه الجماعة في جهنّم ، إنّهم ينتظرون عذابا قاصما ، والحال إنّ الجماعة السابقة منتظرون لرحمة الله تعالى ومستعدون للقاء المحبوب. هؤلاء لهم أسوأ العذاب.

وأولئك لهم أسمى النعم الجسمانية والمواهب واللذات الروحانية.

* * *

__________________

(١) من جملة الشواهد التي جاءوا بها لهذا الموضوع هو أنّ الظن إذا كان بمعنى العلم فيجب أن يكون (أن) بعد (تظن) مخففة من الثقيلة والحال هو (أن) مصدر بقرينة إعمالها النصب.

(٢) «فاقرة» : صفة الموصوف محذوف وتقديره (داهية فاقرة) و (تظن) فعل و (وجوه) فاعله ، وفي التقدير (أرباب الوجوه) أو (ذوات الوجوه).

٢٢٣

الآيات

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠))

التّفسير

إتماما للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفّار يأتي الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر بابا إلى العالم الآخر فيقول تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (١) أي كلّا إنّه لا يؤمن حتى تصل روحه التراقي.

هو ذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينه البرزخية ، وتزال عنها الحجب ، ويرى فيها علامات العذاب والجزاء ، ويوقف على أعماله ، ففي تلك اللحظة يقرّ بالإيمان ولكن إيمانه لا ينفعه ولا يفيد حاله أبدا.

«تراقي» : جمع «ترقوة» ، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال ،

__________________

(١) «إذا» : أداة شرطية وجزاؤه محذوف ، والتقدير (إذا بلغت التراقي انكشف له حقيقة الأمر ، ووجد ما عمله) ، والفاعل في (بلغت) هو (النفس) وهو محذوف ويعرف بقرينة الكلام.

٢٢٤

وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان ، وذلك عند ما تخرج الروح من البدن ، تتوقف الأعضاء البعيدة عن القلب (كاليدين والرجلين) قبل غيرها ، كأن الروح تطوي نفسها في البدن تدريجيا حتى تصل إلى الحلقوم.

وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لانقاذه ، يقول تعالى : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟

ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس ، والحال أنّهم يعلمون أنّه قد فات الآوان ولا ينفع معه طبيب.

«راق» : من مادة (رقي) على وزن (نهي) و (رقيه) على وزن (خفيفه) وهو الصعود ، ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأوعية التي تبعث على نجاة المريض ، وقيل للطبيب الذي ينجي المريض ويخلصه مما هو فيه «راقي» ، فيكون مفهوم الآية : ينادي أهل المريض ، وأحيانا المريض نفسه من شدّة الضجر : ألا هل من داع يدعو بدعاء لينجي هذا المريض؟

وقال البعض : إنّ المعنى قول الملائكة بعضها لبعض : من يرقي بروحه من الملائكة ، أملائكة الرحمة ، أم ملائكة العذاب؟

وأضاف البعض إنّ ملائكة الله تكره قبض روح غير المؤمن ، ولذا يقول ملك الموت : من يرقي بروحه ، والمعنى الأوّل أوجه وأنسب.

وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى : (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق ، ثمّ : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) وهذا الالتفاف إمّا لشدّة الأذى لخروج الروح ، أو لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.

وذكرت تفاسير أخرى لهذه الآية ، منها ما نقرأ في حديث عن الإمام

٢٢٥

الباقر عليه‌السلام قال : (التفت الدنيا بالآخرة) (١) ومثله عن علي بن إبراهيم (٢).

ونقل عن ابن عباس كذلك من المراد من الآية : التفاف أمر الآخرة بأمر الدنيا.

وقال البعض : هو التفاف شدائد الموت بشدائد القيامة.

والظاهر رجوع جميع هذه المعاني إلى ما أوردناه في قول الباقر عليه‌السلام ، واتخذ هذا التفسير لكون أحد معاني «الساق» في لغة العرب هو الحادثة الشديدة والمصيبة والباء العظيم.

وقال آخرون هو التفاف الساق في الكفن. ويمكن جمع هذه التفاسير في معنى الآية إذ لا منافاة بينها.

ثمّ يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ).

أجل إلى الله تعالى المرجع حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية ، وهكذا ينتهي المطاف إليه ، وهذه الآية أيضا تأكيد على مسألة المعاد والبعث الشامل للعباد ، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي متجهة نحو الذات المقدّسة واللامتناهية.

* * *

ملاحظة

لحظة الموت المؤلمة :

كما نعلم أنّ القرآن كثيرا ما أكّد على مسألة الموت خصوصا عن الاحتضار ، وينذر الجميع أنّهم سيواجهون مثل هذه اللحظة ، وقد عبّر عنها أحيانا (بسكرة

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٦٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٢٦

الموت) (١) وأحيانا أخرى (بغمرات الموت) (٢) وكذلك ببلوغ الحلقوم (٣) ويعبر عنه أيضا ببلوغ الروح إلى التراقي ، أي العظام المكتنفة للنحر كما في الآيات مورد البحث ، ويستفاد من مجموع ذلك أنّ تلك اللحظة على خلاف ما يقوله الماديون ، لحظة صعبة ومؤلمة ، ولم لا يكون كذلك والحال أنّها لحظة انتقال من هذا العالم إلى عالم آخر ، أي إنّ الإنسان كما ينتقل من عالم الجنين إلى عالم الدنيا مصحوبا بألم شديد ، فكذلك الانتقال إلى العالم الآخر بهذا الشكل.

والمستفاد من الرّوايات أنّ هذه اللحظة سهلة على المؤمنين ، وصعبة ومؤلمة على فاقدي الإيمان ، وذلك لشوق المؤمنين للقاء الله ورحمته ونعمه السرمدية بحيث لا يشعرون بآلام لحظة الانتقال. وأمّا المجموعة الثانية فإنّ الآلام تتضاعف عليهم لحظة الانتقال لخوفهم من العقوبات من جهة ، ولمصيبة فراق الدنيا التي يحبونها من جهة أخرى.

نقل في حديث للإمام علي بن الحسين عليه‌السلام عند ما سئل عن الموت ، فقال : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة ، وفك قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطئ المراكب ، وآنس المنازل ، وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل عن منازل أنيسة ، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل وأعظم العذاب» (٤).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام عند ما طلب شخص منه أن يوصف له الموت فقال الإمام عليه‌السلام : «للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ»! (٥).

__________________

(١) (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) سورة ق آية ١٩.

(٢) الأنعام ، الآية ٩٣.

(٣) (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) سورة الوقعة آية ٨٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٥.

(٥) بحار الأنوار ج ٦ ص ، ١٥٢.

٢٢٧

على كل حال فإنّ الموت باب يؤدي إلى عالم البقاء ، كما في حديث عن الإمام أمير المؤمنين إذ قال : «لكل دار باب وباب دار الآخرة الموت» (١).

أجل ، إنّ ذكر الموت له الأثر البالغ والعميق في كسر الشهوات وإنهاء الآمال الطويلة والبعيدة ومحو آثار الغفلة عن مرآة القلب ، لذا ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ويقلع منابت الغفلة ، ويقّوي القلب بمواعد الله ويرقّ الطبع ، ويكسر أعلام الهوى ، ويطفئ نار الحرص ، ويحقّر الدنيا ، وهو معنى ما قال النّبي : «فكر ساعة خير من عبادة سنة» (٢).

وبالطبع المراد من ذلك هو بيان أحد المصاديق الواضحة للتفكر ولا ينحصر موضوع التفكر بذلك.

وأوردنا في ما مضى بحثا آخرا لهذا الموضوع في ذيل الآية (١٩) من سورة (ق).

* * *

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ٣٤٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٣٣.

٢٢٨

الآيات

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

التّفسير

خلق الإنسان من نطقة قذرة :

استمرارا للبحوث المتعلقة (بالموت) الذي يعتبر الخطوة الأولى في السفر إلى الآخرة يتحدث القرآن في هذه الآيات عن خواء أيدي الكفّار من الزاد لهذا السفر.

فيقول أوّلا : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (١) أي إنّ هذا الإنسان المفكر للمعاد لم

__________________

(١) الضمير في (صدق وصلى) يعود إلى الإنسان المنكر للمعاد ، وهو ما يستفاد منه في سياق الكلام ، وقد أشير إلى ذلك في صدر السورة.

٢٢٩

يؤمن إطلاقا ولم يصدّق بآيات الله ولم يصلّ له.

وقال تعالى : (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

المراد من جملة (فَلا صَدَّقَ) عدم التصديق بالقيامة والحساب والجزاء والآيات الإلهية والتوحيد ونبوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال البعض : إنّها إشارة إلى ترك الكافرين للإنفاق والصدقة بقرينة ذكرها مع الصلاة ، ولكن الآية الثانية تشهد جيدا على أن النقطة المقابلة لهذا التصديق هو التكذيب ، ولذا يكون التفسير الأوّل هو الأصح.

ويضيف تعالى في الآية الأخرى : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى).

إنّه يظنّ بعدم اهتمامه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكذيبه إيّاه وللآيات الإلهية قد حقق نصرا باهرا ، إنّه كان ثملا من خمرة الغرور ، واتجه إلى أهله لينقل لهم كالعادة ما كان قد حدث وليفتخر بما صدر منه ، وكان سيره وحركته تشيران إلى الكبر والغرور.

«يتمطى» : من مادة (مطا) وأصله الظهر ، و (تمطى) مدّ الظهر عن غرور ولا مبالاة. أو عن كسل ، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

وقيل هو من مادة (مط) على وزن (خط) أي مدّ الإنسان رجله أو بقية أعضاء البدن عند ما يريد إظهار اللامبالاة أو الكسل ، ولكن اشتقاقه من (مطا) أنسب مع ظاهر اللفظ (١).

على كل حال فإنّ ذلك يشابه ما ورد في الآية (٣١) من سورة المطففين : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ).

ثمّ يخاطب القرآن أفرادا كهؤلاء ويهددهم فيقول تعالى :

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى).

__________________

(١) لأنه إذا اعتبر من مادة (مطا) فإن ظاهر اللفظ لم يظهر عليه تغيير ، والحال إذا كان من مادة (مط) فيكون أصل جملة (يتمطى) هو (يتمطط) حيث بدلت الطاء الآخر بالياء.

٢٣٠

هناك تفاسير أخرى متعددة ذكرت لهذه الآية منها :

إنّها تهديد بمعنى لك العذاب ثم لك العذاب.

وقيل : ما أنت عليه من الحال أولى وأرجح لك فأولى.

وقيل : الذم أولى لك وأحسن ثم أحسن.

وقيل : الويل لك ثمّ الويل لك.

وقيل : يراد به بعدا لك من خيرات الدنيا وبعدا لك من خيرات الآخرة.

وقيل : وليك وصاحبك شرّ وعذاب ثمّ وليك شرّ وعذاب.

وقيل : أولى لك ما تشاهده يوم بدر فأولى لك في القبر ثمّ أولى لك يوم القيامة (١).

ولا يخفى أنّ غالبية هذه المعاني تعود إلى معنى كلي وجامع ، وتأخذ طابع التهديد بالعذاب ، والذمّ والشرّ والعقاب أعم من عذاب الدنيا والبرزخ والقيامة.

وورد في الرّوايات أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثم قال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)

فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ، وإنّي لأعزّ أهل هذا الوادي ، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم ينتهي القرآن في هذا البحث إلى استدلالين لطيفين حول المعاد وأحدهما عن طريق (الحكمة الإلهية وهدف الخلقة) ، والآخر عن طريق بيان قدرة الله في تحول وتكامل نطفة الإنسان في المراحل المختلفة لعالم الجنين ، فيقول تعالى عن المرحلة الألى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).

«سدى» : على وزن (هدى) وهو المهمل الذي لا هدف له ، وجاء قول العرب

__________________

(١) المطابق لبعض التفاسير أن (أولى) هنا هو (أفعل تفضيل) وطبقا للتفاسير الأخرى فإن (أولى) فعل ماض من باب أفعال من مادة (ولى) فيكون المعنى (قاربك الله العذاب) وقيل (أولى) من (أسماء الأفعال) وتعني (قارب) والأولى هو الأوجه.

٢٣١

(إبل سدى) في الإبل السائبة التي تترك بلا راع.

والمراد من (الإنسان) في هذه الآية هو المنكر للمعاد والبعث ، فيكون معنى الآية : كيف يخلق الله هذا العالم العظيم للإنسان ولا يكون له هدف ما؟ كيف يمكن ذلك والحال أنّ كل عضو من أعضاء الإنسان خلق لهدف خاص ، فالعين للنظر ، والأذن للسمع ، والقلب لإيصال الغذاء والأوكسجين والماء إلى جميع الخلايا ، حتى أنّ لخطوط أطراف أصابع الإنسان حكمة ، ولكن يحسب أن لا هدف في خلق كلّ ذلك ، وهو مهمل لا تخطيط فيه وليس له من أمر ونهي ومهام ومسئولية ، فلو صنع شخص ما صنعة صغيرة لا فائدة فيها فإنّ الناس سوف يشكلون عليه ذلك ويحذفون اسمه من زمرة العقلاء. فكيف يمكن لله الحكيم المطلق أن يخلق خلقا لا هدف له؟!

وإذا قيل أنّ الهدف من هذه الحياة هو قضاء أيّام الدنيا ، هذا الأكل والنوم المكرر الممزوج بآلاف الأنواع من الآلام والعذاب ، فإنّ هذا لا يمكن أن يكون مبررا لذلك الخلق الكبير. ولذا فإنّنا نستنتج من أن الإنسان قد خلق لهدف أكبر ، أي الحياة الخالدة في جوار رحمة الله والتكامل المستمر والدائم (١).

ثم انتهى إلى تبيان الدليل الثّاني ، فيضيف تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) وبعد هذه المرحلة واستقرار المني في الرحم يتحول الى قطعة متخثرة من الدم ، وهي العلقة ، ثمّ أنّ الله تعالى يخلقها بشكل جديد ومتناسب وموزون (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى).

ولم يتوقف على ذلك : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).

أليس من يخلق النطفة الصغيرة القذرة في ظلمة رحم الأم ويجعله خلقا جديدا كلّ يوم ، ويلبسه من الحياة لباسا جديدا ويهبه شكلا مستحدثا ليكون بعد

__________________

(١) كان لنا بحث آخر في هذا الإطار في ذيل الآية (١١٥) من سورة المؤمنين.

٢٣٢

ذلك إنسانا كاملا ذكرا أو أنثى ثم يولد من امّه ، بقادر على إعادته : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)؟!

وهذا البيان في الواقع هو لمن ينكر المعاد الجسماني ويعده محالا ، وينفي العودة إلى الحياة بعد الموت والدفن ، ولإثبات ذلك أخذ القرآن بيد الإنسان ليرجعه إلى التفكر ببداية خلقه ، والمراحل العجيبة للجنين ليريه تطورات هذه المراحل ، وليعلم أنّ الله قادر على كلّ شيء ، وبعبارة أخرى إن أفضل دليل لحدوث الشيء هو وقوعه.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أطوار الجنين أو البعثات المكررة!

«النطفة» : أصلها الماء القليل أو الماء الصافي ، وقيل ذلك للقطرات المائية المسببة لوجود الإنسان أو الحيوان عن طريق اللقاح.

وفي الحقيقة أنّ تحول النطفة في المرحلة الجنينية من عجائب عالم الوجود وهو موضوع «علم الأجنة» وقد كشف عن كثير من أسراره في القرون الأخيرة.

القرآن الكريم أكّد منذ ذلك اليوم الذي لم تكشف فيه هذه الأمور بعد ـ على ذلك مرارا باعتباره أحد علائم القدرة الإلهية ، وهذا هو بحدّ ذاته من علائم عظمة هذا الكتاب السماوي العظيم وإعجازه.

ومع أنّ هذه الآيات ذكرت بعض مراحل الجنين ، فإنّ هناك آيات قرآنية أخرى بيّنت مراحل أكثر ممّا ذكر هنا ، كصدر آيات سورة الحج وأوائل سورة المؤمنين ، وذكرنا شرحا مفصّلا في ذيل هذه الآيات في هذا المجال.

والآية تتضمّن كلمة (ذلك) وهو اسم إشارة للبعيد ، فيما يخص الله تعالى ،

٢٣٣

وهو كناية لعظمة مقامه تعالى ، وإشارة إلى أنّ ذاته المقدّسة لا يتمكن البشر من إدراكها ومعرفتها.

وجاء في رواية لما نزلت هذه الآية : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أنّ رسول الله قال : «سبحانك اللهم ، وبلى».

ونقل هذا المعنى أيضا عن الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما‌السلام (١).

٢ ـ نظام الأجناس البشرية

لا يزال العلم قاصرا في معرفة العوامل الاصلية التي تؤثر في تبديل جنس المذكر أو المؤنث رغم البحوث الكثيرة التي أجريت في هذا الصدد ، صحيح أنّ بعض المواد الغذائية أو الأدوية يمكن أن تؤثر في هذه المسألة ، ولكن من اليقين أن أيّا منها لا يكون معيّنا لها ، وبعبارة أخرى أن هذا هو أمر علمه عند الله تعالى.

ويرى من جهة أخرى التعادل النسبي المستمر بين هذين الجنسين في كلّ المجتمعات ، وإن كان عدد النساء أكثر في أغلب المجتمعات ، وازدياد عدد الرجال في مجتمعات أخرى ، ولكن الحصيلة تشير إلى وجود التعادل النسبي بين الجنسين ، فلو فرضنا أن اختل يوما هذا التعادل ، وتضاعف عدد النساء مثلا إلى عشرة أضعاف ، أو أن عدد الرجال تضاعف عشرة أضعاف النساء. عندئذ كيف سيختل نظام المجتمع الإنساني؟ وماذا سيتخلف فيه من المفاسد العجيبة بحيث تقابل المرأة عشرة رجال ، أو يقابل الرجل عشر نساء ، وما يقام من غوغاء!؟

الآية السالفة تقول : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وهي إشارة لطيفة لموضوعين : فمن جهة تشير الى تنوع البشر ، وتقسيمهم إلى هذين الجنسين في

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٢.

٢٣٤

مرحلة الجنين ، ومن جهة أخرى تشير إلى هذا التعادل النسبي (١).

اللهم! نحن نشهد أنّك قادر على احياء جميع الموتى في لحظة واحدة ، ولا شيء يقف أمام قدرتك اللامتناهية ...

ربّنا! إنّنا في ذلك اليوم الذي تصل فيه أرواحنا إلى التراقي ليس لنا أمل أو رجاء سوى رحمتك ولطفك ...

إلهنا! ارزقنا معرفة الهدف من خلقك ...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة القيامة

* * *

__________________

(١) إنّ المشهور هو زيادة عدد النساء على الرجال في كلّ المجتمعات ، وهذا هو أحد الدلائل على تعدد الزوجات ، وهو أمرّ مقبول ، وهذا ممّا لا ينافي التعادل النسبي ، فمثلا يكون عدد مجتمع ما ٥٠ مليون نسمة ، فمن الممكن أن يكون عدد النساء ٢٦ مليونا ، والرجال ٢٤ مليونا ، أي أن التفاوت بينهما بحدود العشر أو أقل من ذلك ، أمّا أن يكون عدد النساء أضعاف عدد الرجال فهذا ما لم يلاحظ في أي مجتمع.

٢٣٥
٢٣٦

سورة

الإنسان

(الدهر)

مدنيّة

وعدد آياتها واحد وثلاثون آية

٢٣٧
٢٣٨

«سورة الإنسان»

محتوى السورة :

هذه السورة رغم قصرها ، فانّ لها محتويات عميقة ومتنوعة وجامعة ، ويمكن بنظرة واحدة تقسيمها إلى خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة) ، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.

القسم الثّاني : يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين ، وسبب النزول الخاص بأهل البيت عليهم‌السلام.

القسم الثّالث : تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات قصيرة ومؤثرة.

القسم الرّابع : يشير إلى أهمية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق.

القسم الخامس : جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان).

ولهذه السورة أسماء عديدة ، أشهرها (الإنسان) (الدهر) و (هل أتى) وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة ، وإن كانت الرّوايات الواردة في فضيلتها والتي سوف يأتي ذكرها ، قد ذكرت اسم (هل أتى) لهذه السورة.

* * *

٢٣٩

هل أنّ هذه السورة مدنية؟

هناك أقوال في أوساط المفسّرين حول مدنية هذه السورة أو مكيّتها ، فالمفسّرون ومنهم علماء الشيعة أجمعوا على أنّ السورة بتمامها أو على الأقل ما جاء في صدرها والتي تتحدث عن الأبرار والأعمال الصالحة هي مدنية ، وسيأتي فيما بعد شرح القصة التي كانت سببا لنزول السورة ، والقصة تحكي عمّا نذره أمير المؤمنين والزهراء الحسنان عليهم‌السلام وخادمتهم وفضة.

والمشهور بين علماء أهل السنة أنّها مدنية كما قال القرطبي في تفسيره : (وقال الجمهور مدنية) (١) ، ونذكر هنا أسماء العلماء الذين قالوا بمدنية السورة أو بعضها :

١ ـ الحاكم أبو القاسم الحسكاني : فقد نقل عن ابن عباس عددا من السور المكية والمدنية ، ورتّبها كما نزلت ، فكانت هذه السورة عنده في قائمة السور المدنية والتي نزلت بعد سورة الرحمن وقبل سورة الطلاق (٢) ، وأورد صاحب كتاب الإيضاح الأستاذ أحمد زاهر نفس المعنى وذلك عن ابن عباس (٣).

٢ ـ نقل في (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني عن كتاب (نظم الدرر وتناسق الآيات والسور) عن كبار علماء أهل السنة أنّ سورة الإنسان اعتبرت من السور المدنية (٤).

٣ ـ ونقل كذلك في كتاب (فهرست ابن النديم) عن ابن عباس أن سورة هل أتى هي السورة المدنية الحادية عشرة (٥).

٤ ـ نقل في (الإتقان) للسيوطي عن البيهقي في (دلائل النبوة) عن عكرمة أنّه

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٠٩.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٠٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تاريخ القرآن ، ص ٥٥.

(٥) المصدر السابق.

٢٤٠