الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

١
٢

سُورَة

المَعَارِج

مَكيَّة

وَعَدَدُ آياتُهَا أربَعَ وَأربَعُونَ آية

٣
٤

«سورة المعارج»

مكية وعدد اياتها اربع وأربعون اية «سورة المعارج»

محتوى السورة :

المعروف بين المفسّرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية ، وعلى أساس ما ينقله (فهرست ابن النديم) و (كتاب نظم الدرر) و (تناسق الآيات والسور) المطابق لما نقله (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني أنّ هذه السورة هي السورة السابعة والسبعون والتي نزلت في مكّة.

ولكن هذا يتنافى مع كون بعض آياتها مدنية ، وهذا ليس منحصرا في سورة المعارج ، فإنّ كثيرا من سور القرآن الكريم هي مكّية ولكنّها تحوي على آية أو آيات مدنية في نفس الوقت ، وبالعكس بعض السور المدنية تحوي على آيات مكّية.

ولقد نقل العلّامة الأميني رحمه‌الله نماذج كثيرة من هذا الموضوع في كتابه (الغدير) ، وهناك روايات كثيرة سوف يأتي ذكرها بعد إن شاء الله تدل على أنّ الآيات الأولى من هذه السورة هي آيات مدنية.

على أية حال فإنّ خصوصيات السور المكّية كالبحث حول اصول الدين وخاصّة المعاد وإنذار المشركين والمخالفين ، وهذه الخصوصيات واضحة جدّا في هذه السورة ، وعلى هذا فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لو كان هذا القول حقّا فلينزل عليّ العذاب. فنزل (الآية ١ ـ ٣).

القسم الثّاني : ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات

٥

الكفار في ذلك اليوم.

القسم الثّالث : توضح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النّار.

القسم الرّابع : يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى بذلك السورة.

فضيلة هذه السورة :

نقرأ في حديث عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ (سأل سائل) أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون»

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «من أدمن قراءة (سأل سائل) لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله وأسكنه جنّته مع محمّد». ونقل مثله عن الإمام الصّادق عليه‌السلام.

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثّواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة ، وثمّ يقترن ذلك بالعمل ، لا أن يقرأ الآيات والسور من دون أن تؤثر في روحه وفكره وعمله شيئا.

* * *

٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣))

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين وأصحاب الحديث أحاديث عن سبب نزول هذه الآية وحاصلها : أنّه عند ما نصّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام في يوم (غدير خم) قال في حقّه : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ولم ينقض مدّة حتى انتشر ذلك في البلاد والمدن ، فقدم النعمان بن حارث الفهري على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصّوم والصّلاة والزكاة فقبلناها ، ثمّ لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله.

فقال : «والله ، والذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله» فولى النعمان بن حارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) وما ذكرناه هو مضمون ما روي عن أبي القاسم الحسكاني في مجمع البيان بإسناده إلى أبي عبد الله الصّادق عليه‌السلام (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٢.

٧

هذا المعني مروي عن كثير من المفسّرين من العامّة ، فقد نقل رواة الحديث هذا المعنى بشيء من الاختلاف البسيط.

وينقل «العلّامة الأميني» ذلك في كتابه (الغدير) عن ثلاثين عالما مشهورا من أهل السنّة (مع ذكر السند والنّص) ومن ذلك :

تفسير غريب القرآن (للحافظ أبي عبيد الهروي).

تفسير شفاء الصدور (لأبي بكر النقاشي الموصلي).

تفسير الكشف والبيان (لأبي إسحاق الثعالبي).

تفسير أبي بكر يحيى (القرطبي).

تذكرة أبو إسحاق (الثعلبي).

كتاب فرائد السمطين (للحمويني).

كتاب درر السمطين (للشّيخ محمّد الزرندي).

كتاب السراج المنير (لشمس الدين الشّافعي).

كتاب (سيرة الحلبي).

كتاب نور الأبصار (للسّيد مؤمن الشبلنجي).

وكتاب شرح الجامع الصّغير للسيوطي من (شمس الدين الشّافعي وغير ذلك. (١) وفي كثير من هذه الكتب علم ورد أنّ هذه الآيات قد نزلت بهذا الشأن ، وبالطبع هناك اختلاف بشأن الحارث بن النعمان أو جابر بن نذر أو النعمان بن حارث الفهري ، ومن الواضح أنّ هذا الأمر لا يؤثر في أصل المطلب.

بالطبع أنّ بعض المفسّرين أو المحدّثين بفضائل الإمام علي عليه‌السلام من أهل السنّة يتقبلون ذلك ، ولكن على مضض وعدم ارتياح ، وتمسكوا بإشكالات

__________________

(١) الغدير ، ج ١ ، ص ٢٣٩ ـ ٢٤٦.

٨

مختلفة على سبب نزول الآية ، وسنوضح في نهاية المطاف بإذن الله بحثا تفسيريا عن هذا الموضوع.

* * *

التّفسير

العذاب العاجل :

من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) ، هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث وكان هذا بمجرّد تعيين الإمام علي عليه‌السلام خليفة ووليّا في (غدير خم) وانتشار هذا الخبر في البلاد ، حيث رجع مغتاظا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : هل هذا منك أم من عند الله؟ فأجابه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّحا : «من عند الله» ، فازداد غيظة وقال : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجارة من السماء فقتله. (١)

هناك تفسير آخر أعم من هذا التّفسير وأعم منه ، وهو أنّ سائل سأله لمن هذا العذاب الذي تتحدث عنه؟ فيأتي الجواب في الآية الاخرى : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ).

وحسب تفسير ثالث يكون هذا السائل هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي دعا على الكافرين بالعذاب فنزل.

ولكن مع أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة للآية فإنّه منطبق تماما على روايات سبب النزول.

ثمّ يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم :

__________________

(١) الباء في (بعذاب واقع) حسب هذا التفسير باء زائدة للتأكيد وفي نظر البعض تعني (عن) ، وهذا ممّا يطابق التّفسير الثّاني (يجب الالتفات إلى أنّ السؤال إذا كان بصيغة الطلب يتعدى بمفعولين وإذا كان بمعنى الاستفسار يكون مفعوله الثّاني مع (عن).

٩

(لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ). (١)

وتصف الآية الاخرى من ينزل العذاب منه ، وهو الله ذي المعارج فتقول الآية : (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) ، أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعرج» جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون ، إذ أنّ الله جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج ، وقد وصف الله تعالى بذي المعارج.

نعم ، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفّار والمجرمين ، والذين هبطوا على إبراهيم عليه‌السلام ، وأخبروه بأنّهم قد أمروا بإبادة قوم لوط ، وفعلوا ذلك إذ قلبوا بلاد أولئك القوم الفاسقين رأسا على عقب.

وهم الذين أمروا كذلك بتعذيب المجرمين الباقين.

وقيل المراد ب ـ (المعارج) الفضائل والمواهب الإلهية ، وقيل المراد بها (الملائكة) ، ولكن المعنى الأوّل هو أنسب ، وهو ملائم للمفهوم اللّغوي.

* * *

ملاحظة :

إشكالات المعاندين الواهية!

كثيرا ما نرى في مورد الآيات أو الرّوايات التي تذكر فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام إصرار البعض إلى حدّ ما في أن يغضّ النظر عنها ، أو يقوم بتوجيهها توجيها محرّفا ويدقق في أمرها بوسوسة بالغة ، في حين أنّ هذه الفضائل لو كانت واردة في الآخرين لقبلوها بسهولة وبساطة.

النموذج الحي الكلام هو الإشكالات السباعية التي ذكرها ابن تيمية في

__________________

(١) (واقع) صفة للعذاب و (للكافرين) صفة ثانية و (ليس له دافع) صفة ثالثة وقد احتمل أن (الكافرين) له علاقة ب ـ (العذاب) وإذا كانت (اللام) تعني (على) فإنّها ستتعلق ب ـ (واقع).

١٠

كتابه (منهاج السنّة) في أحاديث مروية في أسباب نزول الآيات المذكورة وهي :

١ ـ حديث قصّة يوم الغدير بعد رجوع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع أي في السنة العاشرة للهجرة ، في حين أنّ السورة المعارج من السور المكّية وقد نزلت قبل الهجرة.

الجواب : كما بيّنا من قبل فإنّ كثيرا من السور تسمّى مكّية في حين أنّ بعض آياتها مدنية كما يقول المفسّرون ، وبالعكس فإنّ هناك سورا مدنية نزلت بعض آياتها في مكّة.

٢ ـ جاء في الحديث أنّ (الحارث بن النعمان) حضر عند النّبي في (الأبطح) ، والمعروف أنّ (الأبطح) ، واد في مكّة ، وهذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة الغدير.

الجواب : إنّ كلمة الأبطح وردت في بعض الرّوايات ، لا كلّ الرّوايات ، كما أنّ الأبطح والبطحاء تعني كل أرض صحراء رملية وتجري فيها السيول ، وكذلك هناك مناطق في المدينة تسمّى بالأبطح والبطحاء ، وقد أشار العرب إلى ذلك في كثير من أقوالهم وأشعارهم.

٣ ـ المشهور أنّ آية : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)

الجواب : ليس منّا من يقول : إنّ حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية ، بل الحديث هو في آية : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) وأمّا الآية (٣٣) من سورة الأنفال فهي أنّ الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه ، وهذا لا يرتبط بأسباب النزول ، ولكن العصبية المفرطة تجعل الإنسان غافلا عن هذا الموضوع الواضح.

٤ ـ يقول القرآن المجيد : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الأنفال الآية (٣٣) ، تقول الآية : لم ينزل العذاب أبدا ما دام الرسول فيهم.

١١

الجواب : المعروف أنّ العذاب العام والجماعي مرفوع عن الأمّة لأجل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا العذاب الخاص والفردي فقد نزل مرارا على بعض الأفراد ، والتاريخ الإسلامي شاهد على أنّ أناسا معدودين مثل «أبي زمعة» و «مالك بن طلالة» و «الحكم بن أبي العاص» وغيرهم قد ابتلوا بالعذاب للعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم أو بدون ذلك.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ الآية السالفة لها تفاسير أخرى ، وطبقا لذلك فإنّ لا يمكن الاستدلال بها في المكان (راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية ٣٣ الأنفال).

٥ ـ إذا كان سبب النزول هذا صحيحا فلا بدّ أن يكون معروفا كقصّة أصحاب الفيل؟

الجواب : إنّ سبب النزول لهذه الآية معروف ومشهور ، كما أشرنا من قبل ، إلى حدّ ألّف فيه ثلاثون كتابا من كتب التّفسير والحديث ، والعجيب بعدئذ أن نتوقع من حادثة خاصّة أن تعطي انعكاسا وأثرا كقصّة أصحاب الفيل ، في حين أنّ تلك القصّة كانت لها صفة عامّة ، وقد استولت على أنحاء مكّة ، وأبيدت فيها جيوش كبيرة ، وأمّا قصّة الحارث بن النعمان ، فإنّها كانت تخصّ فردا واحدا فقط!.

٦ ـ ما يستفاد من هذا الحديث هو أنّ الحارث بن النعمان كان معتقدا بأسس واصول الإسلام ، فكيف يمكن لمسلم يعاصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبتلى بمثل هذا العذاب؟

الجواب : هذا الإحتجاج ناشئ أيضا من التعصب الأعمى ، لأنّ الأحاديث المذكورة سلفا تشير إلى أنّه لم ينكر نبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل أنّه أنكر حتى الشهادة بالوحدانية ، واعترض على الأمر الإلهي الذي صدر للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ علي عليه‌السلام وهذا يدل على أشدّ مراحل الكفر والارتداد.

٧ ـ لا نجد اسما للحارث بن النعمان في الكتب المشهورة كالاستيعاب الذي جاء فيه ذكر الصحابة.

١٢

الجواب : ما جاء في هذا الكتاب ومثله من ذكر الصحابة يرتبط فقط بقسم من الصحابة ، فمثلا في كتاب (أسد الغابة) الذي يعدّ من أهم الكتب وفيه يذكر أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عدّ منهم فقط سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيا ، في حين أننا نعلم أنّ الجمع الذي كان حاضرا عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع مائة ألف أو يزيدون ، وممّا لا شك فيه أنّ كثيرا من أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأت ذكرهم في هذه الكتب.

* * *

١٣

الآيات

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

التّفسير

يوم مقداره خمسين ألف سنة :

بعد إيراد قصّة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الأخروي للمجرمين في ذلك اليوم.

في البداية يقول تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ـ أي إلى الله ـ (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي ، وليس العروج الجسمي ، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لاستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة ، وكما قلنا سابقا في تفسير الآية (١٧) من سورة الحاقة من أنّ المراد من الآية (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) هو اليوم الذي يجتمعون فيه في السماء ينتظرون لتنفيذ ما

١٤

يأمرون (١).

والمراد بالرّوح هو (الرّوح الأمين) وهو أكبر الملائكة ، وهذا ما أشير إليه أيضا في سورة القدر حيث يقول تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) ومن الطبيعي أنّ الرّوح لها معان مختلفة بحسب تناسب مع القرائن الموجودة ، فمن الممكن أن يعطي في كلّ موضوع معنى خاص ، والرّوح يراد به روح الإنسان ، وكذا يراد منه القرآن ، وبمعنى روح القدس ، وبمعنى ملك الوحي ، كلّ ذلك من معاني الرّوح ، وهذا ما يشار إليه في بقية آيات القرآن.

وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدنيا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (٥) من سورة السجدة من إنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة ، ولأجل ذلك ذكر في الرّوايات أنّ ليوم القيامة خمسين موقفا ، وكلّ موقف منه يطول بمقدار ألف سنة. (٢)

واحتمل البعض أيضا أنّ هذا العدد (خمسين ألف سنة) للكثرة لا العدد ، أي أنّ ذلك اليوم طويل جدّا.

على أيّ حال فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار ، ولهذا روي في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه سأل سائل من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية عن طول ذلك اليوم؟ فقال : «والذي نفس محمّد بيده إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» (٣).

__________________

(١) وردت تفاسير اخرى لعروج الملائكة لا يمكن الاعتماد على أيّ منها ومن ذلك : المراد من الزمان هي الفترة التي بدأت الملائكة بالصعود والنزول منذ بداية الدنيا إلى نهايتها تكون مقدار خمسين ألف سنة ، وهذا هو عمر الحياة ولكن الآيات التي. تليها تدلّ على أنّ الحديث يخصّ يوم القيامة ولا يخصّ الدّنيا (فتدبّر). (٢) نقل هذا الحديث في أمالي الشّيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو مطابق لما نقله الحويزي في كتابه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤١٣.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٣ ، والقرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٦١.

١٥

ثمّ يخاطب الله تعالى رسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية الأخرى ويقول : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً).

المراد بـ (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى ، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلا. (١)

ثمّ يضيف : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم ، وذلك في اليوم مقداره خمسون ألف سنة ، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا الله وفي قلوبهم ريب بقدرة الله.

إنّهم يقولون : كيف يمكن جمع العظام البالية والتراب المتناثر في كل حدب وصوب ثمّ يردّ إلى الحياة؟ (وقد ذكر القرآن كلامهم هذا في كثير من آياته) ثمّ كيف يمكن أن يكون اليوم بمقدار خمسين ألف سنة.

الطريف أنّ العلم الحاضر يقول : إنّ مقدار كلّ يوم في أي من الأجرام السماوية يختلف عن بعضها الآخر ، لأنّ دوران الجرم السماوي حول نفسه مرّة واحدة تابع إلى فترة زمنية معينة ، ولهذا فإنّ اليوم في القمر بمقدار أسبوعين على ما هو في الأرض ، حتى أنّهم يقولون : يمكن أن تقل سرعة الحركة الوضعية للأرض وذلك بمرور الزمن ويصبح اليوم الواحد فيها كالشهر أو كالسنة أو مئات السنين ، ونحن لا نقول ، إنّ الزمان في يوم القيامة كذلك ، بل نقول إن اليوم الذي يبلغ مقداره خمسين ألف سنة ، ليس عجيبا في مقاييس عالم الدنيا.

* * *

__________________

(١) بسطنا الكلام في معنى الصبر الجميل في التفسير الأمل ، ج ٧ (من الطبعة العربية) في قصّة النّبي يعقوب ويوسف عليهما‌السلام.

١٦

الآيات

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

التّفسير

تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر ، حيث يقول الله تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (١) ، (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ).

«المهل» : على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما ، ويراد له أحيانا دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون ، وهذا هو ما

__________________

(١) لـ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب ، ولكن الأفضل أن يكون بدلا من (قريبا) في الآية السابقة أو متعلقا بفعل محذوف مثل (اذكر).

١٧

يناسب المعنى الأوّل ، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.

«العهن» : مطلق الصوف المصبوغ ألوانا.

نعم ، في مثل ذلك اليوم تتلاشى السموات وتذوب ، تتدكدك الجبال ثمّ تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الرّيح ، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان ، ثمّ يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كلّ هذا الخراب.

وعند ما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيرا ومرعبا بحيث ينشغل كل بنفسه ، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١).

الكلّ مشغول بنفسه ، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (٣٧) : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٢).

ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضا ، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى : (يُبَصَّرُونَهُمْ) (٣) ، غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لا يمكنه من التفكر بغيره.

وإكمالا للحديث وتوضيحا لذلك الموقف الموحش ، يضيف تعالى : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ).

وليس ببنيه فحسب بل ، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضا (وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ).

(وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) أي عشيرته وأقربائه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا :

__________________

(١) «الحميم» : تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثمّ اطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.

(٢) وردت تفاسير اخرى ، منها : لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأنّ أحوالهم ظاهرة في وجوههم ، وإذا كانت ظاهرة فلا مبرر للسؤال ، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية ، مسئولية أعماله عن الآخرين ولكن التّفسير الأوّل هو الأصح.

(٣) مع أنّ «حميم» قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد ، فقد جاء في «يبصرونهم» ضمير بصورة الجمع لأنّ له معنى جنسي.

١٨

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ).

نعم ، إنّ عذاب الله شديد في ذلك اليوم المهول الى حدّ يودّ الإنسان فيه أن يفدي أعزّته وهم أربع مجاميع : «الأولاد ، الزوجات ، الإخوان ، عشيرته الأقربون الناصرون له» فيضحي بهم لخلاص نفسه ، وليس فقط أولئك بل إنّه مستعد للافتداء بمن في الأرض جميعا لينجي نفسه!

«يود» : من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى ، ويقول الراغب : يمكن استعمال أحد المعنيان (بل الاثنان معا).

«يفتدي» : من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما.

«الفصيلة» : هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.

«تؤيه» : من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.

وقال بعض المفسّرين بأنّ (ثمّ) في (ثُمَّ يُنْجِيهِ) تدل على أنّهم يعملون أنّ هذا الافتداء لا ينفع شيئا ، وأنّه محال (لأنّ ثمّ تأتي عادة في المسافة والبعد).

ولكنّه يجيب على كلّ هذه الأماني والآمال في قوله : (كَلَّا) أي لا تقبل الفدية والافتداء.

(إِنَّها لَظى) نار ملتهبة تحرق كلّ من بجانبها وفي مسيرها.

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.

«لظى» : تعني لهيب النّار الخالص ، وهي اسم من أسماء جهنم أيضا ، يمكن الأخذ بالمعنيين الآية.

«نزاعة» : أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي.

و «شوى» : الأطراف كاليد والأرجل ، وتأتي أحيانا بمعنى الشواء ، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل ، لأنّه عند ما تتصل النّار المحرقة وليبها بشيء فإنّها تحرق وتفصل أوّلا الأطراف والجوانب وفروع ذلك.

١٩

ويرى بعض من المفسّرين أنّ الشوى هو جلد البدن ، والبعض يقول أنّه أم الرأس ، والبعض الآخر : يفسّره بلحم الساق ، وقد أجمع الجميع على المعنى الأوّل الذي قلناه ، والعجيب أنّه مع هذا الحال فليس في الأمر موت!

ثمّ يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النّار ، فيقول : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى).

وبهذا فإنّ هذه النّار المحرقة تدعو أولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصّة المودعة فيها تجاه المجرمين ، أو بلسان مقالها الذي أعطاها الله إيّاها : إنّها تدعو أولئك المتصفين : بهاتين الصفتين الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة الله ورسوله ، ومن جهة أخرى يفكرون دائما بجمع الأموال من الحرام والحلال وادخارها من دون أن يلتفتوا إلى حقوق البائسين والمحرومين ، أو أنّهم يجهلون فلسفة المال الذي يعتبر من النعم الإلهية.

* * *

٢٠