الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-59-9
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥١١

ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وقيل أيضا في تفسير هذه الآية : إنّ المعنى : قل لن يجيرني من الله أحد إلّا تبليغا منه ومن رسالاته ، أي إلّا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى. (١)

وأمّا عن الفرق بين «البلاغ» و «الرسالات» فقد قيل : إنّ البلاغ يخص اصول الدين ، والرسالات تخصّ بيان فروع الدين.

وقيل المراد من إبلاغ الأوامر الإلهية ، والرسالات بمعنى تنفيذ تلك الأوامر ، ولكن الملاحظ أنّ الإثنين يرجعان إلى معنى واحد ، بقرينة الآيات القرآنية المتعددة : وكقوله تعالى في الآية (٦٢) سورة الأعراف فيقول : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) وغيرها من الآيات ، ويحذر في نهاية الآية فيقول : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

الواضح أنّ المراد فيها ليس كلّ العصاة ، بل المشركون والكافرون لأنّ مطلق العصاة لا يخلدون في النّار.

ثمّ يضيف : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً). (٢)

وفي المراد من العذاب في : (ما يُوعَدُونَ) هل هو العذاب الدنيوي أم الاخروي أم الاثنان معا؟ ورد في ذلك أقوال ، والأوجه هو أن يكون المعنى عامّا ، وفيما يخصّ الكثرة والقلّة والضعف والقوّة للأنصار فإنّه متعلق بالدنيا ، ولذا فسّره البعض بأنّه يتعلق بواقعة بدر التي كانت قوّة وقدرة المسلمين فيها ظاهرة

__________________

(١) هذه الجملة مستثناة من الجملة السابقة (لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) حسب هذا التّفسير ومستثناة من الآية السابقة حسب التّفسير الأوّل.

(٢) «متى» : تأتي عادة لبيان الغاية والنهاية للشيء وقيل في ذلك وجهان : الأوّل : إنّ الغاية جملة محذوفة وتقديرها (ولا يزالون يستهزؤن ويستضعفون المؤمنين حتى إذا رأوا ما يوعدون ...). الثّاني : إنّ الغاية هي للآية (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) والتي مرّت سابقا ، والأوّل أوجه.

١٠١

وواضحة وقيل حسب الرّوايات المتعددة أنّها تخصّ الإمام المهدي (أرواحنا فده) وإذا أردنا تفسير الآية بمعانيها فإنّها تشمل كلّ ذلك.

إضافة إلى ما جاء في الآية (٧٥) من سورة مريم عليها‌السلام : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) وعلى كل حال فإنّ سياق هذه الآية يشير إلى أنّ أعداء الإسلام كانوا يتبجّجون قدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين يستضعفونهم ، الأنصار لهذا كان القرآن يواسيهم ويبشرهم بأنّ العاقبة ستكون بانتصارهم وخسران عدوهم.

* * *

ملاحظتات

١ ـ صفاء القادة الإلهيين

إحدى خصوصيات القادة الإلهيين هي أنّهم بعكس العادة الشيطانيين ، ليسوا بمغرورين ولا متكبرين ولا ممن يدّعون ما ليس فيهم.

فإذا كان فرعون ينادي لحماقته : أنّا ربّكم الأعلى! وهذه الأنهار تجري من تحتي ، فإنّ الإلهيون يرون أنفسهم من أصغر عباد الله لشدّة تواضعهم لله ، وما كانوا يحسبون لأنفسهم قدرة أمام إرادة الله تعالى ، كما نقرأ في الآية (١١٠) من سورة الكهف : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) وورد في موضع آخر : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

ونقرأ في آية اخرى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ). (١)

حتى لو وصلوا إلى ذروة القدرة المادية فإنّهم لا يغترون بها ولا يتيهون فيها

__________________

(١) الأنعام ، ٥٠.

١٠٢

كما قال سليمان عليه‌السلام : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (١)

ومن الطريف أنّ كثيرا من الآيات القرآنية توجّه خطابات حادة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعاتبه ليكون في أمره على حذر.

إنّ مجموع هذه الآيات والآيات السابقة هي وثيقة حيّة على أحقّية هذا النّبي العظيم ، وإلّا فما هو المانع من أن يدعي لنفسه المنازل العظيمة فوق ما يدركه البشر وهو يعيش في فئة تتقبل منه ما يدّعيه ومن دون احتجاج وتساؤل من الناس كما أشار التاريخ إلى ذلك في شأن الظالمين.

نعم ، إنّ هذا التعابير في مثل هذه الآيات تكون شواهد حيّة لأحقّية دعوة الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ ليس المهم الكم بل الكيف!

أخذ هذا الموضوع بنظر الإعتبار في كثير من آيات القرآن ، وهو أنّ طاغوت كل زمان يتظاهر بكثرة أعوانه ، كما في شأن فرعون عند ما كان يستهين بمن مع موسى عليه‌السلام فقال : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) (٢) ، وقال مشركو العرب : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) وكان المعاند يتظاهر بأمواله وأعوانه ، ويفتخر بذلك ليغيظ به المؤمنين ، ويقول : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً). (٣)

ولم يكن المؤمنون السائرون على خط الأنبياء يتأثرون بمظاهر الثروة وغيرها ، بل كان قولهم هو : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ). (٤)

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أيّها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة

__________________

(١) النمل ، ٤٠.

(٢) الشعراء ، ٥٤.

(٣) الكهف ، ٣٤.

(٤) البقرة ، ٢٤٩.

١٠٣

أهله» (١) إنّ تاريخ الأنبياء ، وبالخصوص تاريخ حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يشير كيف أن المعاندين على كثرتهم وامتلاكهم لجميع القدرات انكسروا وعجزوا أمام القلّة القليلة من المؤمنين ، وتعكس الآيات القرآنية هذا المعني جيدا وهي تروي قصص بني إسرائيل وفرعون وطالوت وجالوت ، وكذلك ما في واقعة بدر والأحزاب.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠١.

١٠٤

الآيات

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

التّفسير

الله عالم الغيب :

لقد تبيّن في الآيات السابقة حقيقة أنّ العصاة يبقون على عنادهم واستهزائهم حتى يأتي وعد الله بالعذاب ، وهنا يطرح السؤال ، وهو : متى يتحقق وعد الله؟ وقد بيّن المفسّرون سبب نزول الآية ، وذكروا أنّ بعض المشركين كالنضر بن الحارث سألوا عن وعد الله بعد نزول هذه الآيات أيضا ، وقد أجاب القرآن على ذلك فقال : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).

هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه ، وأراد أن يبقى مكتوما حتى عن

١٠٥

عباده المؤمنين ، ليتحقق الاختبار الإلهي للبشرية ، وإلّا فلم يؤثر الاختبار.

«أمد» : على وزن (صمد) وتعني الزمان ، وعلى ما يقوله الراغب في مفرداته : إنّ هناك اختلافا بين الزمان والأمد ، فالزمان يشمل الابتداء والانتهاء ، وأمّا الأمد فإنّها الغاية التي ينتهي إليها.

وقيل أيضا بتقارب المعنى في الأمد والأبد مع اختلاف ، وهو أنّ الأبد يراد به المدّة غير المحدودة ، وأمّا الأمد فهي المدّة المحدودة وإن طالت.

وعلى كل حال ، فإنّنا كثيرا ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن ، وعند ما يسأل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس لهم علم بذلك ، وأن علمه عند الله ، وورد في حديث أنّ جبرئيل عليه‌السلام ظهر عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هيئة أعرابي ، فسأله عن الساعة ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» فأعاد عليه السؤال رافعا صوته : يا محمّد متى الساعة؟ فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك ، إنّها كائنة فما أعددت لها؟» فقال الأعرابي : لم أعد كثيرا من الصلاة والصيام ، ولكن أحبّ الله ورسوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأنت مع من أحببت» ، فقال أنس (وهو أحد الصحابة) : فما فرح المسلمون بشيء كفرحهم بهذا الحديث. (١)

ثمّ يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً). (٢)

ثمّ يضيف مستثنيا : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).

أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً).

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٢٩ ، ص ١٠٥.

(٢) عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هو عالم الغيب ، وقيل : صفة أو بدل لربّي في الآية السابقة.

١٠٦

«رصد» : في الأصل مصدر ، ويراد به الاستعداد للمراقبة من شيء ، ويطلق على الاسم الفاعل والمفعول ، ويستعمل في المفرد والجمع ، أي يطلق على المراقب والحارس أو على المراقبين والحرّس.

ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم الله مع الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحيطوه من كل جانب ، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجنّ والإنس ووساوسهم : ومن كل شيء يخدش أصالة الوحي ، ليوصلوا الرسالات إلى العباد من دون خدش أو زيادة أو نقصان ، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوة الغيبية ، والملائكة.

في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (١).

المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي ، وبعبارة أخرى ليس معنى الآية أنّ الله ما كان يعلم عن أنبيائه شيئا ثمّ علم ، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير متناه ، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج ، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة ، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجّة بذلك.

* * *

__________________

(١) أرجع بعض المفسّرين ضمير (ليعلم) إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : المراد من ذلك هو أنّ الله قد جعل لأسرار الوحي والرسالة حفظة وحراسا ، وليعلم الرّسول أنّ الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي الإلهي فتطمئن نفسه ولا يتردد في أصالة الوحي ، ولكن هذا القول في غاية البعد ، وذلك لأنّ حمل الرسالة من عمل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من عمل الملائكة وعبارة الرّسول في الآية السابقة والرسالات في الآيات التي مضت تخصّ شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا فإنّ التّفسير الأوّل هو الأوجه.

١٠٧

بحوث

١ ـ تحقيق موسّع حول علم الغيب

من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان :

القسم الأوّل : ما يتعلق بذاته جلّ شأنه ولا يعلمه إلّا هو ، كما في الآية (٥٩) من سورة الأنعام : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) والآية (٦٥) من سورة النمل : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وكما ورد في شأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية (٥٠) من سورة الأنعام : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ).

ونقرأ في الآية (١٨٨) من سورة الأعراف : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) وأخيرا نقرأ في الآية (٢٠) من سورة يونس : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) وغيرها من الآيات.

القسم الثّاني : يطرح بوضوح اطلاع أولياء الله على الغيب ، كما نقرأ في الآية (١٧٩) من سورة آل عمران : (ما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) ونقرأ في معاجز المسيح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (١)

والآية السابقة مورد البحث أيضا تشير إلى أنّ الله تعالى يهب العلم لمن يرتضيه من رسله : (وذلك لأنّ استثناء النفي إثبات) ، ومن جهة أخرى فإنّ الآيات التي تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآية الثّانية حتى الرّابعة من سورة الروم : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وتقول الآية (٨٥) من سورة القصص : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ

__________________

(١) آل عمران ، ٤٩.

١٠٨

لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وتقول الآية (٢٧) من سورة الفتح : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

ومن المعروف أنّ الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من الغيب الذي أطلعهم الله عليه ، فكيف يمكن أن ننفي اطلاعهم بالغيب في الوقت الذي يهبط عليهم الوحي.

بالإضافة إلى ذلك كلّه فإنّ هناك روايات كثيرة تدل على أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام مطّلعون على الغيب ، ويخبرون به أحيانا ، فمثلا نجد ذلك في قصّة «فتح مكّة» وحادث حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب كتابا لأهل مكّة وسلمه لامرأة تدعى «سارة» لتوصله إلى مشركي مكّة ، وأطلعهم فيه على نيّة الرّسول في الهجوم على مكّة ، فأخفت تلك المرأة الكتاب في ضفائرها ، قصدت الذّهاب إلى مكّة ، فأرسل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعه بعض أصحابه وقال لهم : «ستجدون امرأة عندها كتاب من حاطب إلى المشركي قريش في منزل يسمّى (خاخ)» فلمّا وجدوها أنكرت عليهم الكتاب ، ولكنّها سرعان ما اعترفت وأخذوا منها الكتاب (١).

وكذلك إخبارهم بحوادث معركة مؤتة ، واستشهاد جعفر الطيار عليه‌السلام وبعض القادة المسلمين ، في الوقت الذي كان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلع الناس على ذلك في المدينة (٢) ، والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وورد في نهج البلاغة أيضا أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث مستقبلية ، أخبر عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ممّا يدل على اطلاعه عليه‌السلام بأسرار الغيب ، كما جاء في الخطبة (١٣) في ذمّة أهل البصرة حيث يقول : «كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ لسفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها».

__________________

(١) شرح هذه الحادثة ودليله في هذا المجلد في تفسير سورة الممتحنة.

(٢) كامل ابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٢٣٧ ، (حادثة غزوة مؤتة).

١٠٩

ووردت في روايات أخرى عن طريق الخاصّة والعامّة أخبار متعددة عنه عليه‌السلام وهي سابقة لأوانها ، كقوله لحجر بن قيس : «إنّك من بعدي تجبر على لعني» (١).

وما قاله في مروان : «إنّه يحمل راية الضلال بعد الكبر على أكتافه» (٢).

وما قاله كميل بن زياد للحجاج أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد أخبرني بأنّك قاتلي. (٣)

وما قاله عليه‌السلام في خوارج النهروان : «إنّه لا يقتل منّا في حربهم عشرة ولا ينجو منهم إلّا عشرة» (٤) وقد حدث ما قال عليه‌السلام.

وما قاله حول موضع قبر الإمام الحسين عليه‌السلام عند مروره بكربلاء للأصبغ بن نباتة (٥) ، وفي كتاب فضائل الخمسة وردت روايات كثيرة عن كتب أبناء العامّة حول علم الإمام الخارق للعادة ، وذكرها يطول في هذا المقام (٦).

وذكرت أيضا روايات عديدة في هذا الباب عن لسان الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ؛ منها ما ذكر في كتاب الكافي المجلد الأوّل من تصاريح وإشارات متعددة في أبواب عديدة منه.

وقد أورد المرحوم العلّامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار المجلد (٢٦) أحاديث كثيرة في هذا الإطار تبلغ ٢٢ حديثا.

ومضافا إلى ذلك فإنّ روايات في باب علم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمّة

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٣٥٨.

(٢) طبقات ابن سعد ، ج ٥ ، ص ٣٠.

(٣) الإصابة لابن حجر ، ج ٥ ، القسم ٣ ، ص ٣٢٥.

(٤) الهيثمي في المجمع ، ج ٦ ، ص ٢٤١.

(٥) الرياض النضرة ، ج ٣ ، ص ٢٢٢.

(٦) فضائل الخمسة ، ج ٢ ، ص ٢٣١ الى ٢٥٣.

١١٠

المعصومين عليهم‌السلام بأسرار الغيب هي على حدّ التواتر ، أمّا كيف نجمع بين هذه الآيات والرّوايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير الله وإثبات البعض الآخر لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها :

١ ـ أشهر طرق الجمع هو أنّ المراد من اختصاص علم الغيب بالله تعالى هو العلم الذاتي والاستقلالي ، ولهذا لا يعلم الغيب إلّا هو ، وما يعلمونه فهو من الله ، وذلك بلطفه وعنايته ، والدليل على هذا الجمع هو تلك الآية التي بحثت من قبل والتي تقول : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).

وقد أشير إلى هذا المعنى في نهج البلاغة عند ما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يخبر عن الحوادث المقبلة (وهو يتصور هجوم المغول على البلاد الإسلامية) فقال أحد أصحابه : يا أمير المؤمنين ، هل عندك علم الغيب؟ فتبسّم أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : «ليس هو بعلم غيب ، إنّما هو تعلم من ذي علم». (١)

وقد وافق على هذا الجمع كثير من العلماء المحققين.

٢ ـ أسرار الغيب قسمان : قسم خاص بالله عزوجل لا يعلمه إلّا هو كقيام الساعة ، وغيرها ممّا يشابه ذلك ، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء ، كما يقول علي عليه‌السلام في نهج البلاغة في ذيل تلك الخطبة المشار إليها : «وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده الله سبحانه بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (٢).

ثمّ أضاف الإمام عليه‌السلام في شرح هذا المعنى.

يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك علما إجماليا ، وأمّا العلم التفصيلي والتعرف على هذه الأمور فهو خاص بذات

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٨.

(٢) المصدر السّابق.

١١١

الله تعالى المقدسة وإنّ علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات وخصوصيات يوم القيامة.

وإذا كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام قد أخبروا البعض في أحاديثهم عمّن يولد أو عمن ينقضي عمره ، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.

٣ ـ الطريق الآخر للجمع بين القسمين من الآيات والرّوايات هو ثبوت أسرار الغيب في مكانين : في اللوح المحفوظ (الخزانة الخاصّة لعلم الله وهو غير قابل للتغيير ولا يمكن لأحد أن يعلم عنه شيئا).

ولوح المحو والإثبات الذي هو علم المقتضيات وليس العلّة التامة ، ولهذا فهو قابل للتغيير ، وما لا يدركه الآخرون يرتبط بهذا القسم.

لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام : «إنّ لله علما لا يعلمه إلّا هو ، وعلما أعلمه ملائكته ورسله ، فما أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه» (١).

ونقل عن علي بن الحسين عليه‌السلام أيضا أنّه قال : «لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة» فقلت له : أيّة آية؟ فقال : «قول الله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢).

وطبقا لهذا الجمع يكون تقسيم العلوم على أساس حتميته أو عدمه ، وفي الجمع السابق يكون على أساس مقدار المعلومات.

٤ ـ والطريق الآخر هو أنّ الله تعالى يعلم بكل أسرار الغيب ، وأمّا الأنبياء والأولياء فإنّهم لا يعلمونها كلّها ، ولكنّهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم الله تعالى بها ، وبالطبع هذه الإرادة لا تتمّ إلّا بإذن الله تعالى.

ومحصلة ذلك أنّ الآيات والرّوايات التي تقول إنّهم لا يعلمون بالغيب هي إشارة إلى عدم المعرفة الفعلية ، والتي تقول إنّهم يعلمون تشير إلى

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٦ ، ص ١٦٠ ، الحديث ٥ ، هناك روايات متعددة في هذا الإطار قد نقلت من هذا المصدر.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥١٢ ، الحديث ١٦.

١١٢

إمكان معرفتهم لها.

وهذا في الحقيقة كمن يسلم رسالة بيد شخص ما ليوصلها إلى آخر ، ويمكن القول هنا : إنّ الشخص الموصل لها لا يعلم بمحتوى الرسالة ، ولكن يمكنه فتحها والتعرف على ما فيها إذا ما حصل على الموافقة على قراءتها ، ففي هذه الصورة يمكن القول على أنّه عالم بمحتوى الرسالة ، وربّما لا يسمح له ذلك.

والدليل على هذا الجمع هو ما نقرأه في الرّوايات المنقولة في كتاب الكافي للكليني رحمه‌الله في باب (أنّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا اعلموا) ومنها في حديث ورد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قال : «إذا أراد الإمام أن يعلم شيئا أعلمه الله ذلك». (١)

وهذا الوجه من الجمع يمكن أن يحلّ الكثير من المشاكل المتعلقة بعلم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، منها أنّهم كانوا يتناولون مثلا الغذاء المسموم في حين أن تناول ما يؤدي بالإنسان إلى الهلاك غير جائز ، فكيف يكون ذلك؟ فلهذا يجب القول : إنّ في مثل هذه الموارد ما كان يسمح لهم معرفة أسرار الغيب.

وهكذا تقتضي المصلحة أحيانا في ألّا يتعرّف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام على أمر من الأمور ، أو يعرض إلى اختبار ليتكامل بتجاوزه مرحلة الاختبار ، كما جاء في قصّة ليلة المبيت عند ما بات الإمام علي عليه‌السلام في فراش النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يعلم هل أنّ الإمام عليه‌السلام سوف ينجو من المشركين عند ما يهجمون على أم يستشهد ، فالمصلحة هنا تقتضي ألّا يعلم الإمام عاقبة هذا الأمر ليتحقق الاختبار الإلهي ، وإذا كان الإمام بنجاته عند هجوم القوم عليه لم يكن له حينئذ أيّ ، ولم يكن ما ذكر في الآيات الكريمة والرّوايات في أهمية هذا الإيثار محل من الاعراب.

نعم ، إنّ مسألة العلم الإرادي هي جواب لكلّ هذه الإشكالات.

٥ ـ هناك طريق آخر أيضا لجمع الرّوايات المختلفة في علم الغيب (وإن كان

__________________

(١) كتاب الكافي باب (أنّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا أعلموا) الحديث ٣ ، ونقلت روايات عديدة في هذا الباب بنفس المضمون.

١١٣

هذا الطريق صادقا في بعض هذه الرّوايات) وذلك هو أنّ المخاطبين في هذه الرّوايات هم على مستويات مختلفة ، فمن كان له الاستعداد الكامل والتهيؤ لقبول مسألة علم الغيب للأئمّة عليهم‌السلام كانت تستوفي لهم المطاليب بتمامها ، وأمّا المخالفون والضعفاء فقد كان الحديث معهم على قدر عقولهم.

فنقرأ مثلا في حديث أنّ أبا بصير وعدّة من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام كانوا ذات يوم في مجلس فدخل عليهم الإمام عليه‌السلام غضبان ، وعند ما جلس قال : «يا عجبا لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلّا الله عزوجل لقد هممت بضرب جاريتي فلانة ، فهربت منّي فما علمت في أي بيوت الدار هي». (١)

يقول الراوي : فلمّا قام الإمام ودخل الدّار قمنا خلفه ، وقلنا له : فدتك نفوسنا قلت هذا عن جاريتك ، ونحن نعلم أنّ لكم علوما كثيرة ، ولا نسمّي ذلك بعلم الغيب؟ عندئذ قال الإمام : «إنّ ما أردته كان العلم بأسرار الغيب».

يتّضح من ذلك أنّ الجالسين كانوا لا يملكون الاستعداد والتهيؤ لإدراك مثل هذه المعاني ويجهلون مقام الإمام عليه‌السلام.

ويجب الالتفات إلى أنّ هذه الطريق الخمسة لا تتنافى مع بعضها ، ويمكن أن تكون كلّها صادقة.

٢ ـ الطريق الآخر لإثبات علم الغيب للأئمّة عليهم‌السلام

يوجد هنا طريقان لإثبات حقيقة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام المعصومين يعلمون الغيب بصورة إجمالية :

الأوّل : هو أنّنا نعلم أنّ مهمتهم لم تجدّد بمكان وزمان خاص ، بل أنّ رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الأئمّة عليهم‌السلام هي عالمية وخالدة ، فكيف يمكن لمن يملك هذه

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، باب نادر فيه ذكر الغيب الحديث ٣.

١١٤

المهمّة ألّا يعلم شيئا سوى ما يحيط به وبزمانه؟ هل يمكن لمن يتسلم مهمّة الإمرة على إمارة ، والمحافظة على قسم عظيم من بلاد ما وهو لا يعلم منها شيئا ، وفي نفس الوقت يطلب منه أن ينفذ المهمّة على أحسن وجه؟!

وبعبارة أخرى ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه أن يبيّن الأحكام الإلهية ويطبقها في فترة حياته بحيث يلبّي احتياجات البشرية في كلّ زمان ومكان ، وهذا لا يمكن إلّا بمعرفته على الأقل لقسم من أسرار الغيب.

ثمّ هناك ثلاث آيات في القرآن المجيد إذا وضعت إلى جانب بعضها البعض فسرعان ما يتّضح لنا ما يتعلق بعلم الغيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام فالأوّل ما يذكره القرآن حول من أحضر عرش ملكة سبأ في طرفة عين (وهو آصف بن برخيا) فيقول تعالى في كتابه : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (١) ، ونقرأ في آية أخرى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢).

ومن جهة أخرى نقل في أحاديث مختلفة في كتب الخاصّة والعامّة أنّ أبا سعيد الخدري قال سألت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن معنى الآية : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) فقال : «هو وصي أخي سليمان بن داود» قلت ومن المراد في : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)؟ فقال : «ذاك أخي علي بن أبي طالب» (٣).

فالملاحظ فيما يقوله إنّ (علم من الكتاب) الذي جاء فيما يخص «آصف» هو علم جزئي ، وأمّا حينما يقول في (علم الكتاب) الذي ورد فيما يخص عليا عليه‌السلام هو علم كلي ، وهذا ما يوضح الاختلاف بين المقام العلمي لآصف وبين المقام العلمي لعلي عليه‌السلام.

__________________

(١) النّمل ، ٤٠.

(٢) الرّعد ، ٤٣.

(٣) راجع الجزء الثالث من (إحقاق الحقّ) ص ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، ونور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥٢٣.

١١٥

ومن جهة ثالثة : نقرأ في الآية (٨٩) من سورة النحل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) فمن الواضح أنّ من يعلم بأسرار مثل هذا الكتاب ، لا بدّ أن يكون مطّلعا على أسرار الغيب ، وهذا دليل واضح على إمكان الاطلاع والمعرفة على أسرار الغيب بأمر من الله لإنسان هو من أولياء الله.

وكانت لنا بحوث ح علم الغيب في ذيل الآية (٥٠) و (٥٩) من سورة الأنعام والآية (١٨٨) من سورة الأعراف.

٣ ـ تحقيق حول خلق الجن

الجن كما جاء في المفهوم اللغوي هو نوع من الخلق المستور ، وقد ذكرت له مواصفات كثيرة في القرآن منها :

١ ـ إنّهم مخلوقون من النار ، بعكس الإنسان المخلوق من التراب : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ). (١)

٢ ـ إنّهم يمتلكون الإدراك والعلم والتمييز بين الحق والباطل والقدرة على المنطق والاستدلال ، (كما هو واضح من آيات سورة الجن).

٣ ـ إنّهم مكلّفون ومسئولون (كما في آيات سورة الجن والرحمن).

٤ ـ وفيهم المؤمنون والصالحون والطالحون : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ).(٢)

٥ ـ إنّهم يحشرون وينشرون : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). (٣)

٦ ـ لهم القدرة على النفوذ في السماوات وأخذ الأخيار واستراق السمع ، ولكنّهم منعوا من ذلك فيما بعد : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ

__________________

(١) الرحمن ، ١٥.

(٢) الجن ، ١١.

(٣) الجن ، ١٥.

١١٦

الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً). (١)

٧ ـ كانوا يوجدون ارتباطا مع بعض الناس لإغوائهم بما لديهم من العلوم المحدودة التابعة إلى بعض الأسرار الروحية : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً). (٢)

٨ ـ ويوجد فيهم من يتمتع بالقدرة الفائقة كما وجود في أوساط الإنس : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ). (٣)

٩ ـ لهم القدرة على قضاء بعض الحوائج التي يحتاجها الإنسان (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) (٤).

١٠ ـ إنّ خلقهم كان قبل خلق الإنسان : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) (٥) ولهم خصائص أخرى.

بالإضافة إلى ذلك فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الإنسان هو نوع أفضل من الجن ، وبخلاف ما هو مشهور على الألسن لأنّهم أفضل منّا ، ودليل اختيار الأنبياء من الإنس ، وإنّهم آمنوا بنبي الإسلام الذي هو من الإنس واتبعوه ، وهكذا وجوب سجود الشيطان لآدم عليه‌السلام كما صرّح القرآن بذلك ، وكون الشيطان من أكابر طائفة الجن (الكهف ٥٠) هو دليل على أفضلية بني الإنسان على الجنّ.

إلى هنا كان الحديث عن أمور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق المستور والخالية من كل الخرافات والمسائل غير العلمية ، ولكنّنا نعلم أن السذج والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافى مع العقل

__________________

(١) الجن ، ٩.

(٢) الجن ، ٦.

(٣) النمل ، ٣٩.

(٤) سبأ ، ١٢ ـ ١٣.

(٥) الحجر ، ٢٧.

١١٧

والمنطق ، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة ، وأنّهم موجودات سامة وذوات أذناب! مؤذية ، ومبغضة ، سيئة التصرف والسلوك إذ يمكن أن تحرق دورا بمجرّد أن يسكب إناء ماء مغلي في بالوعة مثلا ، وأوهام أخرى من هذا القبيل ، في حين أنّ أصل الموضوع إذا تمّ تطهيره من هذه الخرافات قابلا للقبول ، لأننا لا نملك دليلا على حصر الموجودات الحية بما نحن نراه ، بل يقول علماء العلوم الطبيعية : إنّ الكائنات التي يستطيع الإنسان أن يدركها بحواسه ضئيلة بالنسبة للموجودات التي لا تدرك بالحواس.

وفي الفترة الأخيرة وقبل أن يكشف المجهر هذه الكائنات الحية ، لم يصدق أحد أنّ هناك الآلاف المؤلفة من الموجودات الجية المتواجدة في قطرة الماء أو الدم لا يمكن للإنسان أن يراها ويقول أيضا : إنّ أعيننا ترى ألوانا محدودة ، وكذا آذاننا تسمع أمواجا صوتية محدودة ، والألوان والأصوات التي لا ندركها بآذاننا وأعيننا أكثر بكثير من تلك التي تدرك ، وعند ما تكون الدنيا بهذا الشكل لا يبقى موضع للتعجب من وجود هذه الكائنات الحية ، والتي لا يمكن لنا إدراكها بالحواس ، ولم لا نتقبل ذلك عند ما يخبرنا انسان صادق كالنّبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

على أي حال فإنّ القرآن المجيد قد أخبرنا من جهة بوجود الجن وخصوصياته المذكورة سلفا ، ومن جهة أخرى ليس هناك دليل عقلي على عدم وجود الجن ، ولهذا لا بدّ من الإعتقاد بهم ، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في خرافات العوام.

وممّا يلاحظ أيضا أنّ لفظ الجن يطلق أحيانا على مفهوم أوسع يشمل أنواعا من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك ولفاقدة لهما ، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضا ، والدليل على ذلك روايات وردت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «خلق الله الجن خمسة أصناف : صنف كالريح في الهواء ، وصنف حيات ، وصنف عقارب ، وصنف

١١٨

حشرات الأرض ، وصنف كنبي آدم عليهم الحساب والعقاب» (١).

وبالتوجه إلى هذه الرّوايات ومفهومها فسوف تحلّ الكثير من المشاكل التي تطرح في الرّوايات والقصص الخاصّة بالجن.

ففي رواية وردت عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : «لا تشرب الماء من ثلمة الإناء ولا عروته ، فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة». (٢) لأنّ الشيطان هو من الجن ، ولأنّ ثلمة الإناء وعروته محل لاجتماع المكروبات المتنوعة ، فلا يستبعد أن يكون الجن والشيطان بمفهومه العام شاملا لمثل هذه الكائنات ، وإن كان المعنى الخاص له هو الكائن ذو فهم وشعور وإنّه مكلّف ومسئول ، والرّوايات كثيرة في هذا الباب.

ربّنا! ألطف بنا يوم يحضر الجن والإنس في محكمة عدلك ، ويوم يندم المسيؤون على ما عملوا.

اللهم! إنّ أركان ملكك واسعة ومعرفتنا ومعلوماتنا محدودة فاحفظنا وصنّا من المزالق والخطايا والحكم بغير الحقّ.

إلهنا! إنّ مقام رسولك الكريم من العظمة والسمو أن آمن به الجن مضافا إلى الإنس ، فاجعلنا من المؤمنين بدعوته ...

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة الجن

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ١٨٦ (مادة الجن).

(٢) الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٨٥ ، كتاب الأشربة ، باب الأواني ، الحديث ٥.

١١٩
١٢٠