الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

الغاضبة.

وأضاف قسم آخر في توضيح هذا المعنى ، أنّهم يريدون قتلك بالحسد عن طريق العين ، وهو ما يعتقد به الكثير من الناس ، لوجود الأثر المرموز في بعض العيون والتي يمكن أن تؤثّر على الطرف الآخر بنظرة خاصّة تميت المنظور.

٢ ـ وقال البعض الآخر : إنّها كناية عن نظرات ملؤها الحقد والغضب ، كما يقال عرفا : إنّ فلانا نظر إليّ نظرة وكأنّه يريد التهامي أو قتلي.

٣ ـ ويوجد تفسير آخر للآية الكريمة يحتمل أن يكون أقرب التفاسير ، وهو أنّ الآية الكريمة أرادت أن تظهر التناقض والتضادّ لدى هؤلاء المعاندين ، وذلك أنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيرا عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالبا في الأمور التي تثير الإعجاب كثيرا) إلّا أنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون ، وهذا يمثّل التناقض حقّا. إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟

إنّ هؤلاء ذوي العقول المريضة لا يدركون ما يقولون وما وقعوا فيه من التناقض فيما ينسبونه إليك.

وعلى كلّ حال فإنّ ما يتعلّق بموضوع حقيقة إصابة العين وصحّتها ـ من وجهة النظر الإسلامية أو عدمها ، وكذلك من وجهة نظر العلوم الحديثة ، فهذا ما سنستعرضه في البحوث التالية إن شاء الله.

وأخيرا يضيف تعالى في آخر آية : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

حيث أنّ معارف القرآن الكريم واضحة ، وإنذاراته موقظة ، وأمثاله هادفة ، وترغيباته وبشائره مربّية ، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين ، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟

وتماشيا مع هذا الرأي فإنّ (ذكر) على وزن (فكر) تكون بمعنى (المذكّر).

وفسّرها البعض الآخر بمعنى (الشرف) ، وقالوا : إنّ هذا القرآن شرف لجميع

٥٦١

العالمين ، وهذا ما هو وارد ـ أيضا ـ في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١).

إلّا أنّ (الذكر) هنا بمعنى المذكّر والمنبّه ، بالإضافة إلى أنّ أحد أسماء القرآن الكريم هو (الذكر) وبناء على هذا ، فإنّ التّفسير الأوّل أصحّ حسب الظاهر.

* * *

بحث

هل أنّ إصابة العين لها حقيقة؟

يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثارا خاصّة عند ما تنظر لشيء بإعجاب ، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف ، وإذا كان المنظور إنسانا فقد يمرض أو يجنّ ..

إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية ، حيث يعتقد البعض من العلماء المعاصرين بوجود قوّة مغناطيسية خاصّة مخفية في بعض العيون بإمكانها القيام بالكثير من الأعمال ، كما يمكن تدريبها وتقويتها بالتمرين والممارسة ، ومن المعروف أنّ «التنويم المغناطيسي» يكون عن طريق هذه القوّة المغناطيسية الموجودة في العيون.

إنّ (أشعة ليزر) هي عبارة عن شعاع لا مرئي يستطيع أن يقوم بعمل لا يستطيع أي سلاح فتّاك القيام به ، ومن هنا فإنّ القبول بوجود قوّة في بعض العيون تؤثّر على الطرف المقابل ، وذلك عن طريق أمواج خاصّة ليس بأمر مستغرب.

ويتناقل الكثير من الأشخاص أنّهم رأوا بامّ أعينهم أشخاصا لهم هذه القوّة المرموزة في نظراتهم ، وأنّهم قد تسبّبوا في إهلاك آخرين (أشخاص وحيوانات وأشياء) وذلك بإصابتهم بها.

__________________

(١) الزخرف ، الآية ٤٤.

٥٦٢

لذا فلا ينبغي الإصرار على إنكار هذه الأمور. بل يجدر تقبّل احتمال وجود مثل هذا الأمر من الناحية العقلية والعلمية.

كما جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ـ أيضا ـ ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية كما في الرواية التالية : «إنّ أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إنّ بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : نعم ، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقه العين».(المقصود من (الرقية) هي الأدعية التي يكتبونها ويحتفظ بها الأشخاص لمنع الإصابة بالعين ويقال لها التعويذة أيضا) (١).

وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : النّبي رقى حسنا وحسينا فقال : «أعيذكما بالكلمات التامّة وأسمائه الحسنى كلّها عامّة ، من شرّ السامّة والهامّة ، ومن شرّ كلّ عين لامّة ، ومن شرّ حاسد إذا حسد» ثمّ التفت النّبي إلينا فقال : هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق (٢).

وجاء في نهج البلاغة أيضا : «العين حقّ ، والرقى حقّ» (٣).

ولمّا كانت الأدعية توسّلا للبارئ عزوجل في دفع الشرّ وجلب الخير ، فبأمر من الله تعالى يمنع تأثير القوّة المغناطيسية للعيون ، ولا مانع من ذلك ، كما أنّ للأدعية تأثيرا في كثير من العوامل والأسباب الضارّة وتبطل مفعولها بأمر الله تعالى.

كما يجدر الالتفات إلى هذه النقطة ـ أيضا ـ وهي : إنّ قبول تأثير الإصابة بالعين بشكل إجمالي لا يعني الإيمان بالأعمال الخرافية ، وممارسات الشعوذة التي تنتشر بين العوام ، إذ أنّ ذلك مخالف لأوامر الشرع ، ويثير الشكّ في أصل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٠٠.

(٣) نهج البلاغة ، من الكلمات القصار جملة (٤٠٠) ، (نقل هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ١٧١ باب (العين حقّ) ولما ذكرناه فالعين حقّ) وكذلك في (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) ، كما نقل هذا المعنى من منابع مختلفة ج ٤ ، ص ٤٥١.

٥٦٣

الموضوع عند غير المسلمين بهذه المسائل ، كما أنّ هذه الأعمال تربك وتشوش الكثير من الحقائق بما يدس بها من الأوهام والخرافات ، وبذلك يكون الانطباع عنها سلبيا في الأذهان.

اللهمّ : احفظنا بحفظك من شرّ الأشرار ، ومكائد الأعداء.

ربّنا ، تفضّل علينا بالصبر والاستقامة في سبيل تحصيل رضاك.

إلهي ، وفّقنا للاستفادة من نعمك اللامتناهية وأداء شكرها قبل أن تسلب منّا.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة القلم

* * *

٥٦٤
٥٦٥

سورة

الحاقّة

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥٦٦

«سورة الحاقّة»

محتوى السورة :

تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور :

المحور الأوّل : وهو أهمّ محاور هذه السورة ، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها ، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي : (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).

أمّا المحور الثاني : فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين ، خصوصا قوم عاد وثمود وفرعون ، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكفّار ومنكري يوم البعث والنشور.

وتتحدّث أبحاث المحور الثالث حول عظمة القرآن الكريم ، ومقام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجزاء المكذّبين.

فضيلة تلاوة سورة الحاقّة

جاء في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله حسابا يسيرا» (١).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : (أكثروا من قراءة الحاقّة ، فإنّ قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى الله) (٢).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٢.

(٢) المصدر السابق.

٥٦٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨))

التّفسير

الطغاة والعذاب الأليم :

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة ، يقول تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (١) والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقّق حتما.

ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة ، باعتباره

__________________

(١) هناك وجهات نظر عدّة في إعراب جملة (الحاقّة ، ما الحاقّة) ، إلّا أنّ الأنسب في هذه الآراء هو أن يقال : إنّ (الحاقّة) مبتدأ ، و (ما) الاستفهامية مبتدأ ثان و (الحاقّة) الثانية خبر للمبتدأ الثاني ، وجملة (ما الحاقّة) خبر للمبتدأ الأوّل.

٥٦٨

قطعي الوقوع ، كما هو بالنسبة لـ (الواقعة) في سورة (الواقعة) ، وقد جاء في الآية (١٦) من هذه السورة الاسم نفسه ، وهذا يؤكّد يقينية ذلك اليوم العظيم.

«ما الحاقّة» : تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم ، كما يقال : إنّ فلانا إنسان ، يا له من إنسان ، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيّته دون تقييد حدّها.

والتعبير بـ (ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) للتأكيد مرّة اخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتّى أنّ البارئ عزوجل يخاطب رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم؟ (١).

وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن امّه المسائل المتعلّقة بالدنيا ، فإنّ أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة.

ويحتمل أنّ المقصود من (الحاقّة) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحلّ فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمرّدين على الحقّ.

كما فسّرت (القارعة) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى ـ أيضا وبلحاظ أنّ هذا التّفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط ، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى هذا الرأي أيضا.

وجاء في تفسير (علي بن إبراهيم) قوله : إنّ (الحاقّة هي الحذر من نزول العذاب) وهو نظير ما جاء في الآية التالية : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٢) (٣)

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم

__________________

(١) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ جملة (ما أدراك) تتحدّث عن المسائل المعلومة والمسلّمة ، بينما جاءت (وما يدريك) في الموارد والمسائل المبهمة. مجمع البيان ج ١٠ ، ص ٣٤٣ ، كما نقل بعض المفسّرين هذا المعنى أيضا ومنهم القرطبي.

(٢) تفسير (علي بن إبراهيم) ج ٢ ، ص ٣٨٣ ، ومما يجدر الانتباه إليه أن كلمة (الحاقة) و (الحاق) من مادة واحدة.

(٣) المؤمن ، الآية ٤٥.

٥٦٩

القيامة ، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا ، حيث يضيف تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ).

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، فبعث الله النبي صالح عليه‌السلام إليهم ، ودعاهم إلى الإيمان بالله ... إلّا أنّهم لم يستجيبوا له ، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقا ، وفي هذه الحالة من التمرّد الذي هم عليه ، سلّط الله عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كلّ وجودهم في لحظات ، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة ، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ القرآن الكريم يعبّر عن عقاب هؤلاء الأقوام المتمردين بـ (العذاب الشديد) ، وقد كان العذاب الشديد بصور متعدّدة حيث عبّر عنه بـ (الطاغية) كما جاء في الآية مورد البحث واخرى بال (رجفة) كما جاء في سورة الأعراف الآية (٧٨) وثالثة كان بصورة (صاعقة) كما ورد في سورة فصّلت الآية (١٣) ، ورابعة كان على شكل (صيحة) كما جاء في سورة هود الآية (٦٧).

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد ، لأنّ الصاعقة دائما تكون مقرونة : بصوت عظيم ، ورجفة على النقطة التي تقع فيها ، وعذاب طاغ عظيم.

ثمّ تتطرّق الآية اللاحقة لتحدّثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة ، وأجساد قوية ، ومدن عامرة ، وأراض خضراء خصبة ، وحدائق نضرة .. وكان نبيّهم (هود) عليه‌السلام يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله ... إلّا أنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحقّ ، فانتقم الله منهم شرّ انتقام ، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذابا شديدا مؤلما ، سنوضّح شرحه في

٥٧٠

الآيات التالية.

يقول تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ).

«صرصر» على وزن (دفتر) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت وضوضاء ، أو المسمومة ، وقد ذكر المفسّرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها ، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا.

«عاتية» من مادّة (عتو) على وزن (علو) بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله.

ثمّ تبيّن الآية التالية وصفا آخر لهذه الرياح المدمّرة ، حيث يقول تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً).

«حسوما» من مادّة (حسم) على وزن (رسم) بمعنى إزالة آثار شيء ما ، وقيل للسيف (حسام) على وزن (غلام) ، ويقال : (حسم) أحيانا لوضع الشيء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم ، والتي كانت تتميّز بالابّهة والجمال ، واستأصلتهم من الجذور (١).

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي اقتلعت من الجذور ، بالإضافة إلى خواء نفوسهم ، حيث أنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اخرى.

«خاوية» من مادّة (خواء) على وزن (حواء) في الأصل بمعنى كون الشيء

__________________

(١) «حسوما» جاءت هنا صفة لـ (سبع ليال وثمانية أيّام) ، كما اعتبرها البعض (حالا) لل (ريح) أو (مفعولا به).

٥٧١

خاليا ، ويطلق هذا التعبير أيضا على البطون الجائعة ، والنجوم الخالية من المطر (كما في إعتقاد عرب الجاهلية) ، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (١).

نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد ، بل حتّى مدنهم العامرة ، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبدا.

لقد بحثنا قصّة قوم عاد بصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل ، تفسير الآيات (٥٨ ـ ٦٠) من سورة هود.

* * *

__________________

(١) (باقية) : صفة لموصوف مقدر ، وكانت في الأصل (نفس باقية).

٥٧٢

الآيات

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

التّفسير

أين الآذان الواعية؟

بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود ، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درسا وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم .. يقول تعالى (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ).

ال «خاطئة» بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

ال «المؤتفكات» جمع (مؤتفكة) من مادّة (ائتفاك) بمعنى الانقلاب ، وهي هنا

٥٧٣

إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط ، حيث انقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود بـ (وَمَنْ قَبْلَهُ) هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون ، كقوم شعيب ، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

ثمّ يضيف تعالى : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً).

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) عليهما‌السلام وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة .. وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط عليه‌السلام الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم .. وهكذا كان ـ أيضا ـ موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول. والتشكيك والإعراض والتحدّي ..

إنّ كلّ مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردّين قد ابتلاهم الله بنوع من العذاب ، وأنزل عليه رجزا من السماء بما يستحقّون ، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدرا لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم ، وقوم لوط سلّط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثمّ (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

«رابية» و (ربا) من مادّة واحدة ، وهي بمعنى الإضافة ، والمقصود بها هنا العذاب الصعب والشديد جدّا.

لقد جاء شرح قصّة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم ، وجاءت بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية (١٠ ـ ٦٨) يراجع التّفسير الأمثل ، وكذلك في سورة الأعراف من الآية (١٠٣ ـ ١٣٧) راجع التّفسير الأمثل ، وكذلك في سورة طه من الآية (٢٤ ـ ٧٩) راجع التّفسير الأمثل.

وجاءت قصّة لوط أيضا في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في سورة الحجر الآية (٦١ ـ ٧٧) في التّفسير الأمثل.

وأخيرا تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم ، قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ).

٥٧٤

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّا وكأنّه السيل ينحدر من السماء ، وفاضت عيون الأرض ، والتقت مياههما بحيث أصبح كلّ شيء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلّا مجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح عليه‌السلام في سفينة.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق ، وإلّا ما كنّا في عالم هذا الوجود (١).

ثمّ يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب ، حيث يقول تعالى : (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ).

إنّنا لم نرد الانتقام منكم أبدا ، بل الهداية والخير والسعادة ، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

«تعيها» من مادّة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات ، و (ابن منظور) في لسان العرب : إنّها في الأصل بمعنى الاحتفاظ بشيء معيّن في القلب ، ومن هنا قيل لإناء (وعاء) لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه ، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث ، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

والإنسان تارة يسمع كلاما إلّا أنّه كأن لم يسمعه ، وفي التعبير السائد : يسمع بإذن ويخرجه من الاخرى.

وتارة اخرى يسمع الكلام ويفكّر فيه ويتأمّله. ويجعل ما فيه خير في قلبه ،

__________________

(١) ومن هنا قال البعض : إنّ للآية محذوف تقديره (حملنا آباؤكم).

٥٧٥

ويعتبر الإيجابي منه منارا يسير عليه في طريق حياته ... وهذا ما يعبّر عنه بـ (الوعي).

* * *

تعقيب

١ ـ فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه‌السلام

جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة ـ أعمّ من كتب التّفسير والحديث ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عند نزول الآية أعلاه (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) : «سألت ربّي ـ أن يجعلها اذن علي» ، وبعد ذلك كان يقول الإمام علي عليه‌السلام : «ما سمعت من رسول الله شيئا قطّ فنسيته ، إلّا وحفظته» (١).

ونقل في (غاية المرام) ستّة عشر حديثا في هذا المجال عن طريق الشيعة وأهل السنّة ، كما ينقل (المحدّث البحراني) أيضا في تفسير (البرهان) عن (محمّد بن عبّاس) ثلاثين حديثا في هذا المجال نقلت عن طريق العامّة والخاصّة.

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي عليه‌السلام حيث يكون موضع أسرار الرّسول ، ووارث علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه ـ الموافق له والمخالف ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك عند ما يواجهون المشاكل الاجتماعية والعلمية المختلفة ، ويطلبون منه التدخّل في حلّها ، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

__________________

(١) تفسير (القرطبي) ، ج ١٠ ، ص ٦٧٤٣ ، و (مجمع البيان) ، (وروح المعاني) ، و (روح البيان) ، و (أبو الفتوح الرازي) و (الميزان) نهاية الآيات مورد البحث ، وجاء هذا الحديث أيضا في مناقب ابن المغازلي الشافعي) ص ٢٦٥ (الطبعة الإسلامية).

٥٧٦

٢ ـ التناسب بين (الذنب) و (العقاب)

وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر ، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد العذاب الذي سلّط على قوم ثمود ، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي حلّ بقوم عاد ، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير (الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلّق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم نوح .. والملاحظ من التعبيرات السابقة أنّها جميعا تشترك في مفهوم واحد وهو : (الطغيان والتمرّد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعا أي إنّ عذاب هؤلاء الطغاة تحقّق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعمّ من الماء والهواء والتراب والنار.

كما أنّ هذه التعبيرات ـ أيضا ـ تؤكّد على حقيقة مهمّة ، وهي أنّ العقوبات التي نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلّا تجسيد لحقيقة أعمالنا ، وأنّ أعمالنا نحن البشر تعود علينا خيرا كانت أم شرّا.

* * *

٥٧٧

الآيات

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧))

التّفسير

الصّيحة العظيمة :

استمرارا لما تعرّضت له الآيات الاولى من هذه السورة ، والتي كانت تتعلّق بمسألة الحشر والقيامة ، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب بأسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علما بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب.

يقول تعالى في البداية : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ).

لقد بيّنا فيما سبق أنّ ممّا يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجئ عظيم ، وذلك ما عبّر عنه بـ (نفخة الصور).

٥٧٨

ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للاستفادة منه في جمع وتهيئة الجيوش ، وكذلك في الإعلان عن موعد الاستراحة ، حيث يتمّ العزف بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع. الذي يعلن عنه ، فالعزف للنوم والاستراحة يختلف عن عزف التجمّع والتهيّؤ للحركة والتدريب ...

إنّ مسألة انتهاء هذا العالم ، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة ، هي عند الله بسيطة وهيّنة في مقابل قدرته العظيمة ، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي ويفنى من في السموات والأرضين ، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة ويستعدّون للحساب ، وهذا هو مقصود الآية الكريمة.

لقد تحدّثنا بصورة مفصّلة حول خصوصيات (الصور) وكيفية (النفخ) فيه ، وعدد النفخات ، والفاصلة الزمنية بين كلّ نفخة ، وذلك في تفسير سورة (الزمر) الآية ٦٨ من التّفسير الأمثل ، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك.

والشيء الوحيد الذي نذكّر به هنا هو (نفخة الصور) وكما أشرنا أعلاه فهي (نفختان) : (نفخة الموت) ، و (نفخة الحياة الجديدة) ، لكن هل المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاولى) أم (الثانية)؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحّد بين المفسّرين ، لأنّ الآيات التي ستأتي لاحقا بعضها يتناسب مع نفخة الموت ، والآخر يتناسب مع نفخة الحياة والحشر ، إلّا أنّ منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا تتناسب أكثر مع النفخة الاولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثمّ يضيف تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً).

«دكّ» كما يقول الراغب في المفردات ، وفي الأصل بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتّى تستوي ، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى «الدق الشديد».

كما يستفاد من مصادر اللغة أنّ أصل معنى (دك) هو (الدقّ والتخريب) ولازم

٥٧٩

ذلك الإستواء ، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضا (١).

وعلى كلّ حال فإنّ المقصود من هذه الكلمة ـ في الآية مورد البحث ـ هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات.

ثمّ يضيف تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).

في ذلك اليوم العظيم لا تتلاشى فيه الأرض والجبال فحسب ، بل يقع حدث عظيم آخر ، وذلك قوله تعالى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) وذلك بيان لما تتعرّض له ، الأجرام السماوية العظيمة من انفلاقات وتناثر وتلاشي ، حيث تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحوّل فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى ضعف ، والاستحكام إلى خواء بشكل عجيب. وذلك من خلال حركات وتحوّلات مرعبة جدّا ، كما يعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) الرحمن.

وبعبارة اخرى فإنّ الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان ، ويحدث عالم جديد على انقاض العالم السابق يكون أكمل وأتمّ وأعلى من عالمنا الدنيوي.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها).

«أرجاء» جمع (رجا) بمعنى جوانب وأطراف شيء معيّن ، و (الملك) هنا بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد ، إلّا أنّ المقصود بها هو الجنس والجمع.

إنّ ملائكة الرحمن ـ في الآية أعلاه ـ يصطفون على جوانب وأطراف السماوات ينتظرون تلقّي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة ، وكأنّهم جنود جاهزون لما يؤمرون به.

__________________

(١) «أقرب الموارد» (مادّة : دك).

٥٨٠