الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

الخطّ وما ثبّته القلم على صحائف الأوراق والأحجار ، إذ أنّ هذا الحدث أدّى إلى فصل (عصر التاريخ) عن (عصر ما قبل التاريخ).

إنّ ما يثبته القلم على صفحات الورق هو الذي يحدّد طبيعة الإنتصار أو الانتكاسة لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية ، وبالتالي فإنّ ما يسطّره القلم يحدّد مصير البشر في مرحلة ما أو مكان ما .. فـ (القلم) هو الحافظ للعلوم ، المدوّن للأفكار ، الحارس لها ، وحلقة الاتّصال الفكري بين العلماء ، والقناة الرابطة بين الماضي والحاضر ، والحاضر والمستقبل. بل حتّى موضوع ارتباط الأرض بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضا.

فالقلم يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية ، وهو مرآة تعكس صور المفكّرين على طول التاريخ في كلّ الدنيا وتجمعها في مكتبة كبيرة.

والقلم : حافظ للأسرار ، مؤتمن على ما يستودع ، وخازن للعلم ، وجامع للتجارب عبر القرون والأعصار المختلفة. وإذا كان القرآن قد أقسم به فلهذا السبب ، لأنّ القسم غالبا لا يكون إلّا بأمر عظيم وذي قيمة وشأن.

ومن الطبيعي عندئذ أن يكون (القلم) وسيلة لـ (ما يسطرون) من الكتابة ، ونلاحظ القسم بكليهما لقد أقسم القرآن الكريم بـ (الوسيلة) وكذلك (بحصاد) تلك الوسيلة (وما يسطرون).

وجاء في بعض الروايات «إنّ أوّل ما خلق الله القلم».

نقل هذا الحديث محدّثوا الشيعة عن الإمام الصادق عليه‌السلام (١).

وجاء هذا المعنى أيضا في كتب أهل السنّة في خبر معروف (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٩ ، حديث ٣.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣ ، ص ٧٨.

٥٢١

وجاء في رواية اخرى : (أوّل ما خلق الله تعالى جوهرة) (١).

وورد في بعض الأخبار أيضا : (إنّ أوّل ما خلق الله العقل) (٢).

ويمكن ملاحظة طبيعة الارتباط الخاصّ بين كلّ من (الجوهرة) و (القلم) و (العقل) الذي يوضّح مفهوم كونهم أوّل ما خلق الله سبحانه من الوجود.

جاء في نهاية الحديث الذي نقلناه عن الإمام الصادق عليه‌السلام إنّ الله تعالى قال للقلم بعد خلقه إيّاه : أكتب ، وأنّه كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.

وبالرغم من أنّ المقصود من القلم في هذه الرواية هو قلم التقدير والقضاء ، إلّا أنّ جميع ما هو موجود من أفكار وعلوم وتراث ، وما توصّل إليه العقل البشري على طول التأريخ ، وما هو مثبت من مبادئ ورسالات وتعاليم وأحكام .. يؤكّد على دور القلم في الحياة الإنسانية ومصير البشرية.

إنّ قادة الإسلام العظام لم يكتفوا بحفظ الأحاديث والروايات والعلوم والمعارف الإلهية في ذاكرتهم بل كانوا يؤكّدون على كتابتها ، لتبقى محفوظة لأجيال المستقبل (٣).

وقال بعض العلماء : (البيان بيانان : بيان اللسان ، وبيان البنان ، وبيان اللسان تدرسه الأعوام ، وبيان الأقلام باق على مرّ الأيّام) (٤).

وقالوا أيضا : (إنّ قوام امور الدين والدنيا بشيئين : القلم والسيف ، والسيف تحت القلم) (٥).

وقد نظّم بعض شعراء العرب هذا المعنى بقولهم :

كذا قضى الله للأقلام مذ بريت

أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٥٦ (حديث ١٤ ، ١٦ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠).

(٤) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٢.

(٥) المصدر السابق.

٥٢٢

(إنّ هذا التعبير إشارة بديعة إلى بري القلم بواسطة السكين ، وجعل الشفرة الحادّة بخدمة القلم من البداية) (١).

ويقول شاعر آخر ، في هذا الصدد ومن وحي الآيات مورد البحث :

إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم

وعدوّه ممّا يجلب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب فخرا ورفعة

مدى الدهر إنّ الله أقسم بالقلم (٢)

وإنّه لحقّ ، وذلك أنّه حتّى الانتصارات العسكرية إذا لم تستند وترتكز على ثقافة قويّة فإنّها لن تستقيم طويلا. لقد سجلّ المغول أكبر الانتصارات العسكرية في البلدان الإسلامية ، ولأنّهم كانوا شعبا سطحيا في مجال المعرفة والثقافة فلم يؤثّروا شيئا ، وأخيرا اندمجوا في حضارة الإسلام وثقافة المسلمين وغيّروا مسارهم.

ومجال البحث في هذا الباب واسع جدّا ، إلّا أنّنا ـ التزاما بمنهج التّفسير وعدم الخروج عنه ـ ننهي كلامنا هنا بحديث معبّر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الموضوع حيث يقول : «ثلاثة تخرق الحجب ، وتنتهي إلى ما بين يدي الله : صرير أقلام العلماء ، ووطئ أقدام المجاهدين ، وصوت مغازل المحصنات» (٣).

ومن الطبيعي أنّ كلّ ما قيل في هذا الشأن ، يتعلّق بالأقلام التي تلتزم جانب الحقّ والعدل ، وتهدي إلى صراط مستقيم ، أمّا الأقلام المأجورة والمسمومة والمضلّة ، فإنّها تعتبر أعظم بلاء وأكبر خطر على المجتمعات الإنسانية.

٢ ـ نموذج من أخلاق الرّسول

بالرغم من أنّ الانتصارات التي تمّت على يد الرّسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ١٠٢.

(٣) (الشهاب في الحكم والآداب) ، ص ٢٢.

٥٢٣

برعاية الله سبحانه وإمداده ، إلّا أنّ ذلك كان اقترانا بعوامل عديدة أيضا ، ولعلّ أحد أهمّ هذه العوامل هو : سمو الأخلاق عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاذبيته الشخصية ، إنّ أخلاقيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت من العلو والصفات الإنسانية السامية لدرجة أنّ ألدّ أعدائه كان يقع تحت تأثيرها كما أنّ مكارم الأخلاق التي أودعت فيه كانت تجذب وتشدّ المحبّين والمريدين إليه بصورة عجيبة.

وإذا ما ذهبنا إلى القول بأنّ السمو الأخلاقي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان معجزة أخلاقية ، فإنّنا لا نبالغ في ذلك ، كما سنوضّح لذلك نموذجا من هذا الإعجاز الأخلاقي .. ففي فتح مكّة وعند ما استسلم المشركون أمام الإرادة الإسلامية ، ورغم كلّ حربهم للإسلام والمسلمين وشخص الرّسول الكريم بالذات ، وبعد تماديهم اللئيم وكلّ ممارساتهم الإجرامية ضدّ الدعوة الإلهية .. بعد كلّ هذا الذي فعلوه ، فإنّ رسول الإنسانية أصدر أمرا بالعفو العامّ عنهم جميعا ، وغضّ الطرف عن جميع الجرائم التي صدرت منهم ، وكان هذا مفاجأة للمقرّبين والبعيدين ، الأصدقاء والأعداء ، وكان سببا في دخولهم في دين الله أفواجا ، بمصداق قوله تعالى : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً).

لقد وردت في كتب التّفسير والتاريخ قصص كثيرة حول حسن خلق الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عفوه وتجاوزه وعطفه ورأفته ، وتضحيته وإيثاره وتقواه ... بحيث أنّ ذكرها جميعا يخرجنا عن البحث التّفسيري .. إلّا أنّنا سنكتفي بما يلي :

وجاء في حديث عن الحسين بن علي عليه‌السلام أنّه قال : سألت أبي أمير المؤمنين عن رسول الله كيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال : كان دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ ، ولا غليظ ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مدّاح ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، فلا يؤيّس منه ولا يخيب فيه مؤمّليه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والإكثار وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث كان لا يذمّ أحدا ولا يعيّره ، ولا يطلب عثراته ولا عورته ولا يتكلّم إلّا في ما رجا ثوابه ، إذا تكلّم أطرق

٥٢٤

جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلّموا ، ولا يتنازعون عنده الحديث ...» (١).

نعم لو لم تكن هذه الأخلاق الكريمة وهذه الملكات الفاضلة ، لما أمكن تطويع تلك الطباع الخشنة والقلوب القاسية ، ولما أمكن تليين أولئك القوم الذين كان يلفّهم الجهل والتخلّف والعناد ، ويحدث فيهم انعطافا هائلا لقبول الإسلام ..

ولتفرّق الجميع من حوله بمصداق قوله تعالى : (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

وكم كان رائعا لو أحيينا والتزمنا بهذه الأخلاق الإسلامية القدوة ، وكان كلّ منّا يحمل قبسا من إشعاع خلق وأخلاق رسولنا الكريم وخاصّة في عصرنا هذا حيث ضاعت فيه القيم ، وتنكبّ الناس عن الخلق القويم.

والروايات في هذا الصدد كثيرة ، سواء ما يتعلّق منها حول شخص الرّسول الكريم أو ما يتعلّق بواجب المسلمين في هذا المجال ، ونستعرض الآن بعضا من الروايات في هذا الموضوع.

١ ـ جاء في حديث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» (٢).

ولذا فإنّ أحد الأهداف الأساسية لبعثة الرّسول السعي لتكامل الأخلاق الفاضلة وتركيز الخلق السامي.

٢ ـ وجاء في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار» (٣).

٣ ـ وورد عنه أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن» (٤).

__________________

(١) معاني الأخبار ، ص ٨٣ (بتلخيص قليل).

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٣٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٥٢٥

٤ ـ ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقا ، الموطئون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلّفون. وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة ، المفرّقون بين الإخوان ، الملتمسون للبراء العثرات» (١).

٥ ـ ونقرأ في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثر ما يدخل الناس الجنّة تقوى الله وحسن الخلق» (٢).

٦ ـ وجاء في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنّ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا» (٣).

٧ ـ وورد حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عليكم بحسن الخلق ، فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محالة ، وإيّاكم وسوء الخلق ، فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة» (٤).

إنّ ما يستفاد من مجموع الأخبار ـ أعلاه ـ بشكل واضح وجليّ ، أنّ حسن الخلق مفتاح الجنّة ، ووسيلة لتحقيق مرضاة الله عزوجل ، ومؤشّر على عمق الإيمان ، ومرآة للتقوى والعبادة .. والحديث في هذا المجال كثير جدّا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٣٣.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٤١٠ ، وجاء هذا المضمون في وسائل الشيعة ، ج ٨ ، في ٥٠٤ ، وكذلك في تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٠٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٥٠٦ ، حديث ٢١.

(٤) روح البيان ، ج ١ ، ص ١٠٨.

٥٢٦

الآيات

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

التّفسير

اجتنب أصحاب هذه الصفات :

بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تلتها الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتّضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين ، وذلك من خلال المقارنة بينهما.

يقول تعالى في البداية : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ).

إنّهم أناس ضالّون ، ويدفعون الآخرين للتكبّر على الله ورسوله ، وينهونهم عن قبول مبدأ الهداية ، وقد استهانوا ، واستخفّوا بقيم الحقّ ، وإنّ الطاعة والاستجابة

٥٢٧

لهؤلاء سوف لن تكون نتيجتها إلّا الضلال والخسران.

ثمّ يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

إنّ من أمانيهم ورغبتهم أن تلين وتنعطف باتّجاههم ، وتغضّ الطرف عن تكليفك الرسالي من أجلهم.

ونقل المفسّرون أنّ هذه الآيات نزلت حينما دعا رؤساء مكّة وساداتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسير على نهج أجدادهم في الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وقد نهى الله تعالى رسوله الكريم عن الاستجابة لهم وإطاعتهم (١).

ونقل البعض الآخر أنّ (الوليد بن المغيرة) وكان أحد زعماء الشرك قد عرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أموالا طائلة ، وحلف أنّه سيعطيها لـ (محمّد) إذا تخلّى عن مبدئه ودينه (٢).

والذي يستفاد من لحن الآيات ـ بصورة واضحة ـ وممّا جاء في التواريخ ، أنّ المشركين الذين أعمى الله بصيرتهم ، عند ما شاهدوا التقدّم السريع للإسلام وانتشاره ، حاولوا إعطاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض المكاسب في مقابل تقديم تنازلات مماثلة ، في محاولة لترتيب نوع من الصلح معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا هو منهج أهل الباطل ـ دائما ـ في الظروف والأحوال التي يشعرون فيها أنّهم سيخسرون كلّ شيء ويفقدون مواقفهم ، لذا فإنّهم اقترحوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعطاءه أموالا طائلة ، كما اقترحوا تزويجه بأجمل بناتهم ، كما عرضوا عليه جاها ومقاما وملكا بارزا ، وما إلى ذلك من امور كانوا متعلّقين بها ومتفاعلين معها ومتهالكين عليها ، ويقيسون الرّسول بقياسها».

إلّا أنّ القرآن الكريم حذّر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا من مغبّة إبداء أي تعاطف مع

__________________

(١) الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ٨٥ ، والمراغي ، ج ٢٩ ، ص ٣١.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٦٧١٠.

٥٢٨

عروضهم واقتراحاتهم الماكرة وأكّد على عدم مداهنة أهل الباطل أبدا.

كما جاء في قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

«يدهنون» من مادّة (مداهنة) مأخوذة في الأصل (الدهن) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة ، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق.

ثمّ ينهى سبحانه مرّة اخرى عن اتّباعهم وطاعتهم ، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم ، والتي كلّ واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سببا للابتعاد عنه والصدود عن الاستجابة لهم.

يقول تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

تقال كلمة «حلّاف» على الشخص الكثير الحلف ، والذي يحلف على كلّ صغيرة وكبيرة ، وهذا النموذج في الغالب لا يتسّم بالصدق ، ولذا يحاول أن يطمئن الآخرين بصدقه من خلال الحلف والقسم.

«مهين» من (المهانة) بمعنى الحقارة والضّعة ، وفسّرها البعض بأنّها تعني الأشرار أو الجهلة أو الكاذبين.

ثمّ يضيف عزوجل : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).

«همّاز» من مادّة (همز) ، (على وزن رمز) ويعني : الغيبة واستقصاء عيوب الآخرين.

«مشّاء بنميم» تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة ، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم (وممّا يجدر الالتفات إليه أنّ هذين الوصفين وردا بصيغة المبالغة ، والتي تحكي غاية الإصرار في العمل والاستمرار بهذه الممارسات القبيحة).

ثمّ يسرد تعالى أوصافا اخرى لهم ، حيث يقول في خامس وسادس وسابع

٥٢٩

صفة ذميمة لأخلاقهم : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).

ومن صفاتهم أيضا أنّهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير ، ولا يسعون في سبيله ، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه .. بل إنّهم يقفون سدّا أمام أي ممارسة تدعو إليه ، ويمنعون كلّ جهد في الخير للآخرين ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم متجاوزون لكلّ السنن والحقوق التي منحها الله عزوجل لكلّ إنسان ممّا تلطف به من خيرات وبركات عليه.

وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب ، محتطبون للآثام ، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءا من شخصياتهم وطباعهم التي هي منّاعة للخير ، معتدية وآثمة.

وأخيرا يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ).

«عتل» كما يقول الراغب في المفردات : تطلق على الشخص الذي يأكل كثيرا ويحاول أن يستحوذ على كلّ شيء ، ويمنع الآخرين منه.

وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السيء الطبع والخلق ، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد ، أو الإنسان سيء الخلق عديم الحياء.

«زنيم» تطلق على الشخص المجهول النسب ، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم ، وهي في الأصل من (زنمة) ، (على وزن عظمة) وتقال للجزء المتدلّي من اذن الغنم ، فكأنّها ليست من الاذن مع أنّها متصلة بها.

والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحا وضعة من الصفات السابقة كما استفاد ذلك بعض المفسّرين.

وخلاصة البحث أنّ الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذّبين ، وبيّن صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه ، وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن ، وعارضوا الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذبا وانحطاطا وخسّة ، فهم

٥٣٠

يتتبعون عيوب الآخرين ، نمّامون ، معتدون ، آثمون ، ليس لهم أصل ونسب ، وفي الحقيقة أنّنا لا نتوقّع أن يقف بوجه النور الرسالي إلّا أمثال هؤلاء الأشرار.

ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الاستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم : بقوله : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ).

وممّا لا شكّ فيه أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبدا ، وهذه الآيات ما هي إلّا تأكيد على هذا المعنى ، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع ، ولن تنفع جميع الإغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية.

وبناء على هذا فإنّ الجملة أعلاه تأتي تكملة للآية الكريمة : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

إلّا أنّ البعض اعتبر ذلك بيانا وعلّة لظهور هذه الصفات السلبية ، حيث الغرور الناشئ من الثروة وكثرة الأولاد جرّهم ودفعهم إلى مثل هذه الرذائل الأخلاقية.

ولهذا يمكن ملاحظة هذه الصفات في الكثير من الأغنياء والمقتدرين غير المؤمنين. إلّا أنّ لحن الآيات يتناسب مع التّفسير الأوّل أكثر ، ولهذا اختاره أغلب المفسّرين.

وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية ، حيث يقول تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عزوجل ، فيضلّ ويغوى ويدعو الآخرين للغي والضلال ، ولهذا يجب عدم الاستجابة لهؤلاء وعدم السماع لهم في مثل هذه الأمور ، والإعراض عنهم وعدم طاعتهم ، وهذا تأكيد للنهي عن طاعتهم الذي تعرّضت إليه الآيات السابقة.

وتوضّح لنا آخر آية ـ من هذه الآيات ـ مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ).

وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء ، إذ جاء التعبير أوّلا

٥٣١

بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط ، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.

وثانيا : أنّ الأنف في لغة العرب غالبا ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة ، كما يقال للفارس حين إذلاله : مرّغوا أنفه بالتراب ، كناية عن زوال عزّته.

وثالثا : أنّ وضع العلّامة تكون عادة للحيوانات فقط ، بل حتّى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها ـ خصوصا أنوفها ـ أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل.

ومع كلّ ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر واف وواضح أنّ الله تعالى سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجبا بذواتهم ، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل ، وتجاوزهم على الرّسول والرسالة .. سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدّثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.

إنّ التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيرا من صور الإذلال والامتهان لأمثال هذه المجموعة المخالفة للحقّ المعاندة في ضلالها ، المكابرة في تمسّكها بالباطل ، بالرغم من تقدّم الرسالة الإسلامية وقوّتها وانتصاراتها ، كما أنّ فضيحتهم في الآخرة ستكون أدهى وأمرّ.

قال بعض المفسّرين : إنّ أكثر آيات هذه السورة كان يقصد بها (الوليد بن المغيرة) أحد رموز الشرك الذي واجه الإسلام وتعرّض لرسوله الأمين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ من المسلّم به أنّ هذا القصد ، لا يمنع من تصميم وتوسعة مفهوم الآيات الكريمة وشموليته (١).

* * *

__________________

(١) قال البعض : إنّ وضع العلامة على الأنف قد تحقّق عمليّا في غزوة بدر ، حيث وجّهت ضربات إلى انوف بعض سادات الكفر وكبرائهم ، وقد بقيت آثارها على أنوفهم ، وإذا كان المقصود في ذلك (الوليد بن المغيرة) فقد توفّي بذلّ قبل غزوة بدر. وجاء في الخطبة المعروفة للإمام علي بن الحسين عليه‌السلام في مسجد الشام قوله : «أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا : لا إله إلّا الله» يقصد الإمام علي عليه‌السلام بحار الأنوار ، ج ٤٥ ، ص ١٣٨. إنّ لهذا التعبير وبلحاظ ما جاء في الآية مورد البحث ، حيث يقول تعالى : (سنسمه على الخرطوم) دلالة في غاية اللطف والروعة ، حيث يرينا أنّ الإرادة الإلهية قد تحقّقت على يد عبده المخلص علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٥٣٢

بحثان

١ ـ الرذائل الأخلاقية

بالرغم من أنّ الآيات أعلاه تحدّثت عن الصفات الأخلاقية الرذيلة للمخالفين والمعاندين لرسول الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّها في الوقت نفسه تعكس لنا نماذج ومفردات للصفات السلبية التي تبعد الإنسان عن الله عزوجل ، وتسقطه في وحل الشقاء والبؤس ، ممّا يستدعي من المؤمنين الملتزمين أن يكونوا على حذر منها ويراقبوا أنفسهم بدقّة من التلوّث بها ، ولذا فقد أكّدت الروايات الإسلامية كثيرا على هذا المعنى. ومن جملة ذلك ما يلي :

١ ـ نقرأ في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ألا أنبئّكم بشراركم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : المشّاءون بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبّة ، الباعثون للبرءاء المعايب» (١).

لقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد كثيرا على البناء الأخلاقي للشخصية الإسلامية ، حتّى أنّه قال : «لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا ، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (٢).

٢ ـ وأخيرا نقرأ في حديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يدخل الجنّة جواظ ، ولا جعظري ، ولا عتل زنيم».

يقول الراوي : قلت : فما الجواظ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ جمّاع منّاع ، قلت : فما الجعظري؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الفضّ الغيظ؟ قلت : فما العتل الزنيم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحب الجوف سيء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم» (٣).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب النميمة / حديث رقم ١.

(٢) (سنن أبي داود) أو (صحيح الترمذي) مطابقا لما نقل في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢٣٠.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٤.

٥٣٣

٢ ـ المداهنة والصلح

إنّ من جملة الخصائص التي يتميّز بها تجّار السياسة ، والأشخاص والمجاميع غير الرسالية ، أنّهم يتلوّنون ويتصرّفون بالشكل الذي يتماشى مع مصالحهم ، فلا ضوابط ولا ثوابت تحكمهم ، بل هم على استعداد دائم للتنازل عن كثير من الشعارات المدعاة من جانبهم ، مقابل تحقيق بعض المكاسب أو الحصول على بعض الامتيازات. أمّا متبنّياتهم المدعاة فلا تشكّل شيئا مقدسا بالنسبة إليهم ، ويحوّرونها بما تقتضيه مصالحهم ، وهذا المفهوم هو ما تشير إليه الآية الكريمة حيث يقول تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

أمّا أهل المبادئ والالتزام فإنّهم لا يضحّون بأهدافهم المقدّسة مطلقا ولا يساومون عليها أو يداهنون أبدا ، ولن يتخلّوا عن متبنّياتهم ويقوموا بعمل أو صلح على خلاف ما تمليه عليهم مبادئهم العقائدية ، خلافا لما عليه تجّار السياسة ..

إنّ هذا المقياس من أفضل الدلائل لتشخيص السياسيين المنحرفين عن غيرهم من المبدئيين ، والأشخاص الذين يسايرون هؤلاء المنحرفين لا شكّ أنّهم بعيدون عن طريق الله وأوليائه.

* * *

٥٣٤

الآيات

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥))

التّفسير

قصّة (أصحاب الجنّة):

في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم ـ بما يتناسب مع البحث الذي ورد في الآيات السابقة ـ قصّة أصحاب الجنّة كنموذج لذوي المال الذين غرقوا في أنانيتهم ، فأصابهم الغرور ، وتخلّوا عن القيم الإنسانية الخيّرة ، وأعماهم حبّ المال عن كثير من الفضائل .. فالآيات الكريمة تذكر لنا قصّة مجموعة من الأغنياء كانت لهم جنّة (بستان مثمر) إلّا أنّهم فقدوها فجأة ، وذلك لعتوّهم وغرورهم

٥٣٥

وكبرهم على فقراء زمانهم.

ويبدو أنّها قصّة معروفة في ذلك الزمان بين الناس ، ولهذا السبب استشهد بها القرآن الكريم.

يقول في البداية : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ).

لقد تعدّدت الرّوايات في مكان هذه الجنّة ، فقيل : إنّها في أرض اليمن بالقرب من صنعاء ، وقيل : هي في الحبشة ، وهناك قول بأنّها في أرض الشام ، وذهب آخرون إلى أنّها في الطائف .. إلّا أنّ المشهور أنّها كانت في أرض اليمن.

وموضوع القصّة هو : أنّ شيخا مؤمنا طاعنا في السنّ كان له بستان عامر ، يأخذ من ثمره كفايته ويوزّع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين ، وقد ورثه أولاده بعد وفاته ، وقالوا : نحن أحقّ بحصاد ثمار هذا البستان ، لأنّ لنا عيالا وأولادا كثيرين ، ولا طاقة لنا باتّباع نفس الأسلوب الذي كان أبونا عليه .. ولهذا فقد صمّموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعا ، ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها ، فكانت عاقبتهم كما تحدّثنا الآيات الكريمة عنه ..

يقول تعالى : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (١).

(وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لا يتركون منها شيئا للمحتاجين.

وعند التدقيق في قرارهم هذا يتّضح لنا أنّ تصميمهم هذا لم يكن بلحاظ الحاجة أو الفاقة ، بل إنّه ناشئ عن البخل وضعف الإيمان ، واهتزاز الثقة بالله سبحانه ، لأنّ الإنسان مهما اشتدّت حاجته ، فإنّه يستطيع أن يترك للفقراء شيئا ممّا أعطاه الله.

وقيل : إنّ المقصود من عدم الاستثناء هو عدم قولهم (إن يشاء الله) حيث كان الغرور مسيطرا عليهم ، ممّا حدا بهم إلى أن يقولوا : غدا سنذهب ونفعل ذلك ،

__________________

(١) «يصرمن» من مادّة (صرم) ، (على وزن ضرب) بمعنى حصد الفاكهة ، وبمعنى القطع المطلق ، وجاءت أيضا بمعنى تقوية عمل ما وإحكامه.

٥٣٦

معتبرين الأمر مختصّا بهم ، وغافلين عن مشيئة الله ، ولذا لم يقولوا : (إن شاء الله).

إلّا أنّ الرأي الأوّل أصحّ (١).

ثمّ يضيف تعالى استمرارا لهذا الحديث : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ).

لقد سلّط الله عليها نارا حارقة ، وصاعقة مهلكة ، بحيث أنّ جنّتهم صارت متفحّمة سوداء (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) ، ولم يبق منها شيء سوى الرماد.

«طائف» من مادّة (طواف) ، وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول شيء معيّن ، كما تستعمل أحيانا كناية عن البلاء والمصيبة التي تحلّ في الليل ، وهذا المعنى هو المقصود هنا.

«صريم» من مادّة (صرم) بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو (الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود) لأنّ الليل يقطع عند مجيء النهار ، كما أنّ النهار يقطع عند مجيء الليل ، ولذا يقال أحيانا لليل والنهار (صريمان) ، والمقصود بذلك هو : البلاء السماوي الذي تمثّل بصاعقة عظيمة ـ فيما يبدو ـ أحالت البستان إلى فحم ورماد أسود ، وهكذا فعل الصواعق غالبا.

وعلى كلّ حال فإنّ أصحاب البستان بقوا على تصوّرهم لأشجار جنّتهم المملوءة بالثمر ، جاهزة للقطف : (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) (٢).

وقالوا : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ).

«(أغدوا» من مادّة (غدوة) بمعنى بداية اليوم ، ولذا يقال للغذاء الذي يؤكل في أوّل اليوم ـ وجبة الإفطار ـ غداء ، بالرغم من أنّ (غداء) تقال في التعابير

__________________

(١) بالإضافة إلى التناسب الخاص الموجود بين المعنى الأوّل مع أصل القصّة ، فإنّنا إذا اعتبرنا المعنى الثاني هو المقصود ، كان يجب أن يقال (ولم يستثنوا) بدلا عن (ولا يستثنون).

(٢) يقول الراغب في المفردات : إن (تنادوا). أصلها من (نداء) مشتقّة من (ندى) ، بمعنى الرطوبة المأخوذة ، لأنّ المعروف أنّ الأشخاص الذين تكون في أفواههم رطوبة كافية يتكلّمون براحة ، ويتّصف كلامهم بالفصاحة.

٥٣٧

المستعملة حاليا لوجبة الأكل المتناولة في وقت الظهر.

وعلى ضوء المقدّمات السابقة : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ).

لقد كانوا يتكلّمون بهدوء حتّى لا يصل صوتهم إلى الآخرين ، ولا يسمعهم مسكين ، ويأتي لمشاركتهم في عملية جني الثمر أو تناول شيء من الفاكهة.

ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيّام ، لأنّهم تعوّدوا في كلّ سنة أن ينالهم شيء من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن ، إلّا أنّ تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء ، والسريّة التي غلفوا بها تحرّكاتهم ، لم تدع أحدا يتوقّع أنّ وقت الحصاد قد حان .. حيث يطّلع الفقراء على الأمر بعد انتهائه ، وبهذا تكون النتيجة : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ).

«حرد» على وزن «فرد» بمعنى الممانعة التي تكون توأما مع الشدّة والغضب ، نعم إنّهم كانوا في حالة عصبية وانفعالية من حاجة الفقراء لهم وانتظار عطاياهم ، ولذا كان القرار بتصميم أكيد على منعهم من ذلك.

وتطلق كلمة (حرد) أيضا على السنوات التي ينقطع فيها المطر ، وعلى الناقة التي ينقطع حليبها.

* * *

٥٣٨

الآيات

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

التّفسير

أصحاب البستان والمصير المؤلم :

الآيات الشريفة ـ أعلاه ـ استمرار لقصّة أصحاب الجنّة ، التي مرّت علينا في الآيات السابقة .. فلقد تحرّكوا في الصباح الباكر على أمل أن يقطفوا محصولهم الكثير ، ويستأثروا به بعيدا عن أنظار الفقراء والمحتاجين ، ولا يسمحوا لأي أحد من الفقراء بمشاركتهم في هذه النعمة الإلهية الوافرة ، غافلين عن تقدير الله ... فإذا بصاعقة مهلكة تصيب جنّتهم في ظلمة الليل فتحوّلها إلى رماد ، في وقت كان

٥٣٩

أصحاب الجنّة يغطّون في نوم عميق.

يقول القرآن الكريم : (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ).

المقصود من (ضالّون) يمكن أن يكون عدم الاهتداء إلى طريق البستان أو الجنّة ، أو تضييع طريق الحقّ كما احتمل البعض ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.

ثمّ أضافوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من العطاء إلّا أنّنا حرمنا أكثر من الجميع ، حرمنا من الرزق المادّي ، ومن البركات المعنوية التي تحصل عن طريق الإنفاق في سبيل الله للفقراء والمحتاجين.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ).

ألم أقل لكم اذكروا الله بالتعظيم وتجنّبوا مخالفته واشكروا نعمته وامنحوا المحتاجين شيئا ممّا تفضّل الله به عليكم؟! لكنّكم لم تصغوا لما قلته لكم ، وأخيرا وصلتم إلى هذه النتيجة البائسة في هذا اليوم الأسود.

ويستفاد ممّا تقدّم أنّ أحدهم كان شخصا مؤمنا ينهاهم عن البخل والحرص ، إلّا أنّهم كانوا لا يسمعون كلامه ، ولقد أفصح عن رأيه بقوّة بعد هذه الحادثة ، وأصبح منطقه أكثر حدّة وقاطعية. وقد وبّخهم كثيرا على موقفهم من الفقراء ، ووجّه لهم ملامة عنفية.

وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم و (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

إنّ التعبير بـ (أوسطهم) في الآية السابقة يمكن أن يكون بلحاظ حدّ الاعتدال في العقل والفكر والعلم وقيل : إنّه الوسط في السنّ والعمر. إلّا أنّه مستبعد جدّا ، وذلك لعدم وجود ارتباط بين العمر وهذه المقالة الوافية المعبّرة. والارتباط يكون عادة ـ بمثل هذا الكلام بين العقل والفكر.

والتعبير بـ (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) مأخوذ بلحاظ أنّ أصل وجذر كلّ الأعمال

٥٤٠