الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

حاجز عظيم من الإعتقادات والأعمال المختلفة ، ففي يوم القيامة يتجسّد نفس المعنى أيضا.

ولما ذا هذا «الباب» ، ولأي الأهداف؟

للجواب على هذا التساؤل نقول : من الممكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنّة ويتحسّرون عليها ، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.

غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه : أنّ المنافقين (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وانفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟

(قالُوا : بَلى) كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق ، في السفر والحضر ، وكنّا أحيانا جيرانا أو في بيت واحد .. نعم كنّا معا ، إلّا أنّ اختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا ، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الأصول والفروع ، لذا فأنتم بعيدون عنّا. ثمّ يضيفون : لقد ابتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها :

١ ـ (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.

٢ ـ (وَتَرَبَّصْتُمْ) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وانهدام أساس الإسلام ، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كلّ عمل إيجابي وكلّ حركة صحيحة ، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.

٣ ـ (وَارْتَبْتُمْ) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ..

٤ ـ وخدعتكم الآمال (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ).

عم هذه الأماني لم تعطكم مجالا ـ حتّى لحظة واحدة ـ للتفكّر الصحيح ، لقد

٤١

كنتم مغمورين في تصوّراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال ، واستولت عليكم أمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.

٥ ـ (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد الله عزوجل ، فتارة صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع. وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية ، وأحيانا جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.

هذه العوامل الخمسة فهي التي فصلت خطّكم عنّا بصورة كليّة وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنّا.

«فتنتم» من مادّة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة كـ (الامتحان والانخداع ، والبلاء والعذاب ، والضلالة والانحراف ، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.

«تربّصتم» من مادّة (تربّص) في الأصل بمعنى الانتظار ، سواء كان انتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة ، والمناسب الأكثر هنا هو انتظار موت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتكاسة الإسلام ، أو أنّ الانتظار بمعنى التعلّل في التوبة من الذنوب وإنجاز كلّ عمل من أعمال الخير.

«وارتبتم» من مادّة (ريب) تطلق على كلّ شكّ وترديد وما سيتوقّع فيما بعد ، والمعنى الأنسب هنا هو الشكّ بالقيامة أو حقّانية القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّ مفهوم الكلمات المستعملة في الآية واسع ، إلّا أنّ من الممكن أن تكون لبيان المسائل المذكورة بالترتيب ، من مسألة «الشرك» وانتظار «نهاية عمر الإسلام والرّسول» ومن ثمّ «الشكّ في المعاد» الذي يؤدّي إلى «التلوّث العملي» عن طريق «الانخداع بالأماني» والشيطان ، وبناء على هذا فالجمل الثلاث الاولى من الآية ناظرة إلى الأصول الثلاثة للدين ، والجملتان الأخيرتان بعد هما ناظرتان إلى فروع الدين.

٤٢

وأخيرا فإنّ المؤمنين ـ بلحاظ ما تقدّم ـ يخاطبون المنافقين بقولهم : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفّار أيضا ، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة ، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.

ثمّ يضيف سبحانه : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (١) (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

الإنسان ـ عادة ـ لكي ينجو من العقوبة المتوقّعة في الدنيا ، يتوسّل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة ، إلّا أنّه هناك ـ في يوم القيامة ـ لا يوجد أي منهما ينقذ الكفّار والمنافقين من العذاب المحتوم عليهم.

وفي يوم القيامة ـ عادة ـ تنقطع كلّ الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة ، كما تنفصم الروابط حيث يقول سبحانه : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٢).

(يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) (٣).

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) (٤) (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) (٥).

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (٦).

(فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) (٧).

__________________

(١) «مولى» هنا من الممكن أن تكون بمعنى الولي ، أو بمعنى الشخص أو الشيء الذي تكون له الأولوية للإنسان.

(٢) البقرة ، الآية ١٦٦.

(٣) البقرة ، الآية ٢٥٤.

(٤) البقرة ، الآية ٤٨.

(٥) الدخان ، الآية ٤١.

(٦) الطور ، الآية ٤٦.

(٧) المؤمنون ، الآية ١٠١.

٤٣

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (١)

وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا ، حتّى أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا وليسوا من الغرباء مطلقا عن الإيمان والذين قطعوا ارتباطهم بصورة كليّة من الله وأوليائه وعصوا أوامره.

* * *

ملاحظة

الإستغاثة العقيمة للمجرمين :

نظرا إلى أنّ الكثير من الناس في يوم القيامة يجهلون طبيعة النظام المهيمن هنالك ويتصوّرون أنّ نفس أنظمة الدنيا تحكم هناك أيضا ، فيحاولون استخدامها.

إلّا أنّه سرعان ما يتبيّن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه.

فأحيانا يتوسّل المجرمون بالمؤمنين بقولهم لهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ...) إلّا أنّه بسرعة يواجهون الردّ الحاسم ، وهو أنّ منبع النور ليس هنا ، إنّما في دار الدنيا حيث تخلّفتم عنه بالغفلة وعدم المعرفة.

وأحيانا يطلب كلّ منهم العون من الآخر (الأتباع من قائدهم) فيقولون : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) وهنا يواجهون الردّ المخيّب لآمالهم أيضا.

ثمّ إنّهم يستنجدون ويلتمسون العون من خزنة جهنّم حيث يقولون : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٣)

__________________

(١) المدثر ، الآية ٣٨.

(٢) إبراهيم ، الآية ٢١.

(٣) المؤمن ، الآية ٤٩.

٤٤

وأحيانا يتجاوزن ذلك ويلتمسون من الله أن يخفّف عنهم حيث يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١) ولكن هذا الطريق هو الآخر مغلق عليهم أيضا ، لأنّ عهد التكليف قد انقضى وهذه دار الجزاء والعقاب.

* * *

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ١٠٧.

٤٥

الآيات

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨))

سبب النزول

وردت لنزول الآية الاولى أعلاه عدّة أسباب : منها أنّ الآية المذكورة نزلت ـ بعد سنة من هجرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تتحدّث عن المنافقين ، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي : حدّثنا عمّا في التوراة ، فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص كما في قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ

٤٦

رَبَّهُمْ ...) (١) وعاودوا بعدها سؤال سلمان فجاءهم هذا التوبيخ والعتاب.

وقيل كان الصحابة بمكّة مجدبين ، فلمّا هاجروا أصابوا الخير والنعمة ، فتغيّروا عمّا كانوا عليه ، فقست قلوبهم فعوتبوا من ذلك (٢).

كما نلاحظ أسباب نزول اخرى للآية ، وبما أنّها تتحدّث عن نزول هذه الآية في مكّة ، لذا فإنّها غير قابلة للاعتماد ، لأنّ المشهور أنّ جميع هذه السورة قد نزلت في المدينة.

التّفسير

إلى متى هذه الغفلة؟

بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة ، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة ، جاءت الآية الاولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كليّة من ذلك ، فتقول : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٣).

«تخشع» من مادّة «خشوع» بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي ، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة ـ عادة ـ مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.

ومن الواضح أنّ ذكر الله عزوجل إذا دخل أعماق روح الإنسان ، وسماع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سببا للخشوع ، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدّة

__________________

(١) الزمر ، الآية ٢٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٣٧ كما جاء في تفسير الدرّ المنثور أيضا أسباب نزول كثيرة للآية من جملتها سبب النزول الثاني (الدرّ المنثور ، ج ٦ ص ١٧٥) وأتى البيضاوي أيضا في تفسير (أنوار التنزيل) بنفس سبب النزول المذكور.

(٣) (يأن) من مادّة (أنّى) من مادّة (إنا) على وزن (ندا) ومن مادّة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الاقتراب وحضور وقت الشيء.

٤٧

قسما من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الأمور. لأنّه قد ابتلى كثير من الأمم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل. وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.

ولهذا هل نقتنع بادّعاء الإيمان ، والعيش في رفاه والانشغال بالأكل والشرب ونمرّ أمام هذه المسائل المهمّة ببساطة؟ وهل أنّ أعمالنا ومسئولياتنا تتناسب مع الإيمان الذي ندّعيه؟

هذه التساؤلات لا بدّ من الإجابة عنها مع أنفسنا بهدوء وموضوعية.

جملة : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) قد تكون إشارة إلى الفاصلة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم ، ويحتمل أن يكون المقصود بها طول العمر ، أو طول الأمانيّ ، أو عدم نزول العذاب الإلهي منذ مدّة طويلة ، أو كلّ ذلك ، لأنّ كلّ واحدة من هذه الأسباب يمكن أن تكون عاملا للغفلة والقساوة ، وهي بدورها تسبّب الذنب والإثم.

جاء في حديث للإمام علي عليه‌السلام : «لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا ، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم» (١).

ونقرأ في حديث آخر عن لسان عيسى المسيح عليه‌السلام : «لا تكثروا بالكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم ، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب ، وانظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد ، والناس رجلان : مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية» (٢).

ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلّا بالذكر الإلهي ، الحياة الروحية التي لن تكون إلّا بظلّ الخشوع والخضوع وخاصّة في أجواء القرآن الكريم .. لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة ، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر الله سبحانه .. حيث يضيف

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٨٣ ، الحديث ٨٥.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٨.

٤٨

سبحانه في الآية اللاحقة : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر ، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر الله وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلاهما جديران بالتدبّر والتعقّل ، لذا أشير في الروايات السابقة إلى كليهما.

ونقرأ في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «لعدل بعد الجور» (١).

كما نقرأ في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسيره للآية : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) قال : «يحيي الله تعالى الأرض بالقائم بعد موتها ، يعني بموتها كفر أهلها ، والكافر ميّت» (٢).

ومن الواضح أنّ هذه التفاسير في الحقيقة هي بيان لمصاديقها البارزة ، ولا تحدّ من مفهوم الآية أبدا.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم عليه‌السلام : «فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر» (٣).

ويرجع مرّة اخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق ، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع ، حيث يتكرّر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (٤).

__________________

(١) روضة الكافي مطابق لنقل الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٣

(٢) كمال الدين مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٢.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ٣٠٨.

(٤) المصدّقين والمصدّقات بمعنى «المتصدقين والمتصدقات» ، وعطف (أقرضوا الله) الذي هو «جملة فعلية» على «الجملة الاسمية» السابقة ، لأنّ معنى هذه الجملة هو «الذين أقرضوا الله».

٤٩

أمّا لما ذا طرحت مسألة الإنفاق بعنوان القرض الحسن لله سبحانه؟ ولما ذا كان الجزاء المضاعف الأجر الكريم؟

يمكن معرفة الإجابة على هذه التساؤلات في البحث الذي بيّناه في نهاية الآية (١١) من نفس هذه السورة.

احتمل البعض أنّ المقصود من القرض الحسن لله في هذه الآيات والآيات المشابهة (١) بمعنى الإقراض للعباد ، لأنّ الله تعالى ليس بحاجة للقرض ، بل إنّ العباد المؤمنين هم الذين بحاجة إلى القرض ، ولكن بملاحظة سياق الآيات يفهم أنّ المقصود من «القرض الحسن» في كلّ هذه الآيات هو الإنفاق في سبيل الله ، بالرغم من أنّ القرض لعباد الله هو من أفضل الأعمال أيضا.

ويرى «الفاضل المقداد» أيضا في كنز العرفان في تفسير القرض الحسن بأنّه كلّ الأعمال الصالحة (٢).

موعظة وتوبة :

إنّ آية : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ...) من الآيات المثيرة في القرآن الكريم ، حيث تليّن القلب ، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة وتعلن منبّهة : ألم يأن للقلوب المؤمنة أن تخشع مقابل ذكر الله وما نزّل من الحقّ! وتحذّر من الوقوع في شراك الغفلة كما كان بالنسبة لمن سبق حيث آمنوا وتقبّلوا آيات الكتاب الإلهي ، ولكن بمرور الزمن قست قلوبهم.

لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفرادا مذنبين جدّا قد هداهم الله إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة ، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها ، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد

__________________

(١) تراجع الآية (٢٤٥ من سورة البقرة) (الحديد الآية ١١) و (التغابن آية ١٧) و (المزمل آية ٢٠).

(٢) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٥٨.

٥٠

منها ، حتّى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد ، ومن جملتهم العابد المعروف «فضيل بن عيّاض» الزاهد.

حيث يحكى عنه أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين «أبيورد» و «سرخس» ، وعشق جارية ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) قال : (بلى والله قد آن) فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها رفقة ، فقال بعضهم : نرتحل ، وقال بعضهم : حتّى نصبح ، فإنّ فضيلا قد قطع الطريق علينا. فتاب الفضيل وأمّنهم.

وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات (١).

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد رجال البصرة المعروفين قال : بينما كنت أسير في طريق فسمعت فجأة صيحة ، فذهبت متتبعا آثارها ، فشاهدت رجلا مغمى عليه على الأرض ، قلت : ما هذا! قالوا : رجل واعي القلب سمع آية من القرآن واندهش ، قلت : أي آية؟ قالوا : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ...) وفجأة أفاق الرجل عند سماع صوتنا وبدأ بقراءة هذا الشعر المؤثّر :

أما آن للهجران أن ينصر ما

وللغصن غصن البان أن يتبسّما

وللعاشق الصبّ الذي ذاب وانحنى

ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما

كتبت بماء الشوق بين جوانحي

كتابا حكى نقش الوشي المنمنما

قال ذلك ثمّ سقط على الأرض. مدهوشا مرّة اخرى ، فحرّكناه وإذا به قد سلّم روحه إلى بارئه وربّه (٢).

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٦٩. وروح البيان ، ج ٩ ، ص ٣٦٥. وتفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٢.

(٢) تفسير نور المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٥٦.

٥١

الآيتان

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

التفسير

الدنيا متاع الغرور :

استمرارا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة في بيان حال المؤمنين وأجرهم عند الله تعالى ، تضيف الآيات التالية بهذا الصدد قوله تعالى : (وَالَّذِينَ

٥٢

آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

«الصدّيق» صيغة مبالغة من (الصدق) بمعنى الشخص الذي يستوعب الصدق جميع وجوده ، حيث يصدّق عمله قوله ، وهو النموذج التامّ للصدق.

«شهداء» جمع «شهيد» من مادّة (شهود) بمعنى الحضور مع المشاهدة سواء كانت بالعين المجرّدة أو البصيرة ، وإذا أطلقت على «الشاهد» كلمة شاهد وشهيد ، فالسبب هو حضوره ومشاهدته في المكان ، كما يطلق هذا المصطلح على «الشهداء في سبيل الله» بسبب حضورهم في ميدان الجهاد.

إلّا أنّ المراد من (الشهداء) في الآية مورد البحث قد يكون الشهادة على الأعمال ، كما يستفاد من الآيات القرآنية الاخرى ، فالأنبياء شهداء على أعمال أممهم ، ورسول الإسلام شاهد عليهم وعلى الامّة الإسلامية ، والمسلمون أيضا شهداء على أعمال الناس (١).

وبناء على هذا ، فإنّ الشهادة على الأعمال مقام عال ، والذي يكون من نصيب المؤمنين.

واحتمل البعض أنّ (شهداء) هنا هو الشهداء في سبيل الله ، أي الأشخاص المؤمنون الذين لهم أجر وثواب الشهادة ، يحسبون بمنزلة الشهداء ، لذا ذكر

في حديث أنّ شخصا ذهب إلى الإمام الصادق عليه‌السلام ، فقال له : ادع الله أن يرزقني الشهادة. فقال الإمام عليه‌السلام أنّ المؤمن شهيد ، ثمّ قرأ هذه الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ..) (٢).

ومن الطبيعي أنّه يمكن الجمع بين المعنيين ، خصوصا أنّ القرآن الكريم أطلق مصطلح «شهيد وشهداء» في الغالب على الأعمال وما إلى ذلك.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الله تعالى يصف المؤمنين الحقيقيين هنا بوصفين : الأوّل :

__________________

(١) يراجع التّفسير الأمثل ، تفسير الآية (٧٨) من سورة الحجّ ، وتفسير الآية (٤١) من سورة النساء.

(٢) تفسير العياشي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤٤.

٥٣

«الصدّيق» والآخر : «الشهيد» ، وهذا يرينا أنّ المقصود من المؤمنين في الآية مورد البحث هم أصحاب الدرجات العالية في الإيمان لا المؤمن العادي (١).

ثمّ يضيف تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

إنّ هذا التعبير المختصر يشير إلى عظيم الأجر والنور الذي ينتظرهم.

وفي النهاية يضيف تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وذلك كي تتوضّح بهذه المقارنة النتيجة التي آلت إليها المجموعتان ، والتي تتدرّج بين القمّة والقاع ، حيث إنّ القسم الأوّل في المقام العالي من دار الخلد ، والقسم الثاني في الدرك الأسفل من النار يندبون سوء حظّهم وانحطاط مصيرهم.

وبما أنّ المجموعة الاولى كانت في أعلى مستويات الإيمان ، ففي المقابل أيضا ذكرت الآية أيضا الكفر بأسوأ صوره في الجماعة الثانية المقارن للتكذيب بآيات الله.

ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كلّ رذيلة ، ورأس كلّ خطيئة ، فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كلّ مرحلة من هذه المراحل ، حيث يقول سبحانه : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).

وبهذه الصورة فإنّ «الغفلة» و «اللهو» و «الزينة» و «التفاخر» و «التكاثر» تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان.

ففي البداية مرحلة الطفولة ، والحياة في هذه المرحلة عادة مقترنة بحالة من

__________________

(١) طبقا للتفسير أعلاه فإنّ جملة (أولئك هم الصدّيقون والشهداء ، عند ربّهم) ليس لها أي تقدير ، إذ أنّ هؤلاء الجماعة من المؤمنين اعتبروا مصداقا للصدّيقين والشهداء ، إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ هؤلاء بمنزلة الصدّيقين والشهداء ، ولهم نفس الأجر ، ولكن ليس لهم كامل مميّزاتهم ومفاخرهم. ويقولون : إنّ الآية تقديرها (أولئك لهم مثل أجر الصدّيقين والشهداء). تفسير روح المعاني ، الميزان نهاية الآيات مورد البحث ، وطبعا فإنّ مرجع الضمائر (لهم ، وأجرهم) يختلف أيضا. إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآية (يرجى الانتباه).

٥٤

الغفلة والجهل واللعب.

ثمّ مرحلة المراهقة حيث يأخذ اللهو مكان اللعب ، وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثا وراء الوسائل والأمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدّية.

والمرحلة الثالثة هي مرحلة الشباب والحيوية والعشق وحبّ الزينة.

وإذا ما تجاوز الإنسان هذه المرحلة فإنّه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تتولّد في نفسه دوافع العلو والتفاخر.

وأخيرا يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكّر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك.

والمراحل الاولى تشخّص حسب العمر تقريبا ، إلّا أنّ المراحل اللاحقة تختلف عند الأشخاص تماما ، والبعض من هذه المراحل تستمر مع الإنسان إلى نهاية عمره ، كمرحلة جمع المال ، وبالرغم من أنّ البعض يعتقد أنّ كلّ مرحلة من هذه المراحل الخمس تأخذ سنين من عمر الإنسان مجموعها أربعون سنة ، حيث تتثبّت شخصية الإنسان عند وصوله إلى هذا العمر.

كما أنّ بعض الأشخاص يمكن أن تتوقّف شخصيتهم في المرحلة الاولى والثانية حتّى مرحلة الهرم ، ولذا فإنّ سمات هذه المرحلة تبقى هي الشاخصة في سلوكهم وتكوين شخصياتهم ، حيث اللعب والشجار واللهو هو الطابع العامّ لهم ، وتفكيرهم منهمك للغاية في تهيئة البيت الأنيق والملابس الفاخرة وغير ذلك من متع الحياة الدنيا حتّى الموت .. إنّهم أطفال في سنّ الكهولة ، وشيوخ في روحية الأطفال.

ويذكر سبحانه مثالا لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا

٥٥

ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) (١).

«كفّار» هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين ، ولكن بمعنى «الزرّاع» لأنّ أصل الكفر هو التغطية ، وبما أنّ الزارع عند ما ينثر البذور يغطّيها بالتراب ، فقد قيل له كافر ، ويقال أنّ «الكر» جاء بمعنى القبر أحيانا ، لأنّه يغطّي جسم الميّت كما ورد في (سورة الفتح الآية / ٢٩).

وفي الحديث عن النمو السريع للنبات يقول تعالى : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) إذ وردت هنا كلمة «الزرّاع» بدلا من الكفّار.

ويحتمل بعض المفسّرين أيضا أنّ المقصود من «الكفّار» هنا هو نفس الكفر بالله تعالى وذكروا عدّة توجيهات لهذا ، والظاهر أنّ هذا التّفسير لا يتناسب وسياق الآية ، إذ أنّ المؤمن والكافر شريكان في هذا التعجّب.

(حطام) من مادّة (حطم) بمعنى التكسير والتفتيت ، ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة.

إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة أشهر ، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير.

ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ).

وأخيرا تنهي الآية حديثها بهذه الجملة : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

«غرور» في الأصل من مادّة (غرّ) على وزن «حرّ» بمعنى الأثر الظاهر للشيء ، ويقال (غرّة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان ، ثمّ أطلقت الكلمة على حالة الغفلة ، حيث أنّ ظاهر الإنسان واع ، ولكنّه غافل في الحقيقة ، وتستعمل أيضا

__________________

(١) «يهيج» من مادّة هيجان جاءت هنا بمعنيين الأوّل : جفاف النبات ، والآخر : التحرّك والحيوية ، وقد يرجع هذان المعنيان إلى أصل واحد ، لأنّ النبات عند جفافه يكون مهيّأ للاندثار والانتشار بحركة الرياح.

٥٦

بمعنى الخدعة والحيلة.

«المتاع» بمعنى كلّ نوع ووسيلة يستفاد منها ، وبناء على هذا فإنّ جملة (الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) تعني أنّها وسيلة وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين.

وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي ، وتكون منتهى غاياتهم ، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية ، فذلك لا يعدّ من الدنيا ، بل ستكون جسرا وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّا.

من البديهي أنّ النظر إلى الدنيا باعتبار أنّها «مقرّ» أو «جسر» سوف يعطي للإنسان توجّهين مختلفين ، الأوّل : يكون سببا للنزاع والفساد والتجاوز والظلم ، والطغيان والغفلة ، والثاني : وسيلة للوعي والتضحية والاخوة والإيثار.

* * *

تعقيب

١ ـ مقام الصدّيقين والشهداء

وصف القرآن الكريم الأنبياء العظام وأمثالهم بأنّهم (صدّيقون) ومن جملتهم إبراهيم عليه‌السلام : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (١).

ووصف إدريس عليه‌السلام بنفس الوصف قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٢).

وحول امّ المسيح السيّدة مريم عليه‌السلام نقرأ قوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (٣).

__________________

(١) مريم ، آية ٤١.

(٢) مريم ، الآية ٥٦.

(٣) الجاثية ، الآية ٧٥.

٥٧

كما جاء ذكر (الصدّيقين) على مستوى الأنبياء أو من معهم في بعض الآيات القرآنية ، كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١)

وكما قلنا فإنّ هذا المصطلح صيغة مبالغة من مادّة (صدق) تقال للشخص الذي يحيط الصدق كلّ وجوده ، وينعكس الصدق في أفكاره وأقواله وأعماله وكلّ حياته ، وهذا يعكس لنا أهميّة مقام الصدق.

أمّا (الشهداء) فكما قلنا يمكن أن يقصد بهم الشهداء على الأعمال أو بمعنى الشهداء في سبيل الله ، وفي الآية مورد البحث يمكن الجمع بين الرأيين.

ومن الطبيعي أنّ «الشهيد» في الفكر الإسلامي لا ينحصر بالشخص الذي يقتل في ميدان الجهاد ، بالرغم من أنّه أوضح مصداق لمفهوم الشهيد ، بل ينطبق على كلّ الأشخاص الذين يؤمنون بالعقيدة الإلهيّة ويسيرون في طريق الحقّ حتّى رحيلهم من الدنيا ، وذلك تماشيا مع الروايات الإسلامية فإنّها تعدّ هؤلاء في زمرة الشهداء.

جاء في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «العارف منكم هذا الأمر المنتظر له المحتسب فيه الخير ، كمن جاهد والله مع قائم آل محمّد بسيفه. ثمّ قال : بل والله كمن جاهد مع رسول بسيفه. ثمّ قال الثالثة : بل والله كمن استشهد مع رسول الله في فسطاطه ، وفيكم آية من كتاب الله ، قلت : وأي آية جعلت فداك؟ قال : قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) ثمّ قال : «صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم» (٢).

وننهي هذا الموضوع بحديث : لأمير المؤمنين (٣) عند ما كان بعض أصحابه

__________________

(١) النساء ، الآية ٦٩.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٨.

(٣) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٠.

٥٨

يستعجلون في أمر الجهاد ونيل الشهادة .. حيث قال : «لا تستعجلوا ما لم يعجله الله لكم ، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيدا» (١).

٢ ـ الحياة الدنيا .. لهو ولعب

يصف القرآن الكريم ـ أحيانا ـ الحياة الدنيا بأنّها لهو ولعب ، كما في قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٢).

ويصفها أحيانا باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر ، كما في الآيات مورد البحث.

ويصفها أحيانا بأنّها (متاع الغرور) كما في قوله تعالى (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٣).

ويصفها أحيانا بأنّها (متاع قليل) كما جاء في : (الآية ٧٧ من سورة النساء).

وأحيانا يصفها بأنّها عارض ظاهري سريع الزوال. «النساء».

ومجموع هذه التعبيرات والآيات القرآنية توضّح لنا وجهة نظر الإسلام حول الحياة المادية ونعمها ، حيث إنّه يعطيها القيمة المحدودة التي تتناسب مع شأنها ، ويعتبر الميل إليها والانشداد لها ناشئا من توجّه غير هادف (لعب) و (لهو) وتجمّل و (زينة) وحبّ المقام والرئاسة والأفضلية على الآخرين (تفاخر) والحرص وطلب المال والأولاد بكثرة (التكاثر) ويعتبر التعلّق بها مصدرا للذنوب والآثام والمظالم.

أمّا إذا تحوّلت النظرة إلى هذه النعم الإلهيّة ، وأصبحت سلّما للوصول إلى

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٠.

(٢) الأنعام ، الآية ٣٢.

(٣) آل عمران ، الآية ١٨٥.

٥٩

الأهداف الإلهيّة ، عندئذ تصبح رأسمال يشتريها الله من المؤمنين ويعطيهم عوضها جنّة خالدة وسعادة أبديّة ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...) (١).

* * *

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١١.

٦٠