الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

الآيات

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

التّفسير

لو كنّا نسمع أو نعقل :

كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود ، أمّا في الآيات مورد البحث فإنّه تعالى يتحدّث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحقّ ، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة ،

٤٨١

ويسلكون طريق الكفر والشرك ، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اتون العذاب الإلهي.

يقول تعالى في البداية : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

ثمّ يستعرض توضيحا لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ).

نعم ، إنّهم عند ما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنّم ، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم.

«شهيق» في الأصل بمعنى صوت قبيح ومنكر كصوت الحمار ، ويقال أنّه مأخوذ من مادّة (شهوق) بمعنى كونه طويلا (لذا يطلق على الجبل العالي بأنّه شاهق) ومن هنا فإنّه (شهيق) جاءت بمعنى الأنين الطويل.

وقال البعض : إنّ (الزفير) هو الصوت الذي يتردّد في الحلق ، أمّا (الشهيق) فهو الصوت الذي يتردّد في الصدر ، وفي كلّ الأحوال فإنّها إشارة إلى الأصوات المرعبة والمؤلمة.

ثمّ يضيف تعالى مستعرضا شدّة غضب (جهنّم) وشدّة هيجانها وانزعاجها بقوله تعالى : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) (١).

إنّها حرارة هائلة جدّا ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فانّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب ، أو كإنسان يكاد أن يتفجّر من شدّة الغضب والثورة والانفعال ، هكذا هو منظر جهنّم ، مركز الغضب الإلهي.

ثمّ يستمرّ تعالى بقوله : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ).

__________________

(١) (تميّز) بمعنى التلاشي والتشتّت وكانت في الأصل (تتميّز).

٤٨٢

فلما ذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس ، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة ، إنّ الملائكة (خزنة جهنّم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم ، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين .. فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّا كهذا؟

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

وهكذا يأتي الاعتراف : نعم قد جاءنا الرسل إلّا أنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم واعتبرناهم ضالّين ، وأخرجناهم من بين صفوفنا ، وأبعدناهم عنّا ..

ثمّ يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ، أجل هكذا يأتي اعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).

وفي هذه الآيات وضمن بيان المصير المرعب لهؤلاء يشير إلى السبب الحقيقي لذلك ، فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاذن السامعة والعقل ، ومن جهة اخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان ، أمّا لو كان للإنسان اذن لا يسمع بها ، وعين لا يبصر بها ، وعقل لا يفكّر به ، فلو جاءه جميع الأنبياء والمرسلين بكافّة معاجزهم وكتبهم ، لم ينتفع بشيء. وقد ورد في الحديث الشريف ، أنّ بعض المسلمين ذكروا شخصا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثنوا عليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيف عقل الرجل» فقيل : يا رسول الله نحن نسأل عن سعيه وعبادته وخيراته وأنت تسأل عن عقله؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر ، وإنّما يرتفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم!».

٤٨٣

«سحق» على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشيء وجعله ناعما كما تطلق على الملابس القديمة ، إلّا أنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله ، وبناء على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) هو : فبعدا لأصحاب النار عن رحمة الله ، ولأنّ لعنة وغضب الله تعالى يكون توأما مع التجسيد الخارجي له ، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة الله بشكل كلّي.

* * *

ملاحظة

المقام السامي للعقل :

ليست هذه هي المرّة الاولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي ، كما أنّها ليست المرّة الاولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة ، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنّم .. هو عدم الاستفادة من هذه القوّة الإلهيّة العظيمة ، وإغفال هذه القدرة الجبّارة ، وعدم استثمار هذه الجوهرة والنعمة الربّانية ، وذلك واضح وبيّن لكل من قرأ القرآن وتدبّر آياته ، حيث يلاحظ أنّ هذا الأمر مؤكّد عليه في مناسبات شتّى ..

وعلى الرغم من الأكاذيب التي يطلقها البعض بأنّ الدين هو وسيلة لتخدير العقول والإعراض عن أوامرها ومتطلّباتها ، فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة الله تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة ، ضمن مسئولية العقل.

لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كلّ مكان إلى (أولو الألباب) و (أولو الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة.

٤٨٤

ولقد وردت في المصادر الإسلامية روايات كثيرة في هذا الصدد ، بشكل لا يمكن إحصاؤه ، والطريف أنّ كتاب الكافي المعروف ، والذي هو أكثر الكتب اعتبارا في مجال الحديث يحتوي على (أبواب) أو (كتب) أوّلها كتاب باسم كتاب (العقل والجهل) وكلّ من يلاحظ الروايات التي وردت بهذا الخصوص يدرك عمق النظرة الإسلامية إلى هذه المسألة.

ونحن هنا نقتطف منها روايتين :

جاء في حديث عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «هبط جبرائيل على آدم ، فقال : يا آدم ، إنّي أمرت أن أخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين ، فقال له آدم : يا جبرائيل وما الثلاث؟ فقال : العقل والحياء والدين ، فقال آدم إنّي قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين : انصرفا ودعاه. فقالا : يا جبرئيل ، إنّا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، قال : فشأنكما وعرج» (١).

وهذا من أجمل ما يمكن أن يقال في العقل ، وطبيعة علاقته مع الحياء والدين ، إذ أنّ العقل إذا ما انفصل عن الدين فإنّ الدين سيكون في مهبّ الرياح ويتعرّض إلى الانحراف بسبب الأهواء وفقدان الموازن الموضوعية الأساسية.

أمّا «الحياء» الذي هو المانع والرادع للإنسان عن ارتكاب القبائح والذنوب ، فهو الآخر من ثمار شجرة العقل والمعرفة.

وهكذا نرى أنّ آدم عليه‌السلام كان يتمتّع بدرجة عالية من العقل ، حيث أنّه عليه‌السلام اختار العقل ممّا خيّر به من الأمور الثلاث ، وبذلك اصطحب الدين والحياء أيضا.

ونقرأ في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنّة» (٢).

وبناء على هذا فإنّ الجنّة هي مكان اولي الألباب ، ومن الطبيعي أنّ المقصود

__________________

(١) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٢.

(٢) اصول الكافي طبقا لنور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٢.

٤٨٥

من العقل هنا : هو المعرفة الحقيقيّة الراسخة وليس ألاعيب الشياطين التي تلاحظ في أعمال وممارسات السياسيين والظالمين والمستكبرين في عالمنا المعاصر.

حيث أنّ ذلك كما يقول الإمام الصادق هو (شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل) (١).

* * *

__________________

(١) نفس المصدر أعلاه.

٤٨٦

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤))

التّفسير

خالق الوجود عليم بأسراره :

بعد ما بيّنا ـ في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة ـ مصير الكفّار يوم القيامة ، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند الله سبحانه ..

يقول في البداية : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

«الغيب» هنا إشارة لمعرفة الله تعالى غير المرئية ، أو الإشارة إلى المعاد غير المشاهد ، أو يقصد به الأمران معا.

كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من الله تعالى بسبب ما عمل الإنسان من خطايا وذنوب في السرّ ، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يقترف ذنوبا في السرّ ، فإنّه لن يجرأ عليها في العلانية.

٤٨٧

ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النيّة في الابتعاد عن الذنوب والمعاصي ، والالتزام بالأوامر الإلهية ، إذ أنّ العمل السرّي يكون أبعد عن الرياء.

كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء.

التعبير بـ (مغفرة) بصورة (نكرة) ، وكذلك (أجر كبير) إشارة إلى عظمته وأهميّته ، إذ أنّ هذه المغفرة وهذا الأجر من العظمة أنّه غير معروف ولا واضح للجميع.

ثمّ يضيف للتأكيد : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

نقل بعض المفسّرين عن (ابن عبّاس) قوله في سبب نزول هذه الآية : (إنّ جماعة من الكفّار ـ أو المنافقين ـ كانوا يذكرون الرّسول بالسوء بدون علمه ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يخبر الرّسول بذلك ، وكان بعضهم يقول للآخر (أسرّوا قولكم) فنزلت الآية أعلاه موضّحة أنّ جهرهم أو إخفاءهم لأقوالهم هو ممّا يعلمه الله تعالى) (١).

وتأتي الآية اللاحقة دليلا وتأكيدا على ما ورد في الآية السابقة ، حيث يقول تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

ذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير عبارة : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) فقال البعض : إنّ القصد منها هو أنّ الذي خلق القلوب يعلم ما تكنّ فيها من أسرار.

أو أنّ الربّ الذي خلق العباد هل يجهل أسرارهم.

أو أنّه تعالى الذي خلق عالم الوجود جميعا عارف ومطلع بجميع أسراره ، وعندئذ هل تكون أسرار الإنسان ـ الذي هو جزء من هذا العالم العظيم ـ خافية على الله تعالى؟

ولإدراك هذه الحقيقة لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مخلوقات الله تعالى دائما تحت رعايته ، وذلك يعني أنّ فيض وجوده يصل كلّ لحظة إلى مخلوقاته ، فإنّه

__________________

(١) الفخر الرازي ، ج ٣ ، ص ٦٦ ، وروح البيان ، ج ١٠ ، ص ٨٦ ، تفسير الآيات مورد البحث.

٤٨٨

سبحانه لم يخلقهم ليتركهم بدون رعاية. وفي الأصل فإنّ جميع الممكنات مرتبطة دائما بوجوده تعالى ، وإذا ما فقدت تعلّقها بذاته المقدّسة لحظة واحدة فإنّها ستسلك طريق الفناء ، إنّ الانتباه وإدراك طبيعة هذه العلاقة القائمة والخلقة والأواصر الثابتة ، هي أفضل دليل على علم الله بأسرار جميع الموجودات في كلّ زمان ومكان.

«اللطيف» مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كلّ موضوع دقيق وظريف ، وكلّ حركة سريعة وجسم لطيف ، وبناء على هذا فإنّ وصف الله تعالى بـ (اللطيف) إشارة إلى علمه عزوجل بالأسرار الدقيقة للخلق ، كما جاءت أحيانا بمعنى خلق الأجسام اللطيفة والصغيرة والمجهرية وما فوق المجهرية.

إنّ جميع ما ذكرنا سابقا إشارة إلى أنّ الله اللطيف عارف ومطّلع على جميع النوايا القلبية الخفية ، وكذلك أحاديث السرّ ، والأعمال القبيحة التي تنجز في الخفاء والخلوة .. فهو تعالى يعلم بها جميعا.

قال بعض المفسّرين في تفسير (اللطيف) : (هو الذي يكلّف باليسير ويعطي الكثير).

وفي الحقيقة فإنّ هذا نوع من الدقّة في الرحمة.

وقال البعض أيضا : إنّ وصفه تعالى بـ (اللطيف) بلحاظ نفوذه سبحانه في أعماق كلّ شيء ، ولا يوجد مكان خال منه تعالى في العالم أجمع ، فهو في كلّ مكان وكلّ شيء.

إنّ جميع هذه الأمور ترجع إلى حقيقة واحدة ، وهي التأكيد على عمق معرفة الله سبحانه وعلمه بالأسرار الظاهرة والباطنة لجميع ما في الوجود

* * *

٤٨٩

الآيات

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨))

التّفسير

لا أمان للعاصين من عقاب الله :

بعد الأبحاث التي استعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنّة ، والكافرين والمؤمنين ، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية ، ثمّ إلى أنواع من عذابه ، وذلك للترغيب والتشويق بالجنّة لأهل الطاعة ، والإنذار بالنار لأهل المعصية ، يقول تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً).

(فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

٤٩٠

«ذلول» بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض ، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّا ، مع حركته المتعدّدة ، يلاحظ هادئا إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكنا بصورة مطلقة.

يقول بعض العلماء : إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة ، ثلاث منها هي :

الاولى : حركتها حول نفسها.

والثانية : حول الشمس.

والثالثة : مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.

هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة ، هي من التناسب والانسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لو لا إقامة البراهين القطعية على حركتها.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى. فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها ، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء ، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماما ، فلو كان معظم سطح الكرة الأرضية مغمورا بالوحل ، والمستنقعات ـ مثلا ـ فعندئذ تتعذّر الاستفادة منها ، وكذلك لو كانت الرمال الناعمة تغمرها فإن قدم الإنسان تغور فيها حتّى الركب ، وكذا لو كانت مكوّناتها من الصخور الحادّة القاسية فعندئذ يتعذّر المشيء عليها ، ومن هنا يتّضح معنى استقرار الأرض وهدوئها.

ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كلّ شيء على وجهها ، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كلّ شيء على سطحها.

وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية ، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته ، فهو ليس بالشديد بالصورة التي يسبّب له الاختناق ، ولا بالمنخفض بالشكل الذي يتلاشى فيه معه.

٤٩١

والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية ، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان ، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقا لا يستطيع الاستقرار في مكان.

والخلاصة : إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات ، والظريف هنا بعد وصفه تعالى للأرض بأنّها (ذلول) أمره لعباده بأن يسيروا في (مناكبها).

و «مناكب» جمع (منكب) على وزن (مغرب) بمعنى الكتف ، وبذلك تسخر الأرض للإنسان ويضع قدميه عليها سائرا على كتفها وهي هادئة ومتوازية ومحتفظة بتعادلها.

كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصل عليه ، وإلّا فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلّفين عن السعي.

إنّ التعبير بـ (الرزق) ـ هنا ـ تعبير جامع وشامل ، حيث يعني كافّة الموارد الأرضية ، وهو أعمّ من النعم الحيوانية والنباتية والمعدنية التي فيها.

ويجب الالتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم ، إذ أنّ كلّ ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.

وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى أسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ).

نعم ، إنّ البارئ تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح ، تبدأ بالزلازل ، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها ، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.

جملة (فإذا هي تمور) يمكن أن تكون إشارة إلى قدرة الله سبحانه على أن

٤٩٢

يأمر الأرض أن تبتلعكم ، وتنقلكم باستمرار ـ وأنتم في داخلها ـ من مكان إلى آخر بحيث أنّ الهدوء لا يشملكم حتّى وأنتم في قبوركم.

وهكذا تفقد الأرض استقرارها وهدوأها إلى الأبد ، وتسيطر الزلازل عليها ، وهذا الأمر سهل الإدراك والتصوّر للذين عاشوا في المناطق الزلزالية ، وشاهدوا كيف أنّ الزلازل تستمر عدّة أيّام أحيانا وتبقى الأرض غير مستقرّة وتسلب من سكّان تلك المناطق لذّة النوم والأكل والراحة ، غير أنّ تصوّر هذا الأمر بالنسبة إلى عامّة الناس الذين ألّفوا هدوء الأرض أمر صعب.

التعبير بـ (من في السماء) إشارة إلى ذات الله المقدّسة ، ولمّا كانت حاكميته على جميع السماوات ومن فيها من الأمور المسلّمة ، فما بالك بحاكميته على الأرض ، إنّها من الأمور التي لا شكّ فيها ـ أيضا ـ بل هي من باب الاولى.

قال البعض : إنّ العبارة السابقة إشارة إلى ملائكة الله سبحانه في السماء المكلّفين بتنفيذ أوامره تعالى.

ثمّ يضيف سبحانه : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) فلا يلزم حتما حدوث زلزلة لتدميركم ، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها .. وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).

إنّ إدراك طبيعة هذا التساؤل سهل بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في المناطق الرملية المتحرّكة والرياح (الحاصبة) ، (وهي الرياح التي تحرّك كميّات الحصى المتراكمة وتنقلها من مكان إلى آخر) فهؤلاء يدركون إمكانية دفن البيوت أو القرى في لحظات تحت تلال من الحصى والرمال المتحرّكة ، وكذلك القوافل السائرة في وسط الصحراء.

وفي الحقيقة فإنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط ، حيث يستطيع البارئ عزوجل أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض ، أو بحركة الرياح ، وإن أفضل دليل

٤٩٣

على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الأمور في الأمم السابقة.

لذا فإنّ الله تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١).

نعم فلقد عاقبنا قسما من هؤلاء بالزلازل المدمّرة ، وأقواما آخرين بالصواعق ، وبالطوفان ، وبالرياح .. وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس واعتبار لمن كان له قلب واع.

* * *

__________________

(١) «نكير» بمعنى (الإنكار) وجاءت هنا كناية عن العقوبة ، لأنّ إنكار الله تعالى مقابل أفعال هؤلاء القوم جاءت عن طريق مجازاتهم ، وممّا يجب الانتباه له أنّ هذه الكلمة كانت في الأصل (نكيري) ، كما أنّ (نذير) في الآية السابقة أصلها (نذيري) ، فحذفت ياء المتكلّم وبقيت الكسرة تدلّ عليها.

٤٩٤

الآيات

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١))

التّفسير

انظروا إلى الطير فوقكم :

في الآيات الاولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة الله سبحانه ومالكيته ، وعن السموات السبع والنجوم والكواكب .. ويستمرّ هذا اللون من الحديث في أوّل آية ـ مورد البحث ـ وذلك بذكر مفردة اخرى من كائنات هذا الوجود ، والتي تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (١).

__________________

(١) «الطير» : جمع (طائر).

٤٩٥

هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلّق ساعات في السماء بكلّ راحة ، وأحيانا أيّاما وأسابيع وشهورا ، وتستمر بحركتها السريعة المرنة وبدون أي مشاكل.

فالبعض منها يفتح جناحية عند الطيران (صافات) وكأنّ هنالك قوّة خفيّة تحرّكه ، والاخرى ترفرف بأجنحتها عند الطيران بصورة مستمرة وقد تكون (يقبضن) إشارة إلى هذا المعنى.

وتطير مجاميع اخرى بتحريك أجنحتها تارة وفتحها اخرى. كما أنّ هنالك قسما آخر يحرّك أجنحته لفترة عند الطيران ، وعند ما يحقّق سرعة معيّنة يجمعها بصورة كلية كـ (العصفور).

وخلاصة القول : فإنّ الطيران واحد ، إلّا أنّ صوره مختلفة ولكلّ طريقته وبرنامجه الخاصّ به.

فمن يا ترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير في الهواء بكلّ سهولة وراحة؟. ومن ذا الذي وهبها هذه القدرة وعلّمها الطيران ، خصوصا حالات الطيران الجماعي المعقد للطيور المهاجرة ، التي تستمرّ ـ أحيانا ـ شهورا عديدة ، وتقطع في رحلتها هذه الاف الكيلومترات ، وتمرّ بأجواء بلدان كثيرة ، وتجتاز الجبال والوديان والغابات والبحار حتّى تصل إلى مقصدها؟ فمن يا ترى علم وأعطى هذه الطيور كلّ هذه القوّة ، وهذا الوعي والمعرفة؟

لذا يقول في ختام الآية (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).

إنّه الله تعالى الذي وضع باختيارها الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة للطيران ، نعم ، إنّ الله الرحمن الذي شملت رحمته الواسعة جميع الكائنات ، وأعطى للطيور ما هو موضع حاجتها في الطيران ، وحافظ عليها في السماء ، هو بذاته المقدّسة يحفظ الأرض والكائنات الاخرى. وعند ما يشاء غير ذلك فلن يكون عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والاستقرار.

٤٩٦

التعبير بـ (الصافات ويقبضن) لعلّه إشارة إلى طيور مختلفة أو لحالات متنوّعة من الطيران (١).

ولقد بحثنا بشكل تفصيلي عجائب عالم الطيور وغرائب مسألة الطيران في تفسير الآية (٧٩) من سورة النحل.

ثمّ يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أنّ الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة الله عزوجل حيث يقول : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) (٢).

إنّ هؤلاء الذين هم (جند لكم) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب ، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم ، وحتّى هذه النعم المسخّرة لسعادتكم كالماء والهواء والتراب والنار والتي تمثّل ركنا أساسيا من أركان حياتكم لا يمكنها أن تنقذكم من البلاء ، بل إنّها نفسها إذا أمرت فإنّها ستكون موضع عذابكم وموتكم ونقمة عليكم.

نعم لقد كانت هذه النعم سببا لهلاك ودمار كثير من الأقوام العاصين ويحدّثنا التاريخ أنّ الكثير من الجبابرة والطغاة والمتمرّدين على أوامر الله كان هلاكهم على يد أقرب الناس إليهم ، وهذا ما يلاحظ كذلك في عصرنا أيضا ، حيث أنّ أكثر المجاميع وفاء للسلطة تثور ضدّهم وينتقم الله من هؤلاء الظالمين بالظالمين الذين كانوا عونا لهم.

ألا (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور ، ولا يعتبرون أو يتّعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة ، ولا لما يصيب الآخرين

__________________

(١) سبب ذكر (الصافات) بصورة صفة و (يقبضن) بصورة فعل مضارع ، لأنّ انفتاح أجنحة الطيور برنامج على نمط واحد ولا يحصل فيه تغيير ، في الوقت الذي نلاحظ فيه أنّ انفتاح وانقباض الأجنحة يكون عملا مكرّرا (فتأمّل).

(٢) (أم) في هذه الجملة حرف عطف ، و (من) مبتدأ و (هذا) مبتدأ (ثان) و (الذي) خبرها و (هو جند لكم) صلتها ، و (ينصركم) يكون وصفا لل (جند) ، والجملة هي خبر للمبتدأ الأوّل. (البيان في غريب إعراب القرآن ج ٢ ص ٤٥٩) إلّا أنّ المناسب هو أن يكون (الذي) عطف بيان و (ينصركم) خبر ، لأنّ الجملة بدونه ناقصة. (فتأمّل).

٤٩٧

في حياتنا المعاصرة.

«جند» في الأصل بمعنى الأرض غير المستوية والقويّة ، والتي تتجمّع فيها الصخور الكثيرة ، ولهذا السبب فإنّ هذه الكلمة (جند) تطلق على العدد الكثير من الجيش.

وقد اعتبر بعض المفسّرين كلمة (جند) في الآية ـ مورد البحث ـ إشارة إلى الأصنام ، التي لا تستطيع مطلقا تقديم العون للمشركين في يوم القيامة ، إلّا أنّ للآية في الظاهر مفهوما واسعا والأصنام أحد مصاديقها.

ثمّ يضيف سبحانه مؤكّدا ما سبق : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) (١).

فإذا أمر الله السماء أن تمتنع عن المطر ، والأرض عن الإنبات ، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل .. فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟

وإذا ما قطع الله الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم ، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنّها لحقائق واضحة وأدلّة دامغة ، إلّا أنّ العناد هو الذي يشكّل حجابا للإدراك وللشعور الحقّ : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).

وحتّى في حياتنا المعاصرة ومع كلّ ألوان التقدّم العلمي في الجوانب المختلفة ، خصوصا في مجال الصناعة الغذائية. فإذا ما منع الله المطر عن الأرض سنة واحدة فيا لها من فاجعة عظمى تحلّ بالعلم ، وإذا ما أصيبت النباتات بالجراد والآفات سنة واحدة فيا لها من كارثة كبرى تحلّ بالبشرية.

* * *

__________________

(١) نلاحظ أنّ جزاء الشرط في الآية محذوف تقديره (إن أمسك رزقه من يرزقكم غيره).

٤٩٨

ملاحظة

العوامل الأربعة في محرومية البشر :

استعرضت الآيات السابقة أهمّ العوامل التي أدّت بالعصاة والمتمرّدين على أوامر البارئ عزوجل إلى المصير البائس والعاقبة الخائبة. وكانت أهمّ هذه العوامل : إعراض آذانهم عن الإصغاء ، وعقولهم عن الفهم ، وقلوبهم عن الوعي ..

كما كانت في الآيات مورد البحث أربعة عوامل اخرى ساهمت في العاقبة السيّئة لهؤلاء التي هي : بؤس الإنسان وضلاله ، هذه العوامل هي : (الغرور) و (اللجاجة) و (العتوّ) و (النفور).

وإذا ما أمعنا النظر جيّدا في هذه العوامل فإنّنا نلاحظ أنّ لها ارتباطا مع العوامل السابقة ، حيث أنّ هذه الصفات الرديئة تولّد حجابا على الآذان والعيون والبصائر ، وتمنع الإنسان من إدراك الحقائق.

* * *

٤٩٩

الآيات

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

التّفسير

السائر سويّا على جادّة التوحيد :

تعقيبا لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى الكافرين والمؤمنين ، فإنّ الله تعالى يصوّر لنا ـ في أوّل آية من هذه الآيات ـ حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف ، حيث يقول تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ

٥٠٠