الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

أنّ الحدود كانت تجرى على المنافقين غالبا.

الجدير بالذكر أنّ الآية السابقة وردت أيضا وبنفس النصّ في سورة التوبة الآية ٧٣.

ومن أجل أن يعطي الله تعالى درسا عمليا حيّا إلى زوجات الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد مرّة اخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله ، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة ، حيث يقول أوّلا : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١).

وبناء على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرّسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه ، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.

كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيرا لكلّ المؤمنين بأنّ القرب من أولياء الله والانتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته.

وورد في كلمات بعض المفسّرين أنّ زوجة نوح كانت تدعى «والهة» وزوجة لوط «والعة» (٢) بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أنّ زوجة لوط اسمها (والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة) (٣).

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله.

__________________

(١) «ضرب» أخذ هنا مفعولين ، الأوّل «امرأة نوح» ذكره مؤخّرا ، والثاني «مثلا» ، ويحتمل أن «ضرب» أخذت مفعولا واحدا وهو «مثلا» وكلمة «امرأة نوح» بدل. (البيان في غريب اعراب القرآن ، ج ٢ ، ص ٤٤٩).

(٢) «القرطبي» ج ١٠ ، ص ٦٦٨٠.

(٣) «روح المعاني» ج ٢٨ ، ص ١٤٢ (وقيل أنّ اسم امرأة نوح «واغلة» أو «والغة»).

٤٦١

والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادّة العفّة والنجابة ، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة ، فقد جاء عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بغت امرأة نبي قطّ».

كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه ، وكذلك كانت زوجة نوح عليه‌السلام.

وذهب الراغب في «المفردات» إلى أنّ للخيانة والنفاق معنى واحدا وحقيقة واحدة ، ولكن الخيانة تأتي في مقابل العهد والأمانة ، والنفاق يأتي في الأمور الدينية وما تقدّم من سبب النزول ومشابهته لقصّة هاتين المرأتين توجب كون المقصود من الخيانة هنا هو نفس هذا المعنى.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية السابقة تبدّد أحلام الذين يرتكبون ما شاء لهم أن يرتكبوا من الذنوب ويعتقدون أنّ مجرّد قربهم من أحد العظماء كاف لتخليصهم من عذاب الله ، ومن أجل أن لا يظنّ أحد أنّه ناج من العذاب لقربه من أحد الأولياء ، جاء في نهاية الآية السابقة : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

ثمّ يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ).

من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى عليه‌السلام أمام السحرة ، واستقرّ قلبها على الإيمان ، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها ، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئا يسهل كتمانه ، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه ، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقا.

وأخيرا أمر فرعون أن تثبت يداها ورجلاها بالمسامير ، وتترك تحت أشعة

٤٦٢

الشمس الحارقة ، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.

في رواية عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران ، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون (١).

ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئا مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى ، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك. لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راع كموسى.

وفي عبارة (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تضرب مثلا رائعا للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة ، أو تتخلّى عن إيمانها مقابل مكاسب زائلة في هذه الدنيا.

لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون ، والتي بلغت حدّا ليس له مثيل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي اختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.

وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجوا أن يبني الله لها بيتا عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين : المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة «في الجنّة» ، والبعد المعنوي وهو القرب من الله «عندك» وقد جمعتهما في عبارة صغيرة

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٤٦.

٤٦٣

موجزة.

ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات ، حيث يقول جلّ من قائل : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (١).

فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولدا صار نبيّا من أنبياء الله العظام (من اولي العزم).

ويضيف تعالى قائلا : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) و (كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ).

كانت في القمّة من حيث الإيمان ، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية ، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله ، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الاستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.

ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء ، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب.

ونظرا لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله ، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (٧٥) من سورة المائدة (صدّيقة).

وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة ، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم).

على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة ، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة.

والتعبير بـ (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح ، كما أشرنا إلى ذلك سابقا. أو بعبارة اخرى : إنّ إضافة كلمة (روح) إلى «الله» إضافة

__________________

(١) يوجد شرح مفصّل في كتابنا هذا في ذيل الآية (٩١) من سورة الأنبياء يتعلّق بما هو المقصود من تعبير «الفرج».

٤٦٤

تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة «بيت» إلى «الله».

ومن الغريب ما كتبه بعض المفسّرين من اعتبارهم عائشة أفضل النساء ، وأنّها أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله. ولقد كان حريّا بهم أن لا يتطرّقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة ، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل. فإنّ كثيرا من مفسّري ومؤرّخي أهل السنّة أكّدوا على أنّ اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجّهين إلى زوجتي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حفصة» و «عائشة» ومنها ما جاء في صحيح البخاري الجزء السادس صفحة ١٩٥ ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحرّ جميعا لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثمّ ليتعرّفوا على قيمة وجدارة مثل هذه الأحاديث.

اللهمّ جنّبنا الحبّ الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما يقوم على العصبية ، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكلّ وجودنا إلى آيات قرآنك المجيد.

ربّنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرّسول فلم يرض أعمالهم وطريقة حياتهم.

اللهمّ هب لنا استقامة لا نتأثّر معها بالضغوط ، ولا نخضع لعذاب الفراعنة وجبابرة العصر.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة التحريم

* * *

٤٦٥
٤٦٦

بداية الجزء التاسع والعشرون

من

القرآن الكريم

سورة الملك

مكيّة

وعدد آياتها ثلاثون آية

٤٦٧
٤٦٨

«سورة الملك»

محتوى سورة الملك :

تمثّل هذه السورة بداية الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم ، وهي من السور التي نزلت جميع آياتها في مكّة المكرّمة على المشهور ، كما هو شأن غالبية سور هذا الجزء ، إن لم يكن جميعها كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين (١) ، بخلاف ما عليه سور الجزء السابق حيث كانت مدنية.

ولكن كما سنرى لا حقا أنّ سورة الدهر (سورة الإنسان) من السور المدنية.

وتسمّى سورة الملك أيضا بـ (المنجية) ، وكذلك تسمّى بـ (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر ، وهي من السور التي لها فضائل عديدة ، وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة ، إلّا أنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي :

١ ـ أبحاث حول المبدأ ، وصفات الله سبحانه ، ونظام الخلق العجيب والمدهش ، خصوصا خلق السموات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة .. وكذلك ما يتعلّق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاذن والعين ، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاخرى.

٢ ـ وفي المحور الثاني تتحدّث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٨٠.

٤٦٩

والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنّم ، بالإضافة إلى امور اخرى في هذا الصدد.

٣ ـ وأخيرا فإنّ آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاخروي للكفّار والظالمين.

ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أوّل آية منها (١).

فضيلة تلاوة السورة :

نقلت روايات عديدة عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في فضيلة تلاوة هذه السورة نقرأ منها ما يلي :

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة تبارك فكأنّما أحيى ليلة القدر» (٢).

وجاء في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وددت أن تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن» (٣).

وجاء في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «سورة الملك هي المانعة ، تمنع من عذاب القبر ، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك ، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين» (٤).

والأحاديث كثيرة في هذا المجال.

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٨٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٤٧٠

ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلّا من خلال التدبّر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها ، والاستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.

* * *

٤٧١

الآيات

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

التّفسير

عالم الوجود المتكامل :

تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه ، وخلود ذاته المقدّسة ، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة (١).

__________________

(١) هذه السورة هي ثاني سورة تبدأ بكلمة (تبارك) وسورة الفرقان هي الاخرى بدأت بـ (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى)

٤٧٢

يقول تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

«تبارك» : من مادّة (بركة) في الأصل من (برك) على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير) ، وعند ما يقال : (برك البعير) يعني وضع صدره على الأرض. ثمّ استعملت الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال ، وأطلقت كذلك على كلّ نعمة باقية ودائمة ، ومن هنا يقال لمحلّ خزن الماء (بركة) لأنّ الماء يبقى فيها مدّة طويلة.

وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيّا على أنّ الذات الإلهية مباركة ، وهو مالكيته وحاكميته على الوجود ، وقدرته على كلّ شيء ، ولهذا السبب فإنّ وجوده تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال.

ثمّ يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته ، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

«الموت» : حقيقته الانتقال من عالم إلى عالم آخر ، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقا ، لأنّ الخلقة ترتبط بالأمور الوجودية ، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة ، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقا ، لذا فإنّه غير مقصود.

ثمّ إنّ ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الالتفات إلى الموت ، وما يترتّب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والالتزام ، إضافة إلى أنّ الموت كان في حقيقته قبل الحياة.

أمّا الهدف من الامتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقا للقرب من الله سبحانه ، وقد بحثنا ذلك مفصّلا فيما سبق (١).

__________________

(عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً).

(١) يمكن مراجعة الشرح الوافي حول الامتحانات الإلهية في تفسير الآية (١٥٥) من سورة البقرة.

٤٧٣

كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله «أحسن عملا» هو التأكيد على جانب (حسن العمل) ، ولم تؤكّد الآية على كثرته ، وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير اهتماما (للكيفية) لا (للكميّة) ، فالمهمّ أن يكون العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية.

لذا ورد في تفسير (أحسن عملا) ، روايات عدّة ، فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أتمّكم عقلا ، أشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ، ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلّكم تطوّعا» (١).

حيث أنّ العقل الكامل يطهّر العمل ، ويجعل النيّة أكثر خلوصا لله عزوجل ويضاعف الأجر.

وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال حول تفسير (أحسن عملا): «ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنّا الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتّى يخلص ، أشدّ من العمل ، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزوجل» (٢).

وتحدّثنا في تفسير الآية : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٣) ، وقلنا : أنّ الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عزوجل ، وهنا نجد الهدف : (اختباره بحسن العمل). وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة الاختبار والامتحان لا تنفكّ عن مسألة العبودية لله سبحانه ، كما أنّ لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنيّة الخالصة لوجهه الكريم ـ والتي أشير لها في الروايات أعلاه ، أثرا في تكامل روح العبودية.

ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الامتحان الكبير لجميع البشر ، ووسيلة هذا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٢.

(٢) تفسير الصافي ، الآيات مورد البحث.

(٣) الذاريات ، الآية ٥٦.

٤٧٤

الامتحان هو الموت والحياة ، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة ، وإخلاص النيّة ، وإنجاز كلّ عمل خيّر.

وإذا لا حظنا أنّ بعض المفسّرين فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو التهيّؤ وما شابه ذلك ، فإنّ هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلّي.

وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الامتحان الكبير الذي يمرّ به ، فيجدر به ألّا يكون متشائما ويائسا من عون الله سبحانه ومغفرته له ، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها ، حيث يقول تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

نعم ، إنّه قادر على كلّ شيء ، وغفّار لكلّ من يتوب إليه.

وبعد استعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة ، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلّي للعالم ، وتدعو الإنسان إلى التأمّل في عالم الوجود ، والتهيّؤ لمخاض الامتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم ، يقول تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

بالنسبة إلى موضوع السموات السبع فقد استعرضنا شيئا حولها في تفسير الآية (١٢) من سورة الطلاق ، ونضيف هنا أنّ المقصود من (طباقا) هو أنّ السموات السبع ، كلا منها فوق الاخرى ، إذ أنّ معنى (المطابقة) في الأصل هو الشيء فوق شيء آخر.

ويمكن اعتبار «السموات السبع» إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ، حيث تبعد كلّ منها مسافة معيّنة عن الشمس أو تكون كلّ منها فوق الاخرى.

أمّا إذا اعتبرنا أنّ جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء الاولى ، فيتّضح لنا أنّ هنالك عوالم اخرى في المراحل العليا ، حيث أنّ كلّ واحد منها يكون فوق الآخر.

٤٧٥

ثمّ يضيف سبحانه : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ).

إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بكلّ ما يحيطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحكم ، وقوانين منسجمة ، ومقادير محسوبة ، ودقّة متناهية ، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.

وهذه الدقّة المتناهية ، والنظام المحيّر ، والخلق العجيب ، يتجسّد لنا في كلّ شيء ، ابتداء من الذرّة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات ، وانتهاء بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات الاخرى ، كالمجرّات وغيرها .. إذ أنّ جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في الدقّة ، ويسير وفق نظام خاصّ.

وخلاصة القول أنّ كلّ شيء في الوجود له قانون وبرنامج ، وكلّ شيء له نظام محسوب.

ثمّ يضيف تعالى مؤكّدا : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ).

«فطور» من مادّة (فطر) ، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول ، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد ، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود ، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه.

لذا يضيف سبحانه مؤكّدا هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ).

«كرّتين» من مادّة (كر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شيء معيّن ، و (كرّة) بمعنى التكرار و (كرّتين) مثنّاها.

إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المقصود من ال (كرّتين) هنا ليس التثنية ، بل الالتفات والتوجّه المتكرّر المتعاقب والمتعدّد.

٤٧٦

وبناء على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأمّلوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات ـ كحدّ أدنى ـ ويتدبّروا أسرار الخلق. وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن يدقّق في خلق الله سبحانه مرّات ومرّات ، وعند ما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية ، ممّا يؤدّي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة.

«خاسئ» من مادّة (خسأ) و (خسوء) على وزن (مدح ، وخشوع) وإذا كان مورد استعمالها العين ، فيقصد بهما التعب والعجز ، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده.

«حسير» من مادّة (حسر) ، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشيء عاريا ، وإذا ما فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب ، فإنّه يكون عاريا من قواه ، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز.

وبناء على هذا فإنّ كلمتي (خاسئ) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه ، تعطيان معنى واحدا في التأكيد على عجز العين ، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود.

وفرّق البعض بين معنى الكلمتين ، إذ قال : إن (خاسئ) تعني المحروم وغير الموفّق ، و (حسير) بمعنى العاجز.

وعلى كلّ حال فيمكن استنتاج أساسين من الآيات المتقدّمة :

الأوّل : أنّ القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحقّ أن يتدبّروا ويتأمّلوا كثيرا في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق ، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتين ، حيث أنّ هنالك أسرارا كثيرة وعظيمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاولى أو الثانية. بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الكثيرة ، حتّى تتّضح الأسرار وتتبيّن الحقائق.

٤٧٧

الأمر الثّاني : الذي يتبيّن لنا من خلال التدقيق في هذا النظام ، هو إدراك طبيعة الانسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود ، بالإضافة إلى خلوه من كلّ نقص وعيب وخلل.

وإذا ما لوحظ في النظرة الأوّلية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم (كالزلازل والسيول ، والأمراض ، والكوارث الطبيعية الاخرى ، والتي تصيب البشر أحيانا في حياتهم) واعتبرت شرورا وآفات وفسادا ، فإنّه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأمّلة يتبيّن لنا أنّ هذه الأمور هي الاخرى تمثّل أسرارا أساسية غاية في الدقّة (١).

إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني ، حيث معناها أنّ وجود النظام في كلّ شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء ، وإلّا ، فإنّ حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبدا أن تكون منطلقا للنظام ومبدأ للحساب.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث مفضّل المعروف عنه «إنّ الإهمال لا يأتي بالصواب ، والتضادّ لا يأتي بالنظام» (٢).

ثمّ تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة ، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة ، حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ).

إنّ نظرة متأمّلة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جوّ السماء المليء بالنجوم كاف لإثارة الانتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة ، وخاصّة طبيعة النظم

__________________

(١) ذكرنا شرحا لهذا الموضوع في مباحث (إثبات وجود الله) وذلك عند جوابنا على أدلّة الماديين في موضوع (الآفات والبلايا) ، يرجى مراجعة كتاب (خالق العالم).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٦٣.

٤٧٨

الحاكمة عليها ، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها ، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة ، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم ، ممّا يجعل الإنسان أمام عالم مليء بالمعرفة ونور الحقّ ، ويدفعه باتّجاه عشق البارئ عزوجل الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان.

وتؤكّد الآية الكريمة ـ مرّة اخرى ـ الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلّا جزء من المساء الاولى ، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اخرى من السموات السبع ، لذا أطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السموات الاخرى.

«الرجوم» بمعنى (الرصاص) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من جهة إلى اخرى من السماء ، كما أنّ (الشهب) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي تأثّرت بحوادث معيّنة ، وبناء على هذا ، فإنّ المقصود بجعل الكواكب رجوما للشياطين ، هو هذه الصخور المتبقّية.

أمّا كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب (الأحجار الصغيرة) التي تسير بصورة غير هادفة في جو السماء ، فقد بيّناه بشكل تفصيلي في التّفسير الأمثل في تفسير الآية (١٨) من سورة الحجر ، وكذلك في تفسير الآية (٢٠) من سورة الصافات.

* * *

ملاحظة

عظمة عالم الخلق :

بالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل في مجتمع الجاهلية والتأخّر .. إلّا أنّنا عند ما نلاحظ آياته نراها غالبا ما تدعو المسلمين إلى التفكّر والتأمّل بالأسرار العظيمة التي يزخر بها عالم الوجود ، الأمر الذي لم يكن مفهوما في ذلك العصر ،

٤٧٩

وهذا دليل واضح على أنّ القرآن الكريم صادر من مبدأ آخر ، وأنّ العلم والمعارف الإنسانية كلّما تقدّمت فإنّها تؤكّد عظمة القرآن الكريم أكثر فأكثر.

فالكرة الأرضية التي نعيش عليها ـ مع كبر حجمها وسعتها ـ صغيرة في مقابل مركز المنظومة الشمسية (قرص الشمس) ، بحيث أنّها تساوى مليون ومائتي ألف كرة أرضية مثل أرضنا.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ منظومتنا الشمسية جزء من مجرّة عظيمة ، يطلق عليها اسم «درب التبانة» (١).

وطبقا لحسابات العلماء الفلكيين فإنّه يوجد في مجرتنا فقط (٠٠٠) ـ مائة مليارد ـ نجمة ، حيث تكون الشمس ومع ما عليها من عظمة إحدى نجومها المتوسطة.

ومن جهة ثالثة فإنّ في هذا العالم الواسع مجرّات كثيرة إلى حدّ أنّها تخرج عن الحساب والعدد ، وكلّما تطوّرت التلسكوبات الفلكية العظيمة تمّ كشف مجرّات اخرى عديدة.

فما أعظم قدرة هذا الربّ الذي وضع هذه الأسرار الكبيرة مع ذلك النظام الدقيق «العظمة لله الواحد القهّار».

* * *

__________________

(١) (المجرّات) هي : مجاميع من النجوم تعرف باسم (مدن النجوم) ، ومع أنّ بعضها قريب من البعض الآخر نسبيا ، إلّا أنّ الفاصلة بين بعضها والبعض الآخر تكون أحيانا ملايين السنين الضوئية.

٤٨٠