الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّا بالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحقّ للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.

وبناء على هذا فالذين لديهم المقدرة والاستطاعة ثمّ يبخلون بها فإنّهم يستحقّون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئا.

وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سببا لخروجكم عن الطريق السوي ، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال ، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون ضنكا ماديا وعوزا في متطلّبات الحياة ، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشّر الصابرين.

ولم تمض فترة طويلة حتّى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته.

* * *

بحوث

١ ـ أحكام الطلاق الرجعي

قلنا أنّه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته خلال فترة العدّة إلى آخر يوم منها ، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه ، والطريق إلى ذلك سهل يسير يمكن أن يتمّ بأي حديث أو عمل يشمّ منه رائحة العودة ويدلّ على الرجوع في العلاقة الزوجية ، وقد اختصّت بعض الأحكام التي وردت في الآيات أعلاه مثل «النفقة» و «السكن» بحالة الطلاق الرجعي ، يضاف إلى ذلك عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدّة ، فإنّها أيضا من مختصّات الطلاق الرجعي أمّا الطلاق البائن غير القابل للرجوع ، (كالطلاق للمرّة الثالثة) فإنّه غير

٤٢١

مشمول بتلك الأحكام.

أمّا حقّ النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل.

والتعبير بـ (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) إشارة إلى أنّ كلّ الأحكام السابقة ـ أو بعضها ـ مرتبط بالطلاق الرجعي (١).

٢ ـ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها

ليس العقل وحده يحكم بذلك ، وإنّما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على ذلك. أي أنّ تكاليف البشر ومسئولياتهم إنّما هي بقدر طاقاتهم وتعبير (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ المقصود بـ (ما آتاها) هو «ما أعلمها» أي أنّ الله يكلّف الناس بقدر ما أعلمهم به. ولذا استدلّ بهذه الآية على إثبات «أصل البراءة» في مباحث علم الأصول ، فمن لا يعلم حكما ليس عليه مسئولية تجاه ذلك الحكم.

ونظرا لأنّ عدم الاطّلاع يؤدّي أحيانا إلى عدم المقدرة ، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدرا للعجز.

وبناء على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدّي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.

٣ ـ أهميّة النظام العائلي

إنّ الدقّة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ وباقي الجزئيات المتعلّقة في هذا المجال ، الواردة في آيات قرآنية

__________________

(١) راجع الكتب الفقهيّة للتوسّع في ذلك ومنها كتاب «جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٢١».

٤٢٢

اخرى ، تمثّل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل.

كلّ ذلك يبرز الأهميّة الخاصّة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية حقوق المرأة والأبناء. فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان ، ويحاول استئصال جذور هذا العمل البغيض ، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود وأصبح الطلاق والانفصال هو العلاج الوحيد ، عندها يحذّر من ضياع حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحيّة هذا النزاع ، حتّى أنّه شرع حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالبا.

إنّ أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف ، وكذلك عدم الإضرار والتضييق على النساء والتشدّد في أمرهنّ ، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال ، وما إلى ذلك كلّها شواهد على ذلك.

غير أنّ عدم اطّلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها ، أو إعراضهم عن الالتزام بها رغم علمهم ، أدّى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق ، وخاصّة في شأن الأطفال. وذلك نتيجة ابتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي الذي هو القرآن. فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من بيت الزوج في أيّام العدّة ، ولا يحقّ للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة المحدّدة مما يؤدّي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة الزوجية ، نرى قلّة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق ، وهذا ما يدعو إلى الأسف حقّا.

* * *

٤٢٣

الآيات

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

التّفسير

العاقبة المؤلمة للعاصين :

في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف ، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كلّ من (الطاعة

٤٢٤

والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضيّة طابعا حسيّا.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج ، فبعد ذكر وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق ، يحذّر العاصين والمتمرّدين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (١).

والمقصود بـ «القرية» هو محل اجتماع الناس ، وهو أعمّ من المدينة والقرية ، والمراد هو أهلها.

«عتت» من مادّة «عتو» على وزن «غلو» بمعنى التمرّد على الطاعة.

و «نكر» على وزن «شكر» ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

«حسابا شديدا» أي الحساب الدقيق المقرون بالشدّة والصرامة ، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا ، التي هلكت بعضها بالطوفان ، وبعضها بالزلازل ، وآخرون بالصواعق والعواصف ، وأمثالهم حلّ بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً).

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله ، والخروج من هذه الدنيا ـ ليس فقط بعدم شراء المتاع ـ وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ويرى البعض أنّ «حسابا شديدا» و «عذابا نكرا» يشيران إلى «يوم القيامة»

__________________

(١) «كأين» على الرّأي المشهور لعلماء الأدب اسم مركب من «كاف» التشبيه و «أي» مع التنوين الذي دخل في بناء هذا الاسم ، ويقرأ مع الوقف كذلك ، وكتب أيضا في كتابة المصاحف ومعناها كمعنى «كم» الخبرية ، رغم وجود فرق بسيط بينهما. وعلى الرأي غير المشهور فإنّها اسم بسيط وكافها ونونها جزء من الكلمة.

٤٢٥

واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل ، ولكن لا داعي لهذا التكلّف ، خاصّة أنّ السورة تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة ، فذلك يدلّ على أنّ المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا.

ثمّ يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) عذابا مؤلما ، مخيفا ، مذلا ، فاضحا ، دائما أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنّم.

والآن (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا).

إنّ الفكر والتفكّر من جهة ، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى ، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمرّدة التي عصت أمر ربّها ، والإعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم ، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة.

وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

علما أنّ هناك خلافا بين المفسّرين في معنى كلمة «ذكر» ولكلمة «رسولا» اعتبر بعضهم أنّ «الذكر» يعني القرآن ، بينما فسّرها البعض الآخر بأنّها تعني (رسول الله) لأنّ الرّسول هو سبب تذكّر الناس ، وطبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة «رسولا» التي تأتي بعدها تعني شخص الرّسول ، وليس في البين كلام محذوف.

ولكن يصبح معنى «الإنزال» هنا هو وجود الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الامّة وبعثه فيها من قبل الله تعالى.

ولكن إذا أخذنا «الذكر» بمعنى «القرآن» فإنّ كلمة «رسولا» لا يمكن أن تكون بدلا ، وفي الجملة محذوف تقديره «أنزل الله إليكم ذكرا وأرسل إليكم رسولا».

٤٢٦

قال البعض : أنّ «الرّسول» يقصد به «جبرائيل» وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيّا ، نزل من السماء ، غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) لأنّ جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين.

وبصورة عامّة ، فإنّ كلّ أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوّة ونقاط ضعف ، ويبقى التّفسير أو الرأي الأوّل أفضل الآراء أي أنّ «الذكر» يقصد به «القرآن» و «رسولا» يقصد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذلك لأنّ القرآن الكريم أطلق على نفسه «الذكر» في آيات كثيرة ، خصوصا أنّها كانت مقرونة بكلمة «إنزال» إلى الحدّ الذي أصبح كلّما جاءت عبارة «إنزال الذكر» تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم.

ثمّ نقرأ في الآية (٤٤) من سورة النحل (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).

وجاء في الآية (٦) من سورة «الحجر» (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ).

وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المقصود من «الذكر» هو رسول الله و «أهل الذكر» هم «الأئمّة» ، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية ، لأنّنا نعلم أنّ «أهل الذكر» في آية (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النحل (٤٣) ليس خصوص أهل البيت عليهم‌السلام ، بل إنّ شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب ، ولكن نظرا لاتّساع معنى الذكر فإنّه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه.

على أي حال فإنّ الهدف النهائي من إرسال الرّسول وإنزال هذا الكتاب السماوي ، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وارتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية ، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

والواقع أنّ تمام أهداف بعثة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن يمكن تلخيصها بهذه الجملة ، وهي الخروج من الظلمات إلى النور.

٤٢٧

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الظلمات» ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد ، لأنّ الكفر والشرك والفساد تؤدّي إلى الفرقة والاختلاف ، بينما يؤدّي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً).

وأشار بالفعل المضارع «يؤمن» و «يعمل» إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان ، وإنّما لهما استمرار وديمومة (١).

والتعبير بـ (خالدين) دليل على كون الجنّة خالدة ، وبذلك تكون كلمة «أبدا» التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود.

والتعبير بـ «رزقا» بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهميّة الأرزاق الطيّبة التي يهيّؤها الله لهذه الجماعة ، وقد يتّسع معناها ليشمل كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة ، لأنّ الصالحين والمتّقين لهم حياتهم الكريمة حتّى في الحياة الدنيا.

* * *

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ الضمائر في الآية بعضها بصيغة الجمع وبعضها الآخر بصيغة المفرد ، وهذا يعني انّه في الموارد التي جاء بصيغة المفرد يكون بمعنى الجنس والجمع أيضا.

٤٢٨

الآية

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

التّفسير

الهدف من خلق العالم :

هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق ، ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين ، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة. إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواء في هذا العالم أو العالم الآخر.

يقول تعالى أوّلا : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ).

(وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).

بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي

٤٢٩

تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

والآن لنر ما هو المقصود من السموات السبع والأرضين السبع؟

مرّت أبحاث مطوّلة في هذا المجال في ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية (١٢) من سورة فصّلت ، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي :

إنّه من الممكن أن يكون المراد من عدد (٧) هو الكثرة ، فكثيرا ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره ، فنقول أحيانا للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت.

وبناء على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض.

أمّا إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السموات وعدد الأرضين ، فإنّ مفهوم هذه الآية مع الالتفات إلى الآية (٦) من سورة الصافات التي تقول : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) سيكون شيئا آخر ، وهو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها ، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّا. أو لعلّها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحاليا. علما أنّ هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي ، فالتقسيم الحالي يقسّم الأرض إلى منطقتين : منطقة المنجمد الشمالي ، والمنجمد الجنوبي. ومنطقتين معتدلتين ، وأخريين حارتين ، ومنقطة استوائية. أمّا سابقا فكان هناك تقسيم آخر لهذه المناطق السبع.

٤٣٠

ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد «سبعة» المستفاد من تعبير (مثلهنّ) هو الكثرة أيضا التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن ، حتّى قال بعض علماء الفلك : إنّ عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحدّ أدنى (١).

ونظرا لقلّة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية ، فإنّ تحديد عدد معيّن حول هذا الموضوع يبقى أمرا صعبا. ولكن على أي حال فقد أكّد علماء الفلك الآخرون أنّ هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية ، ضمن مجرّة المجموعة الشمسية ، وهي تمثّل مراكز للحياة والعيش.

وربّما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار اخرى حول تفسير مثل هذه الآيات.

ثمّ يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ).

وواضح أنّ المراد من «الأمر» هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير ، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم ، والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية (٤) من سورة السجدة حيث تقول : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ).

على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة.

وأخيرا يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

__________________

(١) تفسير «المراغي» ، ج ٢٨ ، ص ١٥١ ، في حديث نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لهذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض.(تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ١٥).

٤٣١

كم هو تعبير لطيف ، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته ، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان.

ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده ، عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ، كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر.

نعم ، إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه «القدرة والعلم» والذي يدير هذا العالم بأجمعه ، لا بدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان.

أوردنا بحثا مفصّلا حول موضوع «الخلقة» في ذيل الآية (٥٦) من سورة الذاريات.

الجدير بالذكر أنّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون ، وقد تبدو مختلفة ، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة.

١ ـ في الآية (٥٦) من سورة الذاريات يعتبر «العبادة» هي الهدف من خلق الجنّ والإنس (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

٢ ـ وفي الآية (٧) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

٣ ـ في الآية (١١٩) من سورة هود يقول : إنّ الرحمة الإلهية هي الهدف «ولذلك خلقهم».

٤ ـ وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف «... لتعلموا ...».

٤٣٢

إنّ تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة للبعض الآخر ، فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبودية ، والعبادة هي الاخرى مقدّمة للامتحان وتكامل الإنسان ، وهذا مقدّمة للاستفادة من رحمة الله «فتأمّل!»

ربّنا قد عرفتنا بهدف خلقك العظيم فأعنا على الوصول إلى ذلك الهدف.

اللهمّ ، إنّ رحمتك واسعة وكرمك دائم وقدرتك نافذة ، فأفض علينا من رحمتك.

اللهمّ ، إنّك أنزلت القرآن والرّسول لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فأخرجنا من ظلمات الذنوب وأهواء النفوس وأنر قلوبنا بنور الإيمان والتقوى.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الطلاق

* * *

٤٣٣
٤٣٤

سورة

التّحريم

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٤٣٥
٤٣٦

«سورة التّحريم»

محتوى السورة :

تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة :

القسم الأوّل : يرتبط بقصّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه ، فنزلت الآيات من ١ ـ ٥ وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول.

القسم الثّاني : خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب ، وهو من الآية ٦ ـ ٨.

القسم الثّالث : وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطابا إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين.

القسم الرّابع : وهو القسم الأخير للسورة ، من الآية ١٠ ـ ١٢ ويتضمّن توضيحا للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء ، وهما (مريم العذراء ، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح ، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الاقتداء بالنموذجين الأوّلين.

فضيلة تلاوة سورة التحريم :

في حديث عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة يا أيّها النّبي لم تحرّم ما

٤٣٧

أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحا» (١).

وفي حديث عن الإمام الصادق قال : «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١١.

(٢) (ثواب الأعمال) طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٦٧.

٤٣٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

اسباب النّزول

وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث

٤٣٩

والتّفسير والتاريخ ، عن الشيعة والسنّة ، انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي :

كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى (أزواج الرّسول) على أن يسألا الرّسول بمجرّد أن يقترب من أيّ منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» (وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى «عرفط» ويترك رائحة غير طيّبة ، علما أنّ الرّسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائما) وفعلا سألت حفصة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا السؤال يوما وردّ الرّسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنّه تناول عسلا عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير» وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرّسول قد حرّم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرّسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك.

لكنّها أفشت السرّ فتبيّن أخيرا أنّ القصّة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك كثيرا فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرّر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وجاء في بعض الروايات أنّ الرّسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث (٢) ، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرّسول عازم على طلاق زوجاته ، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ (٣) وندمن بعدها على فعلتهن.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث أورده في الأصل (البخاري) في ج ٦ ، من صحيحه ص ١٩٤ ، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس تستفاد من كتب اخرى.

(٢) تفسير القرطبي وتفاسير اخرى ذيل الآية مورد البحث.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٦٣.

٤٤٠