الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

إنّه إذا قامت الحكومة الإسلامية بشرائطها من قبل النائب العامّ للإمام المعصوم عليه‌السلام. فالاحتياط هو أن ينصب إمام الجمعة من قبل نائب الإمام ويشارك المسلمون في هذه الصلاة.

ثمّة كلام كثير في هذا الصدد وفي باقي الأمور المرتبطة بصلاة الجمعة ، غير أنّ بعضها خارج عن موضوع التّفسير ويدخل في إطار البحوث الفقهية والحديث (١).

اللهمّ ، وفّقنا لأن ننتفع كأحسن ما يكون الانتفاع لتزكية النفوس بهذه الشعائر الإسلامية العظيمة. وإنقاذ المسلمين من قبضة الأعداء.

ربّنا ، اجعلنا من المشتاقين للقائك ، الذين لا يخافون من الموت ، اللهمّ لا تسلبنا نعمة الإيمان بأنبيائك والتعلّم منهم والاقتداء بهم أبدا.

آمين ربّ العالمين.

نهاية سورة الجمعة

* * *

__________________

(١) ذكر العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، ٩٠ هذه المسألة المهمّة وخصوصياتها الاخرى.

٣٤١
٣٤٢

سورة

المنافقون

مدنيّة

وعدد آياتها إحدى عشرة آية

٣٤٣
٣٤٤

«سورة المنافقون»

محتوى السورة :

احتوت سورة «المنافقون» على مضامين عديدة ، لكن المحور الأصلي لها هو صفات المنافقين وبعض الأمور الاخرى المرتبطة بهم. وقد جاء في ذيل السورة بعض الآيات التي حملت مواعظ ونصائح للمسلمين في مجالات مختلفة.

ويمكن تلخيص تلك الآيات في أربعة امور :

١ ـ صفات المنافقين وتتضمّن نقاطا مهمّة وحسّاسة.

٢ ـ تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الانتباه إلى ذلك ورصده بشكل دقيق.

٣ ـ حثّ المؤمنين على عدم الاستغراق في الدنيا وزخرفها والانشغال بذلك عن ذكر الله.

٤ ـ حثّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله ، والانتفاع من الأحوال قبل الموت وقبل اشتعال الحسرة في نفوسهم.

والسبب في تسمية هذه السورة بسورة «المنافقون» واضح لا يحتاج إلى شرح.

وما يجدر بالملاحظة هو أنّ من آداب صلاة الجمعة أن تقرأ سورة المنافقين في الركعة الثانية ، ليتذكّر المسلمون على طول الأسبوع مؤامرات المنافقين وخططهم ، ويكونوا على حذر دائم من تحرّكاتهم.

٣٤٥

فضيلة تلاوة سورة المنافقين :

جاء في رواية عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق» (١).

وفي حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل ذلك فكإنّما يعمل بعمل رسول الله وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنّة» (٢).

من الواضح أنّ فضائل كلّ سورة وآثارها ، ومنها هذه السورة ، لا يمكن أن تكون من ثمار التلاوة الخالية من التفكّر والعمل فحسب ، والروايات أعلاه خير شاهد على ذلك ، فإنّ المرور على هذه السور دون الاستفادة منها على الصعيد العملي وجعلها برنامجا للحياة ، سوف لن يؤدّي إلى زوال روح النفاق واجتثاث جذورها من نفس الإنسان.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان بداية سورة المنافقين.

(٢) ثواب الأعمال طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٣١.

٣٤٦

الآيات

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

التّفسير

مصدر النفاق وعلامات المنافقين :

نذكر مقدّمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات ، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وبداية استحكام أسس الإسلام وظهور عزّه. فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكّة ، لأنّ الأعداء

٣٤٧

كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر. ولا حاجة إلى التخفّي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.

لكن عند ما استحكم الإسلام واتّسع في المدينة ، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم ، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان ، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر ، وانخرطوا ظاهرا في صفوف المسلمين ، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.

وهكذا تكون غالبا طبيعة أعداء كلّ ثورة ودعوة بعد اشتداد عودها وقوّة ساعدها ، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء.

ومن هنا نستطيع أن نفهم لما ذا نزلت كلّ تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم ، في المدينة ولم تنزل في مكّة.

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة ـ أي مسألة النفاق ـ غير محصورة بعصر الرّسول ، بل إنّ جميع المجتمعات ـ وخاصّة الثورية منها ـ تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة ، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية ، لا من خلال اعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع. وبهذا يمكن استلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.

كذلك لا بدّ من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي ، ليتمّ التعرّف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم.

وممّا تجدر الإشارة إليه أيضا أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء ، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة ، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذا يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اخرى.

٣٤٨

ويأتي خطرهم ثالثا من ارتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم.

ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر ـ أي معسكر النفاق. ولهذا ـ أيضا ـ نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّا عليهم ، ووجّه إليهم ضربات عنيفة لم يوجّهها إلى غيرهم.

وبعد هذه المقدّمة نرجع إلى تفسير الآيات.

إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي : إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامّة للنفاق ، حيث يقول تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) (١) ويضيف (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين ، حيث اختلاف الظاهر مع الباطن ، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم ، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماما. وهذه الظاهرة تشكّل المحور الرئيسي للنفاق.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الصدق والكذب على نوعين : «صدق وكذب خبري» و «صدق وكذب مخبري» ، يكون المعيار والمقياس في القسم الأوّل هو موافقته وعدم موافقته للواقع ، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته وعدم موافقته للاعتقاد ، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنّه غير مطابق لاعتقاده ، فهذا من الكذب المخبري ، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق.

وبناء على هذا فإنّ شهادة المنافقين على رسالة الرّسول ليست من قبيل الكذب الخبري لأنّها مطابقة للواقع ، ولكنّها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف إعتقاد المنافقين. لذلك جاء التعبير القرآني : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

__________________

(١) ذكرت «إنّ» هنا مكسورة ، لأنّ لأن لام التأكيد قد جاءت في بداية الخبر ، وفي هذه الصورة يقدّم التقدير.

٣٤٩

بعبارة اخرى : إنّ المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنّما أرادوا الإخبار عن اعتقادهم برسالته ، وهذا من الكذب المحض.

ومن الملاحظ أنّ المنافقين استخدموا كلّ الطرق لتأكيد شهادتهم ، غير أنّ الله كذّبهم بشدّة وبنفس اللهجة التي أكّدوا فيها شهادتهم. وهذه إشارة إلى أنّ المنافقين يجب أن يواجهوا بنفس الشدّة التي يؤكّدون فيها على صدقهم.

ونشير هنا إلى أنّ «المنافق» في الأصل من مادّة (نفق) على وزن «نفخ» بمعنى النفوذ والتسرّب و «نفق» «على وزن شفق» أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض ، وتستغل للتخفّي والتهرّب والاستتار والفرار.

وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي ، تتّخذ لها غارين : الأوّل واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرّة ، والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمّى «النفقاء» (١).

والمنافق هو الذي اختار طريقا مشبوها ومخفيّا لينفذ من خلاله إلى المجتمع ، ويهرب عند الخطر من طريق آخر.

وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ذلك لأنّهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس ، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الاهتداء.

«جنّة» من مادّة (جنّ) (على وزن فنّ) وهي في الأصل بمعنى إخفاء شيء من الحسّ ، ويطلق هذا الاسم على (الجنّ) لأنّه مخلوق غير واضح ، ويقال للدرع الذي يستر الإنسان من ضربات العدو في لغة العرب (جنّة) ويقال أيضا للبساتين المكتّظة بالشجر بسبب استتار أراضيها فتسمّى (جنّة).

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٥٢٩.

٣٥٠

على كلّ حال فإنّ من علامات المنافقين التستر باسم الله المقدّس ، وإيقاع الأيمان المغلّظة لإخفاء وجوههم الحقيقيّة ، وإلفات أنظار الناس نحوهم. وبذلك يصدّونهم عن الرشد (الصدّ عن سبيل الله).

وبهذا يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضدّ المؤمنين ، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحدا.

وقد يضطرّ الإنسان أحيانا إلى اليمين ، أو أنّ هذا اليمين سيساعده على إظهار أهميّة الموضوع ، بيد أنّه لا ينبغي أن يكون يمينا كاذبا أو بدون ضرورة ولا موجب.

جاء في الآية (٧٤) من سورة التوبة : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ).

ذكر المفسّرون مفهومين لمعنى التعبير بـ (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الأوّل : الإعراض عن طريق الله ، والآخر : منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق. وقد لا يتعذّر الجمع بين المعنيين في إطار الآية (مورد البحث) غير أنّ لجوءهم إلى الحلف بالله كذبا يجعل المعنى الثاني أكثر مناسبة ، لأنّ الهدف من القسم هو صدّ الآخرين وتضليلهم.

فمرّة يقيمون مسجد (ضرار) ، وعند ما يسألون ما هو هدفكم من ذلك؟

يحلفون أن لا هدف لهم سوى الخير كما في الآية (١٠٧) من سورة التوبة.

ومرّة اخرى يعلنون استعدادهم للمشاركة في الحروب القريبة السهلة التي يحتمل الحصول على غنائم فيها ، ولكن حينما يدعون إلى المشاركة في معركة تبوك الصعبة والشاقّة تجدهم يختلقون الحجج ويلفّقون الأعذار ، ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١).

__________________

(١) التوبة ، الآية ٤٢.

٣٥١

وفي يوم الحشر يلجأ المنافقون لنفس الأسلوب في الحلف ، كما جاء في الآية ١٨ من سورة المجادلة.

وبذلك يتّضح أنّ هذا السلوك صار جزءا من كيانهم ، فهم لا يمتنعون عنه حتّى في مشهد الحشر بين يدي الله تعالى.

وتتطرّق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيّئة ، حيث يقول تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).

والمقصود بالإيمان ـ كما يعتقد بعض المفسّرين ـ هو الإيمان الظاهري الذي يخفي وراءه الكفر.

ولكن يبدو أنّ الآية تريد أن تقول : إنّهم كانوا مؤمنين حقّا وذاقوا طعم الإيمان ولمسوا حقّانية الإسلام والقرآن ، ثمّ انتهجوا منهج الكفر مع احتفاظهم بظاهر الإيمان أو الإيمان الظاهري. وقد سلب الله منهم حسّ التشخيص وحرمهم إدراك الحقائق ، لأنّهم أعرضوا عن الحقّ ، وأداروا له ظهورهم بعد أن شخّصوه وعرفوه حقّا.

والواقع أنّ المنافقين مجموعتان :

المجموعة الاولى : كان إيمانها منذ البداية ظاهريا وصوريا.

والثانية : كان إيمانها حقيقيّا في البداية ثمّ ارتدّوا ولزموا طريق النفاق.

والظاهر أنّ الآية ـ مورد البحث ـ تتعرّض للمجموعة الثانية.

وتشبه هذه الآية (٧٤) من سورة التوبة التي تقول : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).

على كلّ حال فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم.

ومن الواضح أنّهم غير مجبرين على ذلك ، لأنّهم قد هيّئوا مقدّماته بأنفسهم.

وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحا ، إذ يقول تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) فهم يتمتّعون بظواهر جميلة وأجسام

٣٥٢

لطيفة.

(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لأنّه ينطوي على شيء من التحسين والعذوبة.

وفي الوقت الذي يتأثّر الرّسول بحديث بعضهم ـ كما يبدو من ظاهر التعبير ـ فكيف بالآخرين؟!

هذا فيما يخصّ ظاهرهم ، أمّا باطنهم فـ (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

فأجسامهم خالية من الروح ، ووجوههم كالحة ، وكيانهم خاو منخور من الداخل ، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتّعون بأيّة استقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة.

روى بعض المفسّرين في صفة رئيس المنافقين (عبد الله بن أبي) «كان عبد الله بن أبي رجلا جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن ، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم» (١).

وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم ، لا يعرفون التوكّل والاعتماد على الله ولا على أنفسهم ، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اخرى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظنّ ، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة .. تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم حتّى اعتبر ذلك علامة مميّزة لهم (الخائن خائف).

وقد نبّه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلا : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) أي هم الأعداء الواقعيون.

__________________

(١) الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٥٤٠.

٣٥٣

ويضيف (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف ينحرفون عن الحقّ.

ولا يريد القرآن بهذا التعبير الإخبار ، وإنّما يريد لعنهم وذمّهم بشدّة ، وهو أشبه بالتعابير التي يستخدمها الناس في ذمّ بعضهم البعض.

* * *

٣٥٤

الآيات

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

سبب النّزول

ذكرت كتب التاريخ والتّفسير سببا مسهبا لنزول هذه الآيات ، وجاء في الكامل في التاريخ : أنّه بعد غزوة بني المصطلق ازدحم الناس على الماء ، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له : جهجاه ، فازدحم

٣٥٥

هو و «سنان الجهني» حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين.

فغضب عبد الله بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم «زيد بن أرقم» غلام حدث السنّ فقال : أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا ، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل) ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.

فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك عند فراغ رسول الله من غزوه ، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله مر به عبّاد بن بشر فليقتله ، فقال رسول الله : كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّدا قتل أصحابه؟ ولكن ائذن بالرحيل.

فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه ، فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال : يا رسول الله ، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال : أو ما بلغك ما قال عبد الله بن أبي؟ قال : وما ذا قال؟ قال : زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل. قال أسيد : فأنت والله تخرجه إن شئت ، فإنّك العزيز وهو الذليل.

ثمّ قال : يا رسول الله ، ارفق به فو الله لقد منّ الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكا.

وسمع عبد الله بن أبي أنّ زيدا أعلم النبي قوله فمشى إلى رسول الله فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلّمت به ، وكان عبد الله في قومه شريفا ، فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ.

وأنزل الله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) تصديقا لزيد. فلمّا نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد وقال : هذا الذي أوفى الله باذنه ، وبلغ ابن عبد الله بن سلول ما كان من أمر أبيه ،

٣٥٦

فأتى النبي فقال : يا رسول الله ، بلغني أنّك تريد قتل أبي ، فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي نظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال النبي : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا ، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثا عاتبه قومه وعنّفوه) (١).

* * *

التّفسير

علامات اخرى للمنافقين :

تأتي هذه الآيات لتكمّل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها ، يقول تعالى : (إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).

لقد وصل بهم الكبر والغرور مبلغا حرمهم من استثمار الفرص والاستغفار والتوبة والعودة إلى طريق الحقّ والصواب. وكان «عبد الله بن أبي» هو النموذج البارز لهذا التكبّر والطغيان ، وقد تجسّد ذلك في جوابه على من طلب منه الذهاب إلى رسول الله للاستغفار ، عند ما قال «لقد أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وقلتم : أعط الزكاة فأعطيت ، لم يبق بعد إلّا أن تأمروني بأن أسجد لمحمّد».

إنّ حبّ المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم ، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والاستسلام الكامل للحقّ.

«لووا» من مادّة (لي) وهي في الأصل بمعنى برم الحبل ، وتأتي أيضا بمعنى إمالة الرأس وهزّه إعراضا واستكبارا.

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٨١ ـ ٨٢.

٣٥٧

«يصدّون» لها معنيان كما أوضحنا ذلك سابقا ، (المنع) و (الإعراض) وهذا المعنى أكثر انسجاما مع الآية ـ مورد البحث ـ بينما يكون الأوّل أي (المنع) منسجما مع الآية الاولى.

ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

بعبارة اخرى : إنّ استغفار النبي ليس علّة تامّة للمغفرة ، بل هي مقتض تؤثّر حينما تكون الأرضية مهيّأة ، أي عند ما يتوبون بصدق وإخلاص ويتّخذون طريقا آخر ، ويهجرون الكذب والغرور ، ويستسلمون للحقّ ، هنالك يؤثّر استغفار الرّسول وتقبل شفاعته.

وعبّرت الآية (٨٠) من سورة التوبة بما يشبه ذلك حينما وصفت قسما آخر من أهل النفاق ، إذ قال تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

ومن الواضح أنّ العدد (سبعين) ليس هو المقصود ، بل المقصود أنّ الله لن يغفر لهم مهما استغفر لهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وليس كلّ المذنبين من الفسّاق ، فقد جاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنقاذ المذنبين ، فالمقصود إذن هم تلك المجموعة من الفسّاق أو المذنبين الذين يصرّون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم.

والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدّا ، هو قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) فلا تعطوا المسلمين شيئا من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرّقوا عن رسول الله.

(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ).

إنّ هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة ، ولم يعرفوا أنّ كلّ ما لدى الناس إنّما هو من الله ، وكلّ الخلق عياله. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنّما هو من

٣٥٨

دواعي الافتخار والاعتزاز ، ولا ينبغي أن يمنّوا به على أحد.

ثمّ يقول تعالى في إشارة اخرى إلى مقالة اخرى سيّئة من مقالاتهم (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

وهذا نفس الكلام الذي أطلقه «عبد الله بن أبي» ، ويريدون من ورائه أنّهم أهل المدينة الأصليّون الذين سيخرجون منها الرّسول وأصحابه من المهاجرين ، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرّت الإشارة إليها.

ورغم أنّ هذا الحديث صدر عن رجل واحد ، لكنّه كان لسان حال المنافقين جميعا ، وهذا ما جعل القرآن يعبّر عنهم بشكل جماعي «يقولون ...» فيردّهم ردّا حازما إذ يقول : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).

ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام ، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عند ما قالوا : (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم اقتصاديا أو أخرجناهم من مكّة).

وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذّر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها ، بأنّها تملك الدنيا وخزائنها ، فان لم تخضع لها تحاصر اقتصاديا لتركيعها.

وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتّخذوا منهجا واحدا على مدى التاريخ ، وظنّوا أنّ ما لديهم باق ، ولم يعلموا أنّ الله قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر.

وهذا النمط من التفكير (رؤية أنفسهم أعزّاء والآخرين أذلّاء وتوهّم أنّهم أصحاب النعمة والآخرون محتاجون إليهم) هو تفكير نفاقي متولّد من التكبّر والغرور من جهة ، وتوهّم الاستقلال عن الله عزوجل من جهة اخرى ، فلو أنّهم أدركوا حقيقة العبودية ومالكية الله لكلّ شيء فمن المحال أن يقعوا في ذلك التوهّم الخطير ..

وقد عبّرت عنهم الآية السابقة بقولها : (لا يَفْقَهُونَ) وهنا قالت : (لا يَعْلَمُونَ).

٣٥٩

ويمكن تفسير الاختلاف في التعبير إلى ضرورات البلاغة ، أو أنّه إشارة إلى صعوبة تفهّم أنّ الله مالك خزائن السموات والأرض بالشكل الحقيقي ، في الوقت الذي لا يحتاج إدراك أنّ لله العزّة ولرسوله وللمؤمنين إلى شيء من التعمّق والدقّة.

* * *

بحوث

١ ـ للمنافقين علامات عشر

يمكن أن نجمل علامات المنافقين التي ذكرتها الآيات الكريمة بعشر علامات :

١ ـ الكذب الصريح والواضح (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

٢ ـ الاستفادة من الحلف الكاذب لتضليل الناس (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً).

٣ ـ عدم إدراك الواقع بسبب إعراضهم عن جادّة الصواب وطريق الهداية بعد تشخصيه (لا يَفْقَهُونَ).

٤ ـ تمتّعهم بظواهر مغرية وألسنة ناعمة تخفي وراءها بواطن مظلمة خاوية ، فارغة ، منخورة (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ).

٥ ـ الحياة الفارغة في المجتمع ، ورفضهم الخضوع لمنطق الحقّ ، فهم كالخشبة اليابسة (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

٦ ـ يغلب عليهم سوء الظنّ والخوف والترقّب لما ينطوون عليه من نزعة خيانية (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

٧ ـ استهزاؤهم بالحقّ واستهتارهم به (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ).

٨ ـ الفسق والفجور وارتكاب المعاصي والذنوب (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

٩ ـ يتملّكهم شعور بأنّ لهم كلّ شيء ، وكلّ الناس في حاجة ماسّة إليهم (هُمُ

٣٦٠