الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

كلّ عالم الوجود ، حيث يقول : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وأخيرا يشير إلى مسألة مرجعيّته فيقول تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

نعم ، عند ما يكون الخالق والمالك والمدبّر معنا في كلّ مكان ، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.

نحن سلكنا طريق عشقه ومحبّته ، وبدأنا المسير حاملين معنا الأمل من نقطة العدم باتّجاهه ، وقد سلكنا شوطا طويلا إلى أن وصلنا إلى مرتبة الوجود .. نحن من الله سبحانه ، وإليه نرجع ، لما ذا؟ لأنّه هو المبدئ وإليه المنتهى.

والجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الآنفة الذكر قد جاء فيها مثل هذا الوصف أيضا : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ويمكن أن يكون التكرار هنا بلحاظ أنّ الحديث كان ـ فقط ـ عن مسألة حياة وموت الموجودات الحيّة ، وهنا نلاحظ توسّع البحث وشموليّته في رجوع كلّ شيء لله سبحانه.

وفي تلك الآيات مقدّمة عن بيان قدرة الله عزوجل على كلّ شيء ، وهنا مقدّمة لرجوع كلّ شيء إليه ، وهاتان القضيّتان تستلزمان مالكيّة الله عزوجل للأرض والسماء.

التعبير بـ «الأمور» جاء ـ هنا ـ بصيغة الجمع ، أي : أنّ جميع الموجودات ـ وليس الإنسان فحسب ـ تتحرّك باتّجاهه حركة دائمة وغير قابلة للتوقّف.

وبناء على هذا فإنّ معنى الآية لا ينحصر ـ فقط ـ برجوع البشر إليه في الآخرة ، بالرغم من أنّ موضوع المعاد من المصاديق البارزة لذلك الرجوع العامّ.

وفي آخر مورد للبحث يشير إلى صفتين أخريين بقوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (١).

__________________

(١) «يولج» من مادّة (إيلاج) وهي الاخرى مأخوذة من مادّة (ولوج) والولوج بمعنى الدخول والنفوذ ، والإيلاج بمعنى الإدخال والإنفاذ.

٢١

نعم ، بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر ، وتبعا لذلك يتغيّر طول النهار والليل في السنة ، وهذا التغيّر يكون مصحوبا بالفصول الأربعة في السنة مع كلّ البركات التي تكون مختّصة في هذه الفصول لبني الإنسان.

وهناك تفسير آخر لهذه الآية وهو : إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات حتّى لا تجلب هذه الحالة المشاكل للإنسان والموجودات الحيّة الاخرى ، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجيّة ، وتنتقل الموجودات رويدا رويدا من عالم الضوء في النهار إلى ظلمة الليل ، ومن ظلمة الليل إلى ضوء النهار ، ويعلن كلّ منهما وصولهما قبل مدّة حتّى يتهيّأ الجميع لذلك.

والجمع بين التّفسيرين لمفهوم الآية ممكن أيضا.

ويضيف سبحانه في النهاية : (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

فكما أنّ أشعّة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل ، وتضيء كلّ مكان ، فإنّ الله عزوجل ينفذ كذلك في كلّ زوايا قلب وروح الإنسان ، ويطّلع على كلّ أسراره.

والنقطة الجديرة بالملاحظة في الآيات السابقة أنّ الحديث كان عن علم الله سبحانه بأعمالنا (والله بصير عليم) وهنا الكلام عن علم الله عزوجل بأفكارنا وعقائدنا وما تكنّه صدورنا ، (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

كلمة (ذات) في الاصطلاح الفلسفي تعني (عين الشيء وحقيقته) إلّا أنّها في اللغة بمعنى (صاحب الشيء) وبناء على هذا فإنّ (ذات الصدور) إشارة إلى النيّات والإعتقادات التي استولت على قلوب البشر.

وكم هو رائع أن يؤمن الإنسان بكلّ هذه الصفات الإلهيّة من أعماق نفسه ، ويحسّ حضوره سبحانه في كلّ أعماله ونيّاته وعقائده ، إحساسا لا يخرجه عن جادّة الطاعة وطريق العبودية ، إحساسا يبعده عن طريق العصيان والسوء والانحراف ..

* * *

٢٢

تعقيب

آيات الاسم الأعظم :

قسّم الفلاسفة والمتكلّمون الصفات الإلهيّة إلى قسمين :

أحدهما : «صفات الذات» والتي تبيّن أوصاف جلاله وجماله. والاخرى : «صفات الفعل» التي تبيّن الأفعال الصادرة من ذاته المباركة ، كما جاء في الآيات الستّ في بداية هذه السورة المباركة ، والتي يجدر أن تسمّى : بـ (آيات المتعمّقين) تماشيا مع حديث في هذا الصدد.

وقد وردت عشرون صفة من أوصاف الذات الإلهيّة والأفعال بدءا من علمه وقدرته وحكمته وأزليّته وأبديّته سبحانه ، إلى خلقه وتدبيره ومالكيّته وإحاطته عزوجل بكلّ الموجودات وحضوره في كلّ مكان ، هذه الأوصاف والتعابير تعطينا عمقا أكثر في التوجّه إلى الإيمان والسعي لإضاءة مشعل وجودنا وأفكارنا المحدودة ليكون عونا أفضل في إمدادنا بما يجعلنا في المسير التكاملي نحو الله سبحانه.

وجاء في حديث «براءة بن عازب» أنّه قال : قلت لعلي عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، أسألك بالله ورسوله ألا خصّصتني بأعظم ما خصّك به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم واختصّه به جبرائيل ، وأرسله به الرحمن ، فقال عليه‌السلام : «إذا أردت أن تدعو باسمه الأعظم ، فاقرأ من أوّل سورة الحديد إلى آخر ستّ آيات منها عليم بذات الصدور ، وآخر سورة الحشر يعني أربع آيات ثمّ ارفع يديك فقل : يا من هو هكذا أسألك بحقّ هذه الأسماء أن تصلّي على محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا ـ ممّا تريد ـ فو الله الذي لا إله غيره لتنقلبنّ بحاجتك إن شاء الله» (١).

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٧١.

٢٣

وفي عظمة هذه الآيات وأهميّة محتواها نكتفي بهذا الحديث ، ويجب ألّا ننسى أنّ اسم الله العظيم ليس بالألفاظ فقط ، إذ يجب التخلّق بمعانيه أيضا.

* * *

٢٤

الآيات

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

٢٥

التّفسير

الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة

بعد البيان الذي تقدّم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله ، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى ، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ..

يقول سبحانه في البداية (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إنّ هذه الدعوة دعوة عامّة لجميع البشر ، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ ، وتدعو ـ أيضا ـ غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم ، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأما مع أدلّة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثمّ يدعو إلى أحد الالتزامات المهمّة للإيمان وهي : (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).

إنّها دعوة إلى الإيثار والتضحية ، وذلك بالإنفاق والعطاء ممّا منّ الله به على الإنسان ، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة ، وهي أنّ المالك الحقيقي هو الله عزوجل ، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة محدودة ، كما وضعت كذلك باختيار الأقوام السابقة.

والحقيقة أنّها كذلك ، إذ مرّ بنا في الآيات السابقة أنّ المالك الحقيقي لكلّ العالم هو الله سبحانه ، وأنّ الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبيّن أنّنا أمناء على ما استخلفنا به من قبل الله تعالى ، ولا بدّ للمؤمن من أن يأخذ بنظر الإعتبار أمر صاحب الأمانة.

الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه على الإنفاق.

عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أنّ الإنسان خليفة الله تعالى على الأرض ، أو أنّه مستخلف عن الأقوام السابقة أو كلا المعنيين.

٢٦

وتعبير (ممّا) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كلّ الممتلكات والهبات الإلهيّة. وهنا يعني أنّ للإنفاق مفهوما واسعا ولا ينحصر بالمال فقط ، بل يشمل ـ أيضا ـ العلم والهداية والسمعة الاجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثمّ يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية ، وأبديّتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب ، بل في عالم الدنيا أيضا حيث أنّ قسما من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بيانا لكلّ منهما ، وهو بمثابة الاستدلال والبرهان ، وذلك بصورة استفهام توبيخي ابتداء ، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول الإيمان بالله فيقول سبحانه : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقا لقبول الحقّ ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل ، وكذلك عن طريق النقل.

وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة ، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعا من العهد التكويني منكم ، فآمنوا به ، إلّا أنّكم ـ مع الأسف ـ لا تقيمون وزنا لعقلكم وفطرتكم ، وكذلك لا تعيرون اهتماما لتوجيهات الوحي ، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا ، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.

ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه ، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين

٢٧

شاهدوا الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم وسمعوا دعوته مباشرة وبلا واسطة ، وشاهدوا معجزاته بأعينهم ، من الإيمان بدعوته.

في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي : أنّ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم قال لأصحابه يوما : (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا : الملائكة. قال : «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟» قالوا : الأنبياء. قال : «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» قالوا : نحن. قال : «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها» (١).

وهذه حقيقة لا غبار عليها ، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم ويشاهدون آثاره في الكتب ـ فقط ـ ويؤمنون بأحقيّة دعوته ، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.

إنّ التعبير بـ «الميثاق» يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة) ، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة ، وهو شاهد على هذا المعنى أيضا.

واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد إلّا أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقا لعالم الذرّ (٢).

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فسّر البعض (آياتٍ بَيِّناتٍ) هنا بكلّ المعجزات ، وقال قسم آخر : إنّه (القرآن الكريم) إلّا أنّ مفهوم الآية واسع يستوعب كلّ ذلك ، بالرغم من أنّ التعبير (يُنَزِّلُ) يناسب (القرآن) أكثر ، هذا الكتاب العظيم الذي يمزّق حجب ظلام الكفر والجهل

__________________

(١) صحيح البخاري طبقا لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال نهاية القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) راجع هذا التّفسير ، نهاية الآية (١٧٢) من سورة الأعراف.

٢٨

والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس ، والذي هو رحمة ونعمة إلهيّة عظيمة.

أمّا التعبير بـ (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أنّ هذه الدعوة الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثّل مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهيّة التي جاءت إليكم جميعا ، كما أنّ جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع إليكم.

وسؤال يثار هنا وهو : هل يوجد اختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما هي خصوصيات كلّ منهما؟

ذكر المفسّرون في ذلك آراء ، والمناسب من بين كلّ الآراء التي ذكرت هو : أنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبّته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين ، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

قال البعض : إنّ «الرأفة» تقال للرحمة قبل ظهورها ، و «الرحمة» تعبير يطلق على الحالة بعد ظهورها.

ثمّ يأتي استدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها ، وتذهبون إلى عالم آخر ، فلما ذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.

(ميراث) في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون اتّفاق مسبق ، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك ، ولكن لكثرة استعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.

وجملة (لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض ، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه ، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعا.

٢٩

ولأنّ للإنفاق قيما مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف ، يضيف سبحانه : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (١).

هناك اختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة «الفتح» التي وردت في الآية ، فقد اعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ، واعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.

وبالنظر إلى أنّ كلمة «الفتح» فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضا. إلّا أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة ، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية ، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير ، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد من «الفتح» في هذه الآية هو جنس الفتح ، والذي يمثّل انتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية. والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة ، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا).

والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة ، أو فتح الحديبية ، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو «أبو بكر». في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول آية الفتح والذي استغرق من (٦ ـ ٨) سنوات ، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام ، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص ، طبقا لما ورد في كتب التاريخ. ومن الواضح أنّ أعدادا كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي ،

__________________

(١) للآية محذوف يستفاد من المذكور ، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا).

٣٠

وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.

يجدر الانتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد ، وذلك انسجاما مع رأيهم السابق ، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد باعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية ، تتهيّأ بواسطته. إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.

وعلى كلّ حال ، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع اختلاف الدرجة ، فيضيف في النهاية (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع ، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

نعم ، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم.

ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله ، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فينفق ممّا آتاه الله في سبيل الله (فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ).

إنّه تعبير عجيب حقّا ، حيث إنّ الله الواهب لكلّ النعم وجميع ذرّات وجودنا ـ هي من بحر فيضه اللامتناهي. وبالإضافة إلى أنّنا عبيد له يعبّر عنّا بأنّنا أصحاب الأموال ، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية ، حيث أنّ السائد أنّ الديون العادية تسترجع بنفس مقاديرها ، إلّا أنّه سبحانه ـ بفضل منه ـ يضاعفها لنا بالمئات أحيانا وبالآلاف أحيانا اخرى.

٣١

وإضافة إلى ذلك فإنّه قد وعدنا بأجر كريم أيضا ، وهو جزاء عظيم لا يعلمه إلّا هو.

* * *

بحوث

١ ـ بواعث الإنفاق

الشيء الجدير بالانتباه أنّنا نلاحظ في الآيات السابقة تعبيرات مختلفة للحثّ على الإنفاق ، أعمّ من المساعدة والمساهمة في موضوع الجهاد أو أنواع الإنفاق الأخرى للمحتاجين ، والتي يعتبر كلّ منها عاملا أساسيّا ومحرّكا باتّجاه تحقيق الهدف.

وتشير الآية السابعة لمسألة استخلاف الناس بعضهم لبعض أو عن الله تعالى في هذه الثروة ، وبما أنّ المالكية الحقيقة لله تعالى ، والجميع نوابا له في هذه الأموال. فهذا الفهم يستطيع أن يفتح في الحقيقة يد الإنسان وقلبه للإنفاق ويكون عاملا للحركة في هذا المجال.

أمّا في الآية العاشرة فقد ورد مفهوم آخر يتحدّث فيه عن حالة عدم استقرار الأموال والممتلكات وبقائها بعد فناء الناس جميعا ، لذا يعبّر عنها بـ (مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وأنّها لله تعالى.

وفي الآية الحادية عشرة ورد تعبير مرهف بالحساسية ، حيث يعتبر الله سبحانه الإنسان هو المقرض وأنّه تعالى هو المستقرض ، وليس في هذا القرض ربا ، بل فيه أرباح مضاعفة ، وأحيانا مضاعفة بالآلاف عوض هذا القرض ، بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي لا نستطيع تصوّره.

إنّ هذا كلّه لإزالة النظرات الخاطئة والمنحرفة ودوافع الحرص والحسد وحبّ الذات وطول الأمل التي تمنع من الإنفاق ، لتكوين مجتمع على أسس ودّية وتعاون عميق وروح اجتماعية بنّاءة.

٣٢

٢ ـ شروط الإنفاق في سبيل الله!

إنّ التعبير بـ (قَرْضاً حَسَناً) في الآية أعلاه يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إعطاء القرض بحدّ ذاته (أقسام وأنواع) فبعضها يعتبر قرضا حسنا ، والآخر قرضا قليل الفائدة ، أو حتّى عديم الفائدة أيضا.

والقرآن الكريم يبيّن شروط القرض الحسن لله سبحانه كما وضّح ذلك في الآيات المختلفة ، وبعض المفسّرين استنتجوا عشرة شروط في مجموع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الإنفاق ، وهي كما يلي :

الشرط الأوّل : انتخاب أجود الأموال للإنفاق وليس من أرخصها شأنا وقيمة ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١).

ثانيا : يجدر أن يكون الإنفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة الشخص المنفق ، حيث يقول سبحانه : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (٢).

ثالثا : يجب أن يكون الإنفاق للأشخاص الذين هم موضع حاجة شديدة إليه ، وتؤخذ بنظر الإعتبار الأولويات في إنفاقه ، قال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٣).

رابعا : الأفضل والأولى في الإنفاق أن يكون محاطا بالسّرية والكتمان قال تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٤).

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٧.

(٢) الحشر ، الآية ٩.

(٣) البقرة ، الآية ٢٧٣.

(٤) البقرة ، الآية ٢٧١.

٣٣

خامسا : أن لا يقترن الإنفاق منّ ولا أذى أبدا ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (١).

سادسا : أن يكون توأما مع خلوص النيّة قال تعالى : (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٢).

سابعا : الشعور بضئالة العطاء وأنّه صغير لا قيمة له حتّى وإن كان كثيرا ومهمّا ، وذلك تلبية لأمر الله وانتظارا للجزاء الذي أعدّه للمنفقين. قال تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٣) (٤).

ثامنا : أن يكون الإنفاق ممّا تعلّق قلبه به من الأموال ، وخاصّة تلك التي تكون موضع تعلّق وشغف ، قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٥).

تاسعا : أن لا يرى المنفق أنّه هو المالك للأموال ، حيث أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه ، ويعتبر المنفق نفسه واسطة بين الخالق والمخلوق ، قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٦).

عاشرا : أن يكون الإنفاق من المال الحلال ، لأنّه هو الذي يقبل فقط من قبل الله سبحانه ، قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٧).

وجاء في حديث أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يقبل الله صدقة من غلول» (٨). والذي ذكرناه أعلاه هو قسم مهمّ من الضوابط والشروط اللازمة للإنفاق ، ولا

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٤.

(٢) البقرة ، الآية ٢٦٥.

(٣) لهذه الآية تفاسير متعدّدة ، أحدها ما ذكر أعلاه وستطالعون بعون الله شرحا أكثر في تفسير سورة المدثر إن شاء الله.

(٤) المدثر ، الآية ٦.

(٥) آل عمران ، الآية ٩٢.

(٦) الحديد ، الآية ٧.

(٧) المائدة ، الآية ٢٧.

(٨) ذكر الطبرسي قدس‌سره هذه الشروط العشرة في مجمع البيان والفخر الرازي في التّفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني وقد أدرجناها باختصار.

٣٤

تنحصر به ، ونستطيع من خلال التدقيق والتأمّل في الآيات الكريمة والروايات الإسلامية أن نتعرّف على شروط أخرى أيضا.

ثمّ إنّ ما قيل من الشروط بعضها واجب كـ (عدم الأذى والمنّ والإعلان في العطاء) والبعض الآخر مستحبّ ومن شروط الكمال كـ (الإيثار على النفس) حيث إنّ عدمه لا يقلّل من قيمة الإنفاق ، بالرغم من أنّ الإنفاق في هذه الحالة لا يرتقي إلى مستوى الإنفاق العالي من حيث الدرجة.

ومع أنّ ما قيل هنا خاصّ في الإنفاق في سبيل الله (الإقراض لله) إلّا أنّه أيضا يصدق في كثير من القروض العادية ، لأنّ هذه الشروط من الأمور اللازمة أو من شروط الكمال للقرض الحسن.

وحول أهميّة الإنفاق في سبيل الله فقد ذكرنا شرحا مفصّلا تفسير الآيات من (٢٦١ ـ ٢٦٧) من سورة البقرة.

٣ ـ السابقون في الإيمان والجهاد والإنفاق

الأشخاص الذين يتقدّمون على غيرهم بالإيمان والعمل الصالح فهم ذوو وعي وشجاعة وإيثار وتضحية أكثر من الآخرين بلا شكّ ، ولذا فإنّ درجات المؤمنين غير متساوية عند الله ، والآية الكريمة اعتمدت هذا المفهوم وميّزت بين الأشخاص الذين أنفقوا قبل الفتح : (سواء كان فتح مكّة أو الحديبية أو مطلق الفتوحات الإسلامية) وجاهدوا أيضا ، وبين الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد.

نقل في حديث عن (أبي سعيد الخدري) أنّه قال : «خرجنا مع رسول الله في عام الحديبية (السنة السادسة للهجرة) حتّى إذا كان بعسفان ـ مكان قريب من مكّة ـ قال رسول الله : «يوشك أن يأتي قوم تحقّرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا : من يا رسول الله؟ أقريش؟ قال : «لا ، ولكنّهم أهل اليمن ، هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا» قلنا : أهم خير منّا يا رسول الله؟ قال : «لو كان لأحدهم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك

٣٥

مدّ (١) أحدكم ولا نصفيه ، ألا إنّ هذا فصل ما بيننا وبين النساء لا يتسوّى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل» (٢).

والنقطة التالية جديرة بالملاحظة أيضا وهي : أنّ الإقراض لله تعالى هو كلّ إنفاق في سبيله ، وأحد مصاديقه المهمّة الدعم الذي يقدّم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة المسلمين من بعده ، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية.

لذا نقل في الكافي رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله لم يسأل خلقه ممّا في أيديهم قرضا من حاجة به إلى ذلك ، وما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّه» (٣).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم عليه‌السلام حول نهاية الآية مورد البحث : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ...) أنّه قال : «نزلت في صلة الإمام» (٤).

* * *

__________________

(١) الظاهر أنّ المقصود من (المدّ الواحد من الطعام) هو أقلّ من الكيلو.

(٢) الدّرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٧٢.

(٣) تفسير الصافي ، ص ٥٢٢.

(٤) تفسير الصافي ، ص ٥٢٢.

٣٦

الآيات

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

التفسير

انظرونا نقتبس من نوركم :

لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم ،

٣٧

واستمرارا للبحث فالآيات أعلاه تتحدّث عن هذا الأجر ، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر ، يقول سبحانه : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ).

وبالرغم من أنّ المخاطب هنا هو الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ من الواضح أنّ الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضا ، ولكن بما أنّ تشخيص المؤمنين من الأمور اللازمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتفقدهم فكانت هذه العلامة : (نورهم الذي يسعى بين أيديهم ...) دالّة عليهم ، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.

وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا احتمالات متعدّدة لهذا «النور إلّا أنّ المقصود منه ـ في الواقع ـ تجسيم نور الإيمان ، لأنّه سبحانه عبّر بـ (نورهم) ولا عجب ، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر ، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري ، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية. كما نقرأ في الآية الكريمة : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (١).

وجاء في الآيات القرآنية الاخرى أنّ الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام إلى النور : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

التعبير بـ «يسعى» من مادّة (سعى) ـ بمعنى الحركة السريعة ـ دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية ، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرّك أمامهم ، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

__________________

(١) التحريم ، الآية ٨.

٣٨

قسمين مختلفين من المؤمنين :

قسم المقرّبين وأصحاب الوجوه النورانية ، وهؤلاء نورهم يتحرّك أمامهم.

والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم ، وذلك كناية عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ النورين إشارة إلى مجموعة واحدة ، وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة ويضيء جميع أطرافهم.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا النور هو دليلهم إلى الجنّة ، وعلى ضوئه يسيرون بسرعة إليها.

ومن جهة ثالثة بما أنّ مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا شكّ أنّه يختلف باختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر ، فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإنّ نورهم يضيء مسافة أطول ، والذين لهم مرتبة أقل يتمتّعون بنور يناسب مرتبتهم ، حتّى أنّ نور بعضهم لا يضيء موضع أقدامهم ، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث : «يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم» (١).

وهنا يصدر هذا النداء الملائكي باحترام للمؤمنين : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية ، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئا من النور ، لكنّهم يواجهون بالرد والنفي. كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٤١ ، حديث ٦٠.

(٢) انظرونا من مادّة (نظر) في الأصل بمعنى الفكر أو النظر لمشاهدة إدراك شيء ، وتأتي أحيانا بمعنى التأمّل والبحث.

٣٩

«اقتباس» في الأصل من مادّة (قبس) بمعنى أخذ شعلة من النار ، ثمّ استعملت على أخذ نماذج اخرى أيضا.

المقصود من جملة (انظرونا) هو أن انظروا لنا كي نستفيد من نور وجوهكم لنجد طريقنا ، أو انظروا لنا نظر لطف ومحبّة وأعطونا سهما من نوركم ، كما يحتمل أنّ المقصود هو أنّ (انظرونا) مشتقة من (الانتظار) بمعنى أعطونا مهلة قليلة حتّى نصل إليكم وفي ظلّ نوركم نجد الطريق.

وعلى كلّ حال يأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى : (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً).

كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها ووراءكم ، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة ، إلّا أنّ الوقت انتهى ، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد ، حيث إنّ كلا من طرفيه مختلف عن الآخر تماما ، حيث : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ).

«السور» في اللغة هو الحائط الذي يحيط بالمدن ـ كما كان في السابق ـ للمحافظة عليها ، وفيه نقاط مراقبة عديدة يستقرّ بها الحرّاس للمحافظة ورصد الأعداء تسمّى بالبرج والأبراج.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا حيث يقول تعالى : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) حيث أنّ المؤمنين كسكّان المدينة داخل البستان ، والمنافقين كالغرباء القسم الصحراوي ، فهم في جوّين مختلفين وعالمين متفاوتين ، ويحكي ذلك عن كون هؤلاء كانوا في مجتمع واحد جنبا إلى جنب ولكن يفصل بينهم

__________________

وكلّما تعدّت بـ (إلى) فإنّها تأتي بمعنى النظر إلى شيء ، وكلّما تعدّت بـ (في) فإنّها تأتي بمعنى التأمّل والتدبّر ، وعند ما لا تتعدّى بدون حرف جرّ كأن نقول : (نظرية وأنظرته وانتظرته) فإنّها تأتي بمعنى التأخير أو الانتظار (من المفردات للراغب).

٤٠