الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم ، هي مغفرة الذنوب جميعا ولكن هل أنّ المقصود من غفران الذنوب الذي ورد في الآية الكريمة هي الذنوب التي تختّص بحقّ الله فقط ، أم تشمل ما يتعلّق بحقوق الناس أيضا؟

ويتبيّن لنا في هذا الشأن أنّ الآية مطلقة والدليل هو عموميتها ، ونظرا إلى أنّ الله سبحانه قد أوكل حقّ الناس إليهم لذا تردّد البعض في القول بعمومية الآية الكريمة ، وشكّكوا في شمولها الحقّين.

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ الآيات أعلاه قد تحدّثت عن مرتكزين أساسين من مرتكزات الإيمان وهما : (الإيمان بالله والرّسول) وعن مرتكزين أساسين أيضا من مرتكزات الجهاد وهما : (الجهاد بالمال والنفس) وكذلك عن مرتكزين من الجزاء الاخروي وهما : (غفران الذنوب والدخول في جنّة الخلد).

كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها البارئ على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (١).

يا لها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة والرحمة ، ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بقوله : (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ونصر كبير. ولهذا فإنّه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه ، ويزفّ لهم البشرى بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

وجاء في الحديث أنّه في «ليلة العقبة» ـ الليلة التي التقي بها رسول الله سرّا بأهل المدينة قرب مكّة وأخذ منهم البيعة ـ قال «عبد الله بن رواحة» لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشترط لربّك ونفسك ما شئت.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن

__________________

(١) «اخرى» صفة لموصوف محذوف مثل نعمة أو خصلة ، وقال البعض أيضا : إنّ الموصوف هو (التجارة) إلّا أنّ هذا مستبعد.

٣٠١

تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.

قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الجنّة).

قال عبد الله : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ، أي لا نفسخ ولا نقبل الفسخ (١).

* * *

بحوث

١ ـ أي فتح هو «الفتح القريب»!؟

من المعروف أنّ النصر الموعود في هذه الآيات قد تحقّق مرّات عدّة ، ليس في الجوانب العقائدية والمنطقية فحسب. بل في الميادين الحربية أيضا.

وقد ذكر المفسّرون احتمالات عديدة حول المقصود من (الفتح القريب) ، فقال البعض : إنّ المراد من الفتح القريب في الآية هو (فتح مكّة). وقال آخرون : إنّ المقصود بها هو (فتح بلاد إيران والروم). وقال البعض الآخر : إنّها تشمل جميع الفتوحات الإسلامية التي منّ الله بها على المسلمين بعد الإيمان بالإسلام والجهاد من أجله بفترة وجيزة.

ولأنّ المخاطب في هذه الآية لا ينحصر بصحابة رسول الله. بل يشمل جميع المؤمنين وعلى مدى التاريخ ، لذا فإنّ جملة : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) لها معنى واسع ، وتمثّل بشارة للمؤمنين جميعا ، بالرغم من أنّ المصداق الواضح لهذه الآية كان في عصر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي وقت نزول هذه الآيات إبان فتح مكّة.

__________________

(١) (ظلال القرآن) ، ج ٨ ، ص ٨٧.

٣٠٢

٢ ـ ما هي خصائص المساكين الطيّبة؟

أكّدت الآيات الكريمة على أنّ من ضمن أنواع النعم الإلهية في الجنّة مسألة المسكن الهاديء ، موضع استقرار النفس ، الذي تحيط به الحدائق من كلّ جانب في جنّات الخلد ، وسبب التأكيد هنا على المسكن لأنّه يشكّل أحد العوامل الأساسية لراحة الإنسان وهدوئه ، خصوصا إذا تميّز بالطهر والنظافة من كلّ أنواع التلوّث المادّي والمعنوي ، حيث يستطيع الإنسان أن يستقرّ به وينعم بطمأنينة الروح وراحة البال.

يقول (الراغب) في المفردات : معنى (الطيب) في الأصل هو الشيء الذي تلتذّ به الحواس الظاهرية والباطنية ، وهذا المعنى جامع شامل لكلّ الشروط المناسبة لسكن ما.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم يرى أنّ ثلاثة امور أساسية توجب السكينة والطمأنينة للإنسان وهي :

ظلام الليل : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (١).

الزوجة الصالحة : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) (٢).

البيوت السكنية قال تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) (٣).

٣ ـ الدنيا موضع تجارة أولياء الله

جاء في نهج البلاغة أنّ الإمام علي عليه‌السلام قال لرجل كثير الادّعاء والتملّق كان يذمّ الدنيا كثيرا : «أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها المخدوع بأباطيلها أتغترّ بالدنيا

__________________

(١) الأنعام ، الآية ٩٦.

(٢) الروم ، الآية ٢١.

(٣) النحل ، الآية ٨٠.

٣٠٣

ثمّ تذمّها ... إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار موعظة لمن اتّعظ بها .. إلى أن قال : ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة ..» (١).

وإذا شبّهت الدنيا بأنّها مزرعة الآخرة ، فقد شبّهت أيضا هنا بأنّها تجارة ، حيث أنّ الإنسان يبيع البضاعة (رأس المال) التي أخذها من الله سبحانه يبيعها عليه تعالى شأنه بأغلى الأثمان ويستلم منه سبحانه أعظم الأرباح المتمثّلة بالنعم والهبات الإلهية المختلفة مقابل متاع حقير.

إنّ جانب الإغراء في هذه الصفقة التجارية النافعة كان من أجل تحريك وإثارة المحفّزات الإنسانية في طريق الخير وجلب النفع للإنسان ودفع الضرر ، لأنّ هذه التجارة الإلهية لا تنحصر أرباحها في جلب النفع والخير فحسب ، بل إنّها تدفع العذاب الأليم أيضا.

ونظير هذا المعنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٢).

وتقدّم شرح آخر في تفسير الآية الآنفة من سورة التوبة (٣).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، كلمات قصار ، الجملة رقم ١٣١ بتلخيص.

(٢) التوبة ، الآية ١١١.

(٣) راجع تفسير الآية ١١١ من سورة التوبة.

٣٠٤

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

التّفسير

كونوا كالحواريين :

في الآية الأخيرة من سورة الصفّ يدور الحديث مرّة اخرى حول محور (الجهاد) الذي مرّ ذكره سابقا في هذه السورة ، إلّا أنّ الحديث عنه يستمرّ هنا في هذه الآية ـ أيضا بأسلوب جديد.

لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمّة غير الجنّة والنّار وذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ).

نعم ، أنصار الله ، الله الذي هو منشأ جميع القدرات ، ومرجعها ، صاحب القدرة التي لا تقهر واللامتناهية ، هذا الربّ العظيم والإله الجبّار يطلب من عباده النصرة

٣٠٥

والعون ، وهذا فخر لا مثيل له ، فالبرغم من أنّ معناه ومفهومه هو إعانة ونصرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومبدئه وعقيدته ، إلّا أنّه ينطوي على طلب العون والنصرة لله سبحانه ، وهذا غاية اللطف ومنتهى الرحمة والعظمة.

ثمّ يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضّح سبحانه أنّ هذا الطريق لن يخلو من السالكين والعشّاق الإلهيين حيث يضيف تعالى : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ).

ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والاعتزاز : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية ، ومتصدّين لحرب أعداء الحقّ والرسالة ، حيث يقول سبحانه : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ).

وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول سبحانه : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).

وأنتم أيضا يا حواريي محمّد ، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية واللطف الإلهي ، لأنّكم أنصار الله ، وإنّ النصر على أعداء الله سيكون حليفكم أيضا ، كما انتصر الحواريون عليهم ، وسوف تكون العزّة والسمو من نصيبكم في هذه الدنيا وفي عالم الآخرة.

وهذا الأمر غير منحصر أو مختّص بأصحاب وأعوان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل جميع أتباع الحقّ الذين هم في صراع دائم ضدّ الباطل وأهله ، إنّ هؤلاء جميعا هم أنصار الله ، وممّا لا شكّ فيه فإنّ النصر سيكون نصيبهم وحليفهم لا محالة.

* * *

٣٠٦

تعقيب

من هم الحواريون؟

جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرّات ، مرتين منها في هذه السورة المباركة.

«الحواريون» : تعبير يراد به الإشارة إلى اثني عشر شخصا من الأنصار الخواص لعيسى عليه‌السلام وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حاليا كـ (إنجيل متّى ، ولوقا باب ٦).

وهذا المصطلح من مادّة (حور) بمعنى الغسل والتبييض ـ جعل الشيء أبيض ـ كما مرّ بنا سابقا ، لأنّهم يتمتّعون بقلوب طاهرة وأرواح نقيّة ، وكانوا يسعون دائما لغسل نفوسهم والآخرين من دنس الذنوب وتطهيرها من الآثام ، لذا اطلق عليهم هذا المصطلح.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ المسيح عليه‌السلام أرسلهم جميعا ممثّلين عنه إلى مناطق مختلفة من العالم ، وذلك لإخلاصهم ، وتضحيتهم وجهادهم وحربهم ضدّ الباطل ، وكانوا أيضا ممّن يكنّون أعمق الحبّ والولاء للمسيح عليه‌السلام.

وتحدّثنا الرّوايات أنّ جميعهم قد بقي على العهد إلّا واحدا منهم فإنّه قد خان ونكص واسمه (يهوداي أسخر يوطي) ممّا حدا المسيح عليه‌السلام في نهاية المطاف إلى طرده.

ولقد تناولنا توضيحات عديدة حول هذا في تفسير الآية (٥٢) من سورة آل عمران.

جاء في حديث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للنفر الذين لاقوه بالعقبة : «أخرجوا إليّ اثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى

٣٠٧

بن مريم» (١) ممّا يعكس أهميّة هؤلاء العظام.

اللهمّ ، وفّقنا للمشاركة مع أوليائك في هذه التجارة الرابحة والاستفادة من بركاتها العظيمة ..

ربّنا : إنّ الاختلاف والتفرقة في صفوف المسلمين قد أضعفت مكانة المسلمين صفّا واحدا كالبنيان المرصوص في مواجهة أعدائهم.

إلهنا ، إنّ دينك القويم لم يبق يوما دون ناصر ، فاكتبنا من أنصاره وحماته وأعوانه ..

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الصفّ

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢١٤.

٣٠٨
٣٠٩

سورة

الجمعة

مدنيّة

وعدد آياتها إحدى عشرة آية

٣١٠

«سورة الجمعة»

محتوى السورة :

تدور هذه السورة حول محورين أساسيين :

الأوّل : هو التوحيد وصفات الله والهدف من بعثة الرّسول ومسألة المعاد.

والمحور الثّاني : هو الأثر التربوي لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيات المتعلّقة بهذه العبادة العظيمة.

ولكن يمكن أن نجمل الأبحاث التي وردت في هذه السورة المباركة بالنقاط التالية :

١ ـ تسبيح كافّة المخلوقات.

٢ ـ الهدف التعليمي والتربوي من بعثة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ تحذير المؤمنين وتنبيههم من مغبّة الوقوع في الانحراف الذي وقع فيه اليهود فابتعدوا عن جادّة الصواب والحقّ.

٤ ـ إشارة إلى قانون الموت العامّ والشامل الذي يمثّل المعبر إلى عالم البقاء والخلود.

٥ ـ التأكيد على أداء فريضة صلاة الجمعة ، وحثّ المؤمنين على تعطيل العمل والكسب من أجل المشاركة فيها.

فضيلة تلاوة سورة الجمعة :

وردت روايات كثيرة في فضيلة تلاوة هذه السورة سواء كانت هذه التلاوة

٣١١

مستقلّة أو ضمن الصلوات اليومية.

نقرأ في حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن قرأ سورة الجمعة أعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين».

وورد في حديث آخر عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل ذلك فكإنّما يعمل بعمل رسول الله وكان جزائه وثوابه على الله الجنّة» (١).

وقد ورد في الروايات التأكيد الكثير على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة ، وقد ورد في بعض الروايات أن لا تترك قراءتها ما أمكن (٢) ، ومع أنّ العدول في القراءة عن سورة «التوحيد» و «قل يا أيّها الكافرون» إلى سور اخرى غير جائز ، إلّا أنّ هذه المسألة مستثناة في صلاة الجمعة ، فيجوز العدول عنهما إلى سورة «الجمعة» و «المنافقون» بل عدّ ذلك مستحبّا.

وكلّ ذلك دليل على الأهميّة العالية لهذه السورة القرآنية.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٢٠ ، ح ١.

(٢) نفس المصدر ، ص ٣٢١.

٣١٢

الآيات

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

التّفسير

الهدف من بعثة الرّسول :

تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح لله عزوجل ، وتشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى لله. ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدّمة للأبحاث القادمة ، حيث يقول تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) حيث يسبّحونه بلسان الحال والقال وينزّهونه عن جميع العيوب والنقائض (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

٣١٣

وبناء على ذلك تشير الآية أوّلا إلى «المالكية والحاكمية المطلقة» ، ثمّ «تنزّهه من أي نوع من الظلم والنقص» وذلك لارتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي ، فجاءت كلمة «قدّوس» لتنفي كلّ ذلك عنه جلّ شأنه.

ومن جانب آخر فالآية تركّز على ركنين أساسيين من أركان الحكومة هما «القدرة» و «العلم» وسنرى أنّ هذه الصفات ترتبط بشكل مباشر بالأبحاث القادمة لهذه السورة.

ونشير هنا إلى أنّ ذكر صفات الحقّ تعالى في الآيات القرآنية المختلفة جاءت ضمن نظام وترتيب وحساب خاصّ.

وكنّا قد تعرّضنا سابقا لتسبيح كافّة المخلوقات.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله ، يتحدّث القرآن عن بعثة الرّسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدّوس. حيث يقول : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ).

وذلك من أجل أن يطهّرهم من كلّ أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

ومن الملفت للنظر أنّ بعثة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الخصوصيات التي لا يمكن تفسيرها إلّا عن طريق الإعجاز ، تعتبر هي الاخرى إشارة إلى عظمته عزوجل ودليل على وجوده إذ يقول : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً ...) وأبدع هذا الموجود العظيم بين أولئك الامّيين ..

«الامّيين» جمع (امّي) وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الامّ باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليما في معهد أو مدرسة غير مدرسة الامّ).

وقال البعض : إنّ المقصود بها أهل مكّة ، لأنّ مكّة كانت تسمّى (بامّ القرى) ، ولكنّه بعيد.

٣١٤

قال بعض المفسّرين : إنّ المقصود بها «امّة العرب» مقابل اليهود وغيرهم ، واعتبروا الآية (٧٥) من سورة آل عمران شاهدة على هذا المعنى حيث يقول : (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وذلك باعتبار أنّ اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم أهل الكتاب وهم أهل القراءة والكتابة ، بينما كان العرب على العكس من ذلك. ولكن التّفسير الأوّل أنسب.

والجدير بالذكر أنّ الآية تؤكّد على أنّ نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الامّيين الذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليما وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقّانيتها ، لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص امّي أيضا ، بل هو نور أشرق في الظلمات ، ودوحة خضراء في قلب الصحراء ، وهي بحدّ ذاتها معجزة باهرة وسندا قاطعا على حقّانيته ...

ولخّصت الآية الهدف من بعثة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاثة امور ، جاء أحدها كمقدّمة وهو تلاوة الآيات عليهم ، بينما شكّل الأمران الآخران أي (تهذيب وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير.

نعم ، جاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعطي الإنسانية ويعلّمها العلم والأخلاق ، لتستطيع بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلّق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى الله لتنال القرب منه.

والجدير بالملاحظة انّنا نجد بعض الآيات القرآنية تذكر «التزكية» قبل «التعليم» بينما تقدّم آيات اخرى «التعليم» على «التزكية». ففي ثلاثة من الموارد الأربعة التي ذكر فيها «التزكية» و «التعليم» تقدّمت التزكية على التعليم بينما تقدّم التعليم في المورد الرابع.

وفي الوقت الذي يشار في هذا التعبير إلى التأثير المتبادل لهذين العنصرين (الأخلاق وليدة العلم ، كما أنّ العلم وليد الأخلاق) تظهر أيضا أصالة التربية ومدى

٣١٥

الاهتمام بها. علما أنّ المقصود بالعلم العلوم الحقيقية لا العلوم التي اصطلح عليها بأنّها علم وألبست ثوب العلم.

ويمكن أن يكون الفرق بين «الكتاب» و «الحكمة» هو أنّ الأوّل إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويمكن أيضا أن يكون «الكتاب» إشارة إلى أصل العقائد والأحكام الإسلامية ، والثانية إشارة إلى فلسفتها وأسرارها.

ومن النقاط الجديرة بالملاحظة ـ كذلك ـ أنّ الحكمة تعني المنع بقصد الإصلاح ، ولهذا يقال للجام الفرس «حكمة» لأنّه يمنعها ويجعلها تسير في مسارها الصحيح ، وبناء على ذلك فإنّ مفهوم هذه الدلائل عقلي ، ومن هنا يتّضح أنّ ذكر الكتاب والحكمة بشكل مترادف يراد منه التنبيه إلى مصدرين مهمّين من مصادر المعرفة (الوحي) و (العقل).

بعبارة اخرى : إنّ الأحكام السماوية وتعاليم الإسلام رغم أنّها نابعة من الوحي الإلهي غير أنّها يمكن تعقّلها وإدراكها بالعقل «المقصود كلّيات الأحكام».

وتعبير «الضلال المبين» إشارة مختصرة معبّرة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام. وأي ضلال أوضح وأسوأ من هذا الضلال الذي يعبد فيه الناس أحجارا وأخشابا يصنعونها بأنفسهم ويلجؤون إليها لحلّ مشاكلهم وإنقاذهم من المعضلات.

يدفنون بناتهم وهنّ أحياء ثمّ يتفاخرون بكلّ بساطة بهذا العمل قائلين : إنّنا لم ندع ناموسنا وعرضنا يقع بيد الأجانب.

كانت صلاتهم ودعاؤهم عبارة عن تصفيق وصياح إلى جانب الكعبة ، وحتّى النساء كن يطفن حول الكعبة وهنّ عراة تماما ، ويحسبون ذلك عبادة.

كانت تسيطر على أفكارهم مجموعة من الخرافات والأوهام ، وكانوا يفتخرون ويتباهون بالحرب ونزف الدماء والإغارة على بعضهم البعض. المرأة

٣١٦

كانت تعدّ بضاعة لا قيمة لها عندهم ، يلعبون عليها القمار ، ويحرمونها من أبسط الحقوق الإنسانية. كانوا يتوارثون العداوة والبغضاء ، ولهذا أصبحت الحروب وإراقة الدماء أمرا عاديا لديهم.

نعم لقد جاء الرّسول وأنقذهم ـ ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبّط وزكّاهم وعلّمهم. وحقّا إنّ تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضالّ يعتبر أحد الأدلّة على عظمة الإسلام ومعاجز نبيّنا العظيمة.

ولكن لم يكن الرّسول مبعوثا لهذا المجتمع الامّي فقط ، بل كانت دعوته عامّة لجميع الناس ، فقد جاء في الآية التالية (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) (١).

نعم ، إنّ الأقوام الآخرين الذين جاؤوا بعد أصحاب الرّسول ليتربّوا في مدرسة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويغترفوا من معين القرآن الصافي والسنّة المحمّدية ، كانوا ـ أيضا ـ مشمولين بهذه الدعوة العظيمة.

بناء على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد أصحاب الرّسول من العرب والعجم. جاء في الحديث أنّ الرّسول بعد أن تلا هذه الآية سئل من هؤلاء؟ فأشار الرّسول إلى سلمان وقال : «لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء» (٢).

وجاء في آخر الآية : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة ـ أي نعمة بعث نبي الإسلام الأكرم وبرنامجه التعليمي والتربوي ـ يضيف قائلا : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

__________________

(١) «آخرين» عطف على (امّيين) وضمير منهم متعلّق بـ «المؤمنين» كما يفهم من سياق الآيات. واحتمل بعضهم أنّه معطوف على ضمير «يعلّمهم». ولكن المعنى الأوّل أنسب.

(٢) أورده الطبرسي في (مجمع البيان) والطباطبائي في (الميزان) والسيوطي في (الدرّ المنثور) والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي ، والمراغي في تفسيرهما ، وسيّد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) في ذيل الآية مورد البحث ، وهو في الأصل من (صحيح البخاري).

٣١٧

وهذه الآية في الحقيقة كالآية ـ ١٦٤ ـ في سورة آل عمران التي تقول : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وقد احتمل بعضهم جملة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) إشارة إلى أصل مقام النبوّة الذي يعطيه الله لمن يكون لائقا به ، غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب ، مع أنّه يمكن الجمع بين التّفسيرين بأن يقال : إنّ قيادة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت نعمة للامّة كما أنّ مقام النبوّة نعمة عظيمة لشخص الرّسول الكريم.

ولا نجد حاجة إلى القول بأنّ تعبير (مَنْ يَشاءُ) لا يعني أنّ الله ينزل رحمته وبركاته بدون حساب وبلا سبب ، بل إنّ المشيئة هنا مرادفة للحكمة كما وصف الباري نفسه في بداية السورة بأنّه العزيز الحكيم.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في معنى هذا الفضل الإلهي : «فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حيث بعث إليهم رسولا ، فعقد بملّته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفت الملّة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعمتها غرقين. وفي خضرة عيشها فكهين».

* * *

ملاحظة

الفضل الإلهي له حساب :

جاء في الحديث أنّ جمعا من الفقراء ذهبوا إلى رسول الله وقالوا : «يا رسول الله ، إنّ للأغنياء ما يتصدّقون وليس لنا ما نتصدّق ولهم ما يحجّون وليس لنا ما نحجّ ولهم ما يعتقون وليس لنا ما نعتق. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كبّر مائة مرّة كان أفضل من عتق رقبة ، ومن سبّح الله مائة مرّة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها

٣١٨

ويلجمها. ومن هلّل الله مائة مرّة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلّا من زاد.

فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه. فرجع الفقراء إلى النبي فقالوا : يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، (وهذه إشارة إلى أنّ ذلك لأمثالكم فإنّكم مشتاقون إلى الإنفاق ولا تملكون ما تنفقون).

أمّا الأغنياء فسبيل بلوغهم ثواب الله هو إنفاق أموالهم في سبيله (١).

هذا الحديث شاهد على ما ذكرنا سابقا من أنّ ثواب الله وفضله لا يعطى بدون حساب.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٨٤.

٣١٩

الآيات

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

التّفسير

الحمار الذي يحمل الأسفار :

جاء في بعض الرّوايات أنّ اليهود قالوا : (إذا كان محمّد قد بعث برسالة فإنّ رسالته لا تشملنا) فردّت عليهم الآية مورد البحث في أوّل بيان لها بأنّ رسالته قد

٣٢٠