الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

مسلم.

إلهي : تفضّل علينا بمعرفة القرآن العظيم حقّ معرفته ، ووفّقنا للالتزام بتعاليمه السامية.

٢ ـ الأقوال المجرّدة عن العمل

يترجم اللسان في الغالب ما يكنّه القلب وما تضمره الروح ، وإذا أصبح اللسان في مسار بعيد عن تصوير خلجات القلب وإرادته. فإنّ ذلك دليل على حالة النفاق ، والمنافق تبدو عليه علامات الاعتلال في الفكر والروح.

إنّ من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها وعدم الاطمئنان فيما بينها ، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الالتزام والادّعاءات الفارغة من المحتوى العملي ، وأداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون ، وبذلك فهم يشكّلون بؤرة عميقة مخيّبة في قبال حالات الانسجام والوحدة والتماسك أمام المشاكل التي تواجههم ، بل يشكّلون عاملا للضعف والتباغض وعدم الاحترام وتضييع الإمكانات وسقوط هيبتهم أمام الأعداء.

عند ما أغار جيش الشام على حدود العراق ، ووصل خبر ذلك إلى الإمام علي عليه‌السلام خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها : «أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء ، تقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا جاء قلتم : حيدي حياد» (١).

والإمام عليه‌السلام يتحدّث هنا بألم عن أهل العراق ، وهذا ما تعكسه كلماته التي

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ٢٩.

٢٨١

تشير التفاوت بين أقوالهم وأعمالهم.

ونقرأ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «يعنى بالعلماء من صدق فعله قوله ، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم» (١).

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ (باب صفة العلماء / حديث رقم ٢).

٢٨٢

الآيتان

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

التّفسير

البشارة بظهور النّبي (أحمد):

تأتي الآية الكريمة ـ أعلاه ـ مكمّلة لمحورين أساسيين تحدّثت عنهما الآيات السابقة وهما (الانسجام بين القول والعمل) و (وحدة الصفّ الإيماني) ، لتستعرض لنا زاوية من حياة النبيين العظيمين (موسى وعيسى) عليهما‌السلام ، ومتطرّقة إلى طبيعة التناقض والانفصام بين أقوال أتباعهم وأعمالهم ، بالإضافة إلى (عدم انسجام صفوفهم) وأخيرا المصير السيء الذي انتهوا إليه.

٢٨٣

يقول تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ).

هذه الآية لعلّها إشارة إلى مخالفات بني إسرائيل وذرائعهم في حياة موسى عليه‌السلام ، أو أنّها إشارة إلى قصّة (بيت المقدس) حيث قال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) ـ أي الجبارين ـ (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) ولهذا فقد بقوا في وادي (التيه) أربعين سنة ، ذاقوا فيها وبال أمرهم لتهاونهم في أمر الجهاد ، ولادّعاءاتهم الواهية.

ولكن مع الالتفات إلى الآية (٦٩) من سورة الأحزاب يظهر أنّ المراد من هذا الإيذاء هو ما كانوا ينسبونه لموسى عليه‌السلام من تهم ، كما يبيّن ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

حيث اتّهم عليه‌السلام بقتل أخيه هارون عليه‌السلام ، واخرى ـ معاذ الله ـ بالعلاقة مع امرأة فاسقة (وذلك ضمن مخطّط قارون للتهرّب من إعطاء الزكاة) ، وثالثة بالسحر والجنون ، كما ألصقت به عليه‌السلام عدّة عيوب جسمية اخرى ، جاء شرحها في تفسير الآية ـ أعلاه ـ من سورة الأحزاب (٢).

كيف يستسيغ هؤلاء أدعياء الإيمان إلصاق أمثال هذه التّهم بأنبيائهم!؟

إنّ هذه الممارسة تمثّل في الواقع نموذجا صارخا للتناقض بين القول والعمل ، ممّا حدا بموسى عليه‌السلام إلى مخاطبة أصحابه : لماذا تسيؤون إليّ مع علمكم بأنّي رسول الله إليكم؟

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الممارسات لم تبق بدون عقاب كما نقرأ ذلك في نهاية الآية حيث ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي

__________________

(١) المائدة ، الآية ٢٤.

(٢) التفسير الأمثل الآية أعلاه من سورة الأحزاب.

٢٨٤

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

وهكذا تنزل بمثل هذا الإنسان أعظم الدواهي ، حيث يحرم من الهداية الإلهية وينحرف قلبه عن الحقّ (١).

إنّ ما يستفاد من المفهوم الذي استعرضته الآية المباركة أنّ الهداية والضلالة وإن كانت من قبل الله سبحانه ، إلّا أنّ مقوّماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه ، حيث يقول سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وذلك ما يوضّح أنّ الخطوة الاولى من الإنسان نفسه ، ويقول سبحانه من جهة اخرى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

فإذا صدر من الإنسان ذنب ومعصية فقد يسلب منه التوفيق والهداية الإلهية وعندئذ يصاب بالحرمان الأكبر.

وقد بحثنا مفصّلا في هذا المجال في تفسير الآية (٣٦) من سورة الزمر ، (فراجع).

وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى عليه‌السلام ومخالفتهم له ، حيث يضيف تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).

وهذا بيان من عيسى عليه‌السلام أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين وكتابين وامّتين ، فقد سبقته رسالة موسى عليه‌السلام وكتابه ، وستليه رسالة الإسلام على يد النبي العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن هنا نلاحظ أنّ عيسى عليه‌السلام لم يكن يدّعي غير الرسالة الإلهية وفي مقطع زمني خاصّ ، وأنّ ما نسب إليه من الألوهية ، أو أنّه ابن (لله) كان كذبا وافتراء

__________________

(١) «زاغوا» : من مادّة (زيغ) بمعنى الانحراف عن الطريق المستقيم.

٢٨٥

محضا.

وبالرغم من أنّ قسما من بني إسرائيل قد آمنوا بالرّسول الموعود ، إلّا أنّ الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه ، ممّا دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة ، وذلك ما يجسّده قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرّسول العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مشركي العرب ، وتركوا أوطانهم شوقا إلى لقائه والإيمان به ، حيث استقرّوا في المدينة ترقّبا لظهوره ولإجابة دعوته .. ، إلّا أنّ المشركين قد سبقوهم إلى الإيمان بالرّسول الموعود وبقي الكثير من اليهود على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له.

ذهب بعض المفسّرين إلى إرجاع الضمير في (فَلَمَّا جاءَهُمْ) إلى رسول الإسلام (محمّد) كما أوضحناه أعلاه ، إلّا أنّ قسما آخر يرى أنّه يعود إلى السيّد المسيح عليه‌السلام ، أي عند ما أتاهم المسيح بالمعاجز الواضحة أنكروها وادّعوا أنّها سحر.

ومن خلال ملاحظة الآيات اللاحقة يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أصحّ حيث يتركّز الحديث فيها على رسالة الإسلام ورسوله الكريم.

* * *

بحوث

١ ـ الصلة بين البشارة وتكامل الدين

إنّ التعبير بـ (البشارة) عن إخبار المسيح عليه‌السلام بظهور الإسلام إشارة رائعة إلى تكامل هذا الدين قياسا لما سبقه من الأديان ، إنّ دراسة الآيات القرآنية والتعاليم الإسلامية في مجال العقائد والأحكام والقوانين والمسائل الاجتماعية

٢٨٦

والأخلاقية ، ومقارنتها بما جاء في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) توضّح لنا هذه الأفضلية ، وتبيّن لنا بجلاء حالة التكامل المبدئي الذي جاءت به رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبالرغم من أنّ الآية المتقدّمة لم توضّح لنا موضع تثبيت هذه البشارة ، وهل أنّها كانت كتاب سماوي للمسيح عليه‌السلام أم لا؟ إلّا أنّ الآيات القرآنية الاخرى تكشف أنّ موضع هذه البشارة هو الإنجيل نفسه يقول سبحانه : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) .. (١) ، وكذلك في قسم من الآيات الاخرى (٢).

٢ ـ بشارة العهدين وتعبير (فارقليطا):

ممّا لا شكّ فيه أنّ (التوراة والإنجيل) اللذين بأيدي اليهود والنصارى ليسا من الكتب السماوية التي نزلت على الرّسولين الإلهيين العظيمين (موسى وعيسى) عليهما‌السلام. إذ أنّها (كتب) ألّفها وجمعها بعض أصحابهم أو من أتى بعدهم.

إنّ مطالعة إجمالية لها تكشف هذه الحقيقة بوضوح ، كما أنّ اليهود والمسيحيين لا ينكرون ذلك ، وممّا لا شكّ فيه أنّ قسما من تعاليم (موسى وعيسى) عليهما‌السلام قد ثبتت في هذه الكتب من خلال أقوال أتباعهم وحوارييهم ، ولذا فلا يمكن اعتبار كلّ ما ورد في العهد القديم (التوراة والكتب الاخرى المتعلّقة به) ، وكذلك العهد الجديد (الإنجيل وما يرتبط به) مقبولا وصحيحا ، كما لا يمكن رفض وإنكار جميع ما ورد فيها أيضا.

والموقف المناسب ممّا ورد فيهما هو اعتبار ما جاء فيها من التعاليم خليطا من تعاليم النبيين (موسى وعيسى) عليهما‌السلام وأفكار أتباعهما الآخرين.

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٩٠.

٢٨٧

وعلى كلّ حال فإنّنا نلاحظ تعبيرات عديدة فيها حول البشارة بظهور رجل عظيم لا تنطبق أوصافه وعلاماته إلّا على نبيّ الإسلام الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وجدير بالذكر بالإضافة إلى ما تقدّم من وجود النبؤات التي وردت في هذه الكتب والتي تنطبق على شخص الرّسول الأعظم ، فقد وردت في إنجيل (يوحنا) كلمة (فارقليط) (١). ثلاث مرّات ، وحينما ترجمت كانت بمعنى (المعزي) لنقرأ النصّ في إنجيل يوحنا : «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد» (٢).

وجاء في الباب الذي بعده : «ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي» (٣).

وجاء في الباب الذي يليه ما نصّه : «لكنّي أقول لكم الحقّ أنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (٤).

والجدير بالذكر أنّ في المتن السرياني للأناجيل المأخوذة من الأصل اليوناني جاء بدل (المسلّي) (پارقليطا). أمّا في المتن اليوناني فلقد جاء (پيركلتوس) وهو بمعنى الشخص (الممتدح) من منظور الثقافة اليونانية وتعادل (محمّد ، أحمد).

لقد شعر أسياد المعابد والكنيسة أنّ انتشار هذه اللفظة يوجّه ضربة قاصمة وشديدة إلى كيانهم ومؤسساتهم ، لذا فقد كتبوا (پاراكلتوس) بدل (پيركلتوس) والتي هي بمعنى (المسلّي). ومع هذا التحريف الواضح الذي غيّروا فيه هذا النصّ الحيّ إلّا أنّهم لم يستطيعوا إلغاء البشارة الصريحة بظهور نبي عظيم في

__________________

(١) جاء هذا التعبير في إنجيل عربي طبع في لندن في مطبعة ويليام وطسس سنة ١٨٥٧ م.

(٢) إنجيل يوحنا باب ١٤ ، جملة ١٦.

(٣) إنجيل يوحنا ، باب ١٥ ، جملة ٢٦.

(٤) إنجيل يوحنا ، باب ١٧ ، جملة ٧.

٢٨٨

المستقبل (١).

وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا شهادة حيّة لأحد القساوسة المعروفين ، والذي أسلم بعد مدّة ، وقد أكّد بأنّ هذه البشائر كانت حول شخص باسم (أحمد) و (محمّد) (٢).

ويجدر الانتباه إلى نصّ ما ورد في هذا الصدد في دائرة المعارف الفرنسية المترجمة حيث يقول :

(محمّد مؤسّس دين الإسلام ورسول الله وخاتم الأنبياء ، إنّ معنى كلمة (محمّد) تعني المحمود كثيرا وهي مشتقّة من (الحمد) والتي هي بمعنى التجليل والتمجيد ، وتشاء الصدفة العجيبة أن يذكر له اسم آخر من نفس الأصل (الحمد) ترادف لفظ (محمّد) يعني (أحمد) ويحتمل احتمالا قويّا أنّ مسيحي الحجاز كانوا يطلقون لفظ (أحمد) بدلا عن (فارقليطا).

و (أحمد) يعني : الممدوح والمجلّل كثيرا وهو ترجمة لفظ : (پيركلتوس) والذي وضع بديلا عنه لفظ (پاراكلتوس) اشتباها ، ولهذا فإنّ الكتاب المسلمين الملتزمين قد أشاروا مرارا إلى أنّ المراد من هذا اللفظ هو البشارة بظهور نبي الإسلام ، وقد أشار القرآن الكريم ـ أيضا ـ بوضوح إلى هذا الموضوع في سورة الصفّ (الآية ، ٢) (٣).

وخلاصة الحديث أنّ المقصود بـ (فارقليطا) ليس روح القدس أو المسلّي ، بل هو معادل لمفهوم (أحمد) ، لذا يرجى الانتباه إلى ذلك.

__________________

(١) الفرقان في تفسير القرآن ، ج ٢٧ ، وج ٢٨ ، ص ٣٠٦ ، في تفسير الآية مورد البحث ، وجاء في هذا الكتاب المتن السرياني للجمل أعلاه بصورة دقيقة.

(٢) راجع تفسير الآية ٤١ ، من سورة البقرة.

(٣) دائرة المعارف الكبيرة الفرنسية ، ج ٢٣ ، ص ٤١٧٦.

٢٨٩

٣ ـ هل أنّ اسم رسول الإسلام كان (أحمد)

إنّ الاسم المعروف للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو (محمّد) والسؤال الذي يطرح هنا أنّ الآيات مورد البحث قد ذكرته باسم (أحمد). فكيف يمكن التوفيق بين هذين الاسمين؟ وللإجابة على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى النقاط التالية :

أـ جاء في كتب التاريخ أنّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمين منذ الطفولة ، حتّى أنّ الناس كانوا يخاطبونه بهما أحدهما (حمد) والآخر (محمّد) ، الأوّل اختاره له جدّه عبد المطلّب والآخر اختارته امّه آمنة.

وقد ذكر هذا الأمر بصورة تفصيلية في سيرة الحلبي.

ب ـ والمعروف أنّ من جملة الأشخاص الذين كانوا ينادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم (أحمد) هو عمّه أبو طالب ، حيث نجد في كتاب (ديوان أبي طالب) أشعارا كثيرة يذكر فيها الرّسول الكريم بهذا الاسم كما في الأبيات التالية :

أرادوا بقتل أحمد ظالموهم

وليس بقتله فيهم زعيم

وقال :

وإن كان أحمد قد جاءهم

بحقّ ولم يأتهم بالكذب (١)

ولأبي طالب شعر آخر في مدح رسول الله نقله ابن عساكر في تاريخه :

لقد أكرم الله النبي محمّدا

فأكرم خلق الله في الناس أحمد (٢)

ج ـ كما يلاحظ هذا التعبير في شعر (حسّان بن ثابت) الشاعر المعروف في عصر الرّسول كقوله :

مفجعة قد شفها فقد أحمد

فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد (٣)

__________________

(١) ديوان أبو طالب ، ص ٢٥ ، ٢٩.

(٢) تاريخ ابن عساكر ، ج ١ ، ص ٢٧٥.

(٣) ديوان حسّان بن ثابت ص ٥٩ ، تحقيق محمّد عزّت نصر الله.

٢٩٠

والأشعار التي ورد فيه ذكر اسم (أحمد) بدلا عن (محمّد) كثيرة ، ولا يوجد مجال لذكرها جميعا لذا فإنّنا سننهي بحثنا بما ورد من شعر علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

أتأمرني بالصبر في نصر (أحمد)

ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

سأسعى لوجه الله في نصر (أحمد)

نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا (١)

د ـ إنّ المتتبع للرّوايات التي جاءت حول معراج الرّسول كثيرا ما يلاحظ أنّ الله سبحانه قد خاطب رسول الإسلام في تلك الليلة الكريمة بـ (أحمد) ومن هنا يمكن القول أنّ النبي قد اشتهر في السماء بـ (أحمد) وفي الأرض بـ (محمّد).

وجاء في حديث عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام في هذا الشأن «إنّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أسماء ، خمسة في القرآن وخمسة ليست في القرآن ، فأمّا التي في القرآن ، محمّد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ون» (٢).

ه ـ عدم اعتراض أهل الكتاب ـ وخاصّة النصارى منهم ـ على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الناحية ، حيث لم يقولوا له : بعد سماع المشركين وسماعهم آيات سورة الصفّ : إنّ الإنجيل قد بشّر بمجيء (أحمد) وأنت اسمك (محمّد) وعدم الاعتراض هذا دليل على شهرة هذا الاسم بينهم ، ولو وجد مثل هذا الاعتراض لنقل لنا ، خاصّة أنّ مختلف الاعتراضات قد دوّنت في كتب التأريخ صغيرها وكبيرها.

لذا نستنتج من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان أحد الأسماء المعروفة لرسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

* * *

__________________

(١) الغدير ، ج ٧ ، ص ٣٥٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣١٣ ، كما جاءت في تفسير الدرّ المنثور روايات في هذا المجال ، ج ٦ ، ص ٢١٤ ، حيث أنّ نقلها جميعا يطيل البحث.

(٣) استفيد في هذا البحث والبحث السابق من كتاب (أحمد موعود الإنجيل) و (تفسير الفرقان) أيضا.

٢٩١

الآيات

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

التّفسير

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم :

لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم ما بشّر به المسيح عليه‌السلام حول ظهور رسول الإسلام ، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة.

وتبيّن الآيات ـ مورد البحث ـ عاقبة هؤلاء ومصيرهم السيء ونتيجة عملهم الخائب.

فيقول تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى

٢٩٢

الْإِسْلامِ).

نعم ، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرّسول الإلهي ، الذين يعتبرون ما يأتي الرّسول به من إعجاز سحرا ، وما يتحدّث به من مبادئ إلهية سامية ضلالا وباطلا .. فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس ، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحقّ والهداية والنجاة ، ويصدّون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

إنّ عمل الله سبحانه هو الهداية للحقّ ، وإنّ ذاته المقدّسة الطاهرة هي النور والضياء السامي : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا بدّ للهداية من استعداد وأرضية مناسبة في النفس الإنسانية كي تؤثّر فيها ، وهذا ما لا يحصل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يجانبون الحقّ ويعرضون عن الحقيقة ويعادونها.

والآية الكريمة تؤكّد مرّة اخرى على حقيقة أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّها من الله سبحانه ، إلّا أنّ مقدّماتها وأرضيتها لا بدّ أن تبدأ من الإنسان نفسه ، ولذا فلا جبر هنا.

جملة «وهو يدعى إلى الإسلام» إشارة إلى أنّ دعوة النبي الأكرم تتضمّن السلام في الدنيا والآخرة ونجاة الناس ، ومع ذلك فمثل هذا الإنسان يحطّم أساس سعادته بيده.

لقد تكرّرت عبارة (من أظلم) خمس عشر مرّة في القرآن الكريم وكانت آخرها في الآية مورد البحث ، بالغرم من أنّ ذكرها كان في موارد مختلفة حسب الظاهر.

ولعلّ هذه المسألة كانت منشأ لهذا التساؤل ، وهو : هل من الممكن أن يكون (أظلم الناس) يمثّل أكثر من صنف أو أكثر من جماعة ، وأنّها جاءت متكرّرة بلحاظ تعدّد أقسام الظالمين؟

٢٩٣

إنّ الملاحظة الدقيقة للآيات الكريمة تبيّن لنا أنّ السبب الأساس لذلك يرجع إلى مسألة منع الناس عن طريق الحقّ ، وتكذيب الآيات الإلهية ، وهذا هو منتهى الظلم ، كما أنّ الصدّ عن الوصول إلى الهدى والسعادة الأبدية وقيم الخير ، يمثّل أسوأ عمل وأعظم ظلم ، حيث المنع عن الخير كلّه وفي كافّة المجالات.

ثمّ يستعرض القرآن الكريم نقطة اخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحقّ ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادئ السماء والأنوار الإلهيّة العظيمة ، حيث يقول سبحانه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثا إطفاء نور الشمس التي تضيء العالم كلّه بنفخة ، إنّهم كالخفافيش التي تتصوّر أنّها قادرة على تحدّي وهج الشمس وأشعّتها الساطعة بالنوم نهارا بعيدا عن نورها ، والظهور في ظلمة الليل وعتمته.

وتاريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبّؤ القرآني العظيم ، فرغم ضخامة المؤامرات التي حيكت ضدّه والجهود الجبّارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأوّل لظهوره إلى يومنا هذا .. فإنّ جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح .. وقد عمد هؤلاء إلى أساليب عدّة في حربهم القدرة ضدّ الإسلام :

فتارة اتّبعوا أسلوب الأذى والسخرية.

واخرى عن طريق الحصار الاقتصادي والاجتماعي ..

وثالثة فرض الحروب ، كـ (أحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية لذلك.

ورابعة عن طريق التآمر الداخلي ، كما كان عمل المنافقين.

وأحيانا عن طريق إيجاد الاختلافات في داخل الصفّ الإسلامي.

وأحيانا اخرى الحروب الصليبية.

٢٩٤

وتارة احتلال الأراضي كما في القدس المقدّسة قبلة المسلمين الاولى.

وأحيانا اعتماد أسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة تربو على الأربعين جزءا.

وتارة التأثير على شباب هذه الامّة وإضعاف متبنّياتها المبدئية والسلوكية بعيدا عن الالتزام بخطّها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية.

وتارة تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة وسائل الميوعة والانحراف خاصّة بين الشباب.

وتارة السيطرة الاستعمارية عسكريا وسياسيا واقتصاديا.

إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة.

إلّا أنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيدا بالرسالة الإلهية .. بل إنّ النور الإلهي في حالة انتشار واتّساع يوما بعد يوم ، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات ، حيث أنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمرّ رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (المادّيين الشرقيين).

نعم ، إنّهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله شأنا غير ذلك. وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ هذا المضمون قد ورد مرّتين في القرآن الكريم ، ولكن مع قليل من الاختلاف ، حيث جاء في الآية (٣٢) من سورة التوبة كالتالي : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) وهنا جاء بعبارة : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا).

يقول : الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الاختلاف : إنّ الآية الاولى إشارة إلى الإطفاء بدون مقدّمة ، إلّا أنّه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء

٢٩٥

باستعمال المقدّمات التي تهيء الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر.

وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآيتين يبيّن عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من قبل أعداء الإسلام ، سواء هيّئوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيّئوا.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية ـ مورد البحث ـ حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

إنّ التعبير بـ (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) بمنزلة بيان الرمز لغلبة الإسلام وانتصاره ، لأنّ طبيعة «الهداية» و (دين الحقّ) تنطوي على هذا الإنتصار ، ذلك أنّ الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حلّ. وكراهية الكفّار والمشركين لن تستطيع أن تغيّر من هذه الحقيقة شيئا ، ولا تقف في طريق مسيرته العظيمة.

ومن الظريف أيضا أنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم ثلاث مرّات بتفاوت يسير :

الاولى : كانت في سورة التوبة الآية (٣٣).

والثانية : في سورة الفتح الآية (٣٨).

والأخيرة : في هذه السورة «الصفّ».

ويجب ألّا ننسى أنّ هذا التأكيد والتكرار جاء في وقت لم يكن الإسلام قد ثبت واستقرّ في الجزيرة العربية بعد ، فكيف بنا مع هذه الآيات وقد وصل الإسلام إلى نقاط عديدة في العالم وشمل أصقاعا مختلفة؟

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم ، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء ، واكتسح مناطق واسعة من العالم ، وهو الآن في تقدّم مستمر ، وقوّة يخشى منها عالميّا.

٢٩٦

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام ، وذلك عند ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه. إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصّلة في تفسير الآية (٢٣) من سورة التوبة حول المقصود من هذه الآية المباركة ، وهل هو الغلبة والإنتصار المنطقي ، أم غلبة القدرة والقوّة على الأعداء؟ وكذلك حول مدى ارتباط هذا الإنتصار وتلك الغلبة بظهور الحجّة عليه‌السلام.

* * *

٢٩٧

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

التّفسير

التجارة الرّابحة :

قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمّة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله ، وما الآيات مورد البحث إلّا تأكيد على هذين الأصلين ، من خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهيّة في روح الإنسان ، والتي هي شرط انتصار الإسلام على كلّ الأديان ، وقد أشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية.

يقول تعالى في البداية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ

٢٩٨

عَذابٍ أَلِيمٍ).

بالرغم من أنّ الإيمان والجهاد من الواجبات المفروضة ، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحها بصيغة الأمر. بل قدّمتها بعرض تجاري مقترن بتعابير تحكي اللطف اللامتناهي للبارئ عزوجل ، وممّا لا شكّ فيه فإنّ (النجاة من العذاب الأليم) من أهمّ امنيات كلّ إنسان.

ولذا فإنّ السؤال المثار هو : هل تريدون من يدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ وهو سؤال مثير لانتباه الجميع ، وقد بادر في نفس الوقت وبدون انتظار للإجابة متحدّثا عن هذه التجارة المتعدّدة المنافع ، حيث يضيف تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (١).

وممّا لا شكّ فيه أنّ الله سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين ، لذا يقول في نهاية الآية : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب هم المؤمنون بقرينة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكنّه في الوقت نفسه يدعوهم إلى الإيمان والجهاد.

وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى أنّ الإيمان يلزم أن يكون عميقا وخالصا لله سبحانه ، حتّى يستطيع أن يكون منبعا لكلّ خير ، وحافزا للإيثار والتضحية والجهاد ، وبذا لا يعتدّ بالإيمان الاسمي السطحي.

أو أنّ التأكيد على الإيمان بالله ورسوله هنا ، هو شرح لمفهوم الإيمان الذي عرض بصورة إجمالية في بداية الآية السابقة.

وعلى كلّ حال فإنّ الإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان بالله تعالى ، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال ، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم

__________________

(١) جملة : (تؤمنون بالله) جملة استثنافية تفسّر التجارة ، واعتبر البعض أنّها عطف بيان ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه (الجملة الخيرية) لها معنى الأمر.

٢٩٩

وجود الوسائل والإمكانات المالية ، ومن هنا فإنّنا نلاحظ أنّ البعض قادر على الجهاد بكلا النوعين (النفس والمال) وآخرين قادرون على الجهاد بالمال فقط وفي المواقع الخلفية للجبهة ، وبعض آخر مستعدّ للجهاد بالنفس والجود بها في سبيل الله لأنّهم لا يملكون سواها.

إلّا أنّ الضرورة تستلزم أن يكون هذان النوعان من الجهاد توأمين متلازمين كلّ منهما مع الآخر لتحقيق النصر ، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس ، لا باعتباره أكثر أهميّة ، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس ، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة.

لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها.

(فالمشتري) هنا هو الله سبحانه ، و (البائع) هم المؤمنون ، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال. ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.

يقول تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان ، وعند ما يتحقّق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء والاطمئنان تنشر ظلالها عليه.

ومن هنا نلاحظ أنّ أوّل هدية يتحف الله سبحانه بها عباده الذين استشهدوا

__________________

(١) جملة (يغفر لكم) هي بمنزلة (جزاء) لشرط محذوف مستفاد من الآية السابقة وفي التقدير هكذا : وإن تؤمنوا بالله ورسوله وتجاهدوا في سبيله .. يغفر لكم ذنوبكم ...) كما يحتمل ـ أيضا ـ أنّ الجملة جواب (الأمر) ذلك الأمر مستفاد من الجملة الخبرية (تؤمنون) و (تجاهدون).

٣٠٠