الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

(الْمُصَوِّرُ).

ولأنّ صفات الله لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية فإنّه سبحانه يشير إلى صفة أساسية لذاته المقدّسة اللامتناهية ، حيث يقول عزوجل : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

ولهذا السبب فإنّه سبحانه منزّه ومبرّأ من كلّ عيب ونقص (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويعتبرونه تامّا وكاملا من كلّ نقص وعيب.

وأخيرا ـ للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة ـ يشير سبحانه إلى وصفين آخرين من صفاته المقدّسة ، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

الاولى دليل كمال قدرته على كلّ شيء ، وغلبته على كلّ قوّة.

والثانية إشارة إلى علمه واطّلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود وتدبير الحياة.

وبهذه الصورة فإنّ مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة التوحيد التي تكرّرت مرّتين ، فإنّ مجموع الصفات المقدّسة لله سبحانه تكون سبع عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل :

١ ـ عالم الغيب والشهادة.

٢ ـ الرحمن.

٣ ـ الرحيم.

٤ ـ الملك.

٥ ـ القدّوس.

٦ ـ السّلام.

__________________

(نفى) قطّ الخشب ، حيث ينجز هذا العمل بقصد الموزونية ، وصرّح بعض أئمّة اللغة أيضا بأنّ البارئ هو الذي يبدأ شيئا لم يكن له نظير في السابق.

٢٢١

٧ ـ المؤمن.

٨ ـ المهيمن.

٩ ـ العزيز.

١٠ ـ الجبّار.

١١ ـ المتكبّر.

١٢ ـ الخالق.

١٣ ـ البارئ.

١٤ ـ المصوّر.

١٥ ـ الحكيم.

١٦ ـ له الأسماء الحسنى.

١٧ ـ الموجود الذي تسبّح له كلّ موجودات العالم.

ومع صفة التوحيد يصبح عدد الصفات ثماني عشرة صفة. ويرجى الانتباه إلى أنّ «التوحيد» و «العزيز» جاء كلّ منها مرّتين.

ومن بين مجموع هذه الصفات فإنّنا نلاحظ تنظيما خاصّا في الآيات الثلاث وهو : في الآية الاولى يبحث عن أعمّ صفات الذات وهي (العلم) وأعمّ صفات الفعل وهي (الرحمة) التي هي أساس كلّ أعماله تعالى.

وفي الآية الثانية يتحدّث عن حاكميته وشؤون هذه الحاكمية وصفاته كـ (القدّوس والسّلام والمؤمن والجبّار والمتكبّر) وبملاحظة معاني هذه الصفات ـ المذكورة أعلاه ـ فإنّ جميعها من خصوصيات هذه الحاكمية الإلهية المطلقة.

وفي الآية الأخيرة يبحث مسألة الخلق وما يرتبط بها من انتظام في مقام تسلسل الخلقة والتصوير ، وكذلك البحث في موضوع القدرة والحكمة الإلهية.

وبهذه الصورة فإنّ هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة الله ، وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل ، حيث تبدأ الآيات أوّلا

٢٢٢

بالحديث عن ذاته المقدّسة ، ومن ثمّ إلى عالم الخلقة ، وتارة اخرى بالسير نحو الله تعالى ، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد ، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدّسة ، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف ، حيث تنمو براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده ، وتجعله لائقا لقرب جواره لكي يكون وجودا منسجما مع كلّ ذرّات الوجود ، مردّدين معا ترانيم التسبيح والتقديس.

لذا فلا عجب أن تختص هذه الآية بصورة متميّزة في الروايات الإسلامية التي سنشير إليها فيما يلي ..

* * *

ملاحظتان

١ ـ التأثير الخارق للقرآن الكريم

إنّ لتأثير القرآن الكريم في القلوب والأفكار واقعية لا تنكر ، وعلى طول التاريخ الإسلامي لوحظت شواهد عديدة على هذا المعنى ، وثبت عمليا أنّ أقسى القلوب عند سماعها لآيات محدودة من القرآن الكريم تلين وتخضع وتؤمن بالذي جاء بالقرآن دفعة واحدة ، اللهمّ عدا الأشخاص المعاندين المكابرين فقد استثنوا من ذلك حيث طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ، وليس هنالك من أمل في هداية نفوسهم المدبرة عن الله سبحانه.

ونقرأ في الآيات أعلاه العرض الرهيب الذي يصوّر نزول القرآن على جبل ، وما هو الأثر سيحدثه حيث الخضوع والتصدّع والخشوع ، وهذه كلّها دليل تأثير هذا الكلام الإلهي الذي نحسّ بحلاوة طعمه عند التلاوة المقرونة بحضور القلب.

٢ ـ عظمة الآيات الأخيرة لسورة الحشر

إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة ـ التي اشتملت على قسم مهمّ من الأسماء

٢٢٣

والصفات الإلهية ـ آيات خارقة وعظيمة وملهمة ، وهي درس تربوي كبير للإنسان ، لأنّها تقول له : إذا كنت تطلب قرب الله ، وتريد العظمة والكمال .. فاقتبس من هذه الصفات نورا يضيء وجودك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ «اسم الله الأعظم» هو في الآيات الأخيرة من سورة الحشر (١).

ونقرأ في حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قرأ آخر الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» (٢).

وجاء في حديث آخر أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ) .. إلى آخرها ، فمات من ليلته مات شهيدا» (٣).

ويقول أحد الصحابة : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاسم الأعظم لله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليك بآخر الحشر وأكثر قراءتها» (٤).

حتّى أنّه جاء في حديث : «أنّها شفاء من كلّ داء إلّا السأم ، والسأم : الموت» (٥).

والخلاصة أنّ الروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة في كتب الشيعة وأهل السنّة ، وتدلّ جميعها على عظمة هذه الآيات ولزوم التفكّر في محتواها.

والجدير بالملاحظة أنّ هذه السورة كما أنّها بدأت بتسبيح الله واسمه العزيز الحكيم ، فكذلك انتهت باسمه العزيز الحكيم ، إذ أنّ الهدف النهائي للسورة هو معرفة الله وتسبيحه والتعرّف على أسمائه وصفاته المقدّسة.

وحول أسماء الله ـ التي أشير إليها في الآيات أعلاه ـ كان لدينا بحث مفصّل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٧.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ص ٢٩٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٠١.

٢٢٤

في نهاية الآية (١٨) من سورة الأعراف.

اللهمّ ، نقسم عليك بعظمة أسمائك وصفاتك أن تجعل قلوبنا خاشعة خاضعة أمام القرآن الكريم.

ربّنا إنّ مصيدة الشيطان خطيرة ، ولا خلاص لنا منها إلّا بلطفك ، فاحفظنا في ظلّ لطفك من وساوس الشيطان.

إلهنا ، تفضّل علينا بروح الإيثار والتقوى والابتعاد عن البخل والبغض والحسد ، وجنّبنا حبّ الذات والأنانية ..

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الحشر

* * *

٢٢٥
٢٢٦

سورة الممتحنة

مدنيّة

وعدد آياتها ثلاث عشرة آية

٢٢٧
٢٢٨

«سورة الممتحنة»

محتوى السورة :

تتكوّن موضوعات هذه السورة من قسمين :

القسم الأوّل : يتحدّث عن موضوع «الحبّ في الله» و «البغض في الله» ، وينهى عن عقد الولاء والودّ مع المشركين ، ويدعو المسلمين لكي يستلهموا من سيرة الرّسول العظيم إبراهيم عليه‌السلام فيما يتعلّق بموقفه من أقرب الأقربين إليه (أبيه آزر) بلحاظ ما يمليه عليه الموقف المبدئي ، كما تذكر بعض الخصوصيات الاخرى في هذا المجال ويتكرّر هذا المعنى في نهاية السورة ، كما في بدايتها.

القسم الثاني : يتناول هذا القسم مسائل المرأة المهاجرة وضرورة تمحيصها ، كما يبيّن أحكاما اخرى في هذا الصدد. وإختيار اسم (الممتحنة) لهذه السورة كان بلحاظ حالة التمحيص والامتحان التي وردت في الآية العاشرة من هذه السورة (١).

كما ذكر اسم آخر لهذه السورة وهو (سورة المودّة) وذلك بلحاظ النهي عن عقد الولاء والودّ مع المشركين ، وقد أكّدت عليه السورة كثيرا.

فضيلة تلاوة سورة الممتحنة :

ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون

__________________

(١) قرأها البعض «ممتحنة» بفتح الحاء وذلك بسبب حالة التمحيص والامتحان للنسوة المهاجرات ، وقرأها آخرون ممتحنة ـ بكسر الحاء ـ وذلك لأنّ موضوعات السورة ـ أجمع ـ كانت وسيلة للامتحان والتمحيص.

٢٢٩

والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة» (١).

وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله ، امتحن الله قلبه للإيمان ، ونوّر له بصره ، ولا يصيبه فقر أبدا ، ولا جنون في بدنه ولا في ولده» (٢).

ومن الواضح أنّ كلّ هذه النعم والألطاف الإلهية تكون للأشخاص الذين يجسّدون مفاهيم الآيات التي وردت في هذه السورة في مجال الحبّ في الله والبغض في الله والجهاد في سبيله ، ويطبّقون محتواها ، ولا يكتفون بالتلاوة السطحية الفارغة من محتوى الروح ، والبعيدة عن العلم والعمل.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٧.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩٩.

٢٣٠

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

سبب النّزول

صرّح أغلب المفسّرين (لكن باختلاف يسير) بأنّ هذه الآيات ـ أو الآية

٢٣١

الاولى بصورة أخصّ ـ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.

وفي هذا الصدد نذكر ما أورده العلّامة الطبرسي في مجمع البيان حول ذلك حيث يقول : «إنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة بعد بدر بسنتين ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني. قال : فأين أنت من شباب مكّة؟ وكانت مغنية نائحة ، فقالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر (وهذا يدلّ على عمق النازلة التي نزلت بمشركي قريش في بدر) فحثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها بني عبد المطلّب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتجهّز لفتح مكّة ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وكتب معها كتابا إلى أهل مكّة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكّة وكتب في الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة إنّ رسول الله يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فعل ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا وعمّارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرسانا وقال لهم : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ فانّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها ، فخرجوا حتّى أدركوها في ذلك المكان ، فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، فنحوها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا ، فهمّوا بالرجوع ، فقال علي عليه‌السلام : والله ما كذّبنا ولا كذّبنا ، وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلّا والله لأضربنّ عنقك. فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأرسل إلى حاطب فأتاه ، فقال له : هل تعرف الكتاب؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من

٢٣٢

المهاجرين إلّا وله بمكّة من يمنع عشيرته وكنت عريرا فيهم (أي غريبا) وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يدا ، وقد علمت أنّ الله ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعذره ، فقام عمر بن الخطاب وقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يدريك يا عمر لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فغفر لهم فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكّم بين المسلمين من جهة ، والمشركين وأعداء الله من جهة اخرى ، والتأكيد على إلغاء وتجنّب أي ولاء مع أعداء الله (١).

* * *

التّفسير

نتيجة الولاء لأعداء الله :

علمنا ممّا تقدّم أنّ سبب نزول الآيات السابقة هو التصرّف المشين الذي صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنّه لم يكن قاصدا التجسّس إلّا أنّ عمله نوع من إظهار المودّة لأعداء الإسلام ، فجاءت الآيات الكريمة تحذّر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرّفات مستقبلا وتنهاهم عنها.

يقول سبحانه في البداية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) مؤكّدا أنّ أعداء الله وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم ، ومع هذا التصوّر فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم؟

ويضيف تعالى : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٩ ، بتلخيص مختصر ، كما نقل هذا في سبب النزول : البخاري في صحيحه ، ج ٩ ، ص ١٨٥ ، والفخر الرازي ، وورد كذلك في تفسير روح المعاني ، وروح البيان ، وفي الظلال ، والقرطبي ، والمراغي ، وفي تفاسير اخرى باختلاف.

٢٣٣

الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) (١).

إنّهم يخالفونكم في العقيدة ، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّا ، ويعتبرون إيمانكم بالله ـ الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم ـ غاية الجرم وأعظم الذنب ، ولهذا السبب قاموا بإخراجكم من دياركم وشتّتوكم من بلادكم .. ومع هذه الأعمال التي مارسوها معكم ، هل من المناسب إظهار المودّة لهم ، والسعي لإنقاذهم من يد العدالة والجزاء الإلهي على يد المقاتلين المسلمين المقتدرين؟

ثمّ يضيف القرآن الكريم موضّحا : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) (٢) فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ.

فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ الله حقّا ، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلبا لرضاه تعالى ، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء الله سبحانه.

ثمّ يضيف عزوجل للمزيد من الإيضاح فيقول : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) (٣) (٤).

وبناء على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم الله في الغيب والشهود؟

وفي نهاية الآية نجد تهديدا شديدا لمن يجانب السبيل الذي أمر به الله

__________________

(١) جملة : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) قالوا : إنّها حال من ضمير (لا تتّخذوا) كما قيل : إنّها جملة استئنافية (الكشّاف ، ج ٤ ، ص ٥١٢). الباء في (المودّة) إمّا زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أو أنّها سببيّة بحذف المفعول الذي تقديره : (تلقوا إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة التي بينكم وبينهم) الكشّاف أيضا.

(٢) يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة الشرطية لها جزاء محذوف يستفاد من الجملة السابقة تقديره : (وإن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي لا تتولّوا أعدائي).

(٣) الجملة أعلاه جملة استثنافية.

(٤) التعبير هنا بـ (ما أخفيتم) عوض (ما أسررتم) جاء تأكيدا للمبالغة ، لأنّ الإخفاء مرحلة أعمق من السرّ (تفسير الفخر الرازي نهاية الآيات مورد البحث).

٢٣٤

سبحانه بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

فمن جهة انحرف عن معرفة الله تعالى بظنّه أنّ الله لا يعلم ولا يرى ما يصنع ، وكذلك انحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى ، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء الله ، وبالإضافة إلى ذلك فانّه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء ، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه للتوضيح والتأكيد الشديد في تجنّب موالاتهم : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) (١).

أنتم تكنّون لهم الودّ في الوقت الذي يضمرون لكم حقدا وعداوة عميقة ومتأصّلة ، وإذا ما ظفروا بكم فإنّهم لن يتوانوا عن القيام بأي عمل ضدّكم ، وينتقمون منكم ويؤذونكم بأيديهم وبألسنتهم وبمختلف وسائل المكر والغدر فكيف ـ إذن ـ تتألّمون وتحزنون على فقدانهم مصالحهم؟

والأدهى من ذلك هو سعيهم الحثيث في ردّكم عن دينكم وإسلامكم ، والعمل على تجريدكم من أعظم مكسب وأكبر مفخرة لكم ، وهي حقيقة الإيمان (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) وهذه أوجع ضربة وأعظم مأساة وأكبر داهية يريدون إلحاقها بكم.

وفي آخر آية من هذه الآيات يستعرض سبحانه الجواب على «حاطب بن أبي بلتعة» ومن يسايره في منهجه من الأشخاص ، حينما قال في جوابه لرسول الله عن السبب الذي حدا به إلى إفشاء أسرار المسلمين لمشركي مكّة ، حيث قال بلتعة : أهلي وعيالي في مكّة ، وأردت أن أمنع عنهم الأذى وأصونهم بعملي هذا ،

__________________

(١) يثقفوكم من مادّة : (ثقف ثقافة) بمعنى المهارة في تشخيص أو إنجاز شيء ما ، ولهذا السبب تستعمل ـ أيضا ـ بمعنى الثقافة أو التمكّن والتسلّط المقترن بمهارة على الشيء.

٢٣٥

(واتّخذ عند أهلها يدا) يقول تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ).

وذلك لأنّ الأرحام والأولاد المشركين سوف لن يجلبوا خيرا وعزّة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة. إذن لماذا تتصرّفون وتعملون مثل هذا العمل الذي يوجب سخط البارئ ، وذلك بالتقرّب من أعداء الله وإرضاء المشركين والبعد عن أوليائه تعالى وجلب الضرر على المسلمين؟

ثمّ يضيف تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) (١).

وهذا تأكيد على أنّ مقام أهل الإيمان هو الجنّة ، وأنّ أهل الكفر يساقون إلى جهنّم وبئس المصير ، وهو بيان آخر وتوضيح لما تقدّم سابقا من أنّ عملية الفرز والفصل ستكون فيما بينكم ، حيث ستقطع الأواصر بصورة تامّة بين الأرحام بلحاظ طبيعة الإيمان والكفر الذي هم عليه ، ولن يغني أحد عن الآخر شيئا ، وهذا المعنى مشابه لما ورد في قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٢).

وفي نهاية الآية يحذّر الجميع مرّة اخرى بقوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

إنّه عالم بنيّاتكم ، وعالم بالأعمال التي تصدر منكم ، سواء كانت في حالة السرّ أو العلن ، وإذا كانت المصلحة الإلهية تقتضي عدم إفشاء أسراركم أحيانا كما في حادثة حاطب بن أبي بلتعة ، فلأنّها لحكمة أو مصلحة يراها سبحانه ، وليس لأنّه لا يعلم بها أو تخفى عليه خافية.

وفي الحقيقة إنّ علم الله بالغيب والشهود ، والسرّ والعلن ، وسيلة مؤثّرة

__________________

(١) يعتقد أكثر المفسّرين أنّ : (يوم القيامة) متعلّقة بـ (يفصل) إلّا أنّ البعض الآخر يعتقد بأنّها متعلّقة بـ (لن تنفعكم) والنتيجة أنّ كلا الرأيين متقاربان بالرغم من أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر. كما أنّ الملاحظ أنّ البعض فسّر (يفصل) بمعنى فصل شيئين بالمعنى المتعارف ، والبعض الآخر اعتبرها من (فصل) بمعنى الحكم والقضاء بين إثنين ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أصحّ.

(٢) عبس ، الآية ٣٤ ـ ٣٦.

٢٣٦

وعظيمة في تربية الإنسان حيث يشعر دائما بأنّه في محضر البارئ عزوجل الرقيب على قوله وعمله ، بل حتّى على نيّته ، وهنا تصدق مقولة أنّ التقوى وليدة المعرفة التامّة بالله عزوجل.

* * *

٢٣٧

الآيات

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦))

التّفسير

أسوة للجميع :

إنّ منهج القرآن (من أجل التأكيد على تعاليمه القيّمة) يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة ، وبعد

٢٣٨

التشديد السابق الذي مرّ بنا خلال آيات السابقة في تجنّب عقد الولاء لأعداء الله ، يتحدّث القرآن الكريم عن إبراهيم عليه‌السلام ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصا العرب منهم.

قال تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (١).

إنّ حياة إبراهيم عليه‌السلام الذي هو كبير الأنبياء ، تلهمنا دروس العبودية لله ، والطاعة والجهاد في سبيله ، والوله والحبّ لذاته المقدّسة ، إنّ هذا النبي العظيم الذي كانت الامّة الإسلامية من بركة دعائه ، وهي معتزّة بالتسمية التي أطلقها عليهم ، هو لكم أسوة حسنة في هذا المجال.

والمراد من تعبير (الَّذِينَ مَعَهُ) هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلّة عددهم ، وهنا رأي آخر في تفسير (الَّذِينَ مَعَهُ) يرى أنّ المقصود هم الأنبياء الذين كانوا يشاركونه بالرأي ، أو أنّ المقصود هم الأنبياء المعاصرون له ، وهو احتمال مستبعد ، خاصّة إذا أخذنا ما يناسب المقام في تشبيه القرآن الكريم لرسول الإسلام محمّد بإبراهيم عليه‌السلام ، وتشبيه المسلمين بأصحابه وأعوانه.

وجاء في التواريخ أيضا أنّ جماعة في «بابل» آمنوا بإبراهيم عليه‌السلام بعد مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه ، وصاحبوه في الهجرة ، قال ابن الأثير في الكامل (ثمّ إنّ إبراهيم والذين اتّبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجرا) (٢).

ثمّ يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى : (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا

__________________

(١) ذكر المفسرون احتمالات عدة في إعراب هذه الجملة ، والظاهر أن (أسوة حسنة) اسم كان ، و (لكم) خبرها و (في إبراهيم) متعلق بـ (أسوة حسنة) ولا بد من الالتفات ضمنا إلى أن أسوة بمعنى التأسي والاقتداء الذي يكون أحيانا بالأعمال الجيدة واخرى بالسيئة ولذا قيدت هنا بـ (الحسنة).

(٢) الكامل في التاريخ ، لابن الأثير ، ج ١ ، ص ١٠٠.

٢٣٩

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (١).

وهكذا يكون الموقف القاطع والحاسم من جانب المؤمنين إزاء أعداء الله ، بقولهم لهم : إنّنا لا نرتضيكم ولا نقبلكم ، لا أنتم ولا ما تؤمنون به من معتقدات ، إنّنا نبتعد وننفر منكم ومن أصنامكم التي لا قيمة لها.

ومرّة أخرى يؤكّدون مضيفين : «كفرنا بكم» ، والكفر هنا هو كفر البراءة الذي أشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدّد أقسام الكفر الخمسة (٢).

ويضيفون للمرّة الثالثة مؤكّدين بصورة أشدّ : (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ).

وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردّد أو مواربة يعلن المؤمنون انفصالهم وابتعادهم ونفرتهم من أعداء الله حتّى يؤمنوا بالله وحده ، وهم مستمرّون في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلّا إذا غيّر الكفّار مسارهم وتراجعوا عن خطّ الكفر إلى الإيمان.

ولأنّ هذا القانون العامّ كان له استثناء في حياة إبراهيم عليه‌السلام يتجسّد ذلك بإمكانية هداية بعض المشركين حيث يقول سبحانه معقّبا : إنّ هؤلاء قطعوا كلّ ارتباط لهم مع قومهم الكافرين حتّى الكلام الودود والملائم : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

إنّ هذا الاستثناء ـ في الحقيقة ـ كان في مسألة قطع كلّ ارتباط مع عبدة الأصنام من قبل إبراهيم عليه‌السلام وأصحابه ، كما أنّ هذا الاستثناء كانت له شروطه ومصلحته الخاصّة ، لأنّ القرائن تظهر لنا أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان يرى في عمّه (آزر) استعدادا لقبول الإيمان.

ولمّا كان (آزر) قلقا من آثام سابقته الوثنية وعبادته للأصنام أوعده إبراهيم

__________________

(١) «براء» جمع «بريء» مثل «ظرفاء ـ ظريف».

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٠٢.

٢٤٠