الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

ولا يختّص هذا الأمر بما حدث تأريخيا في صدر الإسلام ، بل إنّنا نلاحظ اليوم بأعيننا نماذج وصورا حيّة لا تخفى على أحد ، في طبيعة تعامل المنافقين في الدولة الإسلامية مع مختلف الفصائل المعادية للإسلام ، وسوف تصدق أيضا في المستقبل القريب والبعيد. ومن المسلّم أنّ المؤمنين الصادقين إذا التزموا بواجباتهم فإنّهم سينتصرون عليهم ، ويحبطون خططهم.

والآية اللاحقة تتحدّث عن سبب هذا الاندحار ، حيث يقول سبحانه : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ).

ولأنّهم لا يخافون الله ، فإنّهم يخافون كلّ شيء خصوصا إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).

«رهبة» في الأصل بمعنى الخوف المقترن بالاضطراب والحذر ، فهو خوف عميق له جذور وتظهر آثاره في العمل.

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه نزلت في يهود بني النضير وأسباب اندحارهم أمام المسلمين ، إلّا أنّ مقصودها حكم عام وكلّي ، لأنّه لن يجتمع في قلب الإنسان خوفان : الخوف من الله ، والخوف من غيره. لأنّ كلّ شيء مسخّر بأمر الله ، وكلّ إنسان يخشى الله ويعلم مدى قدرته لا ينبغي أن يخاف من غيره.

إنّ مصدر جميع هذه الآلام هو الجهل وعدم إدراك حقيقة التوحيد ، ولو كان مسلمو اليوم بالمعنى الواقعي (يعني مؤمنين موحّدين حقّا) فإنّهم لا يقفون بشجاعة أمام القوى الكبرى بإمكاناتها المادية والعسكرية فحسب ، بل إنّ القوى الكبرى هي التي تخشاهم وتخاف منهم ، كما نلاحظ نماذج حيّة لهذا المعنى ، حيث نرى دولا كبرى مع ما لديها من الأسلحة والوسائل المتطوّرة تخشى شعبا صغيرا لأنّه مسلّح بالإيمان ومتّصف بالتضحية.

وشبيه هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا

٢٠١

الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١).

ثمّ يستعرض دليلا واقعيا واضحا يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ).

«قرى» جمع قرية ، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة ، وتأتي أحيانا بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.

«محصّنة» من مادّة (حصن) على وزن «جسم» بمعنى مسوّرة ، وبناء على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.

«جدر» جمع جدار ، والأساس لهذه الكلمة بمعنى الارتفاع والعلو.

نعم ، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكّل على الله ، فإنّهم بغير الالتجاء والاتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.

ثمّ يوضّح أنّ هذا ليس ناتجا عن جهل بمعرفة فنون الحرب ، أو قلّة في عددهم وعدّتهم ، أو عجز في رجالهم ، بل إنّ (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ).

إلّا أنّ المشهد الذي عرض يتغيّر في حالة مواجهتهم لكم ويسيطر عليهم الرعب والاضطراب بصورة مذهلة.

وهذا الأمر تقريبا يمثّل أصلا كليّا في مورد اقتتال الفئات غير المؤمنة فيما بينهم ، وكذلك محاربتهم للمؤمنين.

ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكرّرة أيضا في التأريخ المعاصر ، حيث نلحظ عند اشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدّة الفتك وقسوة الانتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشكّ في قوّة كلّ منهما ... ولكن لو تغيّرت المعادلة ، وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله واخرى مؤمنة مستعدّة للشهادة في سبيل الله ، عند ذلك نرى أعداء الحقّ يلوذون إلى القلاع

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٥١.

٢٠٢

المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة ، ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كلّ وجودهم ، والحقيقة أنّ المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنّهم منتصرون ومتفوقون على الأعداء بلا ريب.

ولهذا السبب ـ واستمرارا لما ورد في نفس الآية ـ نستعرض سببا آخر من أسباب اندحار المنافقين ، حيث يقول سبحانه : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

«شتّى» بمعنى (شتيت) أي متفرّق.

إنّ القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدّا وملهم يؤكّد على أنّ (التفرقة والنفاق الداخلي) وليدة (الجهل وعدم المعرفة) لأنّ الجهل عامل الشرك ، والشرك عامل للتفرقة ، والتفرقة تسبّب الهزيمة. وبالعكس فإنّ «العلم» عامل لوحدة العقيدة والعمل والانسجام والاتّفاق ، وهذه الصفات بحدّ ذاتها مصدر للانتصار.

وهكذا فإنّ الانسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألّا تخدعنا أبدا ، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة ، ودليلها واضح وهو انهماك كلّ منهم بمنافعه المادية بشكل شديد ، وبما أنّ المنافع غالبا ما تكون متعارضة ، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم ، ولن تغني عن ذلك العهود والاتّفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد واصول ربّانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية ، وإذا أصيب المسلمون بانتكاسة في أعمالهم فإنّ ذلك دليل على ابتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإنّ وضعهم لن يتحسّن.

* * *

٢٠٣

الآيات

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

التّفسير

حيل الشيطان والمهالك :

يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصّة بني النضير والمنافقين ورسم

٢٠٤

خصوصية كلّ منهم في تشبيهين رائعين :

يقول سبحانه في البداية : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الإعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم ، خاصّة وأنّ الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.

ويعتقد البعض أنّ المقصود بقوله : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هم مشركو مكّة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكلّ كبريائهم في غزوة «بدر» ، وأنهكتهم ضربات مقاتلي الإسلام ، لأنّ هذه الحادثة لم يمرّ عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني النضير ، ذلك لأنّ حادثة بني النضير ـ كما أشرنا سابقا ـ حدثت بعد غزوة «احد» ، وغزوة بدر قبل غزوة احد بسنة واحدة ، وبناء على هذا فلم يمض وقت طويل بين الحادثتين.

في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسّرين إشارة إلى قصّة يهود «بني قينقاع» ، التي حدثت بعد غزوة بدر ، وانتهت بإخراجهم من المدينة.

وطبيعي أنّ هذا التّفسير مناسب أكثر ـ حسب الظاهر ـ باعتباره متلائما أكثر مع يهود بني النضير ، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية ، يهدّدون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية ـ كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله ـ إلّا أنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

«وبال» بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل) بمعنى المطر الغزير ، لأنّ المطر الغزير غالبا ما يكون مخيفا ويقلق الإنسان من عاقبته المرتقبة ، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.

__________________

(١) هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره : مثلهم كمثل الذين من قبلهم.

٢٠٥

ثمّ يستعرض القرآن الكريم تشبيها للمنافقين حيث يقول سبحانه : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١).

ما المقصود بـ «الإنسان» في هذه الآية؟

هل هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان ، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة ، ويسير به في طريق الكفر والضلال ، ثمّ إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم؟.

أو أنّ المقصود به شخص خاصّ أو (إنسان معيّن) كأبي جهل وأتباعه ، حيث أنّ ما حصل لهم في غزوة بدر كان نتيجة تفاعلهم مع الوعود الكاذبة للشيطان ، وأخيرا ذاقوا وبال أمرهم وطعم المرارة المؤلمة للهزيمة والانكسار ، كما في قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢).

أو أنّ المقصود منه هنا هو (برصيصا) عابد بني إسرائيل ، حيث انخدع بالشيطان وكفر بالله ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه وابتعد عنه ، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله ...؟

التّفسير الأوّل هو الأكثر انسجاما مع مفهوم الآية الكريمة ، أمّا التّفسيران الثاني والثالث فنستطيع أن نقول عنهما : إنّهما بيان بعض مصاديق هذا المفهوم الواسع.

__________________

(١) بالرغم من أنّ التعبير بـ (كمثل) في هذه الآية وفي الآية السابقة متشابهان ، فإنّ بعض المفسّرين اعتبر الإثنين دليلا على مجموعة واحدة ، إلّا أنّ القرائن تبيّن بوضوح أنّ الأوّل يحكي وضع يهود بني النضير ، والثاني يحكي وضع المنافقين ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه العبارة أيضا خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم كمثل الشيطان.

(٢) الأنفال ، الآية ٤٨.

٢٠٦

وعلى كلّ حال فإنّ العذاب الذي يخشاه الشيطان ـ في الظاهر ـ هو عذاب الدنيا ، وبناء على هذا فإنّ خوفه جدّي وليس هزلا أو مزاحا ، ذلك لأنّ الكثير من الأشخاص يخشون العقوبات الدنيوية المحدودة ، إلّا أنّهم لا يأبهون للعقوبات البعيدة المدى ولا يعيرون لها اهتماما.

نعم ، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم ، ويتخلّون عنهم ، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.

وتتحدّث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه ، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة ، حيث النار خالدين فيها ، فيقول سبحانه عنهم : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١).

وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق ، والشيطان وحزبه ، هو الهزيمة والخذلان ، وعدم الموفّقية ، وعذاب الدنيا والآخرة ، في الوقت الذي تكون ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء ، وعاقبته الخير ونهايته الإنتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.

وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان استنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين ، حيث يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (٢).

ثمّ يضيف تعالى مرّة اخرى للتأكيد بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) «عاقبتهما» خبر «كان» ومنصوب ، و (إنّهما في النار) جاءت بمكان اسم كان و «خالدين» حال لضمير «هما».

(٢) «ما» في (ما قدّمت لغد) هل أنّها موصولة أو استفهامية؟ هناك احتمالان ، والآية الشريفة لها القدرة على تقبّل الاحتمالين ، بالرغم من أنّ الاستفهامية أنسب.

٢٠٧

نعم ، التقوى والخوف من الله يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.

إنّ تكرار الأمر بالتقوى هنا تأكيد محفّز للعمل الصالح ، كما أنّ الرادع عن ارتكاب الذنوب هو التقوى والخوف من الله تعالى.

واحتمل البعض أنّ الأمر الأوّل للتقوى هو بلحاظ أصل إنجاز الأعمال ، أمّا الثاني فإنّه يتعلّق بطبيعة الإخلاص فيها.

أو أنّ الأوّل ملاحظ فيه إنجاز أعمال الخير ، بقرينة جملة (ما قدّمت). والثاني ملاحظ فيه ما يتعلّق بتجنّب المعاصي والذنوب.

أو أنّ الأوّل إشارة إلى التوبة من الذنوب الماضية ، والثاني (تقوى) للمستقبل.

إلّا أنّه لا توجد قرينة في الآيات لهذه التفاسير ، لذا فإنّ التأكّد أنسب.

والتعبير بـ (غد) إشارة إلى يوم القيامة ، لأنّه بالنظر إلى قياس عمر الدنيا فإنّه يأتي مسرعا ، كما أنّ ذكره هنا بصيغة النكرة جاء لأهميّته.

والتعبير بـ (نفس) دلالة على مفرد ، ويمكن أن تعني كلّ نفس ، يعني كلّ إنسان يجب أن يفكّر بـ (غده) بدون أن يتوقّع من الآخرين إنجاز عمل له ، وما دام هو في هذه الدنيا فإنّه يستطيع أن يقدّم لآخرته بإرسال الأعمال الصالحة من الآن إليها.

وقيل أنّه إشارة إلى قلّة الأشخاص الذين يفكّرون بيوم القيامة ، كما نقول : (يوجد شخص واحد يفكّر بنجاة نفسه) إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر ، كما أنّ خطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وعمومية الأمر بالتقوى ، دليل على عمومية مفهوم الآية.

وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر الله سبحانه ، حيث يقول تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ).

وأساسا فإنّ جوهر التقوى شيئان : ذكر الله تعالى ، وذلك بالتوجّه والانشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كلّ

٢٠٨

الأحوال ، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها في صحيفة أعمالنا .. ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء ، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.

والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ القرآن الكريم يعلن هنا ـ بصراحة ـ أنّ الغفلة عن الله تسبّب الغفلة عن الذات ، ودليل ذلك واضح أيضا ، لأنّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية ، وينسى خالقه ، وبالتالي يغفل عن ادّخار ما ينبغي له في يوم القيامة.

ومن جهة اخرى فانّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدّسة وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي ، والغنى اللامحدود .. وكلّ ما سواه مرتبط به ، ومحتاج لذاته المقدّسة .. كلّ ذلك يسبّب أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنيا عن المبدأ (١).

وأساسا فإنّ النسيان ـ بحدّ ذاته ـ من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه ، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات ، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته ، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية ، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.

وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور ، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله ، ولهذا يقول سبحانه : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

وممّا يجدر بيانه أنّ الآية لم تقل «لا تنسوا الله» ، بل وردت بعبارة (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، وهي

__________________

(١) الميزان ، ج ١٩ ، ص ٢٥٣.

٢٠٩

في الحقيقة بيان مصداق حسّي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة نسيان الله تعالى.

والظاهر أنّ المقصود في هذه الآية هم المنافقون والذين أشير لهم في الآيات السابقة ، أو أنّ الملاحظ فيها هم يهود بني النضير ، أو كلاهما.

وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١).

ومع وجود قدر من التفاوت بين الآيتين ، أنّه ذكر نسيان الله هناك كسبب لقطع رحمة الله عن الإنسان ، وفي هذه الآية محل البحث سبب لنسيان الذات. وبالتالي فإنّ الآيتين تنتهيان إلى نقطة واحدة. «فلاحظ»

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين : الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد ، والجماعة الغافلة عن ذكر الله ، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن الله بنسيان ذاتها.

حيث يقول سبحانه : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ).

ليس في الدنيا ، ولا في المعتقدات ، وليس في طريقة التفكير والمنهج ، وليس في طريقة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان وأهدافه ، ولا في المحصّلة الأخروية والجزاء الإلهي .. إذ أنّ خطّ كلّ مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض .. متعارض في كلّ شيء وكلّ مكان وكلّ هدف .. إحداهما تؤكّد على ذكر الله والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة ، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .. والاخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية ، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان (٢) .. وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق

__________________

(١) التوبة ، الآية ٦٧.

(٢) حذف المتعلّق أي متعلّق «لا يستوي» دليل على العموم.

٢١٠

طريقين ، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل ، أو بالقسم الثاني ، وليس غيرهما من سبيل آخر.

وفي نهاية الآية نلاحظ حكما قاطعا حيث يضيف سبحانه : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ).

فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضا ، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتّقين ، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.

ونقرأ في حديث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه فسّر (أصحاب الجنّة) بالأشخاص الذين أطاعوه ، وتقبّلوا ولاية علي عليه‌السلام. وأصحاب النار بالأشخاص الذين رفضوا ولاية علي عليه‌السلام ، ونقضوا العهد معه وحاربوه (١).

وطبيعي أنّ هذا أحد المصاديق الواضحة لمفهوم الآية ، ولا يحدّد عموميتها.

* * *

بحوث

١ ـ التعاون العقيم مع أهل النفاق

إنّ ما جاء في الآيات أعلاه حول نقض العهد من قبل المنافقين والتخلّي عن حلفائهم في المواقف الحرجة والحاسمة ، هو مسألة ملاحظة في حياتنا العملية أيضا .. إنّهم شياطين يعدون هذا وذاك بالعون والدعم ويدفعونهم إلى لهوات الموت ، ولكن حينما تحين ساعة الجدّ والضيق يتخلّون عنهم ويهربون منهم حفاظا على أنفسهم ، بالإضافة إلى أنّهم يملؤون قلوبهم بالشكّ والوسوسة ويدنسونهم بمختلف الذنوب.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩٢.

٢١١

وليعلم بهذا كلّ من يروم التعاون مع النفاق وأهله ، حيث سيلقى نفس المصير السابق.

والنموذج الذي نلاحظه في عصرنا هو : طبيعة الاتفاقات التي تبرمها القوى الكبرى والشياطين المعاصرين مع رؤوساء الحكومات المرتبطة بهم ، والذي نلاحظه بصورة متكرّرة أنّ هذه الدول بالرغم من أنّها وضعت كلّ ما تملك في طبق وقدّمته لهؤلاء المستكبرين .. إلّا أنّ هؤلاء خذلوهم في المواطن الصعبة والساعات الحرجة ، فتركوهم لوحدهم حيث تتقاذفهم أعاصير المحن وأمواج الأزمات ، وحيث يتجسّد فيهم قول الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم بشأنهم :(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

٢ ـ قصّة العابد (برصيصا)

نقل بعض المفسّرين وأئمّة الحديث في نهاية الآيات رواية قصيرة عن عابد إسرائيلي اسمه (برصيصا) وهذه القصّة في الحقيقة يمكن أن تكون موضع اعتبار وعظة للبشرية أجمع ، كي يتجنّبوا طريق الهلاك ، ويحذروا من الوقوع في مصيدة الشراك الشيطانية النخرة والتي تكون نتيجتها ـ حتما ـ السقوط في الهاوية.

وخلاصة ما جاء في هذه القصّة ما يلي :

يدّعي «برصيصا» قد عبد الله زمانا من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرءون على يديه ، وانّه أتي بامرأة قد جنّت وكان لها اخوة فأتوه بها فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقى أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقيّة إخوتها ، وهكذا انتشر الخبر فساروا إليه فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فامر به فصلب ، فلمّا رفع

٢١٢

على خشيته تمثّل له الشيطان فقال : أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها ، وأنا والذي أوقعتك في هذا ، فأطعني فيما أقول أخلّصك ممّا أنت فيه ، قال نعم. قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : أكتفي منك بالإيماء ، فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل ، فهو قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ...) (١).

نعم هكذا هو مصير من ابتلي بوسوسة الشيطان وسار في خطّه.

٣ ـ ما ينبغي عمله

أكّدت الآيات محل البحث وجوب اهتمام الإنسان بما يرسله من متاع سلفا لغده في يوم القيامة ، قال تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) حيث أنّ هذه الذخيرة الاخروية تمثّل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة ، لذا فإنّ هذا النوع من الأعمال الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقا ، وإلّا فلا أحد يهتمّ له بعد وفاته وانقضاء أجله ، وإذا أرسل شيئا فليس له شأن يذكر.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تصدّقوا ولو بصاع من تمر ، ولو ببضع صاع ولو بقبضة ، ولو ببعض قبضة ، ولو تمرة ، ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة ، فإنّ أحدكم يلقى الله ، فيقال له : ألم أفعل بك ، ألم أفعل بك ، ألم أجعلك سميعا بصيرا ، ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول : بلى ، فيقول الله تبارك وتعالى : فانظر ما قدّمت لنفسك ، قال : فينظر قدّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ، فلا يجد شيئا يقي به وجهه من النار» (٢).

ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالسا مع عدد من أصحابه ، إذ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٥ ، تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٥١٨ ، وجاءت هذه القصّة مفصّلة أكثر في روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٤٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩٢.

٢١٣

دخل قوم من قبيلة «مضر» ، متقلّدين السيف ومتهيئين للجهاد في سبيل الله ، إلّا أنّ ملابسهم رثّة ، فعند ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آثار الطاقة والجوع عليهم ، تغيّرت ملامح وجهه ، فدعا الناس إلى المسجد وارتقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أمّا بعد ، ذلكم فإنّ الله أنزل في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ... تصدّقوا قبل أن لا تصدقوا ، تصدّقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ، تصدّق امرؤ من ديناره ، تصدّق امرؤ من درهمه ، تصدّق امرؤ من برّه ، من شعيرة ، من تمره ، لا يحقّرن شيء من الصدقة ولو بشقّ تمرة».

فقام رجل من الأنصار ، وأعطى كيسا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظهرت آثار الفرحة والسرور على وجهه المبارك ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها ، لا ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ سنّة سيّئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص من أوزارهم شيئا. فقام الناس فتفرّقوا فمن ذي دينار ومن ذي درهم ومن ذي طعام ومن ذي ومن ذي فاجتمع فقسّمه بينهم».

وقد أكّدت هذا المعنى آيات قرآنية اخرى ولمرّات عديدة ، ومن جملة ذلك ما ورد في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١).

* * *

__________________

(١) البقرة ، الآية ١١٠.

٢١٤

الآيات

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

التّفسير

لو نزل القرآن على جبل :

تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية ، وخاصّة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان ، والمصير

٢١٥

الذي ينتظره ، والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة .. تأتي هذه الآيات المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر ، والتي تأخذ بنظر الإعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة ، لتوضّح حقيقة اخرى حول القرآن الكريم ، وهي : أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّا حتّى على الجمادات ، حيث أنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الاضطراب المقترن بالخشوع .. إلّا أنّه ـ مع الأسف ـ هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات الله تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه ، يقول سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

فسّر الكثير من المفسّرين هذه الآيات بأنّها تشبيه ، وقالوا : إنّ الهدف من ذلك هو بيان أنّ هذه الآيات إذا نزلت على الجبال بكلّ صلابتها وقوّتها إذا كان لها عقل وشعور ـ بدلا من نزولها على قلب الإنسان ـ فانّها تهتزّ وتضطرب إلى درجة أنّها تتشقّق ، إلّا أنّ قسما من الناس ذوي القلوب القاسية والتي هي كالحجارة أو أشدّ قسوة لا يسمعون ولا يعون ولا يتأثّرون أدنى تأثير ، وجملة : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) اعتبرت دليلا وشاهدا على هذا الفهم.

وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا : إنّ كلّ الموجودات في هذا العالم ـ ومن جملتها الجبال ـ لها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها ، وإذا نزلت هذه الآيات عليها فانّها ستتلاشى ، ودليل هذا ما ورد في الآية (٧٤) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود ، قال تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

والتعبير بـ (مثل) يمكن أن يكون بمعنى هذا الوصف ، كما جاءت هذه الكلمة مرارا مجسّدة لنفس المعنى ، وبناء على هذا ، فإنّ التعبير المذكور لا يتنافى مع هذا التّفسير.

٢١٦

والشيء الممكن ملاحظته هنا ، أنّه تعالى يقول في البداية : إنّ الجبال تخشع وتخضع للقرآن الكريم ، ويضيف أنّها تتشقّق ، إشارة إلى أنّ القرآن الكريم ينفذ تدريجيّا فيها ، وبعد كلّ فترة تظهر عليها آثار جديدة من تأثيرات القرآن الكريم ، إلى حدّ تفقد فيه قدرتها واستطاعتها فتكون كالعاشق الواله الذي لا قرار له ثمّ تنصدع وتنشقّ (١).

الآيات اللاحقة تستعرض قسما مهمّا من صفات جمال وجلال الله سبحانه ، التي لكلّ واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب. وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفا لله سبحانه ، أو بتعبير آخر فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات ، وكلّ منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والاسم المقدّس ، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحقّ سبحانه ، يقول تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

هنا وقبل كلّ شيء يؤكّد على مسألة التوحيد ، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال ، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية ، ثمّ يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود.

«الشهادة» و «الشهود» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ هي الحضور مقترنا بالمشاهدة سواء بالعين الظاهرة أو بعين البصيرة ، وبناء على هذا ، فكلّ مكان تكون للإنسان فيه إحاطة حسيّة وعلمية يطلق عليها عالم شهود ، وكلّ ما هو خارج عن هذه الحدود يطلق عليه «عالم الغيب» وكلّ ذلك في مقابل علم الله سواء ، لأنّ وجوده اللامتناهي في كلّ مكان حاضر وناظر ، فلا مكان ـ إذن ـ خارج حدود علمه وحضوره ، قال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا

__________________

(١) «متصدع» من مادة (صدع) ، بمعنى شق الأشياء القوية ، كالحديد والزجاج ، وإذا قيل لوجع الرأس : صداع ، فإنه بسبب شعور الإنسان أن رأسه يريد أن يتشقق من الألم.

٢١٧

هُوَ) (١).

والتوجّه بهذا الفهم نحو الذات الإلهية يؤدّي بالإنسان إلى الإيمان بأنّ الله حاضر وناظر في كلّ مكان ، وعندئذ يتسلّح بالتقوى ، ثمّ يعتمد على رحمته العامّة التي تشمل جميع الخلائق : (الرحمن) ورحمته الخاصّة التي تخصّ المؤمنين ، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملا ، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو الله ، لأنّ هذه المرحلة ـ الحياة الدنيا ـ لا يمكن للإنسان أن يجتازها بغير لطفه ، لأنّها ظلمات وخطر وضياع.

وبهذا العرض ـ بالإضافة إلى صفة التوحيد ـ فقد بيّنت الآية الكريمة ثلاثة من صفاته العظيمة ، التي كلّ منها تلهمنا نوعا من المعرفة والخشية لله سبحانه.

أمّا في الآية اللاحقة ، فبالإضافة إلى التأكيد على مسألة التوحيد فإنّها تذكر ثمانية صفات اخرى لله سبحانه ، حيث يقول البارئ عزوجل : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

(الْمَلِكُ) الحاكم والمالك الحقيقي لجميع الكائنات.

(الْقُدُّوسُ) المنزّه من كلّ نقص وعيب.

(السَّلامُ) (٢) لا يظلم أحد ، وجميع الخلائق في سلامة من جهته.

وأساسا فإنّ دعوة الله تعالى هي للسلامة (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (٣).

وهدايته أيضا باتّجاه السلامة (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (٤).

__________________

(١) الأنعام ، الآية ٥٩.

(٢) فسّر البعض كلمة «سلام» هنا بمعنى «السلامة من كلّ عيب ونقص وآفة» ، وبالنظر إلى أنّ هذا المعنى مندرج في القدّوس والتي جاءت سابقا ، بالإضافة إلى أنّ كلمة سلام تقال في القرآن الكريم في الغالب بمعنى إعطاء السلامة للآخرين ، وأساسا فإنّ كلمة سلام تقال عند اللقاء وتعني إظهار الصداقة والمحبّة وبيان الروابط الحميمة مع الطرف المقابل ، فإنّ ما ذكرناه أعلاه هو الأنسب حسب الظاهر. (يرجى الانتباه لذلك).

(٣) يونس ، الآية ٢٥.

(٤) المائدة ، الآية ١٦.

٢١٨

والمقرّ الذي اعدّ للمؤمنين أيضا هو : بيت السلامة (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

وتحيّة أهل الجنّة أيضا ليست بشيء سوى السّلام : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (١).

ثمّ يضيف سبحانه :

(الْمُؤْمِنُ) (٢) يعطي الأمان لأحبّائه ، ويتفضّل عليهم بالإيمان.

(الْمُهَيْمِنُ) الحافظ والمراقب لكلّ شيء (٣).

(الْعَزِيزُ) القادر الذي لا يقهر.

(الْجَبَّارُ) مأخوذ من (جبر) يأتي أحيانا بمعنى القهر والغلبة ونفوذ الإرادة ، وأحيانا بمعنى الإصلاح والتعويض ، ومرج الراغب في المفردات كلا المعنيين حيث يقول : «وأصل (جبر) إصلاح شيء بالقوّة والغلبة» وعند ما يستعمل هذا اللفظ لله تعالى ، فإنّه يبيّن أحد صفاته الكبيرة ، حيث أنّ نفوذ إرادته ، وكمال قدرته يصلح كلّ فساد. وإذا استعملت في غير الله أعطت معنى المذمّة ، وكما يقول الراغب فإنّها تطلق على الشخص الذي يريد تعويض نقصه بإظهاره لأمور غير لائقة ، وقد ورد هذا المصطلح عشر مرّات في القرآن الكريم ، تسع مرّات حول الأشخاص الظالمين والمستكبرين المتسلّطين على رقاب الامّة والمفسدين في

__________________

(١) الواقعة ، الآية ٢٦.

(٢) ذكر بعض المفسّرين أنّ المؤمن هنا بمعنى صاحب الإيمان ، إشارة إلى أنّه أوّل شخص مؤمن بذات الله الطاهرة ، وصفاته ورسله (وهو الله تعالى) إلّا أنّ الذي ذكر أعلاه أنسب.

(٣) في الأصل لهذا المصطلح قولان بين المفسّرين وأرباب اللغة ، حيث اعتبره البعض من مادّة (هيمن) والتي تعني المراقبة ، والحفظ ، والبعض الآخر اعتبره من مادّة (إيمان) تبدّلت الهمزة إلى الهاء بمعنى الباعث للهدوء ، وورد هذا المصطلح مرّتين في القرآن الكريم : الاولى : حول القرآن نفسه ، كما في الآية (٤٨) من سورة المائدة ، والثانية : في وصف الله سبحانه في الآية مورد البحث. والموردان مناسبان للمعنى الأوّل ، (لسان العرب وكذلك تفسير روح المعاني والفخر الرازي). كما نقل أبو الفتوح الرازي في نهاية الآية مورد البحث عن أبي عبيدة أنّه جاء في كلام العرب خمس كلمات فقط على هذا الوزن : (مهيمن ، مسيطر ، مبيطر (طبيب الحيوانات) مبيقر (الذي يشقّ طريقه ويمضي فيه) مخيمر (اسم جبل).

٢١٩

الأرض ومرّة واحدة فقط عن الله القادر المتعال ، حيث ورد بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ثمّ يضيف سبحانه : (الْمُتَكَبِّرُ).

«المتكبّر» من مادّة (تكبّر) وجاءت بمعنيين :

الأوّل : استعملت صفة المدح ، وقد أطلقت على لفظ الجلالة ، وهو اتّصافه بالعلو والعظمة والسمات الحسنة بصورة عامّة.

والثّاني : استعملت صفة الذمّ وهو ما يوصف به غير الله عزوجل ، حيث تطلق على الأشخاص صغار الشأن وقليلي الأهميّة .. الذين يدّعون الشأن والمقام العالي ، وينعتون أنفسهم بصفات حسنة غير موجودة فيهم.

ولأنّ العظمة وصفات العلو والعزّة لا تكون لائقة لغير مقام الله سبحانه ، لذا استعمل هذا المصطلح هنا بمعناه الإيجابي حول الله سبحانه. وكلّما استعمل لغير الله أعطى معنى الذمّ.

وفي نهاية الآية يؤكّد مرّة اخرى مسألة التوحيد التي كان الحديث حولها ابتداء حيث يقول تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ومع التوضيح المذكور فإنّ من المؤكّد أنّ كلّ موجود لا يستطيع أن يكون شريكا وشبيها ونظيرا للصفات الإلهية التي ذكرت هنا.

وفي آخر آية مورد للبحث يشير سبحانه إلى ستّ صفات اخرى حيث يقول تعالى :

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ).

(الْبارِئُ) (١).

__________________

(١) البارئ من مادّة «برء» على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى التحرّر والتخلّص من الأمور السلبية ، ولذا يقال (بارئ) للشخص الذي يوجد شيئا غير ناقص وموزون بصورة تامّة. وأخذه البعض ـ أيضا ـ من مادّة (برى) على وزن

٢٢٠