الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

الشخصية ، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع من الامّة.

ومن الطبيعي ألّا نقصد من ذلك وضع قوانين وتشريعات من تلقاء أنفسنا ونأخذ الثروات من فئة ونعطيها لآخرين ، بل المقصود تطبيق القوانين الإسلامية في مجال كسب المال ، والالتزام بالتشريعات المالية الاخرى كالخمس والزكاة والخراج والأنفال بصورة صحيحة ، وبذلك نحصل على النتيجة المطلوبة ، وهي احترام الجهد الشخصي من جهة ، وتأمين المصالح الاجتماعية من جهة اخرى ، والحيلولة دون انقسام المجتمع إلى طبقتين : (الأقليّة الثريّة والأكثرية المستضعفة).

ويضيف سبحانه في نهاية الآية : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير ، إلّا أنّ محتواها حكم عام في كلّ المجالات ، ومدرك واضح على حجيّة سنّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وطبقا لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون باتّباع التعاليم المحمّدية ، وإطاعة أوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واجتناب ما نهى عنه ، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها ، خصوصا أنّ الله سبحانه هدّد في نهاية الآية جميع المالخفين لتعاليمه بعذاب شديد.

* * *

بحوث

١ ـ مصارف الفيء

«الفيء» كما قلنا هو الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، وهذه الأموال كانت توضع تحت تصرّف الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة

١٨١

الإسلامية ، وهي أموال كثيرة في الغالب ، وخاصّة في بداية الفتوحات الإسلامية ويقدر لهذه الأموال أن تلعب دورا هامّا في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي ، خلافا لما كان متّبعا في الجاهلية حيث تقسّم هذه الأموال بين أغنياء القوم فقط ، في حين أنّها وضعت مباشرة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية في التشريع الإسلامي فيصرفها كما يرى حسب الأولويات.

وكما قلنا في بحث الأنفال فإنّ هذه الأموال تشكّل قسما من «الفيء» ، والقسم الآخر من الفيء هو كلّ الأموال التي يكون مالكها مجهولا ، كما وضّح ذلك في الفقه الإسلامي ، وتبلغ اثنتا عشرة فقرة ، وبهذا فإنّ قسما كبيرا من النعم والهبات الإلهيّة توضع تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية عن هذا الطريق ، ومن ثمّ تحت تصرّف المحتاجين (١).

ويتّضح ممّا تقدّم أن لا تضادّ بين الآية الاولى والآية الثانية ، بالرغم من أنّ الآية الاولى تضع الفيء تحت تصرّف شخص الرّسول ، والآية الثانية توضّح لنا

__________________

(١) الموارد الإثني عشر للأنفال هي :

١ ـ الأراضي التي تركها أهلها ورحلوا عنها كـ (أراضي يهود بني النضير).

٢ ـ الأراضي التي تركها أصحابها برغبة منهم إلى رئيس الدولة الإسلامية مثل (فدك).

٣ ـ أراضي الموات.

٤ ـ سواحل البحار.

٥ ـ فمم الجبال.

٦ ـ الوديان.

٧ ـ الغابات والآجام.

٨ ـ الغنائم الحربية الثمينة الخاصّة بالملوك.

٩ ـ ما يختاره قائد المسلمين من الغنائم العامّة لنفسه.

١٠ ـ الغنائم الحاصلة من الحروب التي لم يأذن بها الحاكم الشرعي.

١١ ـ المعادن.

١٢ ـ ميراث من لا وارث له.

ومن الطبيعي أنّ في بعض الموارد أعلاه قد حصلت اختلافات بين الفقهاء إلّا أنّ الأكثرية الغالبة قد اعتبرت هذه الموارد ، ويمكن مراجعة ذلك في الكتب الفقهية.

١٨٢

ستّة أبواب لمصارف الفيء ، على أن يراعى في صرفها الأولويات الخاصّة.

وبتعبير آخر ، فإنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يريد الأموال لاموره الشخصية ، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الأمور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عامّ.

وممّا يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحقّ ينتقل من بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ومن بعدهم إلى نوّابهم ، يعني (كلّ مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل ، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها. وقسم من هذه الاسس قنّنت ضمن الهيكل الاقتصادي العامّ للمجتمع الإسلامي ، كما أنّها تمثّل مبدأ أساسيّا في النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية.

٢ ـ جواب على سؤال :

يمكن أن يطرح هذا السؤال : كيف ألزم الله سبحانه جميع الناس ـ بدون استثناء ـ بقبول التعاليم الصادرة من قبل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون قيد وشرط؟

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بملاحظة انّنا نعتبر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوما ، لذا كان هذا الحقّ له ولخلفائه المعصومين من بعده ضمن هذا الفهم أيضا.

والملفت للنظر أنّ الروايات العديدة قد أشارت لهذه المسألة أيضا ، وهي أنّ الله سبحانه منح كلّ تلك الامتيازات للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الله عزوجل اختبره وامتحنه بشكل كامل ولما له من خلق عظيم وسجايا حميدة ، لذا فوّض له مثل هذا الحقّ (١).

__________________

(١) الروايات التي تناولت هذا البحث عديدة يمكن مراجعتها في ج ٥ ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٣ من تفسير نور الثقلين.

١٨٣

٣ ـ القصّة المؤلمة لـ (فدك)

«فدك» : إحدى القرى المثمرة في أطراف المدينة ، وتبعد ١٤٠ كم عن خيبر تقريبا ، ولمّا سقطت قلاع «خيبر» في السنة السابعة للهجرة ، الواحدة تلو الاخرى أمام قوّة المسلمين ، واندحر اليهود .. جاء ساكنو فدك يطلبون الصلح مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعطوا نصف أراضيهم وبساتينهم لرسول الله واحتفظوا بالقسم الآخر لأنفسهم ، وتعهّدوا للرسول بزراعة أراضيه وأخذ الاجرة عوض الجهد الذي يبذلونه.

ومن خلال ملاحظة التفاصيل التي وردت حول (الفيء) في هذه السورة ، فإنّ هذه الأرض كانت من مختصّات الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صلاحيته أن يصرفها في شؤونه الشخصية ، أو ما يراه من المصارف الاخرى التي أشير إليها في الآية السابعة من نفس هذه السورة ، لذلك فإنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهبها لابنته فاطمة عليها‌السلام.

وهذا الحديث صرّح به الكثيرون من المؤرّخين والمفسّرين من أهل السنّة والشيعة ، ومن جملة ما ورد في تفسير الدرّ المنثور ، نقلا عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (١) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما نزلت هذه الآية عليه أعطى فدكا لفاطمة. (أقطع رسول الله فاطمة فدكا) (٢).

وجاء في كتاب كنز العرفان ، أنّه جاء في حاشية مسند (أحمد) حول مسألة صلة الرحم أنّه نقل عن أبي سعيد الخدري أنّ الآية أعلاه عند ما نزلت على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا الرّسول فاطمة ، وقال : «يا فاطمة لك فدك» (٣).

وقد أورد الحاكم النيسابوري هذا المعنى في تأريخه (٤).

__________________

(١) الروم ، الآية ٣٨.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٤ ، ص ١٧٧.

(٣) كنز العمّال ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

(٤) يراجع كتاب فدك ، ص ٤٩.

١٨٤

وقد ذكر ابن أبي الحديد قصّة فدك بصورة مفصّلة في شرح نهج البلاغة (١) ، كما ذكرت كذلك في كتب اخرى كثيرة.

إلّا أنّ بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد أنّ وجود (فدك) بيد زوجة الإمام علي عليه‌السلام تمثّل قدرة اقتصادية يمكن أن تستخدم في مجال التحرّك السياسي الخاصّ بالإمام علي عليه‌السلام. ومن جهة اخرى كان هنالك موقف وتصميم على تحجيم حركة الإمام عليه‌السلام وأصحابه في المجالات المختلفة ، لذا تمّت مصادرة تلك الأرض بذريعة الحديث الموضوع : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). مع أنّ (فدك) كانت بيد فاطمة عليها‌السلام ، وذو اليد لا يطالب بشهادة أو بيّنة. والجدير بالذكر أنّ الإمام علي عليه‌السلام قد أقام الشهادة على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد منح فدكا إلى فاطمة. إلّا أنّهم مع كلّ هذا لم يرتّبوا أثرا على هذه الشهادة.

وقد استعملت قضيّة فدك عبر العصور التأريخية المختلفة كموضوع يراد التظاهر من خلاله بالودّ لأهل البيت عليهم‌السلام من قبل بعض الخلفاء وذلك لمآرب سياسيّة ، فكانوا يرجعون فدكا لآل الرّسول تارة ، ويصادرونها ثانية ، وقد تكرّر هذا الفعل عدّة مرّات في فترات حكم خلفاء بني اميّة وبني العبّاس.

وقصّة فدك وما رافقها من أحداث مؤلمة وقعت في صدر الإسلام هي من أكثر القصص ألما وحزنا ، وفي نفس الوقت تكاد أن تكون من أكثر حوادث التاريخ عبرة ، ولا بدّ من التوقّف عندها والتأمّل في أحداثها المختلفة ضمن بحث محايد دقيق.

والجدير بالملاحظة أنّه روى مسلم في صحيحة قال : (حدّثني محمّد بن رافع ، أخبرنا حجين ، حدّثنا ليث بن عقيل ، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ، أنّها أخبرته أنّ فاطمة بنت رسول أرسلت إلى أبي بكر الصدّيق تسأله

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ، ج ١٦ ، ص ٢٠٩ وما بعدها.

١٨٥

ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله قال : «لا نورّث ما تركناه صدقة إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» وانّي والله لا اغيّر شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ... فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك. قال : فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت) (١).

* * *

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ص ١٣٨٠ ، حديث ٥٢ عن كتاب الجهاد.

١٨٦

الآيات

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

التّفسير

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين :

١٨٧

هذه الآيات ـ التي هي استمرار للآيات السابقة ـ تتحدّث حول طبيعة مصارف الفيء الستّة ، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب ، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت ، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة ، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم.

يقول تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) (١) (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمّة وأساسية للمهاجرين الأوائل ، تتلخص بـ (الإخلاص والجهاد والصدق).

ثمّ تتناول الآية مسألة (ابتغاء فضل الله ورضاه) حيث تؤكّد هذه الحقيقة وهي : أنّ هجرتهم لم تكن لدنيا أو لهوى نفس ، ولكن لرضا الله وثوابه.

وبناء على هذا فـ (الفضل) هنا بمعنى الثواب. و «الرضوان» هو رضا الله تعالى الذي يمثّل مرحلة أعلى من مرتبة الثواب. كما بيّنت ذلك آيات عديدة في القرآن الكريم ، ومنها ما جاء في الآية ٢٩ من سورة الفتح ، حيث وصف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الوصف (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ولعلّ التعبير بـ (الفضل) إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين يتصوّرون أنّ أعمالهم قليلة جدّا لا تستحقّ الثواب ، ويعتقدون أنّ الثواب الذي غمرهم هو لطف إلهي.

ويرى بعض المفسّرين «الفضل» هنا بمعنى الرزق ، أي رزق الدنيا ، فقد ورد في بعض الآيات القرآنية بهذا المعنى أيضا ، ولكن بما أنّ المقام هو مقام بيان إخلاص المهاجرين ، لذا فإنّ هذا المعنى غير مناسب ، والمناسب هو الجزاء

__________________

(١) «للفقراء» بدل وتفسير لابن السبيل.

١٨٨

والثواب الإلهي.

كما لا يستبعد أن يكون المراد من «الفضل» إشارة للنعم الجسمية ، و «الرضوان» هو إشارة للنعم الروحية والمعنوية ، والجميع مرتبط بالآخرة وليس بالدنيا.

ثمّ إنّ «المهاجرين» ينصرون المبدأ الحقّ دائما ، وعونا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتوقّفوا في جهادهم بهذا السبيل لحظة واحدة (يرجى ملاحظة : أنّ فعل (ينصرون) بصيغة المضارع ، وهو دليل على الاستمرار).

ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات الفارغة ، بل هم رجال حقّ وجهاد ، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرة.

وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق ، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع ، إلّا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأمور : بالإيمان ، وفي محبّة الرّسول ، وفي التزامهم بمبدإ الحقّ ..

ومن الواضح أنّ هذه الصفات كانت لأصحاب الرّسول في زمن نزول هذه الآيات ، إلّا أنّنا نعلم أنّ أشخاصا من بينهم قد فرّطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم ، وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة ، وصفين في الشام ، وحاربوا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان واجب الطاعة بإجماع المسلمين ، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين ...

وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال ، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضا وصف رائع ومعبّر جدّا عن طائفة الأنصار ، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين ، فيقول سبحانه : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

«تبوّؤا» من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان ، وبعبارة اخرى يقال : (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) ، هذا التعبير

١٨٩

كناية لطيفة لهذا المعنى ، وهو أنّ طائفة الأنصار ـ أهل المدينة ـ قد هيّئوا الأرضية المناسبة للهجرة ، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى «العقبة» ـ وهي مضيق قرب مكّة ـ وبايعوا رسول الله متنكّرين ، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين ، ومعهم «مصعب بن عمير» ليعلّمهم امور دينهم وليهيئ الأرضية المناسبة لهجرة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبناء على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب ، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

والتعبير (مِنْ قَبْلِهِمْ) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الأمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة ، وهذا أمر مهمّ.

وانسجاما مع هذا التّفسير ، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال ، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أعطى شخصين أو ثلاثة أشخاص من الأنصار ـ فقط ـ من أموال بني النضير ، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء ، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقا للفقير ، فيمكن اعتبارهم مصداقا لأنباء السبيل (١).

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة ، حيث يقول تعالى : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ).

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

والأمر الآخر : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) فهم لا يطمعون بالغنائم التي أعطيت للمهاجرين ، ولا يحسدونهم عليها ، ولا حتّى يحسّون بحاجة

__________________

(١) إلّا أنّه وطبقا لتفسير آخر فإنّ (والذين تبوّؤا الدار) تكون مبتدأ ، و (يحبّون) خبرها ، وإجمالا فإنّها تشكّل جملة مستقلّة ، ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدّث حول مصاريف الفيء ، إلّا أنّ من الواضح أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

١٩٠

إلى ما اعطي للمهاجرين منها ، وأساسا فإنّ هذه الأمور لا تخطر على بالهم. وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (١).

ومن هذه السمات الثلاث : «المحبّة» و «عدم الطمع» و «الإيثار» ، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة.

ونقل المفسّرون قصصا متعدّدة في شأن نزول هذه الآية :

يقول ابن عبّاس : إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير ، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم ، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار : علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم ، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية (٢).

ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزله ، فقالت زوجته : ما عندنا إلّا الماء ، فقال رسول الله : من لهذا الرجل الليلة ، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته ، ولم يكن لديه إلّا القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج ، ثمّ قال لزوجته : نوّمي الصبية ، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئا في أفواههم ، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه ، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة ، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم) ، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.

__________________

(١) «خصاصة» من مادّة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت ، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّا ، لذا عبّر عنه بالخصاصة.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٠.

١٩١

ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المضيف هو الإمام علي عليه‌السلام وأطفاله الحسن والحسين عليهم‌السلام ، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعا هي فاطمة الزهراء عليها‌السلام (١).

ويجدر الانتباه هنا إلى أنّ القصّة الاولى يمكن أن تكون سببا لنزول الآية ، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.

وبناء على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام علي عليه‌السلام.

وذكر البعض ـ أيضا ـ أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة احد ، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش ، فجيء بماء يكفي لأحدهم ، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه ، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه ، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضا ، وحتّى انتهى إليهم جميعا وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا (٢).

ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير ، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.

وفي نهاية الآية ـ ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة ، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق ـ يضيف سبحانه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

«الشحّ» كما يقول الراغب في المفردات : البخل مقترنا بالحرص عادة.

«يوق» من مادّة وقاية ، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول ، إلّا أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه ، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٠.

١٩٢

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : أتدري ما الشحّ؟ فأجاب : هو البخيل ، قال عليه‌السلام : «الشحّ أشدّ من البخل ، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده ، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس ، وعلى ما في يده ، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلّا تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام ، ولا يقنع بما رزقه الله عزوجل» (١).

ونقرأ في حديث ثان : «لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم» (٢).

وبالجملة ، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح ، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته.

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين ، الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين) ، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة.

يقول تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد انتصار الإسلام وفتح مكّة ، إلّا أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة ، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة ، إلّا أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة.

وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم ، الذين

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٩١ ، حديث ٦٤.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦٢.

١٩٣

ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة ، وهم : (المهاجرون والأنصار والتابعون).

جملة (وَالَّذِينَ جاؤُ ...) حسب الظاهر عطف على (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) وذلك لبيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ أموال «الفيء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط ، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

ويحتمل أيضا أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة (وَالَّذِينَ جاؤُ ...) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلّا أنّ التّفسير الأوّل ـ بالنظر إلى انسجامه مع الآيات السابقة ـ هو الأنسب.

والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين :

الاولى : أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم ، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى.

والثّانية : النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والاحترام إلى من سبقهم بالإيمان ، ويطلبون لهم أيضا العفو والمغفرة من الله تعالى.

الثّالثة : أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء ، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق.

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي : (تربية النفس) و (الاحترام للسابقين في الإيمان) و (الابتعاد عن الحسد والبغضاء).

«غلّ» على وزن (سلّ) ، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية ، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة ، يقال لها : «غل». وبناء على هذا فإنّ (الغلّ) ليس فقط بمعنى الحسد ، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقيا.

١٩٤

والتعبير بـ (إخوان) والاستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب ، بل للآخرين أيضا ، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة ، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص ، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.

* * *

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ :

يصرّ بعض المفسّرين ـ بدون الالتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ على اعتبار جميع الصحابة بدون استثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم ، وكلّ خلاف صدر منهم أحيانا سواء في زمن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه ، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصا محترما ومقدّسا بصورة عامّة ، دون الالتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلّا أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم ، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي «المهاجرين» : الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي «الأنصار» : المحبّة للمهاجرين والإيثار ، والابتعاد عن كلّ حرص وبخل.

وفي «التابعين» : بناء أنفسهم ، والاحترام للسابقين في الإيمان ، والابتعاد عن

١٩٥

كلّ بغض وحسد.

ومع كلّ هذا ، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام علي عليه‌السلام في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه ، ولم يراعوا اخوته في الله ، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه ، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان ، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا انتقادهم ، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت.

وبناء على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان ، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم ، سواء على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي ، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم ، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد ، ونقطعها أو نحدّدها ـ بما يناسب ـ مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط ، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.

* * *

١٩٦

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآيات أعلاه ، والذي خلاصته ما يلي :

١٩٧

إنّ قسما من منافقي المدينة ـ كعبد الله بن أبي وأصحابه ـ أرسلوا شخصا إلى يهود بني النضير وأبلغهم بما يلي : أثبتوا في أماكنكم بقوّة ، ولا تخرجوا من بيوتكم ، وحصّنوا قلاعكم ، وسيكون إلى جنبكم ألفا مقاتل من قومنا مدد لكم ، وإنّنا معكم حتّى النهاية. كما أنّ بني قريظة وقبيلة غطفان والمتعاطفين معكم سيلتحقون بكم أيضا.

إنّ هذه الرسالة ـ التي وجّهها المنافق عبد الله بن أبي إلى اليهود بني النضير ـ أوجدت لديهم الإصرار والعناد على مخالفة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن أمره ، وفي هذه الحالة انبرى (سلام) أحد كبار يهود بني النضير إلى «حي بن أخطب» الذي كان أحد وجوه بني النضير وقال له : لا تهتّموا بكلام عبد الله بن أبي ، إنّه يريد أن يدفعكم لقتال محمّد ويجلس في داره ويسلّمكم للحوادث ، قال حي : نحن لا نعرف شيئا إلّا العداء لـ (محمّد) والقتال له ، فأجابه سلام : اقسم بالله أنّي أراهم سيخرجوننا قريبا ويهدرون أموالنا وشرفنا وتؤسر أطفالنا ويقتل مقاتلونا (١).

وأخيرا تبيّن الآيات أعلاه نهاية المطاف لهذا المشهد.

ويعتقد البعض أنّ هذه الآيات نزلت قبل قصّة يهود بني النضير ، حيث تتحدّث عن الحوادث المستقبلية لهذه الوقائع ، وبهذا اللحاظ فإنّهم يعتبرونها إحدى المفردات الغيبية للقرآن الكريم.

ورغم أنّ التعابير التي وردت في الآيات الكريمة كانت بصيغة المضارع وبذلك تؤيّد وجهة النظر هذه ، إلّا أنّ العلاقة بين هذه الآيات والآيات السابقة التي نزلت بعد اندحار بني النضير وإبعادهم عن المدينة ، تؤكّد لنا أنّ هذه الآيات أيضا نزلت بعد هذا الحادث ، ولذا كان التعبير بصيغة المضارع بعنوان حكاية الحال. «فتدبّر»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٣٩ ، وجاء نفس هذا المعنى باختلافات عديدة في تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٩٩.

١٩٨

التّفسير

دور المنافقين في فتن اليهود :

بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة ، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كلّ منهم في الآيات مورد البحث ، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث ، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين ، وهذا هو منهج القرآن الكريم ، حيث يعرّف كلّ طائفة بمقارنتها مع الاخرى.

وفي البداية يتحدّث مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ).

وهكذا فانّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بأمور ثلاثة ، وجميعها كانت كاذبة :

الأوّل : إذا أخرجتم من هذه الأرض فإنّنا سوف لن نبقى بعدكم نتطلّع إلى خواء أماكنكم ودياركم.

والأمر الآخر : إذا صدر أمر ضدّكم من أي شخص ، وفي أيّ مقام ، وفي أي وقت ، فإنّ موقفنا الرفض له وعدم الاستجابة.

والأمر الثالث : إنّه إذا وصل الأمر للقتال فإنّنا سوف نقف إلى جانبكم ولا نتردّد في نصرتكم أبدا.

نعم ، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث ، إلّا أنّ الحوادث اللاحقة أو ضحت كذب ادّعاءاتهم ووعودهم.

ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة ، من شهادة الله عزوجل ، وكون الجملة اسمية ، وكذلك الاستفادة من (إنّ) واللام للتأكيد ، وكلّها تفيد أنّ

١٩٩

الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحدّ لا يمكن فصلهما ، لقد كان المنافقون كاذبين دائما ، والكاذبون منافقين غالبا.

والتعبير بـ (إخوانهم) يوضّح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدّا بين «المنافقين» و «الكفّار» ، كما ركّزت الآيات السابقة على علاقة الاخوة بين المؤمنين ، مع ملاحظة الاختلاف بين الفصيلتين ، وهو أنّ المؤمنين صادقون في اخوتهم لذلك فهم لا يتبرّمون بكلّ ما يؤثرون به على أنفسهم ، على عكس المنافقين حيث ليس لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض ، وتتبيّن حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات الحرجة حيث يتخلّون عن أقرب الناس لهم ، بل حتّى عن إخوانهم ، وهذا هو محور الاختلاف بين نوعين من الاخوة ، اخوة المؤمنين واخوة المنافقين.

وجملة : (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) تشير إلى موقف المنافقين الذي أعلنوه لليهود بأنّهم سوف لن يراعوا التوصيّات والإنذارات التي أطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

ثمّ .. للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه :

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ).

(وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ).

(وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ).

(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).

إنّ اللحن القاطع والقوي لهذه الآيات قد أدخل الرعب والهلع في قلوب المنافقين وأقلق بالهم.

وبالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد معيّن ، إلّا أنّها ـ من المسلّم ـ لا تختص به ، بل بيان أصل عامّ في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام ، بالإضافة إلى الوعود الكاذبة التي يمنحها كلّ منهم للآخر ، وتقرّر بطلان وخواء كلّ هذه الروابط والوعود.

٢٠٠