الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-54-8
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٢٤

الآيات

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

سبب النّزول

نقل أغلب المفسّرين أنّ للآيات الاولى في هذه السورة سببا للنزول ،

١٠١

ومضمونها بشكل عامّ واحد ، بالرغم من وجود اختلافات في الجزئيّات ، إلّا أنّ هذه الاختلافات لا تؤثّر على ما نحتاجه من البحث التّفسيري.

وجاء في تفسير القمّي : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا محمّد بن أبي عبد الله ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولّاد ، عن حمران ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ امرأة من المسلمات أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ فلان زوجي قد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته ، لم ير منّي مكروها أشكوه إليك. قال : فيم تشكينه؟ قالت : إنّه قال : أنت عليّ حرام كظهر أمّي ، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عزوجل وإلى رسول الله وانصرفت.

قال : فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله في زوجها وما شكت إليه وأنزل الله في ذلك قرآنا : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ـ إلى قوله ـ (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

قال فبعث رسول الله إلى المرأة ، فأتته فقال لها : جيئي بزوجك ، فأتته فقال له : أقلت لامرأتك هذه : أنت حرام عليّ كظهر امّي؟ فقال : قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) ، فضمّ إليك امرأتك فإنّك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفى الله عنك وغفر لك ولا تعد.

قال : فانصرف الرجل وهو نادم على ما قاله لامرأته ، وكره الله عزوجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يعني ما قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمّي.

قال : فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الأوّل فإنّ عليه «تحرير رقبة من

١٠٢

قبل أن يتماسّا ـ يعني مجامعتها ـ ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكينا ، قال : فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثمّ قال : «ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله» قال : هذا حدّ الظهار» (١).

وكما قلنا فإنّ كثيرا من المفسّرين ذكروا لها هذا السبب للنزول ، ومن جملتهم القرطبي ، وروح البيان ، وروح المعاني ، والميزان ، والفخر الرازي ، وفي ظلال القرآن ، وأبو الفتوح الرازي وكنز العرفان ، وكثير من كتب الحديث والتاريخ مع وجود اختلافات.

* * *

التّفسير

الظهار عمل جاهلي قبيح :

بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول ، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت في السورة ، فإنّ الآيات الاولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

«تجادل» من المجادلة مأخوذة من مادّة (جدل) وتعني في الأصل (فتل الحبل) ولأنّ الجدال بين الطرفين وإصرار كلّ منهما على رأيه في محاولة لإقناع صاحبه ، اطلق على هذا المعنى لفظ (المجادلة).

ثمّ يضيف تعالى : (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما).

«تحاور» من مادّة (حور) على وزن (غور) بمعنى المراجعة في الحديث أو الفكر ، وتطلق كلمة «المحاورة» على بحث بين طرفين.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٦ مع تلخيص قليل.

١٠٣

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) نعم إنّ الله عالم بكلّ المسموعات والمرئيات ، بدون أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع ، لأنّه حاضر وناظر في كلّ مكان ، يرى كلّ شيء ويسمع كلّ حديث.

ثمّ يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوّة على هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ).

«الامّ» و «الولد» ليس بالشيء الذي تصنعه الألفاظ ، بل إنّهما حقيقة واقعية عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ ، وبناء على هذا فإذا حدث أن قال الرجل لزوجته مرّة : (أنت عليّ كظهر امّي) فإنّ هذه الكلمة لا تجعل زوجته بحكم والدته ، إنّه قول هراء وحديث خرافة.

ويضيف تعالى مكمّلا الآية : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (١).

وبالرغم من أنّ قائل هذا الكلام لا يريد بذلك الإخبار ، بل إنّ مقصوده إنشائي ، يريد أن يجعل هذه الجملة بمنزلة (صيغة الطلاق) إلّا أنّ محتوى ذلك واه ، ويشبه بالضبط خرافة (جعل الولد) حين كانوا في زمن الجاهلية يتبنّون طفلا معيّنا كولد لهم ، ويجرون أحكام الولد عليه ، حيث أدان القرآن الكريم هذه الظاهرة واعتبرها عملا باطلا ولا أساس له ، حيث يقول عزوجل : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) (٢) ، وليس له أي واقعية.

وتماشيا مع مفهوم هذه الآية فإنّ «الظهار» عمل محرّم ومنكر ، ومع أنّ التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة ، إلّا أنّها ملزمة لحظة نزول الحكم ، ولا بدّ عندئذ من ترتيب الأثر ، حيث يضيف الله سبحانه هذه الآية : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ

__________________

(١) «زور» في الأصل بمعنى الانحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضا بمعنى الانحراف ، ولأن حدود الكذب والباطل منحرفة عن الحق ، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضا بهذا اللحاظ.

(٢) الأحزاب ، الآية ٤.

١٠٤

غَفُورٌ).

وبناء على هذا فإذا كان المسلم قد ارتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا بأس عليه لأنّ الله سيعفو عنه.

ويعتقد بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ «الظهار» ذنب مغفور الآن ، كما في الذنوب الصغيرة حيث وعد الله بالعفو عنها (١) ـ في صورة ترك الكبائر ـ إلّا أنّه لا دليل على هذا الرأي ، والجملة أعلاه لا تقوى أن تكون حجّة في ذلك.

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الكفّارة باقية بقوّتها.

وفي الحقيقة أنّ هذا التعبير شبيه لما جاء في الآية (٥) من سورة الأحزاب ، حيث يقول سبحانه : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

وذلك بعد نهيه عن مسألة التبنّي.

ويثار تساؤل عن الفرق الموجود بين (العفوّ) و (الغفور).

قال البعض : (العفو) إشارة إلى الله تعالى (الغفور) إشارة إلى تغطية الذنوب إذ أنّ من الممكن أن يعفو شخص عن ذنب ما ، ولكن لا يستره أبدا ، غير أنّ الله تعالى يعفو ويستر في نفس الوقت.

وقيل أنّ «الغفران» هو الستر من العذاب ، حيث أنّ مفهومها مختلف عن العفو بالرغم من أنّ النتيجة واحدة.

إلّا أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئا يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه ، لذلك فقد جعل له كفّارة ثقيلة نسبيّا كي يمنع من تكراره ، وذلك بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).

__________________

(١) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ كما يلاحظ في الميزان إشارة لهذا المعنى أيضا.

١٠٥

وقد ذكر المفسّرون احتمالات عديدة في تفسير جملة : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) حيث ذكر المقداد ـ في كنز العرفان ستّة تفاسير لها ، إلّا أنّ الظاهر ـ خصوصا بالنظر إلى جملة : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ـ أنّ هؤلاء قد ندموا لقولهم وأرادوا الرجوع إلى حياتهم العائلية ، وقد ذكر هذا المعنى في روايات أهل البيت عليهم‌السلام أيضا (١).

وذكرت تفاسير اخرى لهذا المقطع من الآية ، إلّا أنّها لا تتناسب بصورة تامّة مع معنى الآية ونهايتها. منها أنّ المراد من «العود» هو تكرار الظهار ، أو أنّ المقصود من العود هو العودة إلى السنّة الجاهلية في مثل هذه الأمور ، أو أنّ العود بمعنى تدارك وتلافي هذا العمل وما إلى ذلك (٢).

«رقبة» جاءت هنا كناية عن الإنسان ، وهذا بلحاظ أنّ الرقبة أكثر أعضاء الجسم حسّاسية ، كما تأتي كلمة «رأس» بهذا المعنى ، لذا فإنّه يقال بدلا من خمسة أشخاص ـ مثلا ـ خمسة رؤوس.

ثمّ يضيف تعالى : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ).

أي يجب ألّا تتصوّروا أنّ مثل هذه الكفّارة في مقابل الظهار ، كفّارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل. إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم ، والكفّارة عامل مهمّ في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرّمة ، ومن ثمّ السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.

وأساسا فإنّ جميع الكفّارات لها جنبة روحية وتربوية ، والكفّارات المالية يكون تأثيرها غالبا أكثر من التعزيرات البدنية.

ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفّارة بأعذار واهية في موضوع الظهار ، يضيف عزوجل أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.

(٢) يراجع كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ ، ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٧.

١٠٦

خَبِيرٌ).

إنّه عالم بالظهار ، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفّارة ، وكذلك بنيّاتكم! ولكن كفّارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لا حظنا ذلك ـ في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة ، حيث أنّ «أوس بن الصامت» ـ الذي نزلت الآيات الاولى بسببه ـ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي غير قادر على دفع مثل هذه الكفّارة الثقيلة ، وإذا فعلت ذلك فقدت جميع ما أملك. وقد يتعذّر وجود المملوك. ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتّى مع قدرته المالية ، كما في عصرنا الحاضر ، لهذا كلّه ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة ، حيث يقول عزوجل : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).

وهذا اللون من الكفّارة في الحقيقة له أثر عميق على الإنسان ، حيث أنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس ، فإنّ له تأثيرا عميقا وفاعلا في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.

ومن الواضح ـ كما في ظاهر الآية ـ أنّ مدّة الصوم يجب أن تكون ستّين يوما متتابعا ، وكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا طبقا لظاهر الآية ، إلّا أنّه قد ورد في روايات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المكلّف إذا صام أيّام قلائل حتّى ولو يوما واحدا بعد صوم الشهر الأوّل ، فإنّ مصداق التتابع في الشهرين يتحقّق ، وهذا الرأي حاكم على ظاهر الآية (١).

وهذا يوضّح لنا أنّ المقصود من التتابع في الآية أعلاه والآية (٩٢) من سورة النساء في موضوع كفّارة القتل غير المتعمّد. أنّ المقصود هو التتابع بصورة إجمالية.

__________________

(١) يراجع وسائل الشيعة ، ج ٧ ، ص ٢٧١ ، الباب الثالث من أبواب بقية الصوم الواجب.

١٠٧

وطبيعي أنّ مثل هذا التّفسير لا يسمع إلّا من إمام معصوم ، حيث أنّه وارث لعلوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا النوع من الصيام يكون تسهيلا للمكلّفين.

(تراجع الكتب الفقهية في الصوم وأبواب الظهار وكفّارة القتل ، للحصول على شرح أو فى حول هذا الموضوع) (١).

وضمنا فإنّ المقصود من جملة : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) لا يعني عدم وجود أصل المال لديه ، بل المقصود منه ألّا يوجد لديه فائض على احتياجاته وضروريات حياته كي يشتري عبدا ويحرّره.

ولأنّ الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفّارة الثانية ، وهي صوم الشهرين المتتابعين ، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً).

والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام ، إلّا أنّ الروايات الإسلامية ذكرت أنّ المقصود بذلك هو (مدّ) لإطعام كلّ واحد (والمدّ يعادل ٧٥٠ غم) رغم أنّ بعض الفقهاء قد حدّدها بمدّين أي ما يعادل (٥٠٠ ، ١) غم (٢).

ثمّ يشير تعالى في تكملة الآية مرّة اخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه الكفّارات : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

نعم إنّ إزالة الذنوب بوسيلة الكفّارات تقوّي أسس الإيمان ، وتربط الإنسان

__________________

(١) إذا كان المقصود هو توالي الشهرين وليس توالي جميع أيّامها ، فإنّ هذا النوع من التوالي يحصل بمجرّد البدء في الشهر الثاني (يرجى ملاحظة ذلك).

(٢) المشهور بين الفقهاء ـ كما قلنا سابقا ـ هو (مدّ واحد) ودليله روايات كثيرة لعلّها بلغت حدّ التواتر ، فقد ورد بعضها في كفّارة القتل الخطأ ، وبعض في كفّارة القسم ، وبعض في كفّارة شهر رمضان ، بضميمة أنّ الفقهاء لم يوجدوا أي فرق بين أنواع الكفّارات ، إلّا أنّه نقل عن المرحوم الطوسي في الخلاف والمبسوط والنهاية والتبيان أنّ مقدار الكفّارة (مدّان) ، وفي هذا المجال يستدلّ الشيخ رحمه‌الله برواية أبي بصير التي وردت في كفّارة الظهار حيث عيّن حدّها (مدّين). إلّا أنّ هذه الرواية إمّا أن تكون مخصوصة في كفّارة الظهار ، أو أنّها تحمل على الاستحباب.

١٠٨

بالتعاليم الإلهيّة قولا وعملا.

وفي نهاية الآية يؤكّد سبحانه بصورة قاطعة على الالتزام بأوامره حيث يقول : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ).

ويجدر الانتباه إلى أنّ مصطلح (الكفر) له معاني مختلفة ، منها «الكفر العملي» الذي يعني المعصية واقتراف الذنوب ، وقد أريد في الآية الكريمة هذا المعنى ، وكما جاء في الآية (٩٧) من سورة آل عمران بالنسبة للمتخلّفين عن أداء فريضة الحجّ ، حيث يقول سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

«حدّ» بمعنى الشيء الذي يفصل بين شيئين ، ومن هنا يقال لحدود البلدان (حدود) وبهذا اللحاظ يقال للقوانين الإلهية إنّها حدود ، وذلك لحرمة تجاوزها ، ولدينا شرح أوفى في هذا المجال في نهاية الآية (١٨٧) من سورة البقرة.

* * *

ملاحظات

١ ـ قسم من أحكام الظهار

أشير للظهار بآيتين في القرآن الكريم (الآية مورد البحث ، والآية رقم (٤) من سورة الأحزاب) وهو من الأعمال والعادات القبيحة في عصر الجاهلية ، حيث يمارس هذا الفعل في حالة سأم وضجر الرجل من زوجته ، وكي يوقعها في حرج ويركعها لإرادته يقول لها (أنت عليّ كظهر امّي) (١) وكانوا يعتقدون بعد إطلاق هذه الصيغة أنّ الزوجة تحرم على زوجها إلى الأبد ، ولا تستطيع أن تختار زوجا آخر

__________________

(١) «ظهر» في العبارة أعلاه ليس بمعناها المتعارف عليه كما قال بعض المفسّرين ، بل إنّها كناية عن طبيعة العلاقة الزوجية الجاهلية ، وبناء على هذا فإنّ معنى الجملة يصبح هكذا (الزوجية معك كالزوجية مع أمّي) يراجع لسان العرب مادّة ظهر والتّفسير الكبير للفخر الرازي.

١٠٩

لها.

وقد أدان الإسلام هذا التصرّف وشرّع له حكم الكفّارة.

وبناء على هذا فكلّما جعل الرجل على زوجته ظهارا فإنّ الزوجة تستطيع أن تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه ، إمّا أن يطلّقها بصورة شرعية ، أو يرجعها إلى حالتها الزوجية السابقة ، بعد دفعه للكفّارة بالصورة التي مرّت بنا سابقا ، وهي إمّا تحرير رقبة في حالة القدرة ، أو صوم شهرين متتابعين في حالة الاستطاعة ، وإلّا فإطعام ستّين مسكينا ، وهذا يعني أنّ خصال الكفّارة ليست مخيّرة ، بل مرتّبة.

٢ ـ الظهار من كبائر الذنوب

لحن الآيات أعلاه شاهد معبّر عن هذا المضمون ، والبعض يعتبرونه من الصغائر ومورد عفو ، إلّا أنّها نظرة خاطئة.

٣ ـ إذا كان الشخص غير قادر على أداء الكفّارة بمختلف صورها ، فهل يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية السابقة بالتوبة والاستغفار فقط؟

هنالك وجهات نظر مختلفة بين الفقهاء حول هذه المسألة ، فقسم منهم ـ بالاستناد على الحديث المنقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام (١) ـ يعتقد أنّ التوبة والاستغفار تكفي في الكفّارات ـ عند عدم القدرة ـ إلّا في كفّارة الظهار حيث لا تكفي التوبة وتجب الكفّارة.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الاستغفار والتوبة تعوضان عن الكفّارة ، ودليلهم هو الرواية الأخرى التي نقلت عن الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا المجال (٢).

ويعتقد آخرون بوجوب صوم ثمانية عشر يوما في هذه الصورة (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٤٤ ، (حديث ١ باب ٦).

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٥٥ ، حديث ٤.

(٣) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٢٩٢.

١١٠

والجمع بين الروايات لا يستبعد أيضا ، ففي صورة عدم القدرة بكلّ شكل من الأشكال السابقة ، فإنّه يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية مستغفرا الله ، بالرغم من أنّ المستحبّ في مثل هذه الحالة أن يطلّق زوجته (لأنّ مثل هذا الجمع جمع معروف وتوجد له مظانّ كثيرة في الفقه ، وذلك بالنظر إلى صحّة سند الحديثين).

٤ ـ يرى الكثير من الفقهاء أنّ الشخص إذا كرّر الظهار عدّة مرّات (يعني الجملة السابقة بقصد جدّي) يجب أن يدفع عدّة كفّارات ، بالرغم من أنّ التكرار حدث في جلسة واحدة. إلّا أن يكون مقصوده من التكرار هو التأكيد ، وليس الظهار الجديد.

٥ ـ إذا قارب زوجته قبل الكفّارة وجبت عليه كفّارتان ، كفّارة للظهار وكفّارة للمواقعة الجنسية ، وهذا الحكم مورد اتّفاق بين الفقهاء ، والآيات أعلاه لم تذكر هذه المسألة ، إلّا أنّ روايات أهل البيت عليهم‌السلام أشارت إليها (١).

٦ ـ التعامل القاطع الجدّي مع مسألة الظهار ، تؤكّد على حقيقة أنّ الإسلام لا يسمح أبدا أن تهضم حقوق المرأة عن طريق تسلّط الرجال واستبدادهم ، وذلك باستثمار الأعراف والتقاليد الظالمة ، حيث أنّ السنّة الخاطئة والخرافية في هذا المجال كلّما كانت مستحكمة كان تأثيرها المدمّر أقوى.

٧ ـ بالنسبة لموضوع (تحرير الرقبة) والتي هي أوّل كفّارة للظهار ، فبالإضافة إلى كونها إجراء مناسبا للقضاء على ظاهرة المرأة في قبضة الاستبداد ، فإنّما تمثّل رغبة الإسلام في القضاء على العبودية بكلّ طريق ، وذلك ليس فقط في كفّارة الظهار بل في كفّارة القتل الخطأ ، وكفّارة عدم صيام شهر رمضان ـ الإفطار المتعمّد ـ وكذلك في كفّارة مخالفة القسم ، أو عدم الوفاء بالنذر.

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٥٢٦ ، الأحاديث (١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦).

١١١

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

التّفسير

أولئك أعداء الله :

إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الالتزام بالحدود الإلهيّة وعدم تجاوزها ، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدّث عن

١١٢

الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب ، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله ، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك.

يقول سبحانه في البداية : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

«يحادون» من مادّة (محادة) بمعنى الحرب المسلّحة والاستفادة من الحديد وقال أيضا للحرب غير المسلّحة.

وقال البعض : إنّ (المحادّة) في الأصل بمعنى الممانعة من مادّة (حدّ) والتي تجيء بمعنى المانع بين شيئين ، ولذلك يقال للحارس (حداد) ، والمعنيان من حيث النتيجة متقاربان بالرغم من أنّهما مأخوذان من أصلين مختلفين.

«كبتوا» من مادّة (كبت) على وزن (ثبت) بمعنى المنع بذلّة ، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل (١).

وهذا التعبير شبيه ما ورد في الآية (١١٤) من سورة البقرة التي تتحدّث عن الأشخاص الذين يمنعون الناس من المساجد وعبادة الله سبحانه ، ويحاربون مبدأ الحقّ حيث يقول سبحانه : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

أو كما ورد في الآية (٣٣) من سورة المائدة في الحديث عن مصير الأشخاص الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض حيث يقول : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ثمّ يضيف الباري سبحانه : (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ).

وبناء على هذا فقد تمّت الحجّة بشكل كامل ، ولم يبق عذر ، وحجّة للمخالفة ، ومع ذلك فإن خالفوا ، فلا بدّ من أن يجازوا ، ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في

__________________

(١) فسّر بعض المفسّرين (كتبوا) بمعنى اللعنة ، ولأنّ اللعنة من قبل الله تعالى القادر على كلّ شيء دليل على تحقيقها ، فالنتيجة هي الذلّة والهوان لهذه المجموعة في الدنيا ، إلّا أنّ ظاهر تعبير الآية أنّها جملة خبريّة وليست إنشائية.

١١٣

القيامة : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

وبهذه الصورة فقد أشير إلى عذابهم الدنيوي في الجملة السابقة ، وفي هذه الجملة إلى العذاب الاخروي ، والشاهد على هذا المعنى في الآية الكريمة التالية : (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما أنّ الآية اللاحقة تؤكّد هذا المعنى أيضا.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن الكريم قد تحقّق ، حيث واجهوا الذلّة والانكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك ، وأخيرا في فتح مكّة حيث كسرت شوكتهم وأحبط كيدهم بانتصار الإسلام في كلّ مكان.

والآية اللاحقة تتحدّث عن استعراض زمان وقوع العذاب الاخروي عليهم حيث يقول عزوجل : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) (١) نعم (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ).

ولذا فعند ما تقدّم لهم صحيفة أعمالهم يصرخون : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٢).

وهذا بحدّ ذاته عذاب مؤلم ، لأنّ الله تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول البارئ سبحانه : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

وهذه في الحقيقة بمثابة الدليل على ما ورد في الجملة السابقة ، فانّ حضور الله سبحانه في كلّ مكان وفي كلّ زمان وفي الداخل والخارج ، يوجب ألّا يحصي أعمالنا ـ فقط ـ بل نيّاتنا وعقائدنا ، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو «يوم البروز» يعرف كلّ شيء. ولكي يعلم الإنسان السبب في صعوبة الجزاء الإلهي.

__________________

(١) يوم ظرف ومتعلّق بالكافرين أو بالمهيمن ، والاحتمال الأوّل أنسب ، واختاره كثير من المفسّرين. واحتمال البعض انّ المتعلّق مقدّر بمعنى (اذكر) مستبعد.

(٢) الكهف ، الآية ٤٩.

١١٤

ولتأكيد حضور الله سبحانه في كلّ مكان وعلمه بكلّ شيء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى» حيث يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ).

بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ المقصود هو عموم الناس (١) ، ومقدّمة لبيان مسألة النجوى.

ثمّ يضيف تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢).

نلاحظ هنا عدّة نقاط تستحقّ الانتباه :

١ ـ «النجوى» و «النجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي انفصل عن أطرافه وجوانبه بسبب ارتفاعه ، ولأنّ الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل في مكان بعيد عن الآخرين ، أو بلحاظ أنّ المتحدّث بالنجوى يريد أن ينجي أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين.

٢ ـ يرى البعض أنّ «النجوى» يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر ، وإذا كانت بين شخصين فيقال لها (سرار) على وزن (ستار) إلّا أنّ هذا خلاف ظاهر الآية ، لأنّ الجملة : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) تشير إلى أقلّ من ثلاثة أشخاص ـ أي شخصين ـ ومن الطبيعي أنّه إذا تناجى شخصان فلا بدّ من أن يكون شخص ثالث قريب منهما ، وإلّا فلا ضرورة للنجوى. إلّا أنّ ذلك لا يرتبط بما ذكرنا.

٣ ـ والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ الآية أعلاه تحدّثت في البداية عن نجوى ثلاثة ، ومن ثمّ عن نجوى خمسة ، ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص والتي هي بين المرتبتين (ثلاثة وخمسة) ، وبالرغم من أنّ كلّ ذلك جاء من باب

__________________

(١) «ألم تر» : من مادّة (رؤية) في الأصل بمعنى المشاهدة الحسيّة ، إلّا أنّها في كثير من الموارد جاءت بمعنى الشهود القلبي والعلم والمعرفة.

(٢) «نجوى» بالرغم من أنّها مصدر إلّا أنّها جاءت هنا اسم فاعل ، أي من قبيل (زيد عادل).

١١٥

المثال ، إلّا أنّ بعض المفسّرين ذكروا له وجوها مختلفة ، وأنسبها أنّ المقصود بذلك رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار ، لأنّه إذا قال تعالى (كلّ ثلاثة أشخاص يتناجون فإنّ الله رابعهم ، وكلّ أربعة أشخاص يتناجون فإنّ الله خامسهم) فإنّ العدد (أربعة) يتكرّر هنا ، وهذا بعيد عن البلاغة. وقال البعض : إنّ هذه الآيات نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور.

٤ ـ المقصود من أنّ «الله» رابعهم أو سادسهم هو أنّ الله عزوجل موجود حاضر وناظر في كلّ مكان وعالم بكلّ شيء ، وإلّا فإنّ ذاته المقدّسة لا مكان لها ، ولا يوصف بالعدد أبدا ، ووحدانيّته أيضا ليست وحدة عدديّة ، بل بمعنى أنّه لا شبيه له ، ولا نظير ولا مثيل.

٥ ـ وجدير بالذكر أنّ الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى ، حيث تؤكّد الآية أنّ الله مع الإنسان في كلّ مكان ، وسوف يطلع الإنسان على أعماله يوم القيامة .. وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه ، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكلّ شيء.

٦ ـ نقل بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية ، ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص ، هم (ربيعة وحبيب وصفوان) كانوا يتحدّثون مع بعضهم ، وقال أحدهم للآخر : هل يعلم الله ما نقول؟ قال الثاني : قسم يعلمه وقسم لا يعلمه. وقال الثالث : إذا كان يعلم قسما منه فإنّه يعلم جميعه ، فنزلت الآية وأعلنت أنّ الله تعالى حاضر في كلّ نجوى وفي كلّ مكان في الأرض وفي السماء ، كي يتّضح خطأ الغافلين عمي القلوب (١).

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٦٥.

١١٦

بحث

حضور الله سبحانه في كلّ نجوى :

تقدّم آنفا أنّ الله تعالى ليس جسما وليست له عوارض جسمانية ، ومن هنا فلا يمكن أن نتصوّر له زمانا أو مكانا ، ولكن توهّم أن يوجد مكان لا يكون لله عزوجل فيه حاضرا وناظرا يستلزم القول بتحديده سبحانه.

وبتعبير آخر فإنّ لله سبحانه إحاطة علمية بكلّ شيء في الوقت الذي لا يكون له مكان ، مضافا إلى أنّ ملائكته حاضرون في كلّ مكان ، ويسمعون كلّ الأقوال والأعمال ويسجّلونها.

لذا نقرأ في حديث لأمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «إنّما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه ، وإن فعلهم فعله» (١).

وطبيعي أنّ هذا هو بعد من أبعاد الموضوع ، وأمّا البعد الآخر فيطرح فيه حضور ذات الله عزوجل ، كما نقرأ في حديث آخر هو أنّ أحد كبار علماء النصارى سأل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أين الله؟ قال عليه‌السلام : هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ، ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (٢).

وفي الحديث المعروف (الإهليلجة) نقرأ عن الإمام الصادق عليه‌السلام : إنّ الله تعالى سمّي «السميع» بسبب أنّه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلّا هو رابعهم ... ثمّ أضاف : يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء ، لا يخفى عليه خافية ، ولا شيء ممّا تدركه الأسماع والأبصار ، وما لا تدركه الأسماع والأبصار ، ما جلّ من ذلك وما دقّ وما صغر وما كبر (٣).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، حديث ٢٠.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٩ ، الحديث ٢٣.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٥٨ ، حديث ٢١.

١١٧

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

سبب النّزول

نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الاولى أعلاه ، وكلّ واحدة منهما تخصّ

١١٨

قسما من الآية الكريمة.

تقول الرواية الاولى : إنّ الآية نزلت في اليهود والمنافقين حيث كانوا يتناجون فيما بينهم بمعزل عن المؤمنين ، مع الإشارة إليهم بأعينهم غمزا ، فلمّا رأى المؤمنون نجواهم ظنّوا أنّ سوءا حصل لإخوانهم في السرايا فحزنوا لذلك ، وبثّوا حزنهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرهم الرّسول ألّا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية أعلاه وهدّدتهم بشدّة (١).

أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التّفسير أنّ قسما من اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدلا من قولهم له : السّلام عليكم ، قالوا : أسام عليك يا أبا القاسم (والتي تعني الموت عليك أو الملالة والتعب) فكان ردّ الرّسول عليهم (وعليكم) تقول عائشة : إنّي فهمت مرادهم وقلت : (عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عائشة عليك بالرفق وإيّاك العنف والفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يولون السام؟ فقال : وأما سمعت ما أقول عليكم فأنزل الله تعالى : (إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ ...) (٢).

التّفسير

النجوى من الشيطان :

البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة ، يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ).

ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٩.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٨ ، ص ١٣.

١١٩

ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظنّ عند الآخرين وتسبّب لهم القلق ، إلّا أنّهم لم يعيروا أي اهتمام لمثل هذا التحذير ، والأدهى من ذلك أنّ نجواهم كانت تدور حول ارتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله.

والفرق بين «الإثم» و «العصيان» و «معصية الرّسول» ، هو أنّ «الإثم» يشمل الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر ، أمّا «العدوان» فإنّها تعني التجاوز على حقوق الآخرين ، وأمّا «معصية الرّسول» فإنّها ترتبط بالأمور والتعليمات التي تصدر من شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية ، ويتصدّى لمصالح المجتمع الإسلامي. وبناء على هذا فإنّهم يطرحون في نجواهم كلّ عمل مخالف ، وهو أعمّ من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة الإسلامية وشخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والتعبير بـ (يعودون) و (يتناجون) جاء هنا بصيغة مضارع ، حيث يوضّح لنا أنّ هذا العمل يتكرّر باستمرار ، وقصدهم به إزعاج المؤمنين.

وعلى كلّ حال ، فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر خطّهم المنحرف.

واستمرارا لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود ، حيث يقول تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ).

«حيّوك» من مادّة (تحية) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاخرى ، والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو : (السّلام عليكم) أو (سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنّة ، ومن جملتها قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١).

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٨١.

١٢٠