الأشباه والنظائر في النحو - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

الأشباه والنظائر في النحو - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: غريد الشيخ
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

مسألة : على ما يرتفع الاسم بعد منذ؟

قال أبو البقاء في (التبيين) : اختلف في الاسم المرفوع بعد (منذ) ، نحو ما رأيته منذ يومان على أي شيء يرتفع؟ على ثلاثة مذاهب :

أحدها : أنّ (منذ) مبتدأ ، وما بعده خبر. والتقدير : أمد ذلك يومان (١) ، وقال بعض الكوفيّين : يومان فاعل ، تقديره : منذ مضى يومان.

وقال الفرّاء (٢) : موضع الكلام كلّه نصب على الظرف ، أي : ما رأيته من الوقت الذي هو يومان.

قال : وهذا كلّه مبنيّ على الخلاف في أصل منذ. وقد قال الأكثر : إنها مفردة. وقال الفرّاء : أصلها (من) و (ذو) الطائية بمعنى (الذي). وقال غيره من الكوفيين : أصلها من (إذ). ثم حذفت الهمزة ، وضمّت الميم.

باب القسم

مسألة : الاختلاف في ايمن الله

قال ابن النحّاس في (التعليقة) : اختلف النحاة في (ايمن الله) هل هي كلمة مفردة موضوعة للقسم أم هي جمع؟ وينبني على هذا الخلاف خلاف في همزتها أهي همزة قطع أم همزة وصل؟.

فمذهب البصريين أنّ (ايمن) كلمة مفردة موضوعة للقسم ، وأن همزتها همزة وصل. ومذهب الكوفيين أنّ (أيمن) جمع يمين ، وهمزتها همزة قطع.

باب التعجب

مسألة : الاختلاف في أفعل به

قال ابن النحّاس في (التعليقة) : اختلف النحاة في قولنا : أفعل به : في التعجّب ، هل معناه أمر أو تعجب مع إجماعهم على أنّ لفظه لفظ الأمر؟.

فذهب الكوفيون إلى أنّ معناه أمر كلفظه.

وذهب البصريون إلى أن معناه التعجب على الخلاف في التعجب : هل هو إنشاء أو خبر؟ قال : وينبني على هذا الخلاف خلاف في الجارّ والمجرور : هل هو في موضع نصب أو رفع؟

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (٨ / ٤٥) ، ومغني اللبيب (٤٢٢).

(٢) انظر شرح المفصّل (٨ / ٤٥).

١٦١

فمن قال بأنّ معنى أفعل الأمر ، وأنّ فيه فاعلا مستترا قال بأنّ الجارّ والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول. ويكون الباء عنده إما للتعدية كمررت به أو زائدة مثل : قرأت بالسورة.

ومن قال بأن معنى أفعل التعجّب لا الأمر ، قال بأن الجارّ والمجرور في موضع رفع بالفاعلية ، ولا ضمير في أفعل ، وتكون الباء عند هذا القائل زائدة مع الفاعل ، مثلها في : كفى بالله.

مسألة : لزوم أل في فاعل فعل

قال ابن النحّاس : لزوم الألف واللام في فاعل ، فعل (١) ، فيه خلاف مبنيّ على الخلاف في فعل الذي للمبالغة ، هل هو من باب نعم وبئس. أو من باب التعجب؟.

فمن قال : هو من باب نعم وبئس اشترط في الفاعل لزوم الألف واللام وغيره ما يشترطه في فاعل نعم وبئس.

ومن قال : هو من باب التعجّب لم يشترط في فاعله الألف واللام.

وباب التعجب فيه أظهر بدليل جواز دخول الباء الزائدة فيه مع الفاعل ، كما دخلت في باب التعجب في أفعل به.

باب التوكيد

مسألة : وقوع كل من أكتع وأخواتها منفردة

قال ابن النحاس : هل يجوز أن يقع كلّ واحد من أكتع ، وأبصع ، وأبتع تأكيدا بمفرده؟ فيه ثلاثة مذاهب :

أحدها : نعم.

والثاني : لا ، بل يكون بعد أجمع تابعا بالترتيب ، كما ذكرنا.

والثالث : يجوز أن يقدّم بعضها على بعض بشرط تقديم ، أجمع ، قبلهن.

قال وهذا الخلاف مبنيّ على أنه هل لكلّ واحد منهنّ معنى في نفسه أم لا؟ فإن قيل : لا معنى لها إلا الإتباع فلا بدّ من تقدم أجمع. وإن قيل : بأنّ لها معاني جاز أن تستعمل بأنفسها ، انتهى.

__________________

(١) انظر شرح الكافية (٢ / ٣١٩).

١٦٢

باب النداء

مسألة : الاختلاف في (اللهم)

اختلف في (اللهمّ) (١) ، فمذهب البصريين أنّ الميم عوض من حرف النداء. ومذهب الكوفيين أنّها بقيّة من جملة محذوفة. والأصل : يا الله آمنا بخير. وينبني على هذا الخلاف جواز إدخال (يا) على اللهم. فعند البصريين لا يجوز ، لأنه لا يجمع بين العوض والمعوّض ، وعند الكوفيين يجوز ، لأنّ الميم على رأيهم ليست عوضا من (يا).

قال أبو حيّان في (الارتشاف) : اللهمّ ، لا تباشره (يا) في مذهب البصريين ، زعموا أنّ الميم المشدّدة في آخره عوض من حرف النداء ، فلا يجتمعان ، وأجاز الكوفيون أن تباشره (يا) وعندهم : الميم المشدّدة بقيّة من جملة محذوفة قدّروها : آمنا بخير ، وهو قول سخيف ، لا يحسن أن يقوله من عنده علم.

باب إعراب الفعل

مسألة : هل يجوز في المضارع المنصوب

بعد الفاء في الأجوبة الثمانية أن يتقدم على سببه

فيقال : ما زيد فنكرمه يأتينا ، ومتى فآتيك تخرج ، وكم فأسير تسير؟ فيه قولان :

قال البصريون : لا. وقال الكوفيون : نعم. والخلاف مبنيّ على الخلاف في أصل ، وهو أنّ مذهب البصريين في ذلك أنّ النصب بأن مضمرة ، وأنّ الفاء عاطفة عطفت المصدر المقدّر من أن المضمرة والفعل على مصدر متوهّم من الفعل المعطوف عليه والتقدير : لم يكن من زيد إتيان فيكون منّا إكرام. وعلى هذا يمتنع التقديم ، لأنّ المعطوف لا يتقدّم على المعطوف عليه.

ومذهب الكسائيّ (٢) وأصحابه أنّ الناصب هو الفاء نفسها ، وليست عاطفة ، فلا معطوف هنا ، وإنما هو جواب تقدّم على سببه ، مع تقدم بعض الجملة ، فلم يمتنع.

مسألة : هل يجوز الفصل هنا بين السبب ومعموله بالفاء ومدخولها

اختلف هل يجوز الفصل هنا بين السبب ومعموله بالفاء ومدخولها بأن يقال : ما زيد يكرم فنكرمه أخانا. يراد : ما زيد يكرم أخانا فنكرمه؟.

__________________

(١) انظر الإنصاف (٣٤١).

(٢) انظر الإنصاف (٥٥٥).

١٦٣

فمذهب البصريين المنع ، ومذهب الكوفيين الجواز. والخلاف مبنيّ على الخلاف في الأصل السابق.

فالبصريّون يقولون : ما بعد الفاء معطوف على مصدر متوهّم من يكرم.

فكما لا يجوز أن يفصل بين المصدر ومعموله ، كذلك لا يجوز أن يفصل بين يكرم ومعموله ، لأن يكرم في تقدير المصدر.

والكوفيون أجازوه ، لأنه لا عطف عندهم ، ولا مصدر متوهم.

مسألة : رأي في لام الجحود

قال أبو البقاء في (التبيين) : لام الجحود الداخلة على الفعل المستقبل غير ناصبة للفعل ، بل الناصب أن مضمرة وعلى هذا تترتب مسألة ، وهي أنّ مفعول هذا الفعل لا يتقدّم عليه (١).

وقال الكوفيون : اللام هي الناصبة ، فإن وقعت بعدها أن كانت توكيدا وعلى هذا يتقدّم مفعول هذا الفعل عليه.

باب التكسير

مسألة : تكسير همّرش

قال أبو حيّان (٢) : اختلف في تكسير ، همّرش ، فقال بعضهم : يكسّر على همارش. وقال بعضهم : يكسر على هنامر. قال : والسبب في الاختلاف الاختلاف في أصل وزنه ، وفي الحرف الأول المدغم في الثاني ما هو :

فقال قوم : وزنه فعّلل ، والميم زائدة للإلحاق. بجحمرش ، وأدغمت الميم في الميم ، فهو من باب إدغام المثلين.

وقال آخرون : وزنه فعللل والمدغم نون ، وحروفه كلّها أصول ، كحروف قهبلس وجحمرش وصهصلق.

قال : والأول هو الصحيح. والثاني قول الأخفش. وتناقض فيه كلام سيبويه (٣).

__________________

(١) انظر الإنصاف (ص ٥٩٣).

(٢) انظر شرح التسهيل (٦ / ١١١).

(٣) انظر الكتاب (٤ / ٤٧٣).

١٦٤

باب التصغير

مسألة : الاختلاف في تصغير بعض الأسماء

اختلف في تصغير ركب ، وطير ، وصحب ، وسفر على قولين :

أحدهما : ـ وعليه الجمهور (١) ـ أنّها تصغّر على لفظها ، فيقال : ركيب ، وطيير ، وصحيب ، وسفير.

والثاني : ـ وعليه الأخفش ـ أنّها تردّ إلى المفرد فيقال : رويكبون ، وطويرات ، وصويحبون ، ومسيفرون.

والخلاف مبنيّ على الخلاف في هذه الألفاظ ، ما هي؟ وفيها قولان :

أحدهما : ـ وعليه الجمهور ـ أنّها أسماء جموع. وعلى هذا فتعطى حكم المفرد في التصغير على لفظها.

الثاني : ـ وعليه الأخفش ـ أنها جموع تكسير ، وعلى هذا فتردّ إلى مفرداتها ، أشار إلى هذا البناء أبو حيّان.

باب الوقف

مسألة : هل يصح الوقف على المتبوع دون التابع

قال في (البسيط) : فيه خلاف مبنيّ على الخلاف في العامل في التابع.

فإن قلنا : إنّه يقدّر فيه عامل من جنس الأول صحّ ، لأنه يصير جملة مستقلة ، فيستغني عن الأول.

وإن قلنا : العامل فيه هو العامل في المتبوع لم يصحّ. قال والصحيح أنه لا يجوز الوقف. لعدم استقلاله صورة.

مسألة : الوقف على إذا

اختلف في الوقف على إذا ، والصحيح أنّ نونها تبدل ألفا ، تشبيها لها بتنوين المنصوب ، وقيل : يوقف بالنون ، لأنها كنون لن ، وإن ، وروي عن المازني والمبرّد. قال ابن هشام في المغني (٢) : وينبني على الخلاف في الوقف عليها الخلاف في كتابتها ، فالجمهور يكتبونها بالألف والمازنيّ والمبرّد بالنون.

__________________

(١) انظر الكتاب (٣ / ٥٤٧).

(٢) انظر مغني اللبيب (١٦).

١٦٥

مسألة : إذا نكّر يحيى بعد العلمية

إذا نكّر يحيى بعد العلميّة ، فهل يكتب بالياء أو بالألف ، لأنه قد زالت علميّته؟

قال (١) أبو حيّان : يبنى على الخلاف في تعليل كتابة (يحيى) العلم بالياء ، فإن علّلناه بالعلميّة كتبناه بالألف ، لأنه قد زالت علميّته ، وإن علّلنا بالفرق بين الاسم والفعل كتبناه بالياء ، لأنّ الاسميّة موجودة فيه ، انتهى.

تمّ الفنّ الثالث من الأشباه والنظائر للشيخ العلّامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيّ رحمه الله.

__________________

(١) انظر شرح التسهيل (٧ / ٢٠٥).

١٦٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أوجد الخلق ، وجعل لكلّ شيء مظهرين من الجمع والفرق ، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد الذي سناه أضوأ من البرق.

هذا هو الفنّ الرابع من الأشباه والنظائر ، وهو فنّ الجمع والفرق. وهو قسمان :

أحدهما : الأبواب المتشابهة المفترقة في كثير من الأحكام.

والثاني : المسائل المتشابهة المفترقة في الحكم والعلّة وسمّيته : اللمع والبرق في الجمع والفرق.

القسم الأول

ذكر ما افترق فيه الكلام والجملة

قال ابن هشام في (المغني) (١) : الكلام أخصّ من الجملة لا مرادف لها. فإنّ الكلام هو القول المفيد بالمقصد ، والمراد بالمفيد ما دلّ على معنى ، يحسن السكوت عليه. والجملة عبارة عن الفعل وفاعله ، كقام زيد ، والمبتدأ وخبره ، كزيد قائم ، وما كان بمنزلة أحدهما ، نحو : ضرب اللصّ ، وأقائم الزيدان؟ ، وكان زيد قائما ، وظننته قائما. وهذا يظهر لك أنّهما ليسا مترادفين. كما يتوهمه كثير من الناس. وهو ظاهر قول الزمخشريّ في (المفصّل) (٢) ، فإنه بعد أن فرغ من حدّ الكلام قال : ويسمّى الجملة. والصواب أنها أعمّ منه ، إذ شرطه الإفادة بخلافها ، ولهذا تسمعهم يقولون : جملة الشرط ، جملة الجواب ، جملة الصلة. وكلّ ذلك ليس مفيدا ، فليس كلاما ، انتهى.

وقد نازعه بعضهم في ذلك ، وادّعى أنّ الصواب ترادف الكلام والجملة.

وأنصف الشيخ بدر الدين الدمامينيّ ، فذكر ما حاصله أنّ المسألة ذات قولين وأنّ كلّ طائفة ذهبت إلى قول.

قلت : وممن ذهب إلى الترادف ضياء الدين بن العلج صاحب البسيط في

__________________

(١) انظر مغني اللبيب (٤١٩).

(٢) انظر المفصّل (٦).

١٦٧

النحو ، وهو كتاب كبير نفيس في عدّة مجلدات. وأجاب عمّا ذكره ابن هشام في جملة الشرط ، ونحوها.

فقال في البسيط : قولهم إن المبدل منه في نيّة الطّرح ، أي في الأعمّ الأغلب ، فلا يقدح ما يعرض من المانع في بعض الصور ، نحو : جاءني الذي مررت به زيد ، للاحتياج إلى الضمير. قال : ونظيره أنّ الفاعل يطّرد جواز تقديمه على المفعول في الأعم الأغلب ، ولا يقدح في ذلك ما يعرض من المانع في بعض الصور ، وكذلك كلّ جملة مركبة تفيد ، ولا يقدح في ذلك تخلّف الحكم في جملتي الشرط والجزاء فإنها لا تفيد إحداهما من غير الأخرى.

وقال ابن جنّي في (كتاب التعاقب) : ينبغي أن تعلم أنّ العرب قد أجرت كلّ واحدة من جملتي الشرط وجوابه مجرى المفرد ، لأن من شرط الجملة أن تكون مستقلة بنفسها ، قائمة برأسها. وهاتان الجملتان لا تستغني إحداهما عن أختها ، بل كلّ واحدة منهما مفتقرة إلى التي تجاورها ، فجرتا لذلك مجرى المفردين اللذين هما ركنا الجملة وقوامها فلذلك فارقت جملة الشرط ، وجوابه مجاري أحكام الجمل. وقال الشيخ محبّ الدين ناظر الجيش : الذي يقتضيه كلام النحاة تساوي الكلام والجملة في الدّلالة ، يعني : كلّما صدق أحدهما صدق الآخر ، فليس بينهما عموم ، وخصوص ، وأمّا إطلاق الجملة على ما ذكر من الواقعة شرطا أو جوابا أو صلة فإطلاق مجازيّ ، لأن كلّا منها كان جملة قبل ، فأطلقت الجملة عليه باعتبار ما كان ، كإطلاق اليتامى على البالغين ، نظرا إلى أنّهم كانوا كذلك.

وقال الشيخ بهاء الدين بن النحاس في (تعليقه على المقرّب) : الفرق بين الكلام والجملة أنّ الكلام يقال باعتبار الوحدة الحاصلة بالإسناد بين الكلمتين ، ويسمى الهيئة الاجتماعية ، وصورة التركيب ، وأنّ الجملة تقال باعتبار كثرة الأجزاء التي يقع فيها التركيب ، لأنّ لكلّ مركّب اعتبارين : الكثرة والوحدة ، فالكثرة باعتبار أجزائه ، والوحدة باعتبار هيئته الحاصلة في تلك الكثرة. والأجزاء الكثيرة تسمى مادة ، والهيئة الاجتماعية الموحّدة تسمّى صورة.

الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى

عقد له ابن جنّي بابا في (الخصائص) (١). قال : هذا الموضع كثيرا ما يستهوي من يضعف نظره ، إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعة. وذلك كقولهم في تفسير قولنا :

__________________

(١) انظر الخصائص (١ / ٢٧٩).

١٦٨

أهلك والليل معناه : الحق أهلك قبل الليل (١) ، فربّما دعا ذلك من لا دربة له إلى أن يقول : أهلك والليل فيجرّه ، وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل. وكذلك قولنا : زيد قام ، ربّما ظنّ بعضهم أنّ زيدا هنا فاعل في الصنعة ، كما أنه فاعل في المعنى ، وكذلك تفسير معنى قولنا : سرّني قيام هذا وقعود ذاك ، بأنه سرني أن قام هذا ، وأن قعد ذاك ، وربما اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع رفع لأنهما فاعلان في المعنى. ولا تستصغر هذا الموضع ، فإن العرب قد مرّت به ، وشمّت روائحه ، وراعته. وذلك أن الأصمعي أنشد شعرا ممدودا مقيّدا ، التزم الشاعر فيه أن يجعل قوافيه كلّها في موضع جرّ إلا بيتا واحدا ، وهو : [الرجز]

٣٢٣ ـ يستمسكون من حذار الإلقاء

بتلعات كجذوع الصّيصاء

ردي ردي ورد قطاة صماء

كدريّة أعجبها برد الماء

فطرد قوافيها كلّها على الجرّ إلا بيتا واحدا ، وهو قوله :

كأنّها وقد رآها الرّؤّاء

والذي سوّغه ذلك ـ على ما التزمه في جميع القوافي ـ ما كان على سمته من القول ، وذلك أنّه لمّا كان معناه : كأنها في وقت رؤية الرؤاء ، وعلى حال رؤية الرؤاء ، تصوّر معنى الجر من هذا الموضع ، فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات ، وكأنه ، لذلك ، لم يخالف. ونظير هذا عندي قول طرفة : [الرمل]

٣٢٤ ـ في جفان تعتري نادينا

وسديف حين هاج الصّنّبر

يريد الصّنّبر ـ فاحتاج في القافية إلى تحريك الباء ، فتطرق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها ، تشبيها بباب قولهم : هذا بكر ، ومررت ببكر ، وكان يجب على هذا أن يضمّ الباء فيقول : الصنبر ، لأن الراء مضمومة ، إلا أنه تصوّر معنى إضافة الظرف إلى الفعل ، فصار إلى أنه كأنه قال : حين هيج الصنبر ، فلما احتاج إلى حركة الباء تصوّر معنى الجرّ ، فكسر الباء ، وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها. ولو لا ما أوردته من هذا لكان الضمّ مكان الكسر ، وهذا أقرب مأخذا من أن تقول : إنه حرف القافية للضرورة.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٣٣١).

٣٢٣ ـ الرجز لغيلان الربعي في لسان العرب (تلع) ، والخصائص (١ / ٢٨٠) ، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة في لسان العرب (لقا) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٤٢).

٣٢٤ ـ الشاهد لطرفة في ديوانه (ص ٥٦) ، ولسان العرب (صنبر) ، وتهذيب اللغة (١٢ / ٢٧١) ، وتاج العروس (صنبر) ، والخصائص (١ / ٢٨١)

١٦٩

فإن قلت : فإنّ الإضافة في قوله : حين هاج الصّنّبر ، إنما هي إلى الفعل لا إلى الفاعل ، فكيف حرفت غير المضاف إليه؟.

قيل : الفعل مع الفاعل كالجزء الواحد ، وأقوى الجزأين منهما هو الفاعل. فكأن الإضافة إنما هي إليه ، لا إلى الفعل ، فلذلك جاز أن يتصوّر فيه معنى الجرّ.

فإن قلت : فأنت إذا أضفت المصدر إلى الفاعل جررته في اللفظ ، واعتقدت مع هذا أنه في المعنى مرفوع ، فإذا كان في اللفظ أيضا مرفوعا ، فكيف يسوغ لك ـ بعد حصوله في موضعه من استحقاقه الرفع لفظا ومعنى ـ أن تحوّر به فتتوهّمه مجرورا؟

قيل : هذا الذي أردناه وتصوّرناه هو مؤكّد للمعنى الأول ، لأنك كما تصوّرت في المجرور معنى الرفع كذلك تمّمت حال الشبه بينهما ، فتصوّرت في المرفوع معنى الجرّ.

ألا ترى أنّ سيبويه (١) لما شبّه الضّارب الرجل بالحسن الوجه ، وتمثّل ذلك في نفسه ورسا في تصوره زاد في تمكين هذه الحال له ، وتثبيتها عليه بأن عاد فشبّه الحسن الوجه بالضارب الرجل في الجرّ ، كلّ ذلك تفعله العرب ، وتعتقده العلماء في الأمرين ، ليقوى تشابههما ، وتعمر ذات بينهما.

ومن ذلك قولهم في قول العرب : كلّ رجل وصنعته ، وأنت وشأنك معناه : أنت مع شأنك ، وكلّ رجل مع صنعته ، فهذا يوهم من أمم أنّ الثاني خبر عن الأول. كما أنه إذ قال : أنت مع شأنك ، فإن قوله مع شأنك خبر عن أنت. وليس الأمر كذلك ، بل لعمري إنّ المعنى عليه ، غير أنّ تقدير الإعراب على غيره ، وإنّما شأنك معطوف على أنت ، والخبر محذوف للحمل على المعنى. فكأنه قال : كلّ رجل وصنعته مقرونان ، وأنت وشأنك مصطحبان. وعليه جاء العطف بالنصب مع أن ، كما قال : [الطويل]

٣٢٥ ـ أغار على معزاي لم يدر أنّني

وصفراء منها عبلة الصّفرات

ومن ذلك قولهم : أنت ظالم إن فعلت. ألا تراهم يقولون في معناه : إن فعلت فأنت ظالم ، فهذا ربما أوهم أنّ أنت ظالم جواب مقدّم ، ومعاذ الله أن يقدّم جواب الشرط. وإنما قوله : أنت ظالم دالّ على الجواب ، وسادّ مسدّه ، فأما أن يكون هو الجواب فلا.

__________________

(١) انظر الكتاب (١ / ٢٦٣).

٣٢٥ ـ الشاهد بلا نسبة في الخصائص (١ / ٢٨٣) ، واللسان (معز) ، وفيهما (الصّفوات) بدل (الصفرات).

١٧٠

ومن ذلك قولهم : عليك زيدا ، إنّ معناه خذ زيدا. وهو ـ لعمري ـ كذلك ، إلا أن زيدا إنما هو منصوب بنفس عليك من حيث كان اسما لفعل متعدّ ، لا أنه منصوب بخذ.

أفلا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى. فإذا مرّ بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ، ولا تسترسل إليه ، فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه ، وإن كان تقدير الإعراب مخالفا لتفسير المعنى تقبّلت تفسير المعنى على ما هو عليه ، وصحّحت طريق الإعراب ، حتى لا يشذّ شيء منها عليك ، وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه. ألا تراك تفسّر نحو قولهم : ضربت زيدا سوطا ، أنّ معناه ضربت زيدا ضربة بسوط؟ فهو لا شكّ كذلك ، ولكن طريق إعرابه أنه على حذف المضاف ، أي : ضربته ضربة سوط ، ثم حذفت الضربة. ولو ذهبت تتأوّل ضربته سوطا على أنّ تقدير إعرابه ضربة بسوط ، كما أنّ معناه كذلك للزمك أن تقدّر أنك حذفت الباء ، كما تحذف حرف الجرّ في نحو قوله : [البسيط]

٣٢٦ ـ أمرتك الخير [فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب]

[البسيط] :

٣٢٧ ـ أستغفر الله ذنبا [لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل]

فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجرّ ، وقد غنيت عن ذلك كله بقولك : إنه على حذف المضاف ، أي ضربة سوط ، ومعناه ضربة بسوط. فهذا ـ لعمري ـ معناه ، فأمّا طريق إعرابه وتقديره فحذف المضاف ، انتهى.

وقال ابن أبي الربيع في (شرح الإيضاح) : قالوا : لا أفعل هذا بذي تسلم. قال

__________________

٣٢٦ ـ الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص ٦٣) ، والكتاب (١ / ٧٢) ، وخزانة الأدب (٩ / ١٢٤) ، والدرر (٥ / ١٨٦) ، وشرح شواهد المغني (ص ٧٢٧) ، ومغني اللبيب (ص ٣١٥) ، ولخفاف بن ندبة في ديوانه (ص ١٢٦) ، وللعباس بن مرداس في ديوانه (ص ١٣١) ، ولأعشى طرود في المؤتلف والمختلف (ص ١٧) ، ولخفاف بن ندبة أو للعباس بن مرداس في شرح أبيات سيبويه (١ / ٢٥٠) ، وبلا نسبة في شرح المفصّل (٨ / ٥٠) ، وكتاب اللامات (ص ١٣٩) ، والمحتسب (١ / ٥١) ، والمقتضب (٢ / ٣٦).

٣٢٧ ـ الشاهد بلا نسبة في الكتاب (١ / ٧١) ، وأدب الكاتب (ص ٥٢٤) ، وأوضح المسالك (٢ / ٢٨٣) ، وتخليص الشواهد (ص ٤٠٥) ، وخزانة الأدب (٣ / ١١١) ، والدرر (٥ / ١٨٦) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ٤٢٠) ، وشرح التصريح (١ / ٣٩٤) ، وشرح المفصّل (٧ / ٦٣) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢٢٦) ، والمقتضب (٢ / ٣٢١) ، وهمع الهوامع (٢ / ٨٢).

١٧١

يعقوب : المعنى والله يسلمك. فهذا تفسير المعنى ، وأما تفسير اللفظ فتقديره : بذي سلامتك.

وقال ابن مالك في (شرح الكافية) : ومن الاستثناء بليس قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : «يطبع المؤمن على كلّ خلق ليس الخيانة والكذب» (١) أي : ليس بعض خلقه الخيانة والكذب. هذا التقدير الذي يقتضيه الإعراب ، والتقدير المعنوي : يطبع على كلّ خلق لا الخيانة والكذب.

(فائدة) : قال ابن عصفور في (شرح المقرّب) : فإن قيل : لم صار المتعجّب من وصفه على طريقة ما أفعله مفعولا ، وعلى طريقة أفعل به فاعلا ، مع أنّ المعنى عندهم واحد ، وإنّما الباب أن يختلف الإعراب إذا اختلف المعنى؟.

فالجواب : أنّ ذلك من قبيل ما اختلف فيه الإعراب ، والمعنى متّفق ، نحو : ما زيد قائما في اللغة الحجازية ، وما زيد قائم في اللغة التميميّة.

الفرق بين الإعراب التقديري والإعراب المحلي

قال ابن يعيش (٢) : الإعراب يقدّر على الألف المقصورة ، لأنّ الألف لا تحرّك بحركة ، لأنّها مدّة في الحلق ، وتحريكها يمنعها من الاستطالة والامتداد ، ويفضي بها إلى مخرج الحركة. فكون الإعراب لا يظهر فيها لم يكن لأنّ الكلمة غير معربة ، بل لنبوّ في محلّ الحركة ، بخلاف من ، وكم ، ونحوهما من المبنيّات. فإن الإعراب لا يقدّر على حرف الإعراب منها ، لأنه حرف صحيح يمكن تحريكه. فلو كانت الكلمة في نفسها معربة لظهر الإعراب فيه ، وإنما الكلمة جمعاء في موضع كلمة معربة. وكذلك ياء المنقوص لا يظهر فيها حركة الرفع والجرّ لثقل الضمّة والكسرة على الياء المكسور ما قبلها ، فهي نائبة عن تحمّل الضمة والكسرة.

وقال ابن النحاس في (التعليقة) : الفرق بين الموضع في المبنيّ والموضع في المعتلّ أنّا إذا قلنا في قام هؤلاء : إن هؤلاء في موضع رفع ، لا نعني به أن الرفع مقدّر في الهمزة ، كيف ، ولا مانع من ظهوره لو كان مقدّرا فيها ، لأنّ الهمزة حرف جلد يقبل الحركات. وإنما نعني به أنّ هذه الكلمة في موضع كلمة إذا ظهر فيها الإعراب تكون مرفوعة بخلاف العصا ، فإنّا إذا قلنا : إنها في موضع رفع ، نعني به أن الضمة

__________________

(١) انظر إتحاف السادة المتقين (٧ / ٥١٨) ، والدرّ المنثور (٣ / ٢٩٠).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ٥٥).

١٧٢

مقدّرة على الألف نفسها بحيث لو لا امتناع الألف من الحركة ، أو استثقال الضمة والكسرة في ياء القاضي ، لظهرت الحركة على نفس اللفظ.

قال ابن الصائغ في (تذكرته) : الفرق بين أعلى وأحمر من خمسة أشياء : جمع أعلى بالواو والنون ، وعلى أفاعل ، واستعماله بمن ، وتأنيثه على فعلى ، ولزومه أحد الثلاثة : أل أو الإضافة أو من.

وقال المهلبي : [الكامل]

الفرق في الأعلى والأحمر قد أتى

في خمسة : في الجمع والتكسير

ودخول (من) ، وخلاف تأنيثيهما

ولزوم تعريف بلا تنكير

قال في الشرح : هذه الأحكام جارية في الأعلى وبابه كالأفضل والأرذل ، وفي الأحمر وبابه كالأصفر والأخضر.

ذكر ما افترق فيه ضمير الشأن وسائر الضمائر

قال في (البسيط) : ضمير الشأن يفارق الضمائر من عشرة أوجه :

١ ـ أنّه لا يحتاج إلى ظاهر يعود إليه ، بخلاف ضمير الغائب ، فإنه لا بد له من ظاهر ، يعود عليه لفظا أو تقديرا.

٢ ـ ٤ ـ وأنه لا يعطف عليه ، ولا يؤكّد ، ولا يبدل منه ، بخلاف غيره من الضمائر. وسر هذه الأوجه أنه يوضّحه ، والمقصود منه الإبهام.

٥ ـ وأنه لا يجوز تقديم خبره عليه ، وغيره من الضمائر يجوز تقديم خبره عليه.

٦ ـ وأنّه لا يشترط عود ضمير من الجملة إليه ، وغيره من الضمائر إذا وقع خبره جملة لا بدّ فيها من ضمير يعود إليه.

٧ ـ وأنّه لا يفسّر إلا بجملة ، وغيره من الضمائر يفسّر بالمفرد.

٨ ـ وأن الجملة بعده لها محلّ من الإعراب ، والجمل المفسّرات لا يلزم أن يكون لها محلّ من الإعراب.

٩ ـ وأنه لا يقوم الظاهر مقامه ، وغيره من الضمائر يجوز إقامة الظاهر مقامه.

١٠ ـ وأنّه لا يكون إلّا لغائب دون المتكلّم والمخاطب لوجهين :

أحدهما : أنّ المقصود بوضعه الإبهام ، والغائب هو المبهم ، لأن المتكلّم والمخاطب في نهاية الإيضاح.

والثاني : أنّه في المعنى عبارة عن الغائب ، لأنه عبارة عن الجملة التي بعده ، وهي موضوعة للغيبة دون الخطاب والتكلّم.

١٧٣

وقال ابن هشام في (المغني) (١) : هذا الضمير مخالف للقياس من خمسة أوجه :

أحدها : عوده على ما بعده لزوما ، إذ لا يجوز للجملة المفسّرة له أن تتقدّم هي ، ولا شيء منها عليه.

والثاني : أن مفسّره لا يكون إلا جملة ، ولا يشاركه في هذا ضمير.

والثالث : أنه لا يتبع بتابع ، فلا يؤكّد ، ولا يعطف عليه ، ولا يبدل منه.

الرابع : أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو أحد نواسخه.

الخامس : أنه ملازم للإفراد ، فلا يثنى ، ولا يجمع ، وإن فسّر بحديثين أو بأحاديث.

ذكر ما افترق فيه ضمير الفصل والتأكيد والبدل

قال ابن يعيش (٢) : ربما التبس الفصل بالتأكيد والبدل. والفرق بين الفصل والتأكيد أنّ التأكيد إذا كان ضميرا لا يؤكّد به إلا المضمر ، والفصل ليس كذلك ، بل يقع بعد الظاهر والمضمر ، فقولك : كان زيد هو القائم فصل لا تأكيد لوقوعه بعد الظاهر ، وقولك : كنت أنت القائم ، يحتملهما. ومن الفرق بينهما أنّك إذا جعلت الضمير تأكيدا فهو باق على اسميّته ، ويحكم على موضعه بإعراب ما قبله ، وليس كذلك إذا كان فصلا.

وأما الفرق بينه وبين البدل فإنّ البدل تابع للمبدل منه في إعرابه كالتأكيد إلا أنّ الفرق بينهما أنك إذا أبدلت من منصوب أتيت بضمير المنصوب ، نحو : ظننتك إياك خيرا من زيد. فإذا أكّدت ، أو فصلت لا يكون إلّا بضمير المرفوع.

ومن الفرق بين الفصل والتأكيد والبدل أنّ لام التأكيد تدخل على الفصل ، ولا تدخل على التأكيد والبدل ، لأنّ اللام تفصل بين التأكيد والمؤكّد والبدل والمبدل منه ، وهما من تمام الأول في البيان.

ذكر ما افترق فيه ضمير الفصل وسائر الضمائر

قال الخليل (٣) : ضمير الفصل اسم ، ولا محلّ له من الإعراب. وبذلك يفارق سائر الضمائر.

قال ابن هشام (٤) : ونظيره على هذا القول أسماء الأفعال.

__________________

(١) انظر مغني اللبيب (٥٤٣).

(٢) انظر شرح المفصّل (٣ / ١١٣).

(٣) انظر الكتاب (٢ / ٤١١).

(٤) انظر مغني اللبيب (٥٥٠).

١٧٤

ذكر الفرق بين علم الشخص وعلم الجنس واسم الجنس

قال في (البسيط) : علم الجنس كأسامة وثعالة في تحقيق علميّته أربعة أقوال :

أحدها لأبي سعيد ، وبه قال ابن بابشاذ وابن يعيش (١) : إنه موضوع على الجنس بأسره ، بمنزلة تعريف الجنس باللام في كثرة الدينار والدرهم ، فإنّه إشارة إلى ما ثبت في العقول معرفته ، ويصير وضعه على أشخاص الجنس كوضع زيد ، علمين على أشخاصهما ، ولذلك يقال : ثعالة يفرّ من أسامة ، أي أشخاص هذا الجنس تفرّ من أشخاص هذا الجنس. وإنما لم يحتاجوا في هذا النوع إلى تعيين الشخص بمنزلة الأعلام الشخصيّة ، لأنّ الأعلام الشخصية تحتاج إلى تعيين أفرادها ، لأنّ كلّ فرد من أفرادها يختصّ بحكم لا يشاركه فيه غيره ، ولا يقوم غيره مقامه فيما يطلب منه من معاملة أو استعانة ، أو غير ذلك. وأما أفراد أنواع الوحوش والحشرات فلا يطلب منها ذلك فلذلك لم يحتج إلى تعيين أفرادها ، ووضع اللفظ علما على جميع أفراد النوع لاشتراكها في حكم واحد.

قال ابن يعيش (٢) : تعريفها لفظيّ ، وهي في المعنى نكرات ، لأنّ اللفظ وإن أطلق على الجنس ، فقد يطلق على أفراده ، ولا يختصّ شخصا بعينه ، وعلى هذا فيخرج عن حدّ العلم.

والقول الثاني لابن الحاجب (٣) : إنّها موضوعة للحقائق المتّحدة في الذهن بمنزلة التعريف باللام للمعهود في الذهن : نحو : أكلت الخبز ، وشربت الماء لبطلان إرادة الجنس ، وعدم تقدّم المعهود الوجودي. وإذا كانت موضوعة على الحقيقة المعقولة المتحدة في الذهن ، فإذا أطلقت على الواحد في الوجود فلا بدّ من القصد إلى الحقيقة ، وصحّ إطلاقها على الواحد في الوجود لوجود الحقيقة المقصودة ، فيكون التعدد باعتبار الوجود لا باعتبار الوضع ، لأنه يلزم إطلاقه على الحقيقة باعتبار الوجود المتعدّد.

قلنا : وإن جعلت المغايرة بذلك بين الحقائق إلّا أنّه بمنزلة المتواطئ الواقع على حقائق مختلفة بمعنى واحد ، كالحيوان الذي تشترك فيه حقائق التواطؤ المختلفة. فكذلك هاهنا يشترك الذهنيّ والوجوديّ في الحقيقة ، وإن كان الوجودي مغايرا

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (١ / ٣٥).

(٢) انظر شرح المفصّل (١ / ٣٥).

(٣) انظر شرح الكافية (٢ / ١٣٢).

١٧٥

للذهنيّ. والفرق بين أسد وأسامة أنّ أسدا موضوع لكل فرد من أفراد النوع على طريق البدل ، فالتعدّد فيه من أصل الوضع ، وأما أسامة فإنه لزم من إطلاقه على الواحد في الوجود التعدّد ، فالتعدّد فيه جاء ضمنا ، لا مقصودا بالوضع.

والقول الثالث : أنّه لمّا لم يتعلّق بوضعه غرض صحيح ، بل الواحد من جفاة العرب ، إذا وقع طرفه على وحش عجيب ، أو طير غريب ، أطلق عليه اسما يشتقّه من خلقته أو من فعله ، ووضعه عليه. فإذا وقع بصره مرّة أخرى على مثل ذلك الفرد أطلق عليه ذلك الاسم باعتبار شخصه ، ولا يتوقّف على تصوّر أنّ هذا الموجود هو المسمى أولا ، أو غيره. فصارت مشخّصات كلّ نوع مندرجة تحت الأول ، بحيث تكون نسبة ذلك اللفظ على جميع الأشخاص تحته مثل نسبة زيد إلى الأشخاص المسمّين به. وعلى هذا ، فإذا أطلق على الواحد فقد أطلق على ما وضع له ، وإذا أطلق على الجميع فلاندراج الكلّ تحت الوضع الأول ، لإطلاق وضع اللفظ عليه أوّلا مرة ثانية وثالثة بحسب أشخاصه من غير تصوّر أنّ الثاني والثالث هو الأول أو غيره.

والقول الرابع قلته : إن لفظ علم الجنس موضوع على القدر المشترك بين الحقيقة الذهنية والوجودية. فإن لفظ أسامة مثلا يدل على الحيوان المفترس عريض الأعالي ، فالافتراس وعرض الأعالي مشترك بين الذهنيّ والوجوديّ ، فإذا أطلق على الواحد في الوجود ، فقد أطلق على ما وضع له لوجود القدر المشترك ، وهو الافتراس وعرض الأعالي. ويلزم من إخراجه إلى الوجود التعدّد ، فيكون التعدّد من اللوازم لا مقصودا بالوضع ، بخلاف أسد فإنّ تعدّده مقصود بالوضع.

وإذا تقرّر ذلك فالفرق بين علم الجنس واسم الجنس بأمور :

أحدها : امتناع دخول اللام على أحدهما وجوازه في الآخر ، ولذلك كان ابن لبون وابن مخاض اسمي جنس لدخول اللام عليهما. ولم يكن ابن عرس اسم جنس لامتناع ابن العرس.

والثاني : امتناع الصرف يدلّ على العلميّة.

والثالث : نصب الحال عنها ، على الأغلب.

والرابع : نصّ أهل اللغة على ذلك.

وأما الإضافة فلا دليل فيها ، لأنّ الأعلام جاءت مضافة ، كابن عرس ، وابن مقرض.

واسم الجنس جاء مضافا ، كابن لبون ، وابن مخاض ، انتهى كلام صاحب البسيط.

(فائدة): قال صاحب (البسيط) : الفرق بين الاشتراك الواقع في النكرات

١٧٦

والاشتراك الواقع في المعارف أنّ اشتراك النكرات مقصود بوضع الواضع في كلّ مسمّى غير معيّن ، وأما اشتراك المعارف فالاشتراك في الأعلام اتفاقيّ غير مقصود بالوضع ، لأنّ واضع الاسم على العلم لم يقصد مشاركة غيره له ، إنما المشاركة حصلت بعد الوضع لكثرة المسمّين باللفظ الواحد. فلذلك لم يقدح هذا الاشتراك في تعريفها لكونه اتفاقيا غير مقصود للواضع.

وأمّا الاشتراك الواقع في المضمرات ، وأسماء الإشارة. وما عرف باللام ، وإن كان مقصودا للواضع فإنّه اشتراك في المسمّى المعيّن ، فلذلك لم يقدح في التعريف ، بخلاف اشتراك النكرات ، فإنه في كلّ مسمّى غير معيّن ، فلذلك افترق الاشتراكان.

فائدة : قال الزملكانيّ في (شرح المفصّل) : الفرق بين اللام في الزيدان واللام في الرجلان أنّ معنى الزيدان : المشتركان في التسمية ومعنى الرجلان : المشتركان في الحقيقة.

قال فخر خوارزم : ولذلك لو سمّيت امرأة بزيد وجمعت بينها وبين رجل يسمّى بزيد لقلت في التسمية الزيدان لاشتراكهما في التسمية مع اختلاف الحقيقتين. وإنما أتوا باللام دون الإضافة لأنّ اللام أقوى في إفادة التعريف من الإضافة ، فكانت أقرب إلى العلمية ، ولأنها أخصر فإن المضاف إليه قد يكون أكثر من حرفين وثلاثة ولأن امتزاج اللام أشدّ. ولذلك يتخطّاه العامل ، مع أنه قد تفرض أعلام لا يعرف لها ملابس ، فتضاف إليه ، والعهديّة لا تفتقر إلى ذلك.

فائدة : قال ابن يعيش (١) : الفرق بين (ذو) التي بمعنى الذي على لغة طيّئ وبين التي بمعنى صاحب من وجوه :

منها : أنّ ذو في لغة طيّئ توصل بالفعل ، ولا يجوز ذلك في ذو التي بمعنى صاحب.

ومنها : أنّ ذو بمذهب طيّئ لا يوصف بها إلا المعرفة ، والتي بمعنى صاحب يوصف بها المعرفة والنكرة ، إن أضفتها إلى نكرة وصفت بها النكرة ، وإن أضفتها إلى معرفة صارت معرفة ، ووصفت بها المعرفة ، وليست التي بمعنى الذي كذلك ، لأنّها معرفة بالصلة ، على حدّ تعريف من وما.

ومنها : أنّ التي في لغة طيّئ لا يجوز فيها ذي ، ولا ذا ، ولا تكون إلا بالواو وليس كذلك التي بمعنى صاحب.

فائدة : قال الأندلسيّ في (شرح المفصّل) : الفرق بين الموصول الاسمي

__________________

(١) انظر شرح المفصّل (٣ / ١٤٩).

١٧٧

والموصول الحرفيّ أنّ (الذي) يوصل بما هو خبر ، وأن ، توصل بالخبر والأمر وغير ذلك ، لأنّ المقصود المصدر ، والمصدر يسوغ من جميع ذلك.

ذكر ما افترق فيه باب (كان) وباب (إنّ)

افترقا في أنه يجوز في باب كان تقديم الخبر على الاسم وعلى كان ، نحو : كان قائما زيد ، وقائما كان زيد. ولا يجوز تقديم الخبر على إنّ ، ولا على اسمها إلا أن يكون ظرفا أو مجرورا.

ذكر ما افترق فيه باب كان وسائر الأفعال

قال أبو الحسين بن أبي الربيع في (شرح الإيضاح) : كان وأخواتها مخالفة لأصول الأفعال في أربعة أشياء :

أحدها : أنّ هذه الأفعال إذا أسقطت بقي المسند والمسند إليه ، وغيرها إذا أسقطت لم يبق كلام.

الثاني : أن هذه الأفعال لا تؤكّد بالمصدر ، لأنها لم تدلّ عليه ، وغيرها من الأفعال يؤكّد بالمصادر ، لأنّها تدلّ عليها ، نحو : قام قياما ، وزال زوالا.

الثالث : أنّ الأفعال التي ترفع وتنصب تبنى للمفعول ، وهذه لا تبنى له ، لا تقول : كين قائم ، لأن قائما خبر عن المبتدأ ، فإذا زال المبتدأ زال الخبر ، وإذا وجد المبتدأ وجد الخبر.

الرابع : أنّ الأفعال كلّها تستقلّ بالمرفوع دون المنصوب ، ولا تستقلّ هذه بالمرفوع دون المنصوب ، لأنه خبر للمبتدأ.

وقال ابن الدّهان في (الغرّة) : من الفرق بين هذه الأفعال والأفعال الحقيقية أن الفاعل في تلك غير المفعول نحو : ضرب زيد عمرا ، وهذه مرفوعها هو منصوبها.

فائدة : وجه الموافقة والمخالفة : قال ابن النحاس في (التعليقة) : (ما دام) تخالف باقي أخواتها من وجه ، وتوافقها من وجه : أما وجه المخالفة فإن (ما) فيها مصدرية في موضع نصب على الظرف ، ولذلك لا يتمّ مع اسمها ، وخبرها كلام ، ويحتاج إلى شيء آخر ، يكون ظرفا له ، كقولك : لا أكلمك ما دمت مقيما ، أي مدّة دوام إقامتك ، و (ما) في باقي أخواتها حرف نفي.

وأما وجه الموافقة فهو أنّ معناهنّ جميعهنّ الثبات والدوام.

فائدة : قال الأعلم في (نكته) : الفرق بين كان وبين أصبح وأخواتها أنّ (كان)

١٧٨

لما انقطع ، وهذه لما لم ينقطع ، تقول : أصبح زيد غنيّا ، فهو غنيّ في وقت إخبارك ، غير منقطع غناه. نقله ابن الصائغ في تذكرته.

فائدة : الفرق بين كان التامة والناقصة : قال الإمام فخر الدين : الفرق بين كان التامّة والناقصة أنّ التامّة بمعنى حدث ووجد الشيء ، والناقصة بمعنى وجد موصوفيّة الشيء بالشيء في الزمن الماضي.

وقال ابن القواس في (شرح ألفيّة ابن معط) : الفرق بينهما أنّ التامة يخبر بها عن ذات إما منقض حدوثها أو متوقّع ، والناقصة يخبر بها عن انقضاء الصفة الحادثة من الذات أو عن توقّعها ، والذات موجودة قبل حدوث الصفة وبعدها ، والتامة تكتفي بالمرفوع ، وتؤكّد بالمصدر وتعمل في الظرف ، والحال ، والمفعول له ، ويعلّق بها الجارّ ، والناقصة بخلاف ذلك كلّه ، انتهى.

وقال الشيخ تاج الدين بن مكتوم في (تذكرته) : قال الإمام أبو جعفر بن الإمام أبي الحسن بن الباذش. قال أبو القاسم الشنتريني فيما نقلت من كتاب بعض أصحابه : من زعم أنّ كان التي يضمر فيها الأمر والشأن هي الناقصة نفسها ، فقد أخطأ. وإنما هي غيرها. والفرق بينهما أنّ التي على معنى الأمر والشأن لا يكون اسمها مستترا فيها ، والناقصة يكون اسمها مستترا فيها ، وغير مستتر ، والتي على معنى الأمر والشأن لا يتقدّم خبرها عليها والناقصة يتقدّم خبرها عليها. والتي على معنى الأمر والشأن لا ينعت اسمها ، ولا يؤكّد ، ولا يعطف عليه ، ولا يبدل منه. والناقصة يجوز في اسمها كلّ هذا. والتي على معنى الأمر والشأن لا يكون خبرها إلّا جملة ، ولا تحتاج الجملة أن يكون فيها عائد يرجع إلى الأول. والناقصة ليست كذلك ، لا بد من عائد يرجع إلى الأول من خبرها إذا كان جملة ، فقد ثبت بهذا كله أنّ كان التي على معنى الأمر والشأن ليست الناقصة. قال أبي : والصحيح أنّ كان المضمر فيها الأمر والشأن هي كان الناقصة ، والجملة في موضع نصب.

يدلّ على ذلك أن الأمر والشأن يكون مبتدأ ومضمرا في إنّ وأخواتها وظننت وأخواتها ، والجملة المفسّرة الواقعة موقع خبر هذه الأشياء ، وما ثبت أنه خبر المبتدأ ولما ذكر معه ثبت أنه خبر لكان ، انتهى.

ذكر ما افترق فيه ما النافية وليس

قال المهلّبي : المشابهة بينهما أولا من ثلاثة أوجه : دخولهما على المبتدأ والخبر ، وكونهما للنفي ، وكون النفي نفي حال.

١٧٩

ثمّ خالفت ما ليس في عشرة أوجه : يبطل عملها بزيادة إن ودخول (إلا) ، وتقديم الخبر ومعموله ، وإذا عطف عليها سببيّ نحو : ما زيد راكبا ولا سائرا أخوه ، جاز في سائر الرفع والنصب ، أو أجنبيّ لم يجز إلّا الرفع نحو : ما زيد سائرا ولا ذاهب عمرو ، ولا تحمل الضمير فلا يقال : زيد ما قائما ، كما يقال : زيد ليس قائما ، ولا تفسّر فعلا لأنّ الأفعال يفسّر بعضها بعضا ، وإذا كان بعد الاسم فعل فالحمل عليه أولى من الاسم نحو : ما زيدا أضربه ، على تقدير ما أضرب زيدا أضربه ، وهو أولى من رفعه. ولا يخبر عنها بفعل ماض ، لا يقال : ما زيد قال ، لأنّها لنفي الحال. ولا يحسن تقديم الخبر المجرور ، نحو : ما بقائم زيد كحسنه في ليس.

قال : فجميع ما جاز في ما يجوز في ليس ، ولا يجوز في ما جميع ما جاز في ليس ، لقوّة ليس في بابها بالفعلية ، والشيء إذا شابه الشيء فلا يكاد يشبهه ، من جميع وجوهه. وقال نظما : [الطويل]

تفهّم فإنّ الفرق قد جاء بين (ما)

(وليس) بعشر بيّنت لأولي الفهم

زيادة إن من بعدها مبطل لها

وإلا وأخبار يقدّمن للعلم

ومعمولها يجري كذاك مقدّما

ومسألة في العطف تشهد بالحكم

ويمتنع الإضمار في ذاتها ، ولا

تفسّر فعلا للذكيّ ، ولا الفدم

وإن كان بعد الاسم فعل فحمل ما

تضمّنه للفعل أولى من الاسم

ولا تجعل الماضي إذن خبرا لها

ولا الباء في تقديمه تحمدن قسمي

ذكر ما افترقت فيه (لا) و (ليس)

قال ابن هشام في (المغني) (١) : (لا) العاملة عمل ليس تخالف ليس في ثلاث جهات :

أحدها : أنّ عملها قليل ، حتى ادّعي أنّه ليس بموجود.

الثاني : أنّ ذكر خبرها قليل ، حتى إنّ الزّجاج لم يظفر به ، فادّعى أنها إنما تعمل في الاسم خاصة ، وأن خبرها مرفوع.

الثالث : أنها لا تعمل إلا في النكرات.

__________________

(١) انظر مغني اللبيب (٢٦٤).

١٨٠