الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-58-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٢٦

التي تتميّز بأوراق عريضة جدّا وخضراء وجميلة ، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و «منضود» : من مادّة (نضد) بمعنى متراكم.

وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما ، حتّى أنّ البعض قال : إنّ هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حدّ أنّها تغطّي سيقان وأوراق الأشجار.

وقال بعض المفسّرين : بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر صغيرة جدّا ، وأوراق شجر الموز كبيرة جدّا ، فإنّ ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار الجنّة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين (١).

ثمّ يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

فسّر البعض هذا (الظلّ الواسع) بحالة شبيهة للظلّ الذي يكون بين الطلوعين من حيث انتشاره في كلّ مكان ، وقد نقل حديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المعنى في روضة الكافي (٢).

والمقصود هنا أن لا حرّ في الجنّة ، وأنّ أهلها في ظلال لطيفة واسعد تلطّف الروح.

وينتقل الحديث إلى مياه الجنّة حيث يقول سبحانه : (وَماءٍ مَسْكُوبٍ).

«مسكوب» من مادّة (سكب) على وزن «حرب» وتعني في الأصل الصبّ ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلّال فإنّه بذلك يصوّر لنا مشهدا رائعا حيث إنّ خرير المياه ينعش الروح ، ويبهر العيون ، وهذه هي إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنّة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الجنّة المليئة بالأشجار العظيمة ، والمياه الجارية ، لا بدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة ، وهذا ما ذكرته

__________________

(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير نهاية الآية مورد البحث ، ج ٢٩ ، ص ١٦٢.

(٢) روضة الكافي ، مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢١٦.

٤٦١

الآية الكريمة ، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ).

نعم ، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور ، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك ، أو العلو مثل النخيل ، أو مانع ذاتي في نفس الإنسان ، أو أنّ المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكّلين بخدمة أهل الجنّة يبخلون عليهم .. كلّا ، لا يوجد شيء من هذا القبيل ، فالمقتضي موجود بشكل كامل ، والمانع بكلّ أشكاله مفقود.

ثمّ يشير سبحانه إلى نعمة اخرى حيث يقول : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش» : جمع فراش وتعني في الأصل كلّ فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في الحديث عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفسّر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية ، واعتبرها إشارة إلى الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنّة. ولكن إذا فسّرت بهذه الصورة ، فسيقطع ارتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حوريات وزوجات الجنّة.

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنّة بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً).

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقا جديدا في يوم القيامة ، ويدخلن الجنّة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن ، وبشكل يتناسب مع كمال الجنّة وخلوّها من كلّ نقص وعيب.

وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإنّ الله تعالى خلقهنّ بصورة لا يعتريهنّ فيها غبار العجز والضعف ، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى

٤٦٢

المعنيين أيضا.

ثمّ يضيف تعالى : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً).

واحتمال أن يكون الوصف مستمرّا ، كما صرّح كثير من المفسّرين بذلك ، وأشير له في الرّوايات الإسلامية أيضا ، حيث الزواج لا يغيّر وضعهنّ ويبقين أبكارا (١).

ويضيف في وصفهنّ بوصف آخر فيقول تعالى : (عُرُباً).

(عربا) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها ، وعمّا تكنّه من المحبّة لزوجها ، (إعراب) : على وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار ، ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام ، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن (أَتْراباً) أي أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن ، ومتماثلات في العمر مع أزواجهنّ.

(أتراب) جمع (ترب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه ، وقال البعض : إنّ هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر ، لأنّها تتشابه الواحدة مع الاخرى.

إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهنّ ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهنّ كاملة ، وبذلك تصبح الحياة أكثر سعادة وانسجاما ، بالرغم من أنّ السعادة تحصل مع اختلاف العمر أحيانا ، إلّا أنّ الغالب ليس كذلك. كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.

ثمّ يضيف تعالى : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ).

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١٢٣ وبالضمن يجدر الانتباه إلى أنّ هذه الحالة ، مع فاء التفريع عطفت على الآية السابقة.

٤٦٣

وهذا تأكيد جديد على اختصاص هذه الصفات والنعم الإلهيّة بهم.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة مكمّلة لجملة (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (١).

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

«ثلّة» : في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف ، ثمّ أطلقت على كلّ مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة ، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الأمم السابقة ، ومجموعة عظيمة من الامّة الإسلامية ، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين. بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الامّة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الأمم السابقة ، وذلك لكثرة تلك الأمم وكثرة أنبيائها.

وقال البعض : إنّ هاتين المجموعتين كلاهما من الامّة الإسلامية ، قسم من أوّلهم وقسم من آخرهم ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أصحّ.

* * *

__________________

(١) في الصورة الاولى عبارة (أصحاب اليمين) خبر لمبتدأ محذوف ، وفي التقدير تصبح هكذا : (هذه كلّها لأصحاب اليمين) وفي الصورة الثانية جار ومجرور متعلّق بأنشأناهنّ ، والتّفسير الأوّل أصحّ.

٤٦٤

الآيات

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠))

التّفسير

العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال :

بعد الاستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقرّبين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه ، يتطرّق الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أَصْحابُ الشِّمالِ) والعذاب المؤلم والعاقبة السيّئة التي حلّت بهم ، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول البارئ : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ).

٤٦٥

أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم ، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب ، وممّن تكون النار مصيرا لهم ، ويستعمل هذا التعبير عادة لبيان (حسن) أو (سوء) نهاية الإنسان كما في قولنا : السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!. أو المصيبة داهمتنا يا لها من مصيبة. وكذلك في قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ).

ثمّ يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها ، الهواء الحارق القاتل من جهة (سَمُومٍ) والماء المغلي المهلك من جهة اخرى (وَحَمِيمٍ) ، وظلّ الدخان الخالق الحارّ من جهة ثالثة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) هذه الألوان من العذاب حاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة ... إنّها آلام وعذاب لا يطاق ، ولو لم يكن غيره من جزاء لكفاهم.

«سموم» : من مادّة (سمّ) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد فتهلكهم ، (ويقال للسمّ سمّا لأنّه ينفذ في جميع خلايا الجسم).

و «حميم» : بمعنى الشيء الحارّ ، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي أشير له في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ). (١)

«يحموم» : من نفس المادّة أيضا ، وهنا بمناسبة الظلّ فسّرت الكلمة بمعنى الظلّ الغليظ الأسود والحارّ.

ثمّ يضيف البارئ مؤكّدا فيقول : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ).

المظلّة عادة تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اخرى ، والظلّ المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.

والتعبير بـ (كريم) من مادّة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة ، ولذلك فإنّ المتعارف بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئا أو شخصا بانّه غير مفيد يقولون (لا كرامة

__________________

(١) الحجّ. ١٩.

٤٦٦

فيه).

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلّا الشرّ والضرر (لا كرامة).

وبالرغم من أنّ أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب ، إلّا أنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقيّة الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم ، وذلك بثلاث جمل ، يقول في البداية : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ).

«مترف» : كما ورد في لسان العرب من مادّة ترف ـ على وزن (سبب) ـ بمعنى التنعّم ، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغرورا سكران ، وجرّته إلى الطغيان. (١)

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعا من زمرة المترفين ، إلّا أنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.

والملاحظ في عصرنا الحاضر أنّ فساد المجتمعات وعوامل الانحراف ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في العالم أجمع بيد «الزمرة» المترفة المغرورة ، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصّهم وحدّد موقفه منهم ابتداء.

وهنالك رأي ثان وهو : إنّ نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر بالأموال فقط ، بل تشمل الصحّة والشباب والعمر .. فإذا كانت هذه النعم أو بعضها مبعثا للغرور والغفلة ، فإنّها ستكون مصدرا أساسيا للذنوب ، وهذا المفهوم يسري على أصحاب الشمال.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٩ ، ص ١٧.

٤٦٧

ثمّ يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدرا وسببا لعذاب أصحاب الشمال ، فيقول سبحانه : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ).

«الحنث» في الأصل يعني كلّ نوع من الذنوب ، وقد استعمل هذا المصطلح في كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم ، لكونه مصداقا واضحا للذنب ، وبناء على هذا فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في ارتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها ، لأنّ الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضا ، إلّا أنّهم لا يصرّون عليه أبدا ، ويستغفرون ربّهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكّره.

وفسّر البعض «الحنث العظيم» بمعنى الشرك ، لأنّه لا ذنب أعظم من الشرك.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١).

وفسّر (الحنث) بالكذب ، لأنّه أعظم الذنوب ، ومفتاح المعاصي ، خصوصا حينما يكون الكذب توأما لتكذيب للأنبياء عليه‌السلام والمعاد.

والظاهر أنّ هذه جميعا تعتبر مصاديق للحنث العظيم.

وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب ، هو أنّهم قالوا : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب ، هو وصف آخر لأصحاب الشمال ، ومصدر لشقائهم. وتعبير (كانُوا يَقُولُونَ) يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضا.

وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما :

الأوّل : أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و (أصحاب اليمين) لم يعط توضيحا عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء ، إلّا ضمن إشارة عابرة. أمّا عند ما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت

__________________

(١) النساء ، آية ٤٨.

٤٦٨

أفعالهم بصورة كافية ، وذلك ليكون إتماما للحجّة عليهم من جهة ، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان انسجاما مع مبادئ العدالة تماما من جهة اخرى.

والمسألة الاخرى : أنّ الذنوب الثلاثة التي أشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة ، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد ، وفي الآية الاولى كانت الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). (١)

والتعبير بـ (تُراباً وَعِظاماً) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب ، وعظامنا إلى رميم ، ومع ذلك فكيف نكون خلقا جديد؟

ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى : (تُراباً وَعِظاماً).

والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها (٢). ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح ترابا ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اخرى ، وأساسا فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية ، ولن يكون عليه ذلك صعبا وعسيرا ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجّب : (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٣) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كلّ ذرّة من تراب أجسادهم

__________________

(١) الزخرف ، ٢٣.

(٢) يجب الانتباه هنا إلى تكرا حرف الاستفهام والتعبير بـ (أنّ) كلّها للتأكيد.

(٣) الهمزة في (أو آبائنا الأوّلون) استفهامية ، والواو واو عطف وهنا قدّمت الهمزة الاستفهامية عليها.

٤٦٩

في جهة ، أو أصبحت جزءا من بدن كائن آخر؟

ولكن ، كما قيل مفصّلا في نهاية سورة ياسين ، فإنّ هذه التساؤلات وغيرها ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القويّة المتوفّرة حول مسألة المعاد.

ثمّ إنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١).

«ميقات» من مادّة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد.

والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرّر للقيامة ، حيث يجتمع كلّ البشر للحساب ، ويأتي أحيانا كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معيّن ، مثل مواقيت الحجّ ، التي هي أسماء أماكن خاصّة للشروع بالإحرام.

ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر ، مثل : (إنّ ، اللام ، «مجموعون» التي جاءت بصيغة اسم مفعول ، ووصف «يوم» بأنّه معلوم) ممّا يكون واضحا ومؤكّدا أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد ، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية اخرى أيضا (٢).

ومن هنا يتّضح جيّدا أنّ الذين كانوا يتصوّرون أنّ القيامة تقع في أزمنة متعدّدة حيث إنّ لكلّ امّة قيامة ، هم غرباء عن آيات الله تماما.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط ، وإلّا فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقرّبون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.

* * *

__________________

(١) استعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أنّ القيامة تكون في نهاية هذا العالم ، ويمكن أن تكون هنا بمعنى بـ «لام» كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).

(٢) هور ، الآية ١٠٣ ، مريم ، الآية ٩٥.

٤٧٠

الآيات

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

التّفسير

عقوبات جديدة للمجرمين :

هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال ، حيث يخاطبهم بقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) (١).

كان الحديث في الآيات السابقة حول الأجواء التي تحيط بـ (أصحاب الشمال) وينتقل الحديث في الآيات أعلاه إلى مشربهم ومأكلهم مقارنا بمأكل ومشرب المقرّبين وأصحاب اليمين.

والجدير بالذكر أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم «الضالّون المكذّبون»

__________________

(١) (من) في (من شجر) تبعيضية ، و (من) في (زقّوم) بيانية.

٤٧١

الذين يتّسمون مضافا إلى الضلال والانحراف بأنّ لديهم روح العناد والإصرار على الباطل في مقابل الحقّ.

(زقّوم) كما ذكرنا سابقا : نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم ، وتقال أحيانا لكلّ نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار (١).

وللمزيد حول (الزقّوم) يراجع نهاية الآية (٦٢) سورة الصافات ، وكذلك نهاية الآية (٤٣) سورة الدخان.

والتعبير بـ (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّا فيملئون بطونهم.

وعند تناولهم لهذا الغذاء السيء يعطشون. ولكن ما هو شرابهم؟!

يتبيّن ذلك في قوله تعالى : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) (٢) (مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ).

إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدّة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتّى يهلك ، وهذا هو نفس مصير (الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) في يوم القيامة.

«حميم» : بمعنى الماء الحارّ جدّا والحارق ، وتطلق عبارة (وليّ حميم) على طبيعة العلاقة الصادقة الوديّة الحارّة ، و «حمّام» مشتقّ من نفس المادّة أيضا.

(هيم) على وزن (ميم) جمع هائم ، واعتبرها البعض جمع أهيم وهيماء ، وهي في الأصل من (هيام) على وزن (فرات) بمعنى مرض العطش الذي يصيب البعير ،

__________________

(١) مجمع البحرين ومفردات الراغب ، ولسان العرب ، وتفسير روح المعاني.

(٢) الجدير بالذكر أنّ في الآية السابقة كان الضمير مؤنثا (منها) يعود على (شجر من زقّوم) وفي هذه الآية كان الضمير مذكرا (عليه) يعود على الشجر ، وذلك لأنّ الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث ، وكذلك ثمر ، (مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث).

٤٧٢

ويستعمل هذا التعبير للعشق الحادّ أو للعشّاق الذين لا يقرّ لهم قرار.

ويعتبر بعض المفسّرين أنّ معنى (هيم) هي الأراضي الرملية والتي كلّما سقيت بماء تسرّب منها فتظهر الظمأ دائما.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ).

فأين نزلهم ونزل أصحاب اليمين الذين ينعمون بالاستقرار في ظلال الأشجار الوارفة ، ويتناولون ألذّ الفواكه وأطيب الأطعمة ، وأعذب الشراب الطهور ، ويطوف حولهم الولدان المخلّدون وحور العين ، وهم سكارى من عشق البارئ عزوجل؟

أين أولئك؟ وأين هؤلاء؟

مصطلح (نزل) كما قلنا سابقا بمعنى الوسيلة التي يكرمون بها الضيف العزيز ، وتطلق أحيانا على أوّل طعام أو شراب يؤتى به للضيوف ، ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفا ، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم. بل هو نوع من الطعن فيهم ، وأنّه إذا كان كلّ هذا العذاب هو مجرّد استقبال لهم ، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم؟

* * *

٤٧٣

الآيات

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))

التّفسير

سبعة أدلّة على المعاد :

بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تكذيب الضالّين ليوم المعاد ، فإنّ الآيات اللاحقة استعرضت سبعة أدلّة على هذه المسألة المهمّة ، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهيّة التي وردت في الآيات السابقة حول «المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال» ، وأساسا فإنّ أبحاث هذه السورة تتركّز على بحث المعاد بشكل عامّ.

يقول سبحانه في المرحلة الاولى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي لم لا

٤٧٤

تصدّقون بالمعاد (١)؟!

لماذا تتعجّبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم ترابا؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحدا؟

هذه الاستدلالات في الحقيقة شبيهة بما جاء في قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). (٢)

وفي الآية اللاحقة يشير البارئ إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) (٣) (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كلّ يوم بخلق جديد وشكل جديد ، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول واولى الألباب من المفكّرين ، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرّر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟ إنّ المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً). (٤)

وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الإعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها ، سوف يتّضح لنا الحال أكثر ،

__________________

(١) (لولا) في الاصطلاح تستعمل للحضّ والتحريك لإنجاز عمل ما ، وكما يقول البعض فإنّها في الأصل مركّبة من (لم) و (لا) والتي تعطي معنى السؤال والنفي ثمّ تبدّلت الميم إلى واو ، ويستعمل هذا المصطلح في مكان يتسامح فيه فرد أو أفراد في إنجاز عمل ما ، ويقال لهم : لماذا لا تعملون هكذا وهكذا؟

(٢) سورة يس ، ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) جاءت «رأيتم» هنا من الرؤية بمعنى العلم وليست المشاهدة بالعين المجرّدة.

(٤) الحجّ ، ٥.

٤٧٥

حيث يقولون : إنّ الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدّا وإنّ منيّ الرجل يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كلّ إنزال تقدّر بين (٢ ـ ٥) مليون حيمن وهذا يمثّل مقدار مجموع سكّان عدّة (بلدان في العالم) (١) هذا الحيوان المنوي يتّحد مع بويضة المرأة (أوول) ، فتتكوّن البيضة المخصّبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر بصورة عجيبة ، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان ، ومع أنّ الخلايا متشابهة في الظاهر ، إلّا أنّها تتوزّع بسرعة إلى مجاميع عديدة ، فقسم منها يختص بالقلب ، والآخر بالأطراف ، والثالث بالاذن والحنجرة ، وكلّ مجموعة مستقرّة في مكانها المحدّد له ، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب ، ولا خلايا القلب تتحوّل إلى خلايا العين ، ولا العكس.

والخلاصة أنّ «النطفة المخصّبة» في المرحلة الجنينيّة تمرّ بعوالم عديدة مختلفة حتّى تصبح جنينا ، وكلّ هذا في ظلّ خالقية إلهيّة مستمرّة ، في حين أنّ دور الإنسان في هذه العملية بسيط جدّا ، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم ، والذي ينجز بلحظة واحدة.

أليست هذه المسألة دليلا حيّا على مسألة المعاد؟

أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلّل على قدرة إحياء الموتى أيضا (٢).

ثمّ يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

نعم ، إنّنا لن نغلب أبدا ، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي ، بل أنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم. وأخيرا نعيدكم خلقا جديدا في عالم لا تعلمون عنه شيئا (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) كتاب أوّل جامعة ، ج ١ (بحث معرفة الجنين) ، ص ٢٤١.

(٢) في هذا الموضوع ذكرنا توضيحات اخرى في نهاية الآية (٥) من سورة الحجّ.

٤٧٦

وفي تفسير هاتين الآيتين هناك وجهة نظر اخرى وهي : أنّ الآية الثانية لم تأت لبيان هدف الآية الاولى ولكن تكملة لها ، حيث يريد سبحانه أن يبيّن المعنى التالي وهو : أنّنا لسنا بعاجزين ومغلوبين على أن نذهب بقسم ونأتي بآخرين مكانهم (١).

ويوجد تفسيران لجملة (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ).

الأوّل : هو نفس التّفسير المذكور أعلاه ، والذي هو المشهور بين المفسّرين ، وطبقا لهذا الرأي تكون عملية تبديل الأقوام في هذه الدنيا.

والثاني هو : أنّ المقصود من (أمثال) هم نفس البشر الذين يبعثون في يوم القيامة ، والتعبير بـ (مثل) لأنّ الإنسان لا يبعث مرّة اخرى بكلّ خصوصياته التي كان عليها ، إذ أنّه سيكون في وقت جديد وكيفيات جديدة من حيث الروح والجسم.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الهدف هو الاستدلال على المعاد من خلال مسألة الموت ، ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية : إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار ، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالدا وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبّرا وليست منزلا وأنّها جسر وليست مقصدا ، لأنّها لو كانت مستقرّا ومقصد للزم أن تدوم الحياة فيها.

جملة (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) ظاهرا إشارة إلى خلق الإنسان يوم القيامة ،

__________________

(١) طبقا للتفسير الأوّل فإنّ الجار والمجرور في (على أنّ نبدّل) متعلّق بـ (قدّرنا) والذي جاء في الآية السابقة ، طبقا للتفسير الثاني فإنّها متعلّقة بـ (مسبوقين) (يرجى الانتباه).

٤٧٧

والتي هي الهدف لحياة وفناء هذه الدنيا ، ومن البديهي لأي شخص لم ير الدار الآخرة أنّه لن يستطيع إدراكها ومعرفة قوانينها والأنظمة المسيطرة عليها من خلال الألفاظ والصور التي تنقل لنا عنها ، نعم إنّنا نستطيع أن نرى شبحها وظلالها فقط من التصوير اللفظي لها ، ولذا فإنّ الآية أعلاه تعكس هذه الحقيقة ، حيث تذكر أنّ الله سيخلقنا في عالم جديد وبأشكال وظروف جديدة لا ندرك أسرارها (١).

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يتحدّث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ).

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين :

الاولى : في المثال التالي : إذا كنا نسير في صحراء وشاهدنا قصرا مهيبا عظيما مثيرا للإعجاب في محتوياته ومواد بنائه وهندسته ، وقيل لنا : إنّ الهدف من هذا القصر هو استعماله كمحطّة للراحة والهدوء لعدّة ساعات فقط لقافلة صغيرة .. فإنّنا سنحكم في أنفسنا بصورة قاطعة على عدم الحكمة في هذا العمل ، إذ من المناسب لمثل الهدف المتقدّم ذكره أن تعد خيمة صغيرة فقط.

وعلى هذا فإنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها من أجرام سماوية وشمس وقمر وأنواع المخلوقات الأرضية الاخرى ، هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود ، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيّام؟ كلّا ليس كذلك ، وإلّا فانّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف ، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف ـ مثل الإنسان ـ ليعرف الله سبحانه من خلالها ، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة ، فالهدف إذن هو الدار الآخرة ، وهذا دليل آخر على المعاد.

وهذا البيان هو ما نجده في الآية الشريفة : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما

__________________

(١) اعتبر البعض أن الآية هي إشارة إلى مسخ الأقوام السابقين في هذا العالم ، حيث إن الله سبحانه قد مسخهم بأشكال لا يعلمونها ، إلا أن هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية.

٤٧٨

بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا). (١)

الثانية : هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرّر أمامنا في كلّ سنة وفي كلّ زاوية وكلّ مكان ، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات ، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) ، (٢) وقد أشير إلى هذا المعنى كذلك في الآية ٦ من سورة الحجّ.

* * *

ملاحظة

حجيّة القياس :

إنّ هذه المسألة تطرح عادة في اصول الفقه ، وهي أنّنا لا نستطيع إثبات الحكم الشرعي عن طريق القياس كقولنا مثلا : (إنّ المرأة الحائض التي يجب أن تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها كذلك) ـ أي يجب أن تكون استنتاجاتنا من الكلّي إلى الجزئي ، وليس العكس ـ وبالرغم من أنّ علماء أهل السنّة قد قبلوا القياس في الغالب كأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي ، فإنّ قسما منهم يوافقوننا في مسألة (نفي حجيّة القياس).

والظريف هنا أنّ بعض مؤيّدي القياس أرادوا أن يستدلّوا بمقصودهم بالآية التالية : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي قيسوا النشأة الاخرى (القيامة) على النشأة الاولى (الدنيا).

إلّا أنّ هذا الاستدلال عجيب ، لأنّه أوّلا : إنّ المذكور في الآية هو استدلال عقلي وقياس منطقي ، ذلك أنّ منكري المعاد كانوا يقولون : كيف تكون لله القدرة على إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الكريم بالمفهوم التالي : إنّ القوّة التي

__________________

(١) سورة ص ، ٣٧.

(٢) فصّلت ، ٣٩.

٤٧٩

كانت لها القدرة على خلقكم في البداية هي نفسها ستكون لها القدرة لخلقكم مرّة ثانية ، في الوقت الذي لا يكون القياس الظنّي بالأحكام الشرعية بهذه الصورة أبدا ، لأنّنا لا نحيط بمصالح ومفاسد كلّ الأحكام الشرعية.

وثانيا : إنّ من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية ، فمثلا يقول تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) ونفهم بطريق أولى ألّا تؤذيهما من الناحية البدنية.

والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظنّي مورد الخلاف والنزاع ، لأنّه لم يكن شيء من المخلوقات في البداية ، والله عزوجل خلق الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب ، ولذا فإنّ إعادة الإنسان إلى الوجود مرّة اخرى أيسر من خلقه ابتداء ، وتعكس الآية الكريمة التالية هذا المفهوم حيث يقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). (١)

وننهي حديثنا هذا بالحديث التالي : «عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى ، وعجبا للمصدّق بالنشأة الاخرى وهو يسعى لدار الغرور» (٢).

* * *

__________________

(١) الروم ، ٢٧.

(٢) ذكر هذا الحديث في تفسير روح البيان وروح المعاني والقرطبي والمراغي باختلاف مختصر بعنوان خبر ، وبدون تصريح باسم الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ ظاهر تعبيراتهم أنّ الحديث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كتاب الكافي أيضا نقل القسم الأوّل من هذا الحديث عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام.

٤٨٠