الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-58-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٢٦

«سورة الواقعة»

محتوى السورة :

نقل في كتاب «تأريخ القرآن» عن ابن النديم أنّ سورة الواقعة هي السورة الرابعة والأربعين التي نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء).

هذه السورة ـ كما هو واضح من لحنها ، وذكره المفسّرون أيضا ـ نزلت في مكّة ، بالرغم من أنّ بعضهم قال : إنّ الآيتين (٨١ ، ٨٢) نزلتا في المدينة ، إلّا أنّ هذا الادّعاء ليس له دليل ، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضا.

وسورة الواقعة ـ كما هو واضح من اسمها ـ تتحدّث عن القيامة وخصوصياتها ، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الستّ والتسعين. ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.

إلّا أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام :

١ ـ بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.

٢ ـ تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف : (أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والمقرّبين).

٣ ـ بحث مفصّل حول مقام المقرّبين ، وأنواع الجزاء لهم في الجنّة.

__________________

(١) تأريخ القرآن لمؤلّفه أبو عبد الله الزنجاني ، ص ٥٩.

٤٤١

٤ ـ بحث مفصّل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين ، وأنواع الهبات الإلهيّة الممنوحة لهم.

٥ ـ بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنّم.

٦ ـ بيان أدلّة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة الله عزوجل ، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة ، وظهور الحياة في النباتات ، ونزول المطر ، اشتعال النار .. والتي تدخل أيضا ضمن أدلّة التوحيد.

٧ ـ وصف حالة الاحتضار والانتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاخروي والتي تعتبر من مقدّمات يوم القيامة.

٨ ـ وأخيرا نظرة إجمالية كليّة حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.

وأخيرا تنهي السورة آياتها باسم الله العظيم.

فضيلة تلاوة هذه السورة :

حول فضيلة تلاوة هذه السورة ذكرت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نقرأ منها حديثا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «من قرأ سورة الواقعة لم يكتب من الغافلين» (١) وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.

وحول هذا المعنى نقرأ حديثا آخر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون» (٢) وذلك لأنّ الأخبار التي وردت في هذه السورة أخبار مثيرة عن القيامة والحشر والحوادث المرعبة وعقاب المشركين ، وذكر حالة الأقوام السابقة وما حلّ بهم من البلاء.

ونقرأ أيضا في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ في كلّ ليلة جمعة

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٢ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٢٧٣.

(٢) خصال الصدوق ، الباب الرابع ، حديث ١٠.

٤٤٢

الواقعة أحبّه الله وحبّبه إلى الناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا ولا فقرا ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان في رفقاء أمير المؤمنين» (١).

وجاء في حديث آخر أنّ عثمان بن عفّان عاد عبد الله بن مسعود في مرضه الذي توفّي فيه فقال له : ماذا تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فيم ترغب؟ قال : في رحمة ربّي ، قال : ألا ألتمس لك طبيبا؟ قال : أمرضني الطبيب؟ قال : ألا آمر لك بعطيّة؟ قال : لم تأمر لي بها إذ كنت أحوج إليها ، وتأمر لي الآن وأنا مستغن عنها ، قال : فلتكن هي لبناتك ، قال : لا حاجة لهنّ بها فإنّي قد أمرتهنّ بقراءة سورة الواقعة ، وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقة يقول : «من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه أبدا» (٢).

ولهذا السبب سمّيت سورة الواقعة حسب ما ورد في رواية اخرى بسورة الغنى (٣).

ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة السطحية ، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكّر والتدبّر ، ومن ثمّ الحركة والعمل.

* * *

__________________

(١) ثواب الأعمال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٢.

(٣) روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ١١١.

٤٤٣

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤))

التّفسير

الواقعة العظيمة :

إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالبا في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسيّة عظيمة قاصمة ومدمّرة ، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي

٤٤٤

تتحدّث عن القيامة.

وفي سورة الواقعة حيث يدور البحث حول محور المعاد ، نجد هذا واضحا في الآيات الاولى منها ، حيث يبدأ سبحانه بقوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١).

(لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كلّ ذرّات الوجود.

«الواقعة» تشير إشارة مختصرة إلى مسألة الحشر ، ولأنّ وقوعها حتمي فقد عبّر عنها بـ (الواقعة) واعتبر البعض أنّها إحدى أسماء القيامة.

كلمة (كاذبة) هنا أخذت بمعناها المصدري ، وهي إشارة إلى أنّ وقوع القيامة ظاهر وواضح إلى حدّ لا يوجد أي مجال لتكذيبه أو بحثه والنقاش فيه.

كما أنّ البعض فسّرها بمعناها الظاهري الذي هو اسم الفاعل ، حيث قالوا بعدم وجود من يكذّب هذا الأمر (٢).

وعلى كلّ حال فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب ، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣).

أجل ، أنّها تذلّ المستكبرين المتطاولين ، وتعزّ المحرومين المؤمنين وترفع المستضعفين الصادقين بعض يسقط إلى قاع جهنّم ، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنّة.

وهذه هي خاصية المبادئ الإلهيّة العظيمة.

ولذلك نقرأ في رواية الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «خافضة خفضت والله أعداء الله في النار ، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى

__________________

(١) تعتبر (إذا) منصوبة على الظرفية والناصب له «ليس» الوارد في الآية الثانية مثل أن نقول «يوم الجمعة ليس لي شغل» ويحتمل أن تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره (ذكر) إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأنسب.

(٢) إنّ سبب كون الضمير مؤنثا لتقديره (نفس كاذبة) أو (قضيّة كاذبة) واعتبر البعض أنّ (اللام) في (لوقعتها) للتوقيت ، إلّا أنّ الظاهر أنّها للتعدية.

(٣) «خافضة رافعة» خبر لمبتدأ محذوف ، وفي الأصل (هي خافضة رافعة).

٤٤٥

الجنّة» (١).

ثمّ يستعرض القرآن الكريم وصفا أوسع في هذا الجانب حيث يقول : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا).

يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى ، قال تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا).

(رجّت) من مادّة (رجّ) على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشيء وتقال رجرجة للاضطراب.

«بسّت» من مادّة (بسّ) على وزن (حجّ). والأصل بمعنى تليّين الطحين وتعجنه بواسطة الماء.

«هباء» بمعنى غبار ، و «منبث» بمعنى منتشر. قال البعض : إنّ «هباء» هو ذرّات الغبار الصغيرة المعلّقة بالفضاء ولا ترى في الحالة الاعتيادية ، إلّا إذا دخل نور الشمس من نافذة إلى مكان مظلم.

والآن يجب التفكير بهذه الزلزلة والإنفجار ، كم هو عظيم بحيث تتلاشى الجبال مع ما لها من القوّة والصلابة بحيث تتحوّل إلى غبار منتشر ، والأعظم هو شدّة الصوت الذي ينتج من هذا الإنفجار الرهيب.

وعلى كلّ حال فقد نلاحظ في الآيات القرآنية تعبيرات مختلفة حول وضع الجبال قبل يوم القيامة ، وتكشف لنا المراحل المتعدّدة للانفجار العظيم الذي يطرأ على الجبال ، حيث يقول عزوجل في هذا الصدد :

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) الطور.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) المرسلات.

(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) الحاقّة.

__________________

(١) الخصال طبقا ، نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٤.

٤٤٦

(وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) المزمل أي كالرمل المتراكم.

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الواقعة الآية محلّ البحث.

وأخيرا (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) القارعة أي كالصوف المنفوش حيث لا يرى منها إلّا لونها.

ومن الواضح أن لا أحد يعلم إلّا الله بحقيقة حصول هذه التغيّرات التي لا تحملها الألفاظ ، ولا تجسّدها العبارات ، اللهمّ إلّا إشارات معبّرة تحكي عظمة وهول هذا الإنفجار العظيم.

وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم ، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقول سبحانه : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً).

لفظ (الزوج) لا يقال دائما لجنس المؤنث والمذكّر ، بل تطلق هذه اللفظة على الأمور المتقارنة مع بعض ، ولكون أصناف الناس في القيامة والحشر والنشر تكون متقارنة مع بعضها ، لذا يطلق عليها لفظ أزواج.

وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١).

المقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى ، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة ، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة ، كما ذكر هذا مرارا في الآيات القرآنية.

أو أنّ كلمة (ميمنة) من مادّة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة ، وعلى هذا التّفسير فإنّ القسم الأوّل هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور.

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة توجد احتمالات عديدة وأنسبها أن نقول : «أصحاب الميمنة» مبتدأ ، و «ما» استفهامية مبتدأ تان ، وأصحاب الميمنة الثانية خبرها ، والخلاصة أنّ جملة (ما أصحاب الميمنة) خبر للمبتدأ الأوّل ، والفاء في بداية الجملة تفريعيّة وتفسيرية.

٤٤٧

وبالنظر إلى أنّ الآية اللاحقة تعرّف المجموعة الثانية بـ (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) والتي هي مأخوذة من مادّة (شؤم) فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب (١).

عبارة «ما أصحاب الميمنة» هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين ، وهذه قمّة الروعة في الوصف لمثل هذه الحالات ، ويمكن تشبيه ذلك بقولنا : فلان إنسان يا له من إنسان!

ثمّ يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) حيث الشؤم والتعاسة ، واستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم ، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال.

والتعبير بـ «ما أصحاب المشئمة» هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.

وأخيرا يصف المجموعة الثالثة أيضا بقوله سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (٢) (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب ، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص ، فهم أسوة وقدوة وقادة للناس ، ولهذا السبب فهم من المقرّبين إلى الحضرة الإلهيّة.

وبناء على هذا ، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله ، أو

__________________

(١) جاء في الآيات اللاحقة استعمال أصحاب الشمال بدلا من أصحاب المشئمة.

(٢) في تركيب هذه الآية والآيات اللاحقة احتمالات عديدة : الأوّل : أنّ (السَّابِقُونَ) الأولى مبتدأ ، والثانية وصف أو تأكيد له ، (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مبتدأ وخبر والتي هي في المجموع خبر لكلمة (السَّابِقُونَ) الاولى ، ويحتمل البعض الآخر أنّ (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) مبتدأ وخبر ، وشبّه بشعر أبي النجم المعروف حين يقول : (أنا أبو النجم وشعري شعري) والذي هو في الواقع نوع من الوصف العالي. وهناك احتمال آخر وهو أنّ (السابقون) الاولى هي بمعنى السابقين في الإيمان ، والسابقون الثانية بمعنى السابقين إلى الجنّة والتي ستكون كذلك مبتدأ وخبر.

٤٤٨

أداء الصلوات الخمس ، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإنّ كلّ واحد من هذه التفاسير تمثّل جانبا من هذا المفهوم الواسع ، وإلّا فإنّ هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع هذه الأعمال ، والطاعات وغيرها.

وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم «هابيل» ، و «مؤمن آل فرعون» ، و «حبيب النجّار» الذين تميّز كلّ منهم بأسبقيته في قومه ، وكذلك «أمير المؤمنين» عليه‌السلام الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال ، فإنّ هذا التّفسير في الحقيقة هو بيان للمصاديق الواضحة ، وليس تحديدا لمفهوم الآية (١).

وجاء في حديث آخر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله في يوم القيامة؟ فقال أصحابه : الله ورسوله أعلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه ، وإذا سألوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» (٢).

وجاء في بعض الرّوايات أيضا أنّ المقصود بـ (السابقون) هم الأنبياء المرسلون وغير المرسلين (٣).

«ونقرأ في حديث لابن عبّاس أنّه قال : «سألت رسول الله حول هذه الآية فقال : «هكذا أخبرني جبرائيل ، ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنّة ، المقرّبون من الله لكرامته لهم» (٤).

وكما تقدّم إنّه بيان للمصاديق الواضحة من المفهوم الذي ذكر أعلاه ، الذي يشمل جميع (السابقين) في كلّ الأمم والشعوب.

ثمّ يوضّح ـ في جملة قصيرة ـ المقام العالي للمقرّبين حيث يقول سبحانه :

__________________

(١) نقل هذا الحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام في مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١٥.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ١٣٤.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٦.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٩.

٤٤٩

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١).

التعبير بـ (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية ، ويمكن اعتبار هذا التعبير إشارة إلى أنّ بساتين الجنّة هي وحدها مركز النعمة والراحة في مقابل بساتين الدنيا التي تحتاج إلى الجهد والتعب ، كما أنّ حالة المقربين في الدنيا تختلف عن حالة المقرّبين في الآخرة ، حيث أنّ مقامهم العالي في الدنيا كان توأما مع المسؤوليات والطاعات في حين أنّ مقامهم في الآخرة سبب للنعمة فقط.

ومن البديهي أنّ المقصود من «القرب» ليس «القرب المكاني» لأنّ الله ليس له مكان ، وهو أقرب إلينا من أنفسنا ، والمقصود هنا هو «القرب المقامي».

ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الأمم السابقة وفي هذه الامّة أيضا حيث يقول سبحانه :

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي أنّهم جماعة كثيرة في الأمم السالفة والأقوام الاولى.

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

(ثلّة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من الصوف ، ثمّ تحوّلت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.

وأخذها البعض أيضا من (ثلّ عرشه) بمعنى سقط وانهار ، يقال (سقط عرشه وانقلعت حكومته) واعتبرها البعض (قطعة) ، وذلك بقرينة المقابلة بـ (قليل من الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.

وطبقا لهاتين الآيتين فإنّ قسما كبيرا من المقرّبين هم من الأمم السابقة ، وقسم قليل منهم فقط هم من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويثار سؤال هنا وهو : كيف يتناسب العدد القليل من مقرّبي امّة محمّد مع الأهميّة البالغة لهذه الامّة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها من أفضل الأمم؟ قال

__________________

(١) الجار والمجرور الموجود في الآية (جنّات النعيم) ممكن أن يكون متعلّق بما قبله يعني (المقرّبين) ، أو مرتبطة بحال محذوف جاء للمقرّبين وتقديره (كائنين في جنّات النعيم) ، أو يكون خبرا بعد خبر.

٤٥٠

تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...) (١).

وللجواب على هذا السؤال يجدر الالتفات إلى نقطتين :

الاولى : إنّ المقصود من المقرّبين هم السابقون في الإيمان ، ومن المسلّم أنّ السابقين لقبول الإسلام في المصدر الأوّل منه كانوا قلّة ، أوّلهم من الرجال الإمام على عليه‌السلام ، ومن النساء خديجة (رض) ، في الوقت الذي نعلم أنّ كثرة الأنبياء السابقين وتعدّد أممهم ، ووجود السابقين في كلّ امّة يؤدّي إلى زيادتهم من الناحية العددية.

والنقطة الثانية : أنّ الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية ، حيث يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الامّة قليلا ، إلّا أنّ مقامهم أفضل كثيرا ، كما هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم ، إذ يختلفون باختلاف درجاتهم : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ). (٢)

وممّا يلزم ذكره أنّ قسما من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في الإيمان ، مع توفّر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة السابقين من حيث الأجر والجزاء ، لذلك فقد نقل في بعض الرّوايات عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون» (٣).

وجاء في رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه خاطب مجموعة من أصحابه فقال لهم : «أنتم السابقون الأوّلون والسابقون الآخرون ، والسابقون في الدنيا إلى ولا يتنا ، وفي الآخرة إلى الجنّة» (٤).

ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض المفسّرين فسّر «الأوّلين والآخرين» ب

__________________

(١) آل عمران ، ١١٠.

(٢) البقرة ، ٢٥٣.

(٣) تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.

(٤) تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث

٤٥١

(الأوّلين في الامّة الإسلامية والآخرين فيها) وانسجاما مع هذا الرأي فإنّ جميع المقرّبين هم من الامّة الإسلامية.

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والرّوايات التي وردت في ذيل هذه الآيات ، حيث أنّها عرّفت أشخاصا من الأمم السابقة بالخصوص بعنوان أنّهم من السابقين الأوّلين.

* * *

٤٥٢

الآيات

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

التّفسير

الجنّة بانتظار المقرّبين :

هذه الآيات تتحدّث عن أنواع نعم الجنّة التي أعدّها الله سبحانه للقسم الثالث من عباده المقرّبين ، والتي كلّ واحدة منها أعظم من أختها وأكرم.

وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام :

يقول تعالى في البداية : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ).

«سرر» جمع سرير من مادّة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه

٤٥٣

المنعّمين في مجالس الانس والسرور (١).

(موضون) من مادّة (وضنّ) على وزن (وزن) وهي في الأصل بمعنى نسج الدرع ، ثمّ أطلقت على كلّ منسوج محكم الخيوط والنسيج. والمقصود هنا هي الأسرة الموضوعة جنبا إلى جنب بصورة متراصّة. أو أنّ لهذه الأسرة حياكة مخصوصة من اللؤلؤ والياقوت وما إلى ذلك ، كما قال بعض المفسّرين.

وعلى كلّ حال ، فإنّ بناء هذه الأسرة وكيفية وضعها ، ومجلس الانس الذي يتشكّل عليها ، وأجواء السرور والفرح التي تغمرها ، لا نستطيع وصفه بأي بيان.

ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنّة ، ومجالس أهلها ، ومنتديات أحبّتها ممّا يدلّ على أنّ من أهم نعم وملذّات هؤلاء هي جلسات الانس هذه ...

أمّا أحاديثهم وما يدور في حفلاتهم فليس هنالك أحد يعلم حقيقتها ، فهل هي عن أسرار الخلق وعجائب الكون؟ أو عن اصول المعرفة وأسماء الله وصفاته الحسنى؟ أو عن الحوادث التي حدثت في هذا العالم؟ أو عن الراحة التي هم عليها بعد التعب والعناء؟ أو عن امور اخرى لا نستطيع إدراكها ...؟ هذا هو سرّ لا يعلمه إلّا الله.

ثمّ يتحدث سبحانه عن نعمة اخرى لهم حيث يقول : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ).

التعبير بـ «يطوف» من مادّة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.

والتعبير بـ «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم ، والأصل أن جميع أهل الجنّة مخلّدون وباقون.

__________________

(١) مفردات الراغب مادّة (سر).

٤٥٤

أمّا من هم هؤلاء الولدان؟

قال البعض : إنّهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفّوا قبل البلوغ ، وصحيفة أعمالهم بيضاء لم تدنّس بعد ، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه ، وخدمتهم للمقرّبين تقترن بارتياح عظيم ورغبة عميقة ولذّة من أفضل اللذّات ، لأنّهم في خدمة المقرّبين من الحضرة الإلهيّة.

وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام علي عليه‌السلام.

إلّا أنّنا نقرأ في تفسير آخر أنّهم أطفال المشركين ولأنّهم لم يرتكبوا ذنبا فقد حصلوا على هذه المرتبة ، وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم وامّهاتهم.

ونقرأ في تفسير ثالث أنّهم خدّام الجنّة ، حيث إنّ الله سبحانه قد أعدّهم لهذه المهمّة بشكل خاصّ.

ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنّة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنّة (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (١) وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر ، حيث يقول تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (٢).

إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف ، إذ تغمر كلّ وجودهم بلذّة ليس لها مثيل.

ثمّ يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله

__________________

(١) أكواب جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له ، وأباريق جمع إبريق وهي في الأصل أخذت من الفارسية (آبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة ، ومن الاخرى ذات أنبوب لصبّ السائل ، وكلمة كأس تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه ، ومعين من مادّة (معن) على وزن (صحن) بمعنى الجاري.

(٢) (يصدّعون) من مادّة (صداع) على وزن (حباب) ، بمعنى وجع الرأس ، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الانفلاق) لأنّ الإنسان عند ما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم ، لذا فإنّ هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى. (وينزفون) من أصل (نزف) على وزن (حذف) بمعنى سحب جميع مياه البشر بصورة تدريجيّة ، وتستعمل أيضا حول (السكر) وفقدان العقل.

٤٥٥

للمقرّبين في الجنّة ، حيث يقول سبحانه : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (١) (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ).

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصّة عند أكلها قبل الطعام.

والذي يستفاد من بعض الرّوايات أنّ غصون أشجار الجنّة تكون في متناول أيدي أهل الجنّة ، بحيث يستطيعون بكلّ سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة ، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنّة. إلّا أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاصّ ولطف متميّز حيث أنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الاحترام والإكرام لأهل الجنّة ، وتضفي رونقا وبهاء أكثر على مجالس أنسهم. ومن المتعارف عليه اجتماعيا بيننا أنّ تقديم الفاكهة وتقريبها من الضيوف من قبل المضيف نفسه يعبّر عن التقدير والمحبّة والاحترام.

وخصّت لحوم الطيور بالذكر هنا لفضلها على بقيّة أنواع اللحوم ، لذا فقد تكرّر ذكرها.

إنّ استعمال تعبير «يتخيّرون» بالنسبة لـ (الفاكهة) ويشتهون بالنسبة لـ (اللحوم) لا يدلّل على وجود اختلاف بين التعبيرين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، بل هما بمعنى واحد بعبارتين مختلفتين ، والمقصود بهما أنّ أي غذاء يشتهيه أهل الجنّة يوضع باختيارهم من قبل (الولدان المخلّدين).

ثمّ يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات حيث يقول سبحانه : (حُورٌ عِينٌ) (٢) (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ).

__________________

(١) (فاكهة ولحم) كلاهما معطوف على أكواب وهذه الأشياء تهدى من قبل (الولدان المخلّدون) إلى المقرّبين.

(٢) بالرغم من تصوّر البعض أنّ (حور عين) عطف على (الولدان المخلّدون) وعلى هذا الرأي فإنّ ال (حور عين) يطفن

٤٥٦

«حور» كما قلنا سابقا جمع حوراء وأحور ، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديدا وبياضها شفافا ، و (عين) جمع (عيناء) وأعين ، بمعنى العين الواسعة ، لأنّ أكثر جمال الإنسان في عيونه ، فقد ذكر هذا الوصف خصوصا.

وقال البعض : إنّ «حور» أخذت من مادّة (حيرة) يعني أنّهنّ جميلات إلى حدّ تصاب العيون بالحيرة عند رؤيتهنّ (١).

«مكنون» بمعنى مستور ، والمقصود هنا الاستتار في الصدف ، لأنّ اللؤلؤ عند ما يكون مختفيا في الصدف وبعيدا عن لمس الأيدي يكون شفّافا وناصعا أكثر من أي وقت. وبالإضافة إلى ذلك قد يكون المقصود أنهنّ مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامّة ، لا يد تصل إليهنّ ولا عين تقع عليهنّ.

وبعد الحديث عن هذه المنح ، والعطايا المادية الستّة ، يضيف سبحانه : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) كي لا يتصوّر أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافا ، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها ، حيث يلزم للإنسان العمل المستمرّ الخالص حتّى تكون هذه الألطاف الإلهيّة من نصيبه.

«ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الاستمرار».

ويتحدّث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنّة ، وهي التي تتسم بالطابع الروحي المعنوي حيث يقول تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً).

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس ، فلا كذب ، ولا تهم ، ولا افتراءات ، ولا استهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة .. وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ .. بل الموجود هناك هو اللطف والصفاء والجمال والمتعة والأدب والطهارة ، وكم هو طاهر ذلك المحيط البعيد عن الأحاديث المدنّسة التي

__________________

ـ أيضا حول أصحاب الجنّة ، ونظرا لعدم تناسب هذا المعنى خصوصا في المجالس الجماعية لأهل الجنّة ، لذا فالظاهر أنّه مبتدأ لخبر محذوف ، والتقدير هكذا (ولهم حور عين).

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ نهاية الآية مورد البحث.

٤٥٧

هي السبب في أكثر انزعاجنا وعدم ارتياحنا في هذه الدنيا ، حيث اللغو والثرثرة والكلام اللامسئول والتعبيرات الجارحة!

ثمّ يضيف سبحانه : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (١).

ويسأل هنا : هل أنّ هذا السلام من قبل الله تعالى؟ أو أنّه من قبل الملائكة؟ أو هو سلام متبادل بين أهل الجنّة ، أو كلّ هذه الأمور؟

الظاهر أنّ الرأي الأخير هو الأنسب ، كما أشارت الآيات القرآنية الاخرى إلى ذلك (٢).

نعم إنّهم لا يسمعون شيئا إلّا السلام ، سلام وتحيّة من الله ، ومن الملائكة المقرّبين ، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاخوّة والصدق.

إنّ محيطهم وأجواءهم المغمورة بالسلام والسلامة تسيطر على وجودهم ، وإنّ أحاديثهم وحواراتهم المختلفة تنتهي إلى السلام والاخوّة والصفاء ، وأساسا فإنّ الجنّة هي دار السلام وبيت السلامة والأمن والأمان ، كما نقرأ في قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٣) (٤).

* * *

__________________

(١) سلاما مفعول به لـ (قيلا) والذي هو مصدر ، والمقصود أنّ كلامهم هنالك هو (السلام) ويحتمل أن تكون (سلاما) صفة لـ (قيلا) أو مفعول به (أو مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره ، (يسلّمون سلاما) إلّا أنّ المعنى الأوّل هو الأرجح ، وسلاما (الثانية) للتأكيد.

(٢) سورة يس ٥٨ ـ الرعد ٢٤ ـ يونس ١٠.

(٣) يجب الانتباه إلى أنّ الاستثناء في الآية (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) هو استثناء منقطع ويفيد للتأكيد.

(٤) الأنعام ، ١٢٧.

٤٥٨

الآيات

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

التّفسير

أصحاب اليمين وهباتهم :

بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الامتحان الربّاني.

ويشير سبحانه إلى نعم ستّ ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

٤٥٩

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلا من حيث مقامهم العالي ، حيث يقول عزوجل : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (١).

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء ، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه ، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (٢). وفي الحقيقة أنّ هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنّة في دائرة ألفاظنا الدنيوية ، لأنّ (السدر) كما يقول أئمّة اللغة : شجر قوي معمّر يصل طوله إلى أربعين مترا أحيانا وعمره يقرب من ألفي سنة ، ولها ظلّ ظليل ولطيف ، والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنّه ذو شوك إلّا أنّ وصفه بـ (مخضود) من مادّة (خضد) ـ على وزن (مجد) ـ بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنّة.

وجاء في حديث : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابي يوما ، فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما هي» قال : السدر ، فإنّ لها شوكا.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أليس يقول الله : في سدر مخضود ، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة ، إنّها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر» (٣).

ثمّ يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ).

«الطلح» : شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة ، وذكر البعض أنّها شجرة الموز

__________________

(١) إنّ الحديث عن تركيب هذه الجملة جاء في نهاية الآية (٨) من نفس هذه السورة.

(٢) الجار والمجرور متعلّق بعامل مقدّر والخلاصة أنّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم في سدر مخضود).

(٣) روح المعاني ج ٢٧ ص ١٢٠ ، والدرّ المنثور ج ٦ ص ١٥٦.

٤٦٠