الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-58-0
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٢٦

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمرا عجيبا ولا يمكن تصوّره وقبوله ، في حين أنّ الأمرين متماثلان : «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة ، فتارة عن طريق علم الله ، وأخرى عن طريق قدرته ، ثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات ، وأخيرا عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عدنا إلى آيات القرآن الاخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة أخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة ، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والأسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه .. فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمرا ملتويا وعسيرا.

* * *

٢١

الآيات

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨))

التّفسير

كتابه جميع الأقوال :

يثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).

كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده

٢٢

وأعماله وأقواله ، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر ، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة ، ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا ، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ ارتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».

أجل ، هو الخالق ، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن ، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان ... فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). (١)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب ، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته ، وكوننا في قبضة قدرته ، فإنّ تكليفنا واضح ، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٤.

٢٣

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله .. فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ .. ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادق عليه‌السلام يوما فقال : رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلّا أنّه لم ينههم عن ذلك ، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادق عليه‌السلام ادعوا لي ولدي موسى فدعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا : إنّ الذي كنت اصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عزوجل : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .. فاحتضنه الإمام الصادق وقال : بأبي أنت وأمّي يا مستودع الأسرار (١).

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» .. فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده ، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان .. في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب! إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسبا ، ولا سيّما إذا لا حظنا الآية ٢٤ من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة «الوريد» ـ ضمنا ـ مأخوذة من الورود ، ومعناه الذهاب نحو الماء ، وحيث إنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان ، وبالعكس ـ هذا الاصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٨.

٢٤

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١).

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه ، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله ، وهما معه دائما ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر ، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم ، و «المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس» (٢) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان ، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله ، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارة ، واخرى في حال الجلوس ، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصّدان أعماله.

ويحتمل أيضا أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر ، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائما ويسجّلان أعماله ، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج ٥٩ ص ١٨٦ رقم الرّواية ٣٢».

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب

__________________

(١) كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين ، إلّا أنّ جماعة اخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلّا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و «إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ باستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالأخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

(٢) كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفا وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

٢٥

الحسنات ، وملك الشمال كاتب السيّئات ، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل الإنسان حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات ، فإذا استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعد موت المؤمن : ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي (١).

وفي رواية اخرى عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلّا أمر الله تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي» ثمّ أضاف صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما» (٢).

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضا فتقول : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٣).

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان ، وفي هذه الآية اهتمام بخصوص ألفاظه ، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس ، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٥ ذيل الآيات محل البحث ، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٨٧ في الرّوايتين ٣٤ و٣٥».

(٣) الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائدا على الذي يلفظ القول ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب.

٢٦

نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم .. ويرون أنفسهم أحرارا في الكلام مع أنّ أكثر الأمور تأثيرا وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناء على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة «الرقيب» معناها المراقب و «العتيد» معناها المتهيئ للعمل ، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئا أو يدّخره بأنّه عتيد ، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الادّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد اسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد» ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر ، إلّا أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم ، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه ، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلّا أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ رواية عن الإمام الصادق يقول فيها : «إنّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي : ألم يقل الله تعالى (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)

٢٧

فيجيب الإمام عليه‌السلام : إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى» (١).

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) احتراما وإكراما له ، إلّا أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار ، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية ٧٨ من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

* * *

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة : كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك ، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّا لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّا أو اقتربنا منها كثيرا فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك : «يا من هو اختفى لفرط نوره»!

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه ، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الاولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا

__________________

(١) اصول الكافي طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

٢٨

بمزايلة».

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيها آخر ، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الاسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك : حين نقول : توجّه إلى الكعبة ، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها ، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة ، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلّا تبعا للمفهوم الاسمي ، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة ، إذ دون ارتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا .. وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.

* * *

٢٩

الآيات

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

التّفسير

القيامة ـ والبصر الحديد ـ

تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلّق بيوم المعاد : «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر»!

فتقول أوّلا : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ).

سكرة الموت : هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والانقلاب والتبدّل ، وربّما استولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة انتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة ، وأن يخطو في

٣٠

عالم جديد عليه مليء بالأسرار ، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت ، وهنا تتملّكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سكرا وليس بسكر (١).

حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب ، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال ، كما قد ورد في حالات انتقال روح النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ثمّ يقول : إن للموت سكرات (٢).

وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها» (٣).

كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول : «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب» (٤).

__________________

(١) السّكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء ، والسكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود ، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزا وسدّا بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسكر على زنة الشكر.

(٢) روح المعاني ، ج ٩ ، ص ١١٨

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٠.

٣١

ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم.

أيّا كان فهم منه يهربون .. ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه ، ولا بدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.

وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.

والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات أخر كما هو في الآية (٧٨) من سورة النساء إذ يقول : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)!.

وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بامّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجة يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ).

ولكن سواء أقسم أم لم يقسم ، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ).

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، لأنّه كما نوّهنا آنفا فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين : فالنفخة الاولى تدعى بنفخة الفزع أو الصعق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي ، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية

__________________

(١) كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه.

٣٢

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

«النفخ» معناه معروف ، و «النفخة» بمعنى المرّة منه ، و «الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادة لجمع الجنود أو تفريقهم أو الاستعداد أو الذهاب للراحة والنوم ، واستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية ٦٨ من سورة الزمر».

وعلى كلّ حال ، فمع الالتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ).

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والصالحين نحو جهنّم ، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.

ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما ، هناك تفاسير متعدّدة.

قال بعضهم : إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات ، و «الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات ، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و «الشهيد» رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.

٣٣

وقال بعضهم : «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و «الشهيد» عمل الإنسان.

كما قيل أنّ «السائق» ملك و «الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.

ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد ، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لاختلاف الوصفين ، أي أنّ مع الإنسان ملكا يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضا.

إلّا أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية ، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان ، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.

ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اخرى لبعض الشهود في يوم القيامة ، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن ، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.

وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار ، والملك الثاني يمنع عن الإنكار ، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبدا.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فردا فردا) فيقال : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

أجل ، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة ، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال ، وما كان مستورا وراء حجاب الغيب يبدو ظاهرا اليوم ، لأنّ هذا اليوم يوم البروز

٣٤

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!

ولذلك فقد وجدت عينا حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.

أجل ، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفيا ولا لثام على جمال الحبيب ، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.

إلّا أنّ الغرق في بحر الطبيعة والابتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة ، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة ، وأساسا فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!

حتّى في هذه الدنيا استطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصرا حديدا يرون به الحقائق ، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمدية ، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء ، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة ، بل بصر العقل والقلب.

يقول الإمام علي عليه‌السلام في أولياء الله في أرضه : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه» (١).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة ١٤٧.

٣٥

بحوث

١ ـ حقيقة الموت

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء ، إلّا أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبدا.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي ، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر ، ولذلك عبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ «توفّي» ويعني تسلّم الروح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) هو إشارة إلى هذا المعنى (١) أيضا ، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (الملك ـ ٢).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية ، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل : ما الموت؟ فقال : عليه‌السلام : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب».

وسئل الإمام محمّد بن عليّ عليه‌السلام السؤال الآنف ذاته فقال : «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة» (٢).

وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق ، وبعضهم «كالشهداء في سبيل الله

__________________

(١) في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك احتمالات عديدة ، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت ، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت ، وقيل أنّ الباء للملابسة ، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٥ [ويظهر أنّ المراد من الإمام محمّد بن علي هو الإمام التاسع محمّد الجواد عليه‌السلام].

٣٦

والمؤمنين الراسخين» ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم!

وقد بيّن الإمام الحسين عليه‌السلام لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند اشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال : «صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم» (١).

ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يكلّم أحدا ، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر : يا بن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟

فقال عليه‌السلام : «الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد» (٢).

٢ ـ سكرات الموت

كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت ، وقلنا أنّ «السكرات» جمع سكرة ، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر اشتداد حالة الإنسان اضطرب منها فيرى سكرا وليس بسكر!

صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية انتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٨٩ باب معنى الموت الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق.

٣٧

الله ، إلّا أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الانتقالية ليست سهلة لأي إنسان ، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وارتبطت به.

ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن سبب اضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب : لأنّه نما عليها البدن (١).

وهذا يشبه تماما حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة ، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالألم إلّا أنّه يشعر بالراحة بعدئذ.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام ، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه ، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت ، ويوم القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (٢) .. ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام ، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!.

وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون انتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألما ومرارة!.

٣ ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين ، إذ نقرأ في الآية (٩٩) من

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٦.

(٢) المصدر نفسه مع شيء من التلخيص : نقرأ في سورة مريم الآية ١٥ في شأن يحيى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).

٣٨

سورة الحجر (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). وفي الآية (٤٧) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضا.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لا بدّ أن يطرق بابه ، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيرا.

والالتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يعدّ إنذارا لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال : إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره ، فأمر عمر به فحبس ، فبلغ ذلك عليا عليه‌السلام فقال : يا عمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال : ولم؟ فقال علي : إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (١) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) (٢) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر (٣).

* * *

__________________

(١) التغابن ، الآية ١٥.

(٢) سورة ق ، الآية ١٩.

(٣) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١١٨.

٣٩

الآيات

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين :

مرّة اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد ، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاولى من هذه الآيات : يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

٤٠