الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

فإنّا سنعاقبهم أشدّ عقاب إن استمروا في طريق ضلالتهم وغيهم ، لأنّ «الانتقام» في الأصل يعني الجزاء والعقوبة ، وإن كان المستفاد من آيات قرآنية عديدة أخرى ـ نزلت في هذا المعنى ـ إن المراد من الذهاب بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاته ، كما جاء في الآية (٤٦) من سورة يونس : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ).

وجاء هذا المعنى أيضا في سورة الرعد ـ الآية ٤٠ ، وسورة غافر ـ الآية ٧٧ ، وعلى هذا فإنّ تفسير الآية بالهجرة لا يبدو مناسبا.

ثمّ تضيف الآية : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) فهم في قبضتنا على أية حال ، سواء كانت بينهم أم لم تكن ، والعقاب والانتقام الإلهي حتمي في حقّهم إذا ما استمروا في أعمالهم ، سواء كان ذلك في حياتك أم بعد مماتك ، فقد يتقدم أو يتأخر ، إلّا أنّه لا بدّ من وقوعه.

إنّ هذه التأكيدات القرآنية قد تكون إشارة إلى قلّة صبر الكفّار الذي كانوا يقولون : «إن كنت محقا وصادقا فيما تقول ، فلما ذا لا ينزل علينا العذاب»؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى كانوا في انتظار موت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظنّا منهم أن النّبي إن أغمض عينه وغاب شخصه فسينتهي كل شيء!

بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فليس في دينك وكتابك أدنى اعوجاج أو زيغ ، وعدم قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك ، فاستمر في طريقك بكل ما أوتيت من قوّة ، والباقي علينا.

ثمّ تضيف الآية الأخرى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فإنّ الهدف من نزوله إيقاظ البشر ، وتعريفهم بتكاليفهم : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ).

وبناء على هذا التّفسير فإنّ الذكر في هذه الآية يعني ذكر الله سبحانه ، ومعرفة الواجبات الدينيّة ، والاطلاع على تكاليف البشر ، كما ورد هذا المعنى في الآيتين

٦١

٥ و٣٦ من هذه السورة ، وككثير من آيات القرآن الأخرى.

ومن المعروف أنّ الذكر أحد أسماء القرآن الكريم ، والذكر بمعنى ذكر الله سبحانه ، ونقرأ هذه الجملة عدّة مرات في سورة القمر : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الآيات ١٧ ـ ٢٢ ـ ٣٢ ـ ٤٠.

إضافة إلى أن جملة : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) تشهد بأنّ المراد هو السؤال عن العمل بهذا البرنامج الإلهي.

لكن ـ مع كل ذلك ـ فالعجيب أنّ كثيرا من المفسّرين اختاروا تفسيرا آخر لهذه الآية لا يتناسب مع ما قلناه ، فمن جملة ما قالوا : إنّ معنى الآية هو : إنّ هذا القرآن هو أساس الشرف والعزة ، أو الذكر الحسن والسمعة الطيبة لك ولقومك ، وهو يمنح العرب وقريشا أو أمتك الشرف ، لأنّه نزل بلغتهم ، وسيسألون قريبا عن هذه النعمة (١).

صحيح أن القرآن رفع نداء نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعرب ، بل وكل المسلمين عاليا في أرجاء العالم ، وأن اسم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر بإعظام بكرة وعشيا على المآذن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ، وأن عرب الجاهلية الخاملي الذكر قد عرفوا في ظل اسمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلا صوت الأمّة الإسلامية في ربوع العالم بفضله.

وصحيح أن الذكر قد ورد بهذا المعنى في القرآن المجيد أحيانا ، إلّا أنّ ممّا لا شك فيه أنّ المعنى الأوّل أكثر ورودا في آيات القرآن ، وأكثر ملاءمة مع هدف نزول القرآن والآيات مورد البحث.

واعتبر بعض المفسّرين الآية (١٠) من سورة الأنبياء شاهدا على التّفسير الثاني ، وهي : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢). في حين أن الآية

__________________

(١) مجمع البيان ، التّفسير الكبير للفخر الرازي ، تفسير القرطبي ، تفسير المراغي ، وتفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث.

٦٢

تناسب التّفسير الأوّل أيضا ، كما فصلنا ذلك في التّفسير الأمثل ، في ذيل هذه الآية (١).

وقد وردت روايات في هذه الآية في المصادر الحديثية ، وستأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ثمّ تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر ، فقالت : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)؟

إشارة إلى أنّ كل أنبياء الله قد دعوا إلى التوحيد ، ووقفوا جميعا ضد الوثنية بحزم ، وعلى هذا فإنّ نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد ، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية ، وإنّما كان عبدة الأصنام والمشركون هم الذين يسيرون على خلاف مذهب الأنبياء.

وطبقا لهذا التّفسير فإنّ السائل وإن كان نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ المراد كل الأمّة ، بل وحتى مخالفيه.

والمسؤولون هم أتباع الأنبياء السابقين ، أتباعهم المخلصون ، بل ومطلق أتباعهم ، إذ يحصل الخبر المتواتر من مجموع كلامهم ، وهو يبيّن دين الأنبياء التوحيدي.

وينبغي التذكير بأنّه حتى المنحرفين عن أصل التوحيد ـ كالمسيحيين الذين يؤمنون بالتثليث اليوم ـ يتحدثون عن التوحيد أيضا ، ويقولون : إنّ تثليثنا لا ينافي التوحيد الذي هو دين جميع الأنبياء! وبهذا فإنّ الرجوع إلى هذه الأمم كاف في إبطال دعوى المشركين.

__________________

(١) الأمر الآخر الذي يمكن أن يكون دليلا على التّفسير المشهور ، هي كلمة (القوم) التي وردت في الآية المذكورة ، لأنّ القرآن منهاج لتذكير كل البشر ، لا قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب ، أو خصوص أمة الإسلام. إلّا أن هذا الكلام يمكن الإجابة عليه بأن هؤلاء القوم قد استفادوا من تذكير القرآن قبل الآخرين ، ولذلك كان التأكيد عليهم.

٦٣

إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا احتمالا آخر في تفسير هذه الآية مستوحى من بعض الروايات (١) ، وهو أن السائل هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه وأن المسؤولين هم الأنبياء السابقون. ثمّ أضافوا : إنّ هذا الأمر قد تمّ في ليلة المعراج ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد التقى بأرواح الأنبياء الماضين ، ومن أجل تأكيد أمر التوحيد طرح هذا السؤال وسمع الجواب.

وأضاف البعض : إنّ مثل هذا اللقاء كان ممكنا بالنسبة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى في غير ليلة المعراج ، لأنّ المسافات الزمانية والمكانية ليست مانعا ولا عائقا في مسألة اتصال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأرواح الأنبياء ، وكان بإمكان ذلك العظيم أن يتصل بهم في أية لحظة ، وفي أي مكان.

طبعا ، ليس على هذه التفاسير أي إشكال عقلي ، لكن لما كان الهدف من الآية نفي مذهب المشركين ، لاطمأنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إذ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مستغرقا في مسألة التوحيد ، ومشمئزا من الشرك إلى الحدّ الذي لا يحتاج معه إلى سؤال ، ولم يكن التقاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الروحي بأرواح الأنبياء الماضين استدلالا مقنعا أمام المشركين ـ اذن فالتّفسير الأوّل يبدوا أكثر ملاءمة ، والتّفسير الثّاني قد يكون إشارة إلى باطن الآية لا ظاهرها ، لأنّ لآيات القرآن ظهرا وبطنا.

وهناك أمر يستحق الانتباه ، وهو أنّ اسم (الرحمن) قد اختير في هذه الآية من بين أسماء الله سبحانه ، وهو إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن يترك هؤلاء الله الذي وسعت رحمته العامّة كل شيء ، ويتوجهون إلى أصنام لا تضر ولا تنفع؟!

* * *

__________________

(١) رويت هذه الرواية عن ابن عباس في تفسير القرطبي وتفسير الفخر الرازي ومجمع البيان ، ورويت في تفسير نور الثقلين روايتان مفصلتان في هذا الباب عن كتاب الإحتجاج وتفسير علي بن إبراهيم. يراجع المجلد ٤ ، ص ٦٠٥ ـ ٦٠٧.

٦٤

ملاحظة

من هم قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

توجد ثلاثة احتمالات في المراد من «القوم» في آية : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).

الأوّل : أنّهم كل الأمّة الإسلامية.

والثّاني : أنّهم العرب.

والثّالث : أنّهم قبيلة قريش.

ولما كان القوم في منطق القرآن الكريم قد أطلقت في موارد كثيرة على أمم الأنبياء ، أو الأقوام المعاصرين لهم ، فالظاهر أنّه هو المعنى المراد في الآية أيضا.

وبناء على هذا ، فإنّ القرآن أساس الذكر والوعي واليقظة لكل الأمة الإسلامية حسب التّفسير الأوّل ، وأساس الافتخار والشرف لهم جميعا حسب التّفسير الثّاني.

إلّا أننا نطالع في الروايات العديدة الواردة عن طرق أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من القوم في الآية هم أهل بيت النّبي وعترته (١).

لكن لا يبعد أن تكون هذه الروايات من قبيل بيان المصاديق الواضحة ، سواء كان معنى القوم كل الأمة الإسلامية ، أو أمة العرب ، أو أهل بيت نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي كل الأحوال يعتبر أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام من أوضح مصاديقها.

* * *

__________________

(١) جمع هذه الأحاديث مؤلف تفسير نور الثقلين ، في المجلد ٤ ، صفحة ٦٤ ـ ٦٥.

٦٥

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

التّفسير

الفراعنة المغرورون ونقض العهد :

في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبيّ الله موسى بن عمران عليه‌السلام وبين فرعون ، ليكون جوابا لمقالة المشركين الواهية بأن الله إن كان يريد أن يرسل رسولا ، فلما ذا لم يختر رجلا من أثرياء مكّة والطائف لهذه المهمّة العظمى؟

وذلك لأنّ فرعون كان قد أشكل على موسى نفس هذا الإشكال ، وكان منطقه عين هذا المنطق ، إذ جعل موسى في معرض التقريع والتوبيخ والسخرية للباسه

٦٦

الصوفي ، وعدم امتلاكه لأدوات الزينة ، فقالت الآية الأولى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ).

المراد من «الآيات» : المعجزات التي كانت لدى موسى ، والتي كانت يثبت حقانيته بواسطتها ، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.

«الملاء» ـ كما قلنا سابقا ـ من مادة الملأ ، أي القوم أو الجماعة الذين يتبعون هدفا واحدا ، وظاهرهم يملأ العيون لكثرتهم ، وقرآنيا فإنّ هذه الكلمة تعني الأشراف والأثرياء أو رجال البلاط عادة.

والتأكيد على صفة : (رَبِّ الْعالَمِينَ) هو في الحقيقة من قبيل بيان مدعى مقترن بالدليل ، لأنّ ربّ العالمين ومالكهم ومعلمهم هو الوحيد الذي يستحق العبوديّة لا المخلوقات الضعيفة المحتاجة كالفراعنة والأصنام!

ولنر الآن ماذا كان تعامل فرعون وآل فرعون مع الأدلة المنطقية والمعجزات البينة لموسى عليه‌السلام؟

يقول القرآن الكريم في الآية التالية : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين أما القادة الحقيقيين ، إذ لا يأخذون دعوتهم وأدلتهم بجدية ليبحثوا فيها ويصلوا إلى الحقيقة ، ثمّ يجيبونهم بسخرية واستهزاء ليفهموا الآخرين أن دعوة هؤلاء لا تستحق البحث والتحقيق والإجابة أصلا ، وليست أهلا للتلقي الجاد.

إلّا أننا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الأخرى لإتمام الحجة : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) (١).

والخلاصة : أنّنا أريناهم آياتنا كل واحدة أعظم من أختها وأبلغ وأشد ، لئلا يبقى لهم أي عذر وحجّة ، ولينزلوا عن دابة الغرور والعجب والأنانية ، وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع

__________________

(١) التعبير بـ «الأخت» في لغة العرب يعني ما يوازي الشيء في الجنس والمرتبة كالأختين.

٦٧

وغيرها (١)

ثمّ تضيف الآية : (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فمرّة أتاهم الجفاف والقحط ونقص الثمرات كما جاء في الآية (١٣٠) من سورة الأعراف : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ).

وكان العذاب أحيانا بتبدل لون ماء النيل إلى لون الدم ، فلم يعد صالحا للشرب ، ولا للزراعة ، وأحيانا كانت الآفات النباتية تقضي على مزارعهم.

إنّ هذه الحوادث المرّة الأليمة وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة ، فيلجئون إلى موسى ، غير أنّهم بمجرّد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شيء ، ويجعلون موسى غرضا لسهام أنواع التهم ، كما نقرأ ذلك في الآية التالية : (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ).

أي تعبير عجيب هذا؟! فهم من جانب يسمونه ساحرا ، ومن جانب آخر يلجؤون إليه لرفع البلاء عنهم ، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية!

إن عدم الانسجام بين هذه الأمور الثلاثة في الظاهر أصبح سببا في اختلاف التفاسير:

فذهب البعض : إنّ الساحر هنا يعني العالم ، لأنّهم كانوا يعظمون السحرة في ذلك الزمان ، وخاصّة في مصر ، وكانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى العلماء.

واحتمل البعض أن يكون السحر هنا بمعنى القيام بأمر مهم ، كما نقول في محادثاتنا اليومية : إنّ فلانا ماهر في عمله جدّا حتى كأنه يقوم بأعمال سحرية!

وقالوا تارة : إنّ المراد أنّه ساحر بنظر جماعة من الناس.

وأمثال هذه التفاسير.

إلّا أنّ العارفين بطريقة تفكير وتحدث الجاهلين المعجبين بأنفسهم والمستكبرين المغرورين والطواغيت يعلمون أنّ لهؤلاء الكثير من هذه التعابير

__________________

(١) جاء تفصيل المعجزات التسع لموسى بن عمران عليه‌السلام في ذيل الآية (١٠١) من سورة الإسراء.

٦٨

المتناقضة ، فلا عجب من أن يسمّوه ساحرا أوّلا ، ثمّ يلجؤون إليه لرفع البلاء ، وأخيرا يعدونه بالاهتداء.

بناء على هذا فيجب الحفاظ على ظاهر تعبيرات الآية والوقوف عندها ، إذ لا تبدو هناك حاجة إلى توجيهات وتفاسير أخرى.

وعلى أية حال ، فيظهر من أسلوب الآية أنّهم كانوا يعدون موسى عليه‌السلام وعودا كاذبة في نفس الوقت الذي هم بأمس الحاجة إليه ، وحتى في حال المسكنة وعرض الحاجة لم يتخلوا عن غرورهم ، ولذلك عبروا في طلبهم من موسى بـ (رَبَّكَ) و (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ولم يقولوا : ربّنا ، وما وعدنا ، أبدا. مع أن موسى قال لهم بصراحة : إنّ رسول ربّ العالمين ، لا رسول ربّي.

أجل ، إن ضعاف العقول والمغرورين إذا ما تربعوا على عرش الحكم ، فسيكون هذا منطقهم وعرفهم وأسلوبهم.

إلّا أن موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقا ، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم ، بل استمرّ في طريقه ، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء ، وهدأت ، لكنّهم كما تقول الآية التالية : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).

كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين ، وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي لا ينثوا مطلقا أمام عناد المخالفين وتصلبهم ، ولا يدعوا اليأس يخيم على أرواحهم وأنفسهم ، بل ينبغي أن يشقوا طريقهم بكل ثبات ورجولة وحزم ، كما ثبت موسى عليه‌السلام وبنو إسرائيل على مواقفهم ، واستمرّوا في طريقهم حتى انتصروا على الفراعنة.

وهي أيضا تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين ، بأنهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد ، فلينظروا عاقبة أمر أولئك ، وليتفكروا في عاقبتهم.

* * *

٦٩

الآيات

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

التّفسير

إذا كان نبيا فلم لا يملك أسورة من ذهب؟

لقد ترك منطق موسى عليه‌السلام من جهة ، ومعجزاته المختلفة من جهة أخرى ، والابتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء موسى عليه‌السلام من جهة ثالثة ، أثرا عميقا في ذلك المحيط ، وزعزعت أفكار الناس

٧٠

واعتقادهم بفرعون ، ووضعت كل نظامهم الاجتماعي والديني موضع سؤال واستفسار.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى عليه‌السلام عن التأثير في أفكار شعب مصر ، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك المحيط ، وقارن بينه وبين موسى عليه‌السلام من خلال هذه القيم ليبدو متفوقا على موسى ، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١).

أمّا موسى فما ذا يملك؟ لا شيء سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع والمكانة السامية ، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيدا وتأمّلوا دقيقا في المسألة.

وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة ، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية ، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

التعبير بـ «نادى» يوحي بأن فرعون عقد مجلسا عظيما لخبراء البلد ومستشاريه ، وخاطبهم جميعا بصوت عال فقال ما قال ، أو أنّه أمر أن يوزع نداؤه كرسالة في جميع أنحاء البلاد.

والتعبير بالأنهار ، المراد منه نهر النيل ، بسبب أن هذا النهر العظيم كالبحر المترامي الأطراف ، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة في مصر.

وقال بعض المفسّرين : كان لنهر النيل (٣٦٠) فرعا ، وكان أهمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس.

__________________

(١) الواو في جملة (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) يمكن أن تكون عاطفة على (ملك مصر) ويمكن أن تكون حالية (تفسير الكشاف). إلّا أن الاحتمال الأوّل يبدو هو الأنسب.

٧١

أمّا لماذا يؤكّد فرعون على نهر النيل خاصّة؟ فذلك لأنّ كل عمران مصر وثروتها وقوتها وتطورها كان يستمد طاقته من النيل ، من هنا فإنّ فرعون كان يدلّ به ، ويفتخر به على موسى.

والتعبير بتجري من تحتي لا يعني أن نهر النيل يمر من تحت قصري ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، لأنّ نهر النيل كان أعظم من أن يمرّ من تحت قصر فرعون ولو كان المراد أنّه يمرّ بمحاذاة قصره ، فإنّ كثيرا من قصور مصر كانت على هذه الحال ، وكان أغلب العمران على حافتي هذا الشط العظيم ، بل المراد أنّ هذا النهر تحت أمري ، ونظام تقسيمه على المزارع والمساكن حسب التعليمات التي أريدها.

ثمّ يضيف : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (١) وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين ـ حكومة مصر ، وملك النيل ـ وذكر لموسى نقطتي ضعف : الفقر ولكنة اللسان.

هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان ، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه ، ورفع عنه عقدة لسانه ، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (٢) ، ومن المسلّم أن دعاءه قد استجيب ، والقرآن شاهد على ذلك أيضا.

ليس عيبا عدم امتلاك الثروة الكثيرة ، والألبسة الفاخرة ، والقصور المزينة ، والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم ، بل هو فخر وكرامة وسمو.

إنّ التعبير بـ «مهين» لعله إشارة إلى الطبقات الاجتماعيّة في ذلك الزمان ، حيث كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية ، والكاد حين الفقراء

__________________

(١) اعتبر جماعة (أم) في الجملة أعلاه منقطعة ، وأنها بمعنى (بل) ، وذهب البعض أنها متصلة ، ومتعلقة بجملة (أفلا تبصرون). وتقدير الجملة : أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير من هذا ...

(٢) طه ، الآية ٢٧.

٧٢

طبقة واطئة ، أو أنّه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل ، وكان الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم.

ثمّ تشبث فرعون بذريعتين أخريين ، فقال ، (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (١) فلو أنّ الله قد جعله رسوله فلما ذا لم يعطه أساور من ذهب ، ومعاونين له كباقي الرسل؟

يقولون : إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية ، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه ، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية ، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.

أمّا أنبياء الله فإنّهم باطراحهم هذه المسائل ـ بالذات ـ جانبا كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة ، وأن يزرعوا محلها القيم الإنسانية الأصيلة ـ أي العلم والتقوى والطهارة ـ لأنّ نظام القيم إذا لم يصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبدا.

على أية حال ، فإنّ ذريعة فرعون هذه تشبه الذريعة التي نقلت عن مشركي مكّة قبل عدّة آيات حيث كانوا يقولون : لم لم ينزل القرآن على عظيم من مكّة والطائف؟!

والحجّة الثانية هي تلك الحجّة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأمم الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء ، فكانوا يقولون أحيانا : لماذا أرسل الله بشرا وليس ملكا؟ وأحيانا أخرى : إذا كان إنسانا فلما ذا لم يأت معه ملك؟

في حين أنّ الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا حاجاتهم ، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم ، وليقدروا على أن يكونوا من

__________________

(١) جاءت كلمة «مقترنين» هنا بمعنى المتتابعين أو المتعاضدين ، وقال البعض : إنّ الاقتران هنا بمعنى التقارن.

٧٣

الناحية العملية قدوة وأسوة لهم (١).

ويلزم أن نذكر هنا أن «الأسورة» جمع سوار ، سواء كان من الذهب أم من الفضة.

وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة ، وهي : إنّ فرعون لم يكن غافلا عن واقع الأمر تماما ، وكان ملتفتا إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير ، إلّا أنّه : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ).

إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الاستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها ، هي الإبقاء على الناس في مستوى مترد من الفكر والثقافة والوعي ، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل ، فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق ، وتنصب لهم قيما وموازين كاذبة منحطة بدلا من الموازين الحقيقية ، كما تمارس عملية غسل دماغ تام متواصل لهذه الشعوب ، وذلك لأنّ يقظتها ووعيها ، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات ، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة ، فهذا الوعي بمثابة ما رد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوّة.

إنّ هذا الأسلوب الفرعوني ـ أي استخفاف العقول ـ حاكم على كل المجتمعات الفاسدة في عصرنا الحاضر ، بكل قوّة واستحكام ، وإذا كان تحت تصرف فرعون وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه ، فإنّ طواغيت اليوم يستخفون عقول الشعوب بواسطة وسائل الاتصال الجماعية ، الصحف والمطبوعات ، شبكات الراديو والتلفزيون ، أنواع الأفلام ، بل وحتى الرياضة في قالب الانحراف ، وابتداع أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة ، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة ، فيطيعوهم ويستسلموا لهم ، ولهذا كانت المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين والملتزمين به ـ والذين يحيون خط الأنبياء الفكري والعقائدي ـ ثقيلة في محاربة

__________________

(١) ورد في التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٩) من سورة الأنعام بحث مفصل في هذا الباب.

٧٤

برامج استخفاف العقول ، فهي من أهم واجباتهم.

والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ، إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله عزوجل وحكم العقل ، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها ، فهم قد هيؤوا أسباب ضلالهم بأيديهم ، ولذلك فإنّهم ليسوا معذورين في هذا الضلال أبدا.

صحيح أنّ فرعون قد سرق عقول هؤلاء وحملهم على طاعته ، إلّا أنّهم قد أعانوه على هذه السرقة باتباعهم الأعمى له.

نعم ، كان هؤلاء قوما فاسقين يتبعون فاسقا.

كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله موسى عليه‌السلام ، لكننا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة ، إذ لم يسملوا للحق :

تقول الآية : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) فقد اختار الله سبحانه لهؤلاء عقوبة الإغراق بالخصوص من بين كل العقوبات ، وذلك لأنّ كلّ عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة ، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوته ، إذ قال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)؟

نعم ، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم ، سبب هلاكهم وفنائهم ، ويكون قبرا لهم ليعتبر الآخرون!

«آسفونا» من مادة الأسف ، وهو الحزن والغم ، ويأتي بمعنى الغضب ، بل إنّه يقال للحزن المقترن بالغضب أحيانا ـ على قول الراغب في مفرداته (١) ـ وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب ، شهوة الانتقام ، فمتى كان ذلك

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (أسف).

٧٥

على من دونه انتشر فصار غضبا ، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا ، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال : «مخرجهما واحد واللفظ مختلف».

وفسر بعضهم «آسفونا» بـ (آسفوا رسلنا) ، إلّا أن هذا التّفسير يبدو بعيدا ، ولا ضرورة لمثل هذا الخلاف الظاهري.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي أنه لا معنى للحزن والغم بالنسبة إلى الله سبحانه ، ولا الغضب بالمعنى المتعارف بيننا ، بل إن غضب الله يعني «إرادة العقاب» ، ورضاه يعني «إرادة الثواب».

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مر من كلام : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ).

«السلف» في اللغة يعني كل شيء متقدم ، ولذلك يقال للأجيال السابقة : سلف ، وللأجيال الآتية : خلف ، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفا» ، لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل.

والمثل يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة ، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى ، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.

* * *

٧٦

الآيات

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

سبب النّزول

جاء في سيرة ابن هشام : «وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما ـ فيما بلغني ـ مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أفحمه ثمّ تلا عليه

٧٧

وعليهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ ...).

ثمّ قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة له ، والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمّد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمّدا : أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم عليهم‌السلام ، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزّبعري ، ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول ابن الزبعري ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن كل من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنّهم إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته» (١).

فنزلت الآية الشريفة (١٠١) من سورة الأنبياء : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) وكذلك نزلت الآية : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).

* * *

التّفسير

أي الالهة في جهنم؟

تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح عليه‌السلام ، ونفي مقولة المشركين بألوهيته وألوهية الأصنام ، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية ، وتحذير لمشركي عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل مشركي العالم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلد الأوّل ، صفحة ٣٨٥ ، بتلخيص قليل.

٧٨

وبالرغم من أنّ الآيات تتحدث بإبهام ، إلّا أنّ محتواها ليس معقّدا ولا غامضا للقرائن الموجودة في نفس الآيات ، وآيات القرآن الأخرى ، رغم التفاسير المختلفة التي ذكرها المفسّرون.

تقول الآية الأولى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (١).

أيّ مثل كان هذا؟ ومن الذي قاله في حقّ عيسى بن مريم؟

هذا هو السؤال الذي اختلف المفسّرون في جوابه على اقوال ، إلّا أنّ الدقّة في الآيات التالية توضح أنّ المثل كان من جانب المشركين ، وضرب فيما يتعلق بالأصنام ، لأنّا نقرأ في الآيات التالية : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً).

بملاحظة هذه الحقيقة ، وما جاء في سبب النّزول ، يتّضح أن المراد من المثل هو ما قاله المشركون استهزاء لدى سماعهم الآية الكريمة : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٢) ، وكان ما قالوه هو أن عيسى بن مريم قد كان معبودا ، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية ، وأي شيء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزءوا وسخروا!

ثمّ استمرّوا : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)؟ فإذا كان من أصحاب الجحيم ، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.

ولكن ، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة ، و (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٣).

إنّ هؤلاء يعلمون جيدا أنّ الآلهة الذين يردون جهنم هم الذين كانوا راضين بعبادة عابديهم ، كفرعون الذي كان يدعوهم إلى عبادته ، لا كالمسيح عليه‌السلام الذي كان ولا يزال رافضا لعملهم هذا ، ومتبرءا منه.

__________________

(١) «يصدون» من مادة صد ، ويكسر مضارعها ، وهي تعني الضحك والصراخ ، وإحداث الضجيج والغوغاء ، حيث يضعون يدا بيد عند السخرية والاستهزاء عادة ، يراجع لسان العرب ، مادة : صدد.

(٢) الأنبياء ، الآية ٩٨.

(٣) «خصمون» جمع خصم ، وهو الشخص الذي يجادل ويخاصم كثيرا.

٧٩

بل : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) فقد كانت ولادته من غير أب آية من آيات الله ، وتكمله في المهد آية أخرى ، وكانت كل معجزة من معجزاته علامة بينة على عظمة الله سبحانه ، وعلى مقام النبوّة.

لقد كان عيسى مقرا طوال حياته بالعبودية لله ، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه ، ولما كان موجودا في أمته لم يسمح لأحد بالانحراف عن مسير التوحيد ، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح ، أو التثليث ، بعده (١).

والطريف أن نقرأ في روايات عديدة وردت عن طريق الشيعة والسنة ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : «إنّ فيك مثلا من عيسى ، أحبّه قوم فهلكوا فيه ، وأبغضه قوم فهلكوا فيه» فقال المنافقون : أما رضي له مثلا إلّا عيسى ، فنزل قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).

وما قلناه متن رواية أوردها الحافظ أبو بكر بن مردويه ـ من علماء أهل السنة المعروفين ـ في كتاب المناقب. طبقا لنقل كشف الغمة صفحة ٩٥.

__________________

(١) احتملوا في تفسير الآيات أعلاه احتمالات أخرى ، وكل منها لا يتناسب مع محتوى الآيات :

١ ـ فقال البعض : إنّ المراد من المثل الذي ضربه المشركون هو أنّهم قالوا بعد ذكر المسيح وقصته في آيات القرآن : إنّ محمّدا يهيء الأرضية ليدعونا إلى عبادته ، والقرآن في مقام الدفاع عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لم يكن المسيح مدعيا للألوهية ، وسوف لن يدعيها هو أيضا.

٢ ـ وقال البعض الآخر : إنّ المراد من المثل في الآيات المذكورة هو التشبيه الذي ذكره الله سبحانه في شأن المسيح في الآية (٥٩) من سورة آل عمران ، حيث يقول : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإذا كان عيسى قد ولد من غير أب فإن ذلك لا يثير العجب ، لأنّ آدم قد ولد من غير أب وأم ، بل من التراب بأمر الله تعالى.

٣ ـ واحتمل بعض آخر أنّ المراد من المثل هو قول المشركين حيث كانوا يقولون : إذا كان النصارى يعبدون المسيح ، فلما ذا لا تكون آلهتنا التي هي أسمى منه ، لائقة للعبادة وأهلا لها؟غير أنّ الالتفات إلى الخصوصيات التي ذكرت في هذه الآيات يوضح أن أيّا من هذه التّفسيرات الثلاثة لا يصح ، لأنّ الآيات تبيّن جيدا :

أوّلا : أنّ المثل كان من ناحية المشركين.

ثانيا : كان الموضوع قد أثار ضجة وصخبا ، وكان مضحكا بنظرهم.

ثالثا : كان شيئا على خلاف مقام عبودية المسيح عليه‌السلام.

رابعا : أنّه كان يحقق هدف هؤلاء ، وهو الجدال في أمر كان كاذبا. وهذه الخصائص لا تتناسب إلّا مع ما قلناه في المتن فقط.

٨٠