الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

(فتأمّل!) (١).

والجدير بالملاحظة هنا : هو أنّ المفسّرين قد احتملوا عدّة احتمالات في تفسير (فِي عَقِبِهِ) ففسّرها البعض بكلّ ذريّة إبراهيم وأسرته ، واعتبرها آخرون خاصّة بقوم إبراهيم وأمّته ، وفسّرها جماعة بآل محمّد عليهم‌السلام إلّا أنّ الظاهر هو أنّ لها معنى واسعا يشمل كل ذريته إلى انتهاء الدنيا ، والتّفسير بآل محمّد عليهم‌السلام من قبيل بيان المصداق الواضح لها.

والآية التالية جواب عن سؤال في الحقيقة ، وهو : في مثل هذه الحال لم لا يعذّب الله مشركي مكّة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ)؟

فتقول الآية مجيبة : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة ، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتّى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا النّبي العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدايتهم.

وبتعبير آخر ، فإنّ جملة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) في الآية السابقة توحي بأنّ الهدف من مساعي إبراهيم عليه‌السلام الحثيثة كان رجوع كل ذرّيته إلى خط التوحيد ، في حين أن العرب كانت تدعي أنّها من ذرية إبراهيم عليه‌السلام ورغم ذلك لم ترجع ، إلّا أنّ الله سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النّبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من نومهم ، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم.

إلّا أنّ العجيب أنّه : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ)!

نعم. لقد عدوّا القرآن المجيد سحرا ، والنّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساحرا ، وإذا لم يرجعوا عمّا قالوا فإنّ عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون.

* * *

__________________

(١) نقل صاحب نور الثقلين هذه الأحاديث في المجلّد ٤ ، صفحة ٥٩٦ ـ ٥٩٧ ، ووردت أيضا في تفسير البرهان ، المجلد ٤ ، صفحة ١٣٨ ـ ١٣٩.

٤١

الآيتان

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))

التّفسير

لم لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء؟

كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء ، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة ، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام الله وراء ظهورهم ، وتشير الآيات ـ مورد البحث ـ إلى حجّة واهية أخرى من حجج أولئك المشركين ، فتقول : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي مكّة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة ، إذ كان المعيار في

٤٢

تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

إنّ صغار العقول هؤلاء كانوا يتصوّرون أنّ الأثرياء ، وزعماء قبائلهم الظلمة هم أقرب الناس إلى الله سبحانه ، ولذلك فإنّهم كانوا يتعجبون لماذا لم تنزل موهبة النبوّة والرحمة الإلهيّة العظيمة هذه على رجل من قبيل هؤلاء الأفراد ونزلت على يتيم فقير خالي اليد اسمه محمّد! إن هذا لشيء عجاب لا يكاد يصدق!

نعم ، إنّ نظام القيم الخاطئ يستتبع مثل هذا الاستنباط ، وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم ، والعامل الأساس في انحرافها الفكري ، حيث تقلب الحقائق تماما في بعض الأحيان.

إنّ حامل هذه الدعوة الإلهيّة يجب أن يكون إنسانا تغمر وجوده روح التقوى ..

أن يكون إنسانا واعيا ، ذا إرادة وتصميم ، شجاعا عادلا ، عارفا بآلام المحرومين والمظلومين ، ذائقا لمرارتها ...

هذه هي القيم التي يلزم توفّرها من أجل حمل هذه الرسالة السماويّة ، لا الألبسة الفاخرة الجميلة ، والقصور الفخمة الفارهة المزيّنة بأنواع الزينة والزخارف ، خاصّة وإن أيّا من أنبياء الله لم يكن متمتعا بهذه الصفات والمزايا المادية ، لئلّا تشتبه القيم الأصيلة بالقيم المزيّفة.

وللمفسّرين أقوال في مراد المشركين من الرجل في مكّة والطائف؟ إلّا أنّ أغلبهم اعتبروا «الوليد بن المغيرة» رجل مكّة ، و «عروة بن مسعود الثقفي» رجل الطائف ، وإن كان البعض قد ذكر أن عتبة بن ربيعة من مكّة ، وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف.

إلّا أنّ الظاهر أن قول أولئك المشركين لم يكن يدور حول شخص معين ، بل كان هدفهم الإشارة إلى أحد الأثرياء المعروفين ، وله عشيرة مشهورة.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي ، ويجسد النظرة الإلهيّة الإسلاميّة تماما ، فيقول أوّلا : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ

٤٣

رَبِّكَ) فيمنحوا النبوّة من يشاءون ، وينزلوا عليه الكتاب السماوي ، وإذا لم يعجبهم إنسان أهملوه؟

هؤلاء على خطأ كبير ، فإنّ ربّك هو الذي يقسم رحمته ، وهو يعلم ـ أفضل من سواه ـ من يستحق هذا المقام العظيم ، ومن هو أهل له ، كما ورد ذلك في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام أيضا : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

فضلا عن ذلك ، فإنّ وجود التفاوت والاختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة ، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقا ، بل : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا).

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة ، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلّا عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة ، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الاجتماعية ، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل.

بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت ، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإنسانية ، إذ : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.

إنّ التعبير بـ «ربّك» الذي تكرّر مرّتين في هذه الآية ، إشارة لطيفة إلى لطف الله الخاص بنبي الإسلام الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنحه مقام النبوّة والخاتميّة.

* * *

سؤالين مهمّين :

عند مطالعة الآية أعلاه يتبادر إلى الذهن سؤالان يستخدمهما أعداء الإسلام كحربة للطعن في الفلسفة الإسلاميّة :

٤٤

الأوّل : كيف أقرّ القرآن استخدام الإنسان وتسخيره من قبل الإنسان؟ ألا يماثل هذا نظام الطبقات الاقتصاديّة ، أي نظام المستثمرين والمستثمرين؟

الثّاني : أنّ الأرزاق والمعايش إذا كانت مقسّمة من قبل الله تعالى ، فأي ثمرة يمكن أن تنتج عن جهودنا ومساعينا؟ ألّا يعني هذا إطفاء مشاعل السعي ومصابيح الجهاد من أجل الحياة؟

إنّ الإباحة على هذه الأسئلة تتّضح بالتدقيق في متن الآية ، لأنّ هؤلاء يتصورون أنّ معنى الآية هو أنّ جماعة معيّنة من البشر تسخر جماعة أخرى لأنفسها تسخيرا ظالما يمتصّ الدماء والجهود ، في حين أن الأمر ليس كذلك ، بل هو استخدام الناس بعضهم بعضا ، أي أنّ كل جماعة من الناس لهم إمكانيّات واستعدادات خاصّة يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة ، وهم بطبيعة الحال يقدمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين ، كما أنّ خدمات الآخرين في الحقول الأخرى تقدم إليهم.

والخلاصة : هو استخدام متبادل ، وخدمة ذات طرفين ، وبتعبير آخر : فإنّ الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة ، ولا شيء آخر.

ولا يخفى أنّ البشر لو كانوا متساوين جميعا من ناحية الذكاء والاستعداد الروحي والجسمي ، فسوف لن تتهيّأ مستلزمات الحياة الاجتماعيّة ، والنظم الحياتيّة مطلقا ، كما أن خلايا جسم الإنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية والرقة والمقاومة لا ختل نظام الجسم ، فأين خلايا عظم كعب القدم القويّة جدّا من خلايا العين الرقيقة؟ إن لكل من هاتين مهمّة خاصّة بنيت على أساسها.

والمثال الحي الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في جهاز التنفّس ، ودوران الدم ، والتغذية ، وسائر أجهزة بدن الإنسان ، التي هي مصداق واضح لـ (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) في إطار نشاطات البدن الداخليّة ، فهل يمكن الإشكال على مثل هذا التسخير؟ وهل فيه خلل أو نقص؟

٤٥

فإن قيل : إنّ جملة : (رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) دليل على عدم العدالة الاجتماعية.

قلنا : هذا يصحّ في حالة تفسير العدالة بالمساواة ، في حين أنّ العدالة تعني وضع كلّ شيء في محلّه ضمن منظومته ، فهل أنّ وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة عسكريّة ، أو تنظيم إداري ، أو في الدولة ، دليل على وجود الظلم في تلك الأجهزة؟

من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة «المساواة» في مجال الشعارات من دون الالتفات إلى معناها الواقعي ، أمّا في الواقع العملي فلا يمكن أن يتمّ أو يقوم أي نظام بدون الاختلاف والتفاوت ، غير أنّ هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة لأنّ يستغل الإنسان أخاه الإنسان أبدا ، بل يجب أن يكون الجميع أحرارا في استعمال قواهم الخلاقة ، وتنمية نبوغهم وإبداعهم ، والاستفادة من نتائج نشاطاتهم بدون زيادة أو نقصان ، وأمّا في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجدوا ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.

وأمّا فيما يتعلق بالسؤال الثّاني ، وهو : كيف يمكن المحافظة على شعلة الجهاد والسعي والاجتهاد وهاجة مع كون الرزق معينا؟ فإنّ الاشتباه ناشئ من تصورهم أن الله سبحانه لم يجعل لسعي الإنسان واجتهاده أي أثر أو دور.

صحيح أنّ الله سبحانه خلق القابليات متفاوتة لمختلف النشاطات ، وصحيح أنّ العوامل الخارجة عن إرادة الإنسان مؤثّرة في مسير حياته ، لكن مع ذلك فإنّه سبحانه قد جعل سعيه ، واجتهاده أيضا أحد العوامل الأساسيّة ، وأوضح سبحانه ببيان أصل : (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) ، أنّ سعادة الإنسان وما يجنيه ويحصل عليه يرتبط بسعيه واجتهاده.

وعلى أيّة حال ، فإنّ النكتة الغامضة والدقيقة تكمن في أنّ البشر ليسوا

__________________

(١) النجم ، الآية ٣٩.

٤٦

كالأواني المتساوية الصفات الى صنعت في معمل واحد ، في شكل واحد ، وعلى وتيرة واحدة ، وبحجم واحد ، ولغاية واحدة في الاستعمال ، ولو كانوا كذلك لما أمكنهم التعايش بعضهم مع البعض الآخر يوما واحدا.

وأيضا ليس الناس من قبيل أجهزة وأدوات سيارة نظمها مهندسها على هيئة ما ، فهي تقوم بعملها بصورة إجبارية ، بل لديهم حرية الإرادة ، وعليهم مسئولية وواجب في نفس الوقت الذي تختلف فيه قابلياتهم ولياقاتهم ، وهذا هو المركب الخاص الذي يسمونه الإنسان ، والاعتراضات والإيرادات التي تطرح غالبا تنبع من عدم معرفة هذا الإنسان.

وخلاصة القول : إنّ الله سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل الجهات ، بل إنّ جملة : (رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) إشارة إلى الامتيازات التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأخرى ، وتسخير كل فئة لأخرى واستخدامها لها نابع من هذه الامتيازات تماما ، وهذا عين العدالة والتدبير والحكمة (١).

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في ذيل الآية (٣٢) من سورة النساء ، وبحث آخر في ذيل الآية (١٦٥) من سورة الأنعام.

٤٧

الآيات

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

التّفسير

قصور فخمة سقفها من فضة؟ (قيم كاذبة)

تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» ، وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم ، فتقول الآية الأولى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (١).

ولجعلنا لهم بيوتا لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة (وَمَعارِجَ عَلَيْها

__________________

(١) «لبيوتهم» بدل اشتمال بـ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى ، أو بمعنى (على) أي : على بيوتهم ، لكن الاحتمال الأول أصح.

٤٨

يَظْهَرُونَ) (١).

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة ، وعدم تكرار كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنّهم لم يعتبروا وجود السّلام لوحدها دليلا على أهمية البيوت ، والأمر ليس كذلك ، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة النباء وتكونه من عدّة طوابق.

«السقف» جمع سقف ، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة ، أي المكان المسقف ، إلّا أنّ القول الأوّل أشهر.

ثمّ تضيف الآية الأخرى : (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ).

وربّما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرّة الفضية ، لأنّ الآية السابقة لما تحدثت عن السّقف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضا أن يكون وجود الأبواب والأسرّة المتعددة ـ خاصّة وأن (أبوابا) و (سررا) نكرة ، وقد وردت هنا لبيان الأهمية ـ دليلا بنفسه على عظمة تلك القصور ، لأنّهم يجعلون لبيت حقير عدّة أبواب أبدا ، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة ، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الأسرّة.

ولم تكتف الآية بهذا ، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة (وَزُخْرُفاً) (٢) لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من كل الجهات ، القصور الفخمة المتعددة الطبقات الأبواب والأسرّة المتعددة ، وكل وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقّق فيها مراد عبيد الدنيا وأمانيهم.

ثمّ تضيف الآية : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ

__________________

(١) «المعارج» جمع معراج ، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا.

(٢) اعتبر البعض (زخرفا) عطفا على (سقفا) ، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفا على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثم نصبت بنزع الخافض ، وعلى هذا يصبح معنى الجملة : إنا جعلنا بعض سقوف وأسرة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة. (تأمل!).

٤٩

لِلْمُتَّقِينَ)

«الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير ، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة ، فقد قيل له : زخرف ، وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه : كلام مزخرف ، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولا.

وخلاصة القول : إنّ هذه الأسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية ، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّا من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق ، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الأمور من نصيب هذه الفئة فقط ، ليعلم الجميع أن هذه الأمور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

* * *

ملاحظتان

١ ـ الإسلام يحطم القيم الخاطئة

حقّا لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها ، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإبل ، ومقدار الدراهم والدنانير ، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة ، حتى أنّهم يتعجبون لماذا اختير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنبوة وهو اليتيم الفقير ماديا؟!

إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه ، وبناء القيم الإنسانية الأصيلة كالتقوى ، والعلم ، الإيثار والتضحية ، الشهامة والحلم على أنقاضها ، وإلّا فإنّ كل الإصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.

وهذا هو الذي قام به الإسلام والقرآن والرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أحسن

٥٠

وجه ، ولهذا فإنّ المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفا وخرافة ، قد تسلق سلّم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدّة قصيرة.

والطريف أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في تكملة هذا البحث : «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء» (١).

ويبلغ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول : «ولقد دخل موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما‌السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه ، فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب ، إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف ولبسه ، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء».

ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة : «ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا ، وأقل نتائق الأرض مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ...».

«ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف البنا ، متصل القرى ، بين برة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، المجلد ٤ ، صفحة ٢٥٠.

٥١

قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء» (١).

وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة ، ويغفلون عن القيم الإلهيّة الواقعية.

على أية حال ، فإنّ أساس الثورة الإسلامية هو تغيير القيم ، وإذا ما أصبح مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة ، وتحت ضغط الأعداء الجلادين القساة ، فإنّ ذلك ناتج عن تركهم لقيم الأصيلة ، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية بينهم مرّة أخرى ، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم ، ونسوا العلم والفضيلة والتقوى ، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية ، وأضحوا غرباء عن الإسلام ، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم ، وما داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداء من القيم الحاكمة على وجودهم ، فسوف لن تشملهم رحمة الله ولطفه ، وذلك : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢).

٢ ـ جواب عن سؤال

بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية ، والثروة والمقام المادي ، يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : إذا كان الحق كذلك ، فلما ذا يقول القرآن في موضع آخر: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (٣)

أو يقول في موضع آخر : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٤) ، فكيف

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢. الخطبة القاصعة.

(٢) الرعد ، الآية ١١.

(٣) الأعراف ، الآية ٣٢.

(٤) الأعراف ، الآية ٣١.

٥٢

تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟

ينبغي الالتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات ـ مورد البحث ـ هو القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة ، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإنسان متقومة بثروته وزينته ، ولا يغني هذا أنّ الإمكانيات المادية شيء سيّء ، بل المهم أن تكون مجرّد أدوات ومظاهر للنظر ، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.

ثمّ إنّ هذه الإمكانيات تكون ذات قيمة عند ما تكون في حد المعقول واللائق بالحال ، وخالية من كلّ أنواع الإسراف والتبذير ، لا أن تبنى القصور من الذهب والفضة ، وتدّخر الثروات الطائلة منهما.

ومن هنا يتّضح أن وجود جماعة من الكفّار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلا على رفعة شخصيتهم ، ولا أن حرمان المؤمنين منها ، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة ، يضر بإيمانهم وتقواهم ، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

* * *

٥٣

الآيات

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

التّفسير

أقران الشياطين!

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية ، فإنّ الآيات ـ مورد البحث ـ تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الارتباط بالدنيا والتعلق بها ، ألا وهو الابتعاد عن الله سبحانه. تقول الآية الأولى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ

٥٤

قَرِينٌ) (١) (٢).

نعم ، إنّ الغفلة عن ذكر الله ، والغرق في لذات الدنيا ، والانهيار بزخارفها ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإنسان يكون قرينة دائما ، ويلقي لجاما حول رقبته يشدّه به ، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء!

من البديهي أنّه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية لأنّ هذه نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم ، وقد قلنا مرارا : إنّ أولى نتائج أعمال الإنسان ـ وخاصة الانغماس في ملاذ الدنيا ، والتلوث بأنواع المعاصي ـ هو تكوّن حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه ، ويسلط الشياطين عليه ، وقد يستمرّ هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب الرجوع ، لأنّ الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل جانب ، وهذه نتيجة عمل الإنسان نفسه ، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ كونه سبب الأسباب صحيحة أيضا ، وهذا هو نفس الشيء الذي عبّر عنه في آيات القرآن الأخرى بعنوان تزيين الشياطين (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) (٣) ، أو بعنوان ولاية الشيطان (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ). (٤)

وممّا يستحق الانتباه أن جملة (نُقَيِّضْ) وبالالتفات إلى معناها اللغوي ، تدل على استيلاء الشياطين ، كما تدل على كونهم أقرانا ، وفي الوقت نفسه فقد جاءت جملة : (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) بعدها لتؤكّد هذا المعنى ، وهو أنّ الشياطين لا يفارقون مثل هؤلاء الأفراد ، ولا يبتعدون عنهم مطلقا!

__________________

(١) «يعش» من مادة العشو ، فإن عديت بـ (إلى) : (عشوت إليه) فهي تعني الهداية بواسطة شيء ما بعين ضعيفة ، وإن عديت بـ (عن) : (عشا عنه) ، وأعطت معنى الإعراض عن الشيء ، وهو المراد في الآية المذكورة. لسان العرب (عشو).

(٢) «نقيّض» من مادة قيض ، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة ، ثمّ جاءت بمعنى جعل شيء مستوليا على شيء آخر.

(٣) النحل ، الآية ٦٣.

(٤) النحل ، الآية ٦٣.

٥٥

والتعبير بـ «الرحمن» إشارة لطيفة إلى أنّه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي عمّت رحمته العامّة الجميع وشملتهم ، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقرانا للشياطين ، يتبعون أوامرهم ، وينفذون ما يملون عليهم؟

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون للشياطين هنا معنى واسع بحيث يشمل حتى شياطين الإنس ، واعتبروا الكلمة إشارة إلى رؤوس الضلالة وزعمائها الذين يتسلطون على الغافلين عن ذكر الله سبحانه فيكونون أقرانا لهم ، وهذا التوسع في المعنى ليس ببعيد.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين ، فقالت : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) (١).

فكلما صمّموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات ، وتنصب الموانع في طريق عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبدا. وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) كما نقرأ ذلك في الآية (٣٨) من سورة العنكبوت حول عاد وثمود : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).

وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال ، فيبقى الإنسان الغافل الجاهل على ضلاله ، وتستمر الشياطين في إضلاله ، حتى ترفع الحجب ، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة: (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

إنّ كل أنواع العذاب من جهة ، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة اخرى والنظر إلى وجهه المشؤوم يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته ، فويل له إذ

__________________

(١) ضمير الجمع في «أنّهم» والجملة التالية يعود إلى الشياطين ، ومع أنه قد جاء بصيغة المفرد من قبل ، إلّا أنّه كان بمعنى الجمع.

٥٦

أصبح قرين من كان يزين له كل القبائح ويسلكه طريق الضلال على أنّه سبيل الخير والفلاح ، وطريق الانحراف على أنّه طريق الهدى والصلاح ، وويل له إذا أصبح مقيّدا معه بنفس الأصفاد في نفس السجن!

نعم ، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا ، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد ، بل إنّهما ـ برأي بعض المفسّرين ـ يقرنان بسلسلة واحدة!

من المعلوم أنّ المراد من المشرقين : المشرق والمغرب ، لأنّ العرب عند ما يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد ، فإنّهم يختارون أحد اللفظين ، كما يقولون : الشمسان ، إشارة إلى الشمس والقمر ، والظهران ، إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر ، والعشاء ان ، إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء.

وقد ذكروا تفاسير أخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه ، كقولهم : إنّ المراد هو مشرق بداية الشتاء ، ومشرق بداية الصيف ، وإن كان هذا التّفسير مناسبا في موارد أخرى.

وعلى أية حال ، فإنّ هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها ، حيث يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.

إلّا أن هذا الأمل لا يتحقق مطلقا ، ولا يمكن أن يقع الإفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين ، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الأخرى إلى الأبد (١).

وبهذا فإنّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم ، وكم هو مضن تحمل هذا الجوار؟

__________________

(١) على هذا فإن فاعل «ينفع» هو القول السابق حيث كانوا يأملون أن يكون البعد بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب ، وجملة (إذ ظلمتم) بيان لعلة عدم النفع ، وجملة (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) نتيجة هذا الظلم والجور.

٥٧

وهناك احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية ، منها أن الإنسان قد يشعر بخفة آلامه عند رؤية متألمين آخرين ، لأنّ المعروف (أن البلية إذا عمّت طابت) غير أنّه يقال لهؤلاء : لا يوجد هناك مثل تسلية الخاطر هذه ، بل ستغوصون في العذاب ، وعذاب الشياطين المشتركين معهم لا يبعث على تسلية الخاطر (١).

واحتملوا أيضا أن المصيبة عند ما تقع ، تخف وطأتها عند ما يجد الإنسان ثقلها موزعا بينه وبين أصدقائه ، ولكن هذه المسألة لا توجد هناك أيضا ، لأنّ لكل فرد سهما وافرا من العذاب ، من دون أن ينقص من عذاب الآخرين شيء!

لكن بملاحظة أن هذه الآية تكملة للآية السابقة ، فإنّ التّفسير الأوّل الذي اخترناه هو الأنسب.

ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها ، ويوجه الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذي كذبوا ارتباطه بالله ، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة ، فيقول : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم ، حيث شبه المعاندين الذين لا أمل في هدايتهم ، والغارقين في الذنوب بالعمي والصم ، بل وبالأموات أحيانا.

فقد جاء في الآية (٤٢) من سورة يونس : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ).

وجاء في الآية (٨٠) من سورة النمل : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ). وآيات أخرى.

إن كل هذه التعابير توضح أن القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإنسان : السمع والبصر والحياة الظاهريّة ، والسمع والبصر والحياة الباطنية ،

__________________

(١) بناء على هذا التّفسير ، فإنّ جملة (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) ستكون فاعل (ينفع) لا نتيجته.

٥٨

والمهم هو القسم الثّاني من الإدراك والنظر والحياة ، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد ، ولا إنذار وتحذير!

ومما يستحق الانتباه أنّ الآيات السابقة قد شبهت هذه الفئة بالأفراد العمش العيون ، والمحدودي البصر ، وتشبههم الآية الأخيرة هنا بالصم والعمي ، وذلك لأنّ الإنسان إذا اشتغل بالدنيا فحاله كمن يشكو ألما بسيطا في عينه ، فكلما زاد تعلقه بالدنيا واشتغاله بها ، ومال إلى الماديات أكثر ، وأهمل المسائل الروحية والمعنوية ، فسيضعف بصره نتيجة ذلك الألم في عينه ، حتى يصل بعدها إلى مرحلة العمى ، وهذا هو الشيء الذي أثبتته الأدلّة القطعية في مجال التشديد على المعنويات السلبية والإيجابية في الإنسان ، ورسوخ الملكات فيه نتيجة تكرار العمل والإصرار عليه ، وقد راعى القرآن الكريم هذا التسلسل أيضا (١).

* * *

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ٢١٤ ـ ٢١٥.

٥٩

الآيات

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

التّفسير

استمسك بالذي اوحي إليك :

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفّار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم ، تخاطب هذه الآيات نبيّ الإسلام الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب ، ومسليّة خاطر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ).

وسواء كان المراد من الذهاب بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين أولئك القوم وفاته أم هجرته من مكّة إلى المدينة ، فإنّه إشارة إلى أنّك حتى وإن لم تكن شاهدا وناظرا لأمرهم ،

٦٠