الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

جامع طريف إذ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

ومفهوم الآية كما أشرنا سابقا واسع إلى درجة أنّها تشمل أي نوع من أنواع التقدّم والتأخّر والكلام والتصرّفات الذاتية الخارجية عن تعليمات القيادة ...

ومع هذه الحال فإنّنا نلاحظ في تاريخ حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موارد كثيرة يتقدّم فيها بعض الأفراد على أمره أو يتخلّفون ويلون رؤوسهم فيكونون موضع الملامة والتوبيخ الشديد ... ومن ذلك ما يلي ...

١ ـ حين تحرّك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان وكان معه جماعة كثيرة ، منهم الفرسان ومنهم المشاة ، ولمّا بلغ (منزل) كراع الغميم أمر بإناء ماء ، فتناول منه الرّسول وأفطر ثمّ أفطر من كان معه ، إلّا أنّ العجيب أنّ جماعة منهم (تقدّم على النبي) ولم يوافقوا على الإفطار وبقوا صائمين فسمّاهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعصاة (١)!

٢ ـ ومثل آخر ما حدث في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر النبيّ أن ينادي المنادي : «من لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ، ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه» ثمّ يؤدّي مناسك الحج وأنّ من جاء بالهدي (وحجّه حجّ إفراد) فعليه أن يبقى على إحرامه ... ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لولا أنّي سقت الهدي لأحللت ، وجعلتها عمرة ، فمن لم يسق هديا فليحلّ». إلّا أنّ جماعة أبوا وقالوا كيف يمكننا أن نحل وما يزال النّبي محرما أليس قبيحا أن نمضي للحج بعد أداء العمرة ويسيل منّا ماء الغسل «من الجنابة».

فساء النّبي ما قالوا ووبّخهم ولامهم (٢).

٣ ـ قصة التخلّف عن جيش أسامة عند ما أراد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلتحق بالرفيق

__________________

(١) نقل هذا الحديث كثير من المؤرخين والمحدّثين ومنها ما ورد في الجزء السابع من وسائل الشيعة ، الصفحة ١٢٥ ، باب من يصح منه الصوم مع شيء من التلخيص.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٢١ ، ص ٣٨٦ (بشيء من التصرّف والاختصار).

٥٢١

الأعلى معروفة حيث أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن ينفّذوا جيش أسامة بن زيد ويتحرّكوا إلى حرب الروم وأمر المهاجرين والأنصار أن يتحرّكوا مع هذا الجيش ...

ولعلّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد ألّا تقع عند رحلته مسائل في أمر الخلافة ـ وقد وقعت ـ حتى أنّه لعن المتخلّفين عن جيش أسامة ومع كلّ ذلك تخلّف جماعة بحجة أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا النّبي في مثل هذه الظروف (١)!! ...

٤ ـ قصة «القلم والدواة» معروفة أيضا وهي في الساعات الأخيرة من عمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّها مثيرة والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة في صحيح مسلم بعينها هنا :

«لمّا حضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي : هلمّ اكتب لكم كتابا لا تضلّون بعده ، فقال عمر إنّ رسول الله قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت ، فاختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلّوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا» (٢)! ...

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذا الحديث عينه نقله البخاري في صحيحه باختلاف يسير جدا «صحيح البخاري ، ج ٦ ، باب مرض النبي ، ص ١١».

وهذه القضية من الحوادث المهمّة في التأريخ الإسلامي التي تحتاج إلى تحليل وبسط ليس هنا محلّه ولكنّها على كلّ حال من أجلى موارد التخلّف عن أمر النّبي ومخالفة الآية محل البحث : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ...)

__________________

(١) ذكر هذه القصة مؤرّخون كثر في كتب التاريخ الإسلامي وهي من الحوادث المهمّة في تاريخ الإسلام «لمزيد الاطلاع يراجع كتاب المراجعات ـ المراجعة ٩٠ ـ منه».

(٢) صحيح مسلم ، ج ٣ ، كتاب الوصية ، الحديث ٢٢.

٥٢٢

وما يهمّنا هنا أنّ رعاية الانضباط الإسلامي والإلهي تحتاج إلى روح التسليم المطلق وقبول القيادة «الإلهية» في جميع شؤون الحياة والإيمان المتين بمقام القائد الشامخ ...

* * *

٥٢٣

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان : هناك قولان في شأن نزول الآية الأولى من الآيات أعلاه ، ولكنّ بعضهم اكتفى بقول واحد منهما كالقرطبي وسيد قطب ، ونور الثقلين.

فالقول الأوّل في شأن نزول الآية محل البحث الذي ذكره أغلب المفسّرين أنّ الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) نزلت في «الوليد بن عقبة» وذلك أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسله لجمع الزكاة من قبيلة «بني المصطلق» فلمّا علم

٥٢٤

بنو المصطلق أنّ مبعوث الرّسول قادم إليهم سرّوا كثيرا وهرعوا لاستقباله ، إلّا أنّ الوليد حيث كانت له خصومة معهم في زمان الجاهلية ، شديدة ، تصوّر أنّهم يريدون قتله.

فرجع إلى النّبي «ومن دون أن يتحقّق في الأمر» وقال : يا رسول الله إنّهم امتنوا عن دفع الزكاة «ونعرف أنّ عدم دفع الزكاة هو نوع من الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية فبناء على ذلك فإنّ مدّعى الوليد يقتضي أنّهم مرتدّون»!!

فغضب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك وصمّم على أن يقاتلهم فنزلت الآية آنفة الذكر (١) ...

وأضاف بعضهم أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أخبره الوليد بن عقبة بارتداد قبيلة (بني المصطلق) أمر خالد بن الوليد بن المغيرة أن يمضي نحوها وأن لا يقوم بعمل حتى يتريث ويعرف الحقّ ...

فمضى خالد ليلا وصار قريبا من قبيلة بني المصطلق وبعث عيونه ليستقصوا الخبر فعادوا إليه وأخبروا بأنّهم مسلمون «أوفياء لدينهم» وسمعوا منهم صوت الآذان والصلاة ، فغدا خالد عليهم في الصباح بنفسه فوجد ما قاله أصحابه صدقا فعاد إلى النّبي وأخبره بما رأى فنزلت الآية آنفة الذكر ، وعقّب النّبي عليها ... «التأنّي من الله والعجلة من الشيطان» (٢).

وذكر بعض المفسّرين قولا آخر في شأن نزول الآية وعوّلوا عليه فحسب ، وهو أنّ الآية نزلت في «مارية القبطية» زوج النّبي وأم إبراهيم عليه‌السلام ، لأنّه قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ لها ابن عمّ «يدعى جريحا» تتردّد إليه أحيانا «وبينهما علاقة غير مشروعة» فأرسل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف علي عليه‌السلام فقال له «يا أخي خذ السيف فإن وجدته عندها فاضرب عنقه ...»

فأخذ أمير المؤمنين السيف ثمّ قال بأبي أنت وأمي يا رسول الله : أكون في أمرك

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٢.

(٢) القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٣١.

٥٢٥

إذا أرسلتني كالسكة المحماة ؛ أمضي لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» ، قال علي : فأقبلت متوشّحا بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلمّا عرف أنّي أريده أتى نخلة فرقى إليها ثمّ رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا أنّه أجبّ امسح مال ممّا للرجال قليل ولا كثير فرجعت فأخبرت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «الحمد لله الذي يصرف عنّا السوء أهل البيت» (١).

وورد هذا الشأن ذاته في تفسير نور الثقلين ج ٥ مع اختلاف يسير في العبارات ...

* * *

التّفسير

لا تكترث بأخبار الفاسقين :

كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيّهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ورد في الآيات المتقدّمة أمران مهمّان ، الأوّل أن لا يقدموا بين يديه والآخر هو مراعاة الأدب عند الكلام معه وعدم رفع الصوت فوق صوته ...

أمّا الآيات محل البحث فهي تبيّن الوظائف الأخرى على هذه الأمّة إزاء نبيّها.

وتقول ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر إلى النّبي فلو أنّ فاسقا جاءكم بنبإ فتثبّتوا وتحقّقوا من خبره ، ولا تكرهوا النّبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه ... فتقول الآيات أوّلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

ثمّ تبيّن السبب في ذلك فتضيف : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٢ ، كما ورد في تفسير نور الثقلين بصورة مسهبة ، ج ٥ ، ص ٨١.

٥٢٦

فلو أنّ النّبي قد أخذ بقول «الوليد بن عقبة» وعدّ قبيلة بني المصطلق مرتدّين وقاتلهم لكانت فاجعة ومصيبة عظمى! ...

ويستفاد من لحن الآية التالية أنّ جماعة من أصحاب الرّسول اصرّوا على قتال بني المصطلق ، فقال لهم القرآن إنّ هذا هو الجهل بعينه وعاقبته الندم.

واستدل جماعة من علماء الأصول على حجّية خبر الواحد بهذه الآية لأنّها تقول إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا ... ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبإ فلا يلزم التبيّن ... ويصح قبول خبره إلّا أنّه أشكل على هذا الاستدلال بمسائل عديدة أهمها مسألتان :

المسألة الأولى : إنّ الاستدلال المتقدّم ذكره متوقّف على قبول «حجّية مفهوم الوصف» ، والمعروف أنّه لا حجّية لمفهوم الوصف (١) ...

المسألة الثانية : إنّ العلة المذكورة في ذيل الآية فيها من السعة ما يشمل خبري العادل والفاسق معا لأنّ العمل بالخبر الظنّي ـ مهما كان ـ ففيه احتمال الندم.

لكنّ هاتين المسألتين يمكن حلّهما ، لأنّ مفهوم الوصف وأي قيد آخر في الموارد التي يراد منها بيان القيد في مقام الاحتراز حجة ، وذكر هذا القيد «قيد الفاسق» في الآية المتقدّمة طبقا للظهور العرفي لا فائدة منه تستحق الملاحظة سوى حجّية خبر العادل!

وأمّا في مورد التعليل الوارد في ذيل الآية فالظاهر أنّه لا يشمل كلّ عمل بالأدلة الظنّية ، بل هو ناظر إلى الموارد التي يكون العمل فيها بجهالة ، أي العمل بسفاهة وحمق ، لأنّ الآية عوّلت على الجهالة ، ونعرف أنّ أغلب الأدلة التي يعوّل عليها العقلاء جميعا في العالم في المسائل اليومية هي دلائل ظنّية «من قبيل

__________________

(١) يتصوّر بعضهم أنّ المسألة هنا من قبيل مفهوم الشرط ومفهوم الشرط حجّة ، في حين أنّه لا علاقة هنا بمفهوم الشرط ، إضافة الى ذلك فإنّ الجملة الشرطية هنا لبيان الموضوع ونعرف أنّه في مثل هذه الموارد لا مفهوم للجملة الشرطية أيضا فلاحظوا بدقّة.

٥٢٧

ظواهر الألفاظ وقول الشاهد ، وقول أهل الخبرة ، وقول ذي اليد وأمثالها».

ومعلوم أنّه لا يعدّ أيّ ممّا أشير إليه آنفا بأنّه جهالة ولو لم يطابق الواقع أحيانا ، فلا تتحقّق هنا مسألة الندم فيه لأنّه طريق عام ...

وعلى كلّ حال فإنّنا نعتقد بأنّ هذه الآية من الآيات المحكمات التي فيها دلالة على حجّية خبر الواحد حتى في الموضوعات ، وهناك بحوث كثيرة في هذا الصدد ـ ليس هنا مجال شرحها ...

إضافة إلى ذلك فإنّه لا يمكن إنكار أنّ مسألة الاعتماد على الأخبار الموثقة هي أساس التاريخ والحياة البشرية. بحيث لو حذفنا مسألة حجيّة خبر العادل أو الموثّق من المجتمعات الإنسانية لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلّقة بالمجتمعات البشرية القديمة وحتى كثير من المسائل المعاصرة التي نعمل على ضوئها اليوم ...

ولا يرجع الإنسان إلى الوراء فحسب ، بل تتوقف عجلة الحياة ، لذلك فإنّ العقلاء جميعا يرون حجّيته والشارع المقدّس أمضاه أيضا «قولا وعملا».

وبمقدار ما يعطي خبر الواحد «الثقة» الحياة نظامها فإنّ الاعتماد على الأخبار غير الموثّقة خطير للغاية ، ومدعاة إلى اضطراب نظام المجتمع ، ويجر الوبال والمصائب المتعدّدة ، ويهدّد الحيثيات وحقوق الأشخاص بالخطر ويسوق الإنسان إلى الانحراف والضلال وكما عبّر القرآن الكريم تعبيرا طريفا في الآية محل البحث : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

وهنا لطيفة تسترعي الانتباه أيضا ، وهي أنّ صياغة الأخبار الكاذبة والتعويل على الأخبار غير الموثّقة من الأساليب القديمة التي تتّبعها النظم الاستعمارية والديكتاتورية لتخلق جوّا كاذبا ينخدع به الجهلة من الناس والمغفّلون فتنهب أموالهم وأرصدتهم بهذه الأساليب وما شاكلها ...

فلو عمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي الوارد في هذه الآية على نحو الدقّة ولم

٥٢٨

يأخذوا بأخبار الفاسقين دون تبيّن لكانوا مصونين من هذه البلايا الخطيرة!

والجدير بالذكر أنّ المسألة المهمّة هنا هي الوثوق والاعتماد على الخبر ذاته ، غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الاعتماد على الشخص المخبر تارة ، وتارة من القرائن الأخر الخارجية ... ولذلك فإنّنا قد نطمئن إلى «الخبر» أحيانا وإن كان «المخبر» فاسقا ...

فعلى هذا الأساس ، فإنّ هذا الوثوق أو الاعتماد كيف ما حصل ، سواء عن طريق العدالة والتقوى وصدق القائل أم عن طريق القرائن الخارجية ، فهو معتبر عندنا ، وسيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية على هذا الأساس ...

ولذا فإنّنا نرى في الفقه الإسلامي كثيرا من الأخبار ضعيفة السند لكن لأنّها جرى عليها «عمل المشهور» ووقف على صحة الخبر من خلال قرائن خاصة ، فلذلك أصبحت هذه الأخبار (الضعيفة السند) صالحة للعمل وجرت فتاوى الفقهاء على وفقها.

وعلى العكس من ذلك قد تقع أخبار عندنا قائلها معتبر ولكنّ القرائن الخارجية لا تساعد على قبوله ، فلا سبيل لنا إلّا الاعراض عنه وإن كان المخبر عادلا و «معتبرا» ...

فبناء على هذا ـ إنّ المعيار هو الاعتماد على الخبر نفسه ـ في كلّ مكان ـ وإن كان الغالب كون الوسيلة هي عدالة الراوي وصدقه ـ لهذا الاعتماد ـ إلّا أنّ ذلك ليس قانونا كليّا. (فلاحظوا بدقّة).

والآية التالية ـ وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة ـ تضيف قائلة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) (١).

وتدلّ هذه الجملة ـ كما قاله جماعة من المفسّرين أيضا ـ أنّه بعد أن أخبر

__________________

(١) كلمة «لعنتّم» : مشتقّة من مادة العنت ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشقّ على الإنسان ، ومن هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرّضه للضربة بأنّه عنت ..

٥٢٩

«الوليد» بارتداد طائفة «بني المصطلق» ... ألحّ جماعة من المسلمين البسطاء السذّج ذوي النظرة السطحية على الرّسول أن يقاتل الطائفة آنفة الذكر ...

فالقرآن يقول : من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي فمتى ما بدت فيكم بوادر الانحراف فسيقوم بإرشادكم عن هذا الطريق ، فلا تتوقّعوا أن يطيعكم ويتعلّم منكم ولا تصرّوا وتلحّوا عليه ، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم ...

ويشير القرآن معقّبا في الآية إلى موهبة عظيمة أخرى من مواهب الله سبحانه فيقول : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ).

وفي الحقيقة أنّ هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي «اللطف التكويني».

وتوضيح ذلك أنّه حين يريد الشخص الحكيم أن يحقّق أمرا فإنّه يوفّر له جميع ما يلائمه من كلّ جهة ويصدق هذا الأصل في شأن الناس تماما ...

فالله يريد أن يطوي الناس جميعا طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم ، ولذا يرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة ، ويحبّب إليهم الإيمان من جهة أخرى ، ويضري شعلة العشق نحو طلب الحق والبحث عنه في داخل النفوس ويكرّه إليها الكفر والفسوق والعصيان ...

وهكذا فإنّ كلّ إنسان مفطور على حبّ الإيمان والطهّارة والتقوى ، والبراءة من الكفر والذنب.

إلّا أنّه من الممكن أن يتلوّث ماء المعنويات المنصبّ في وجود الناس في المراحل المتتالية وذلك نتيجة للاختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان ...

هذه الموهبة الفطرية تدعو الناس إلى إتباع رسول الله وعدم التقدّم بين يديه.

٥٣٠

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة أيضا ، وهي أنّ محتوى الآية لا ينافي المشاورة أبدا ، لأنّ الهدف من المشاورة أو الشورى أن يعرب كلّ عن عقيدته ووجهة نظره ، إلّا أنّ الرأي الأخير والنظر النهائي لشخص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يستفاد ذلك من آية الشورى أيضا ...

وبتعبير آخر ... إنّ الشورى هي موضوع مستقل ، وفرض الرأي موضوع آخر ، فالآية محل البحث تنفي فرض الرأي لا المشاورة.

وفي أنّ المراد من «الفسوق» المذكور في الآية ما هو؟! قال بعض المفسّرين هو الكذب ، إلّا أنّه مع الالتفات إلى سعة مفهومه اللغوي فإنّه يشمل كلّ خروج على الطاعة ، فعلى هذا يكون التعبير بـ «العصيان» بعده تأكيدا عليه ، كما أنّ جملة (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) تأكيد على الجملة السابقة لها : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ).

وقال بعضهم إنّ كلمة «الفسوق» إشارة إلى الذنوب الكبيرة في حين أنّ «العصيان» أعم منه ... إلّا أنّه لا دليل على ذلك ...

وعلى كلّ حال ، فإنّ القرآن يقرّر قاعدة كلية وعامة في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة [فيها] فتقول : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).

أي لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية «العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق» ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شكّ في انتظاركم ...

وممّا يستجلب النظر أنّ الجمل السابقة في الآية كانت بصيغة الخطاب للمؤمنين لكنّ هذه الجملة : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) تتحدّث عنهم بصيغة «الغائب» ويبدو أنّ هذا التفاوت في التعبير جاء ليدلّ على أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأصحاب النبي ، بل هو قانون عام ، فكلّ من حفظ صفاءه الفطري في أي عصر وزمان هو من أهل الرشد والهداية والنجاة.

أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أن محبوبية الإيمان

٥٣١

والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١).

فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود ... «وهو الجنّة».

والظاهر أنّ الفضل والنعمة كليهما إشارة إلى حقيقة واحدة ، هي المواهب الإلهية التي يمنحها عباده ، غاية ما في الأمر أنّ «الفضل» إنّما سمّي فضلا لأنّ الله غير محتاج إليه و «النعمة» إنّما سمّيت نعمة لأنّ العباد محتاجون إليها ، فهما بمثابة الوجهين لعملة واحدة! ...

ولا شكّ أنّ علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان).

* * *

ملاحظات

١ ـ هداية الله وحريّة الإرادة

إنّ الآيات الآنفة تجسيد بيّن لوجهة نظر الإسلام في مسألة «الجبر والإختيار» والهداية والإضلال ، لأنّها توضح هذه اللطيفة ـ بجلاء ـ وهي أنّ الله يهيئ المجال «والأرضية» للهداية والرشد ، فمن جهة يبعث رسوله ويجعله بين الناس وينزل القرآن الذي هو نور ومنهج هداية ؛ ومن جهة يلقي في النفوس العشق للإيمان ومحبّته ؛ والتنفّر والبراءة من الكفر والعصيان ، لكن في النهاية يوكل للإنسان أن يختار ما يشاء ويصمّم بنفسه ، ويشرع سبحانه التكاليف في هذا المجال! ...

__________________

(١) (فضلا ونعمة) نصبا على أنّهما [مفعولان لأجله] للفعل حبّب إليكم أو أنّهما مفعولان مطلقان لفعلين محذوفين وتقديرهما : هكذا أفضل فضلا وأنعم نعمة ..

٥٣٢

وطبقا للآيات المتقدّمة فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة اخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم ، فإنّ الله لم يلق في قلب أيّ شخص حبّ العصيان وبغض الإيمان ...

٢ ـ القيادة والطاعة

هذه الآيات تؤكد مرّة أخرى أنّ وجود القائد «الإلهي» ضروري لرشد جماعة ما ، بشرط أن يكون مطاعا لا مطيعا وأن يتّبع أصحابه وجماعته أوامره لا أن يؤثّروا عليه ويفرضوا عليه آراءهم (ابتغاء مقاصدهم ومصالحهم).

وهذه المسألة لا تختصّ بالقادة الإلهيين فحسب ، بل ينبغي أن تكون حاكمة في المديرية والقيادة في كلّ مكان. وحاكمية هذا الأصل لا تعني استبداد القادة ، ولا ترك الشورى كما أشرنا آنفا وأوضحنا ذلك.

٣ ـ الإيمان نوع من العشق لا إدراك العقل فحسب ...

هذه الآيات تشير ضمنا إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإيمان نوع من العلاقة الإلهية الشديدة «والمعنوية» وإن كانت من الاستدلالات العقلية ... ولذلك فإنّنا نقرأ حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام حين سألوه : هل الحب والبغض من الإيمان ، فأجاب عليه‌السلام : «وهل الإيمان إلّا الحبّ والبغض»؟! ثمّ تلا هذه الآية : (... وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (١).

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله في هذا المجال «وهل الدين

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الحب في الله والبغض في الله ، الحديث ٥.

٥٣٣

إلّا الحبّ»؟! ثمّ استدلّ عليه‌السلام ببعض الآيات منها هذه الآية محل البحث وقال بعدئذ : «الدين هو الحبّ والحبّ هو الدين» (١).

إلّا أنّه ودون أدنى شكّ يجب أن ترفد هذه المحبّة ـ كما نوّهنا آنفا ـ بالوجوه الاستدلالية والمنطقيّة لتكون مثمرة عندئذ ...

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٨٣ ، وص ٨٤.

٥٣٤

الآيتان

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

سبب النّزول

ورد في شأن نزول الآيتين ـ هاتين ـ أنّ خلافا وقع بين قبيلتي «الأوس» و «الخزرج» «وهما قبيلتان معروفتان في المدينة» أدّى هذا الخلاف إلى الاقتتال بينهما وأن يتنازعا بالعصي والهراوات والأحذية فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وعلّمت المسلمين سبيل المواجهة مع أمثال هذه الحوادث (١).

وقال بعضهم : حدث بين نفرين من الأنصار خصومة واختلاف! فقال أحدهما للآخر : سآخذ حقّي منك بالقوة لأنّ قبيلتي كثيرة ، وقال الآخر : لنمض ونحتكم عند

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٣٢.

٥٣٥

رسول الله ، فلم يقبل الأوّل ، فاشتدّ الخلاف وتنازع جماعة من قبيلتيهما بالعصي والأحذية و «حتى» بالسيوف ، فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وبيّنت وظيفة المسلمين في مثل هذه الأمور (١).

التّفسير

المؤمنون أخوة :

يقول القرآن هنا قولا هو بمثابة القانون الكلّي العام لكلّ زمان ومكان : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (٢).

وصحيح أنّ كلمة «اقتتلوا» مشتقّة من مادة القتال ومعناها الحرب ، إلّا أنّها كما تشهد بذلك القرآن تشمل كلّ أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال والمواجهة «العسكرية» ويؤيّد هذا المعنى أيضا بعض ما نقل في شأن نزول الآية ...

بل يمكن القول : إنّه لو توفّرت مقدّمات النزاع كالمشاجرات اللفظية مثلا التي تجرّ إلى المنازعات الدامية فإنّه ينبغي وطبقا لمنطوق الآية أن يسعى إلى الإصلاح بين المتنازعين ، لأنّه يمكن أن يستفاد هذا المعنى من الآية المتقدّمة عن طريق إلغاء الخصوصية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين منهم لئلّا تسيل الدماء وأن يعرفوا مسئوليتهم في هذا المجال ، فلا يكونوا متفرّجين كبعض الجهلة الذين يمرّون بهذه الأمور دون اكتراث وتأثّر! فهذه هي وظيفة المؤمنين الأولى عند مواجهة أمثال هذه الأمور.

ثمّ يبيّن القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) ولم تستسلم لاقتراح الصلح (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ).

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٣٦.

(٢) مع أنّ كلمة (طائفتان) مثنى طائفة ، إلّا أنّ فعلها جاء بصيغة الجمع اقتتلوا لأنّ كلّ طائفة مؤلفة من مجموعة من الأفراد.

٥٣٦

وبديهي أنّه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة ـ في هذه الأثناء ـ فإثمها عليها ، أو كما يصطلح عليه إنّ دماءهم هدر ، وإن كانوا مسلمين ، لأنّ الفرض أنّ النزاع واقع بين طائفتين من المؤمنين ...

وهكذا ـ فإنّ الإسلام يمنع من الظلم وإن أدّى إلى مقاتلة الظالم ، لأنّ ثمن العدالة أغلى من دم المسلمين أيضا ، ولكن لا يكون ذلك إلّا إذا فشلت الحلول السلمية.

ثمّ يبيّن القرآن الوظيفة الثالثة فيقول : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ).

أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدّمة لقلع جذور عوامل النزاع ، وإلّا فإنّه بمرور الزمن ما أن يحسّ الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض ثانية ويثير النزاع.

قال بعض المفسّرين : يستفاد من التعبير «بالعدل» أنّه لو كان حقّ مضاع بين الطائفتين أو دم مراق وما إلى ذلك ممّا يكون منشأ للنزاع فيجب إصلاحه أيضا ، وإلّا فلا يصدق عليه «إصلاح بالعدل» (١).

وحيث أنّه تميل النوازع النفسية أحيانا في بعض الجماعات عند الحكم والقضاء الى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض «الاستقامة» عند القضاة فإنّ القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٢).

والآية التالية تضيف ـ لبيان العلّة والتأكيد على هذا الأمر قائلة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٨ ، ص ٣٤٢.

(٢) كلمة «المقسطين» مأخوذة من القسط ومعناها في الأصل التقسيم بالعدل ، وحين ترد على صيغة الفعل الثلاثي قسط على زنة ضرب تعني الظلم والتجاوز على حصّة الآخرين ظلما ، إلّا أنّه حين تأتي ثلاثي مزيد فيقال «أقسط» فإنّها تعني إعطاء الحصة عدلا ، وهل القسط والعدل بمعنى واحد أم لا؟ هناك بحث ذكرناه في ذيل الآية (٢٩) من سورة الأعراف لا بأس بمراجعتها ...

٥٣٧

فكما تسعون للإصلاح بين الأخوين في النسب ، فينبغي أن لا تألوا جهدا في الدخول بصورة جادّة للإصلاح بين المؤمنين المتخاصمين بعدالة تامّة!

وما أحسنه من تعبير وكم هو بليغ إذ يعبّر القرآن عن جميع المؤمنين بأنّهم «أخوة» وأن يسمّي النزاع بينهم نزاعا بين الأخوة! وأنّه ينبغي أن يبادر إلى إحلال الإصلاح والصفاء مكانه ...

وحيث أنّه في كثير من الأوقات تحل «الروابط» في أمثال هذه المسائل محل «الضوابط» فإنّ القرآن يضيف في نهاية هذه الآية مرّة أخرى قائلا : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وهكذا تتّضح إحدى أهم المسؤوليات الاجتماعية على المسلمين في ما بينهم في تحكيم العدالة الاجتماعية بجميع أبعادها.

* * *

بحثان

الأوّل : شروط قتال أهل البغي «البغاة»

هناك باب في الفقه الإسلامي بعنوان : «قتال أهل البغي» ضمن كتاب الجهاد ، والمراد منه قتال الظلمة الذين ينهضون بوجه «الإمام العادل في المسلمين» وقد وردت فيهم أحكام كثيرة في هذا الباب ...

إلّا أنّ ما أثارته الآية الآنفة موضوع آخر ، وهو النزاع الواقع بين الطائفتين المؤمنين ، وليس في هذا النزاع نهوض بوجه إمام المسلمين العادل ولا نهوض بوجه الحكومة الإسلامية الصالحة. وقد أراد بعض الفقهاء أو المفسّرين أن يستفيدوا من هذه الآية «في المسألة السابقة» إلّا أنّ هذا الاستدلال كما يقول الفاضل «المقداد» في «كنز العرفان» خطأ بيّن (١). لأنّ القيام والنهوض بوجه الإمام

__________________

(١) كنز العرفان في فقه القرآن ، كتاب الجهاد ، باب أنواع أخر من الجهاد ـ الجزء الأول ، ص ٣٨٦.

٥٣٨

العادل موجب للكفر ، في حين أنّ النزاع بيّن المؤمنين موجب للفسق فحسب لا الكفر ، ولذلك فإنّ القرآن المجيد عبّر عن الطائفتين بالمؤمنين وسمّاهم أخوة ، فلا يصحّ تعميم أحكام أهل البغي على أمثال هؤلاء! ...

ومن المؤسف أنّنا لم نعثر على بحث في الفقه في شأن أحكام هذه الطائفة ، إلّا أنّ ما يستفاد من الآية المتقدمة بضميمة القرائن الأخر وخاصة ما ورد من إشارات في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الأحكام التالية! ...

١ ـ إنّ الإصلاح بين الطوائف المتنازعة «من المسلمين» أمر واجب كفائي.

٢ ـ ينبغي لتحقّق هذا الأمر أن يشرع أوّلا من المراحل البسيطة وأن تراعى قاعدة «الأسهل فالأسهل» إلّا أنّه إذا لم ينفع ذلك فيجوز عندئذ المواجهة المسلّحة بل تلزم أحيانا ...

٣ ـ ما يسفك من دم البغاة في هذا السبيل وما تذهب منهم من أموال كلّها هدر ، لأنّ حكم الشرع قد امتثل وأديّت الوظيفة الواجبة ، والأصل في مثل هذه الموارد عدم الضمان!

٤ ـ لا حاجة لإذن حاكم الشرع في مراحل الإصلاح عن طريق الكلام والمباحثات ، إلّا أنّه لا بدّ من الإذن عند اشتداد العمل ولا سيما إذا انتهى الأمر إلى سفك الدماء ، فلا يجوز عندئذ الإقدام بأيّ عمل إلّا بأمر الحكومة الإسلامية وحاكم الشرع! إلّا في الموارد التي لا يمكن الوصول إلى حاكم الشرع بأي وجه ، فللعدول عندئذ وأهل الخبرة من المؤمنين أن يتّخذوا القرار الذي يرونه ...

٥ ـ في حالة ما لو سفكت الطائفة الباغية والظالمة دما من «الجماعة المصلحة» أو نهبت أموالا منها ، فهي ضامنة بحكم الشرع ويجري القصاص منها في صورة وقوع قتل العمد ، وكذلك في مورد تسفك فيه دماء من الطائفة المظلومة أو تتلف منها أموالها فإنّ حكم القصاص والضمان ثابت أيضا وما يقال من أنه بعد وقوع الصلح لا تتحمل الطائفة الباغية مسئولية الدماء المسفوكة والأموال المهدورة لأنّه

٥٣٩

لم تشر إليه الآية ـ محل البحث ـ غير صحيح ، والآية ليست في مقام بيان جميع هذا المطلب ، بل المرجع في مثل هذه الموارد هو سائر الأصول والقواعد الواردة في أبواب القصاص والإتلاف ...

٦ ـ حيث أنّ الهدف من هذه المقاتلة والحرب حمل الطائفة الباغية على قبول الحق ، فعلى هذا لا تثار في الحرب مسألة «أسرى الحرب والغنائم» لأنّ الطائفتين بحسب الفرض مسلمتان ، إلّا أنّه لا مانع من الأسر مؤقتا لإطفاء نائرة النزاع ولكن بعد حل النزاع والصلح يجب إطلاق الأسرى فورا ...

٧ ـ قد يتفق أحيانا أن يكون طرفا النزاع باغيين ، فهذا الطرف قتل جماعة من القبيلة الأخرى وسلب ماله ، وذلك الطرف قتل جماعة من هذه القبيلة والطائفة وسلب أموالها دون أن يقنع كلّ منهما بالمقدار اللازم من الدفاع سواء كان الطرفان «الطائفتان» بمستوى واحد من الظلم والبغي أو بعضهما أكثر اعتداء والآخر أقل! وبالطبع فإنّ الحكم في شأن هذا المورد لم يرد صراحة في القرآن ، لكن يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق إلغاء الخصوصية من الآية محل البحث ، وهو أنّ وظيفة المسلمين أن يصلحوا بين الطرفين ، وإذا لم يوافقا على الصلح فلا بدّ من قتالهم جميعا حتى يفيء كل إلى أمر الله ، ما ذكرناه آنفا من أحكام في شأن الباغي والظالم جار في الطرفين ...

وفي ختام هذا الكلام نؤكّد مرّة أخرى أنّ حكم هؤلاء البغاة منفصل عن حكم الذين يقفون بوجه الإمام المعصوم أو الحكومة الإسلامية العادلة ، فإنّ لهذه الطائفة الأخيرة أحكاما أشدّ وأصعب واردة في كتاب الجهاد من الفقه الإسلامي.

الثّاني : أهميّة الأخوة الإسلامية

إنّ جملة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الواردة في الآيات المتقدّمة واحدة من الشعارات الأساسية و «المتجذّرة» في الإسلام ، فهي شعار عميق ، بليغ ، مؤثر وذو

٥٤٠