الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب فينا؟! وأية حيثية واعتبار لنا بعد؟

هذا الكبر والغرور والحميّة ـ حمية الجاهلية ـ منعتهم حتى من كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» بصورتها الصحيحة عند تنظيم معاهدة صلح الحديبيّة ، مع أنّ عاداتهم وسننهم كانت تجيز العمرة وزيارة بيت الله للجميع ، وكانت مكّة عندهم حرما آمنا حتى لو وجد أحدهم قاتل أبيه فيها أو أثناء المناسك فلا يناله منه سوء وأذى لحرمة البيت عنده ، فهؤلاء ـ بهذا العمل ـ هتكوا حرمة بيت الله والحرم الآمن من جهة ، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة أخرى ، كما أسدلوا ستارا بينهم وبين الحقيقة أيضا ، وهكذا هي آثار حمية الجاهلية المميتة!

«الحمية» في الأصل من مادة حمي ـ على وزن حمد ـ ومعناها حرارة الشمس أو النّار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله ، ومن هنا سمّيت الحمّى التي تصيب الإنسان بهذا الاسم «حمّى» على وزن كبرى ، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصّب المقرون بالغضب حمية أيضا.

وهذه الحالة السائدة في الأمم هي بسبب الجهل وقصور الفكر والانحطاط الثقافي خاصة بين «الجاهليّين» وكانت مدعاة لكثير من الحروب وسفك الدماء! ..

ثمّ تضيف الآية الكريمة ـ وفي قبال ذلك ـ (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ..)

هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والإعتقاد بالله والاعتماد على لطفه دعتهم الى الاطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا ـ ومن أجل أن يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى ـ بحذف جملة «بسم الله الرحمن الرحيم» التي هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا ـ مكانها «بسمك اللهمّ» التي هي من موروثات العرب السابقين ـ في أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب «رسول الله» التي يلي اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٨١

وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبيّة دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت ويؤدّوا مناسك العمرة! ونحروا هديهم خلافا للسنّة التي في الحج أو العمرة في المكان ذاته وأحلّوا من إحرامهم دون أداء المناسك! ..

أجل ، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كلّ المشاكل الصعبة ، ولو كانت فيهم حميّة الجاهلية لكان واحد من هذه الأمور الآنفة كفيلا أن يشعل الحرب بينهم في تلك الأرض!

أجل .. إنّ الثقافة الجاهلية تدعو إلى «الحمية» و «التعصّب» و «الحفيظة الجاهلية» ، غير أنّ الثقافة الإسلامية تدعو إلى «السكينة» و «الاطمئنان» و «ضبط النفس».

ثمّ يضيف القرآن في هذا الصدد قائلا : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها ..)

(كلمة) هنا بمعنى «روح» ، ومعنى الآية أنّ الله ألقى روح التقوى في قلوب أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم ، كما نقرأ ـ في هذا المعنى ـ أيضا الآية (١٧١) من سورة النساء في شأن عيسى بن مريم إذ تقول الآية : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ).

واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من «كلمة التقوى» ما أمر الله به المؤمنين في هذا الصدد!

إلّا أنّ المناسب هو «روح التقوى» التي تحمل مفهوما تكوينيا ، وهي وليدة الإيمان والسكينة والالتزام القلبي بأوامر الله سبحانه ، لذا ورد في بعض الروايات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المراد بكلمة التقوى هو كلمة لا إله إلّا الله (١) ، وفي رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه فسّرها بالإيمان (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ، الجزء ٦ ، ص ٨٠.

(٢) أصول الكافي طبقا لما نقل في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٣.

٤٨٢

ونقرأ في بعض خطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى» (١) وشبيه بهذا التعبير ما نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قوله : «ونحن كلمة التقوى والعروة الوثقى» (٢)!

وواضح أنّ الإيمان بالنبوّة والولاية مكمل للإيمان بأصل التوحيد ومعرفة الله لأنّهما جميعا داعيان إلى الله ومناديان للتوحيد.

وعلى كلّ حال فإنّ المسلمين لم يبتلوا في هذه اللحظات الحسّاسة بالحميّة والعصبية والنخوة والحفيظة ، وما كتب الله لهم من العاقبة المشرفة في الحديبيّة لم تمسسه نار الحمية والجهالة!

لأنّ الله يقول : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها).

وبديهي أنّه لا ينتظر من حفنة عتاة وجهلة وعبدة أصنام سوى (حميّة الجاهلية) ولا ينتظر من المسلمين الموحّدين الذين تربّوا سنين طويلة في مدرسة الإسلام مثل هذا الخلق والطباع الجاهلية ، ما ينتظر منهم هو الاطمئنان والسكينة والوقار والتقوى ، وذلك ما أظهروه في الحديبيّة ولكن بعض حاديّ الطبع والمزاج أوشكوا على كسر هذا السدّ المنيع بما يحملوه من أنفسهم من ترسبات الماضي وأثاروا البلبلة والضوضاء ، غير أنّ سكينة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقاره كانا كمثل الماء المسكوب على النّار فأطفأها!

وتختتم الآية بقوله سبحانه : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). فهو سبحانه يعرف نيّات الكفّار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضا فينزل السكينة والتقوى عليهم هنا ، ويترك أولئك في غيّهم وحميّتهم حميّة الجاهلية ، فالله يشمل كلّ قوم وأمّة بما تستحقّه من اللطف والرحمة أو الغضب والنقمة!

* * *

__________________

(١) خصال الصدوق : عن نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٧٤.

٤٨٣

ملاحظة

ما هي حميّة الجاهلية؟!

قلنا أنّ «الحميّة» في الأصل من مادة «حمي» ومعناها الحرارة ، ثمّ صارت تستعمل في معنى الغضب ، ثمّ استعملت في النخوة والتعصّب الممزوج بالغضب أيضا ..

وهذه الكلمة قد تستعمل في هذا المعنى المذموم «مقرونة بالجاهلية أو بدونها» بعض الأحيان ، وقد تستعمل في المدح حينا آخر ، فتكون عندئذ بمعنى التعصّب في الأمور الإيجابية البنّاءة!

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حين انتقده بعض أصحابه الضعاف المعاندين : «منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت أما دين يجمعكم ولا حميّة تحشمكم» (١).

غير أنّ هذه الكلمة غالبا ما ترد في الذم كما ذكرها الإمام علي عليه‌السلام مرارا في خطبته القاصعة ذامّا بها إبليس أمام المستكبرين : «صدّقه به أبناء الحمية وأخوان العصبية وفرسان الكبر والجاهلية» (٢).

وفي مكان آخر من هذه الخطبة يقول محذّرا من العصبيات الجاهلية : «فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية فإنّما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزعاته ونفثاته» (٣).

وعلى كلّ حال فلا شكّ أنّ وجود مثل هذه الحالة في الفرد أو المجتمع باعث على تخلّف ذلك المجتمع وتكبيل العقل والفكر الإنساني ومنعه من الإدراك الصحيح والتشخيص السالم .. وربّما تذر جميع مصالحه مع الرياح! ...

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٩.

(٢) نهج البلاغة الخطبة القاصعة ١٩٢.

(٣) نهج البلاغة : المصدر السابق.

٤٨٤

وأساسا فإنّ انتقال السنن الخاطئة من جيل لآخر ومن قوم لآخرين ما كان إلّا في ظل هذه الحميّة المشؤومة ، ومقاومة الأمم للأنبياء والقادة غالبا ما تكون عن هذه السبيل أيضا ..

ينقل عن الإمام علي بن الحسين حين سئل عن «العصبية» أنّه قال عليه‌السلام : «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» (١).

إنّ خير سبيل لمقاومة هذه السجية السيئة والنجاة من هذه المهلكة العظمى السعي والجد لرفع المستوى الثقافي والفكري وإيمان كلّ قوم وجماعة ..

وفي الحقيقة إنّ القرآن عالج هذا المرض بالآية المتقدّمة ـ محل البحث ـ حيث يتحدّث عن المؤمنين ذوي السكينة والتقوى ، فحيث توجد التقوى فلا توجد حميّة الجاهلية ، وحيث توجد حميّة الجاهلية فلا تقوى ولا سكينة.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٣ ، الحديث السبعون.

٤٨٥

الآية

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

التّفسير

رؤيا النّبي الصادقة :

هذه الآية ـ أيضا ـ ترسم جانبا آخر من جوانب قصة الحديبيّة المهمّة ، والقصة كانت على النحو التالي :

رأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكّة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة ، فحدّث أصحابه عن رؤياه فسرّوا جميعا ، غير أنّه لمّا كان جماعة من أصحابه يتصوّرون أنّ تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون من الدخول إلى مكّة أصابهم الشك والتردّد .. ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا النّبي غير صادقة؟ ألم يكن البناء أن نعتمر هذا العام؟! فأين هذا الوعد؟ وأين صارت هذه الرؤيا الرحمانية؟!

فكان جواب النّبي لهم : هل قلت لكم أنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟!

٤٨٦

فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنّبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولا بدّ أنّها كائنة ... تقول الآية : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) (١) فما رآه النّبي في المنام كان حقّا وصدقا.

ثمّ تضيف الآية قائلة : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) وكان في هذا التأخير حكمة : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

* * *

ملاحظات

وفي الآية الكريمة عدّة ملاحظات تلفت النظر :

١ ـ ينبغي الالتفات إلى أنّ «اللام» في (لَتَدْخُلُنَ) هي لام القسم ، وأنّ «النون» في آخر الفعل هي للتوكيد ، بأنّ هذا هو وعد إلهي قطعي في المستقبل وتنبؤ معجز صريح عن أداء المناسك والعمرة في كامل الأمان ومنتهى الطمأنينة ـ وكما سنبيّن ـ كان هذا التوقّع والتنبّؤ صادقا في شهر ذي القعدة ذاته من السنة المقبلة ، وهكذا أدّى المسلمون مناسك العمرة بهذه الصورة!

٢ ـ جملة (إِنْ شاءَ اللهُ) هنا لعلّها نوع من تعليم العباد لكي يعوّلوا على مشيئة الله عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة الله ، وأن لا يجدوا أنفسهم غير محتاجين أو مستقلّين عنه. وربّما هي إشارة للظروف التي يهيّؤها الله لهذا التوفيق «توفيق الله المسلمين لزيارة بيته في المستقبل القريب» والبقاء على خط «التوحيد والسكينة والتقوى» ...

كما يمكن أن تكون إشارة إلى بعض المسلمين الذين تنتهي أعمارهم في هذه

__________________

(١) «صدق» فعل ماض قد يستوفي مفعولين كما هي الحال في الآية الآنفة فرسوله مفعول به أوّل والرؤيا مفعول ثان ، وقد يستوفي في هذا الفعل مفعولا واحدا يتعدّى إلى المفعول الثّاني بفي كقولك صدقته في حديثه.

٤٨٧

الفترة والفاصلة الزمانية ولا يوفّقون إلى زيارة بيت الله ، والجمع بين هذه المعاني كلها لا مانع منه أبدا ...

٣ ـ التعبير بـ (فَتْحاً قَرِيباً) كما يعتقد كثير من المفسّرين هو إشارة إلى صلح الحديبيّة الذي عبّر عنه القرآن بالفتح المبين ، ونعرف أنّ هذا الفتح كان السبيل إلى دخول المسجد الحرام في السنة التالية.

على حين أنّ جماعة آخرين يعتقدون أنّ (فَتْحاً قَرِيباً) إشارة إلى «فتح خيبر».

وبالطبع فإنّ كلمة (قريبا) فيها تناسب أكثر مع «فتح خيبر» لأنّه كان ـ «تحقّقه العيني» بعد هذه الرؤيا في فترة أقل زمنا من فتح مكّة بعدها ، ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يقول في الآية (١٨) من هذه السورة ذاتها عند الكلام على بيعة الرضوان : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً). وكما قلنا ـ ويعتقد بذلك أكثر المفسّرين أيضا ـ أنّ المراد من هذا الفتح هو «فتح خيبر» والقرائن الموجودة في الآية تحكي عن هذا الفتح أيضا ، ومع الالتفات إلى أنّ الآية محل البحث تنسجم مع تلك الآية فيبدو أنّ الآيتين بمعنى واحد ... (١).

وفي تفسير علي بن إبراهيم رواية تشير إلى هذا المعنى أيضا (٢).

٤ ـ جملة «محلّقين رؤوسكم ومقصّرين» إشارة إلى واحد من مناسك العمرة وآدابها وهو «التقصير» وبه يخرج المحرم من إحرامه وقد استدل بعضهم بالآية في التخيير عند الخروج من الإحرام بين التقصير في تقليم الأظافر الحلق ، لأنّ الجمع بينهما ليس واجبا قطعا.

٥ ـ جملة «فعلم ما لم تعلموا» إشارة إلى مسائل مهمّة مطوية في صلح الحديبيّة وقد انكشفت بمرور الزمن ـ إذ قويت قواعد الإسلام وانتشر صوته وترامت

__________________

(١) التعبير بـ «من دون ذلك» إمّا بمعنى قبل ذلك ، أي قبل أداء العمرة يفتح الله عليكم فتحا قريبا في السنة المقبلة ، أو بمعنى «غير ذلك» أي سينال المؤمنون فتحا قريبا غير زيارة بيت الله والعمرة أيضا.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٦.

٤٨٨

اصداؤه في كلّ مكان وطويت نزعة الحرب عند المسلمين واستطاعوا أن يفتحوا «خيبر» بفارغ البال وقرار البلبال ، وأرسلوا المبلّغين إلى أطراف الجزيرة العربية وبعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسائله إلى أعظم رؤوساء الدول آنئذ ، فهذه مسائل كان الفرد المسلم لا يعرفها لكنّ الله كان يعلمها ...

٦ ـ نواجه في هذه الآية الكريمة موضوع الرؤيا ، وهي رؤيا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادقة التي تعدّ (غصنا من غصون) الوحي وهي مشابهة لقصة رؤيا إبراهيم عليه‌السلام وذبح ولده إسماعيل الواردة في سورة الصافات (الآية ١٠٢).

«ولمزيد الإيضاح وتفصيل البيان حول الرؤيا وتعبير الأحلام من المناسب مراجعة تفسير سورة يوسف في هذا التّفسير».

٧ ـ الآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن ، وهي شاهد على أنّ هذا الكتاب سماويّ وأنّه من معاجز النّبي الكريم حيث يخبر قاطعا عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب قبله أيضا ، وكما نعلم أنّ هذين التنبّؤين قد حدثا فعلا ، وقد ذكرنا قصة «فتح خيبر» والآن نتحدّث عن قصة «عمرة القضاء» :

* * *

عمرة القضاء :

عمرة القضاء هي العمرة التي أدّاها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه بعد صلح الحديبيّة بعام ، أي في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة (على وجه الدقّة بعد عام من منع المشركين أن يدخل الرّسول وأصحابه مكّة).

وتسمية «عمرة القضاء» بهذا الاسم لأنّها في الحقيقة تعد قضاء عن السنة السابقة ...

وتوضيح ذلك : أنّه طبقا لإحدى مواد معاهدة الحديبيّة أصبح من المقرر أن

٤٨٩

يؤدّي المسلمون العمرة وزيارة بيت الله في العام المقبل على أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيام ، وفي الوقت ذاته يخرج المشركون من مكّة ورؤساء قريش أيضا ، لئلا يقع نزاع محتمل بين الطرفين ولئلا يروا المسلمين يؤدّون المناسك فيثيرهم منظر العبادة «التوحيدية».

وقد ورد في بعض التواريخ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحرم في السنة المقبلة مع أصحابه والجمال المساقة للهدي وتحرّكوا جميعا حتى بلغوا أطراف «الظهران» ونواحيه فأرسل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان عنده من أسلحة وخيول تستلفت النظر مع أحد أصحابه واسمه «محمّد بن مسلمة» فلمّا رأى المشركون هذه الخطة فزعوا وخافوا خوفا شديدا وظنّوا أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يقاتلهم وينقض المعاهدة الممضاة لعشر سنين وأخبروا أهل مكّة بذلك.

غير أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين وصل منطقة قريبة من مكّة أمر أن توضع الأسلحة من السهام والرماح وغيرها من الأسلحة في منطقة تدعى «ياجج» ، ودخل هو وأصحابه مكّة بالسيوف المغمدة.

فلمّا رأى أهل مكّة من النّبي ما رأوا فرحوا إذ وفى النّبي بوعده [فكأنّ النبي باقدامه هذا أنذر المشركين أن لو نقضوا العهد وأرادوا أن ينازلوا المسلمين فهم على أتم الاستعداد].

فخرج رؤوساء مكّة منها لئلّا تتأثر عواطفهم وقلوبهم بهذه «المناظر» ولا تثيرهم مناسك العمرة من قبل المسلمين.

غير أنّ بقية أهل مكّة من الرجال والنساء والأطفال اجتمعوا في السطوح وحول الكعبة وخلال الطريق ليروا كيف يؤدّي المسلمون مناسكهم ...

فدخل النّبي مكّة بهذه الأبّهة الخاصة وكانت معه جمال كثيرة مسوقة للهدي فعامل أهل مكّة بمنتهى اللطف والمحبّة وأمر المسلمين أن يسرعوا أثناء الطواف وأن يزيحوا الإحرام عن أكتافهم قليلا لتبدو علائم القدرة والقوّة فيهم وأن تترك

٤٩٠

هذه الحالة في أفكار أهل مكّة وأنفسهم تأثيرا كبيرا ودليلا حيّا على قوة المسلمين وحكمتهم!

وعلى كلّ حال فإنّ «عمرة القضاء» كانت عبارة كما كانت في الوقت ذاته عرضا «للعضلات المفتولة» وينبغي القول أنّ «فتح مكّة» الذي تحقّق بعد سنة أخرى كان قد نثر بذره في هذه السنة وهيّأ الأرضية لاستسلام أهل مكّة للفاتحين (المسلمين).

وكان هذا الأمر مدعاة لقلق رؤساء قريش إلى درجة أنّهم بعثوا رجلا بعد مضي ثلاثة أيّام إلى النّبي يطلب منه أن يغادر بسرعة هو وأصحابه مكّة طبقا للمعاهدة ...

الطريف هنا أنّ النّبي تزوّج أرملة من نساء قريش وكانت من أقرباء بعض رؤسائهم المعروفين وذلك ليشدّ أواصره بهم ويخفّف من غلوائهم وبغضائهم.

وحين سمع النّبي اقتراحهم بالمغادرة قال : «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاما فحضر تموه». قالوا : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنّا.

ولو كان تمّ ذلك لكان له أثره في نفوذ أمر النّبي في قلوبهم غير أنّهم لم يقبلوا ذلك منه (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان للطبرسي ، ج ٩ ، ص ١٢٧ ـ في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٥١١ ، تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٣١٠ مع شيء من التلخيص ..

٤٩١

الآيتان

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

التّفسير

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) :

في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين» أي «صلح الحديبيّة» إحداهما تتعلّق بعالميّة الإسلام والثانية تتعلّق

٤٩٢

بأوصاف أصحاب النّبي وخصائصهم وما وعدهم الله سبحانه به!

فالأولى منهما تقول : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

وهذا وعد صريح وقاطع من الله سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان.

أي لا تعجبوا لو أخبركم الله عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالانتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرأ أحد على إيذائكم ، كما لا تعجبوا أن يبشّركم الله بالفتح القريب ـ فتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة» وسيكون الإسلام باسطا ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان ...

ولم لا يكون كذلك ومحتوى دعوة النّبي هداية الله إذ «أرسله بالهدى» ودينه «دين الحق» ويستطيع كلّ ناظر غير منحاز أن يرى حقّانيته في آيات القرآن وأحكام الإسلام الفرديّة والاجتماعية والقضائية والسياسية! وكذلك تعليماته الأخلاقية والإنسانية. وأن يعرف علاقة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالله حقّا من خلال إخباره بالمغيّبات وتنبّؤاته التي تقع في المستقبل بصورة قاطعة.

أجل : إنّ منطق الإسلام المتين ومحتواه الغني الغزير يطهّر الأرض من أديان الشرك الملوّثة ، وتخضع له الأديان السماوية المحرّفة الأخرى وأن يشدّ بأسلوبه الشائق (١) القلوب إليه.

ولكن ما المراد بـ «الظهور على الدين كلّه»؟ أهو الظهور المنطقي؟! أم الظهور (والغلبة) العسكريان؟! هناك اختلاف بين المفسّرين ..

يعتقد جماعة منهم أنّ هذا الظهور هو الظهور المنطقي والاستدلالي فحسب

__________________

(١) يجري على ألسنة الناس وبعض الأدباء قولهم هذا أسلوب شيّق ، وهذا التعبير خطأ ، والصحيح «شائق» أي مثير للشوق أمّا الشيّق فهو المشتاق (المصحّح).

٤٩٣

وهذا الأمر متحقق ، لأنّ الإسلام متفوّق من حيث الاستدلال والقدرة المنطقية على جميع الأديان.

ولكنّ جماعة آخرين فسّروا هذا الظهور بالغلبة الظاهرية وغلبة القوة ، وموارد استعمال كلمة «يظهر» ومشتقاتها أيضا دليل على الغلبة الخارجية ... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّا» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي أرواحنا فداء إن شاء الله.

وكما نقل عن بعض أحاديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام» (١).

وسبق أن بحثنا في هذا المجال في نفس هذا التّفسير ذيل الآية (٣٣) من سورة التوبة المشابهة لهذه الآية محل البحث.

وهنا ملاحظة تلتفت النظر إليها وهي أنّ البعض ذهب إلى أنّ التعبير بالهدى إشارة الى استحكام العقائد الإسلامية ، في حين أنّ التعبير بـ «دين الحق» ناظر إلى حقّانية فروع الدين ، إلّا أنّه لا دليل لدينا على هذا التقسيم ، والظاهر أنّ الهداية والحقّانية هما في الأصول والفروع معا ...

وفي عود الضمير في «ليظهره» هل يعود على الإسلام أم على النبي؟ للمفسّرين احتمالان ، إلّا أنّ القرائن تدل بوضوح على أنّ المقصود هو دين الحق ، لأنّه قريب من الضمير ، هذا من حيث النظم والسبك اللغوي ، كما أنّ المناسب ظهور الدين على الدين الآخر لا ظهور الشخص على الدين ـ أيضا ـ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، الجزء ٥ ، ص ٢٥ ، القرطبي نقل هذه الرواية عن النّبي أيضا ذيل الآية ٥٥ من سورة النور ، ج ٧ ، ص ٤٦٩٢.

٤٩٤

وآخر ما نريد بيانه في شأن هذه الآية أنّ جملة (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ هذا التوقع أو التنبّؤ لا يحتاج إلى أي شاهد ، لأنّ شاهده الله ، ورسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا لا تحتاج إلى شاهد آخر ، لأنّ الشاهد هو الله أيضا ، وإذا لم يوافق سهيل بن عمرو وأمثاله على كتابة عنوان (رسول الله) بعد اسم النّبي محمّد فليس ذلك مدعاة للتأثر أبدا.

وفي آخر آية وصف بليغ لأصحاب النّبي الخاصّين والذين كانوا على منهاجه على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورجولتهم في الحديبيّة والمراحل الأخر كما أنّه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى القرون والأعصار! ...

فتقول الآية في البداية : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ).

سواء رضي به خفافيش الليل كسهيل بن عمرو أم لم يرض به؟! واخفوا أنفسهم عن هذه الشمس التي أشرقت على العالم أجمع أم لم يخفوا؟! فالله يشهد على رسالته ويشهد بذلك العارفون.

ثمّ تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ).

وصفتهم الثانية أنّهم : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

أجل : هم منطلق للمحبّة والرحمة فيما بينهم كما أنّهم نار ملتهبة وسد محكم بوجه أعدائهم الكفّار ...

وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين : «الرحمة» و «الشدّة» ... لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلا ، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفّار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانيا ...

ثمّ تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثّالث فتقول : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً).

هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين : «الركوع والسجود» على أنّها

٤٩٥

حالة دائمية لهم ، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر الله الحق ، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.

أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) فهم لا يعملون رياء ولا يبتغون من الخلق الثواب ، بل هدفهم رضا الله وفضله فحسب ، والباعث على تحرّكهم في حياتهم جميعا هو هذا الهدف ليس إلّا! ...

حتى التعبير بـ «فضلا» يدل على أنّهم معترفون بتقصيرهم ويرون أعمالهم أقل من أن يطلبوا الثواب من الله ، بل إنّهم مع كلّ عبادتهم وأعمالهم الصالحة ما يزالون قائلين : لو لا فضلك يا ربّنا فالويل لنا ...

أمّا الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (١).

«سيما» في الأصل معناها العلامة والهيأة ، سواء أكانت هذه العلامة في الوجه أم في مكان آخر وإن كانت في الاستعمال العرفي تشير إلى علامة الوجه! والأثر الظاهريّ له ...

وبعبارة أخرى أنّ قيافتهم تدلّ بصورة جيدة أنّهم أناس خاضعون أمام الله والحق والقانون والعدالة ، وليست العلامة في وجوههم فحسب ، بل في جميع وجودهم وحياتهم تبدو هذه العلامة ...

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى بأنّ «السيماء» هي الأثر الظاهر في الجبهة من السجود أو أثر التراب عليها من مكان السجدة ... غير أنّ هذه الآية كما يظهر لها مفهوم أوسع ترتسم ملامحه على وجوه هؤلاء الرجال الربّانيين ...

وقال بعضهم : هذه الآية إشارة إلى إشراق وجوههم يوم القيامة كالبدر من كثرة

__________________

(١) سيماهم : مبتدأ و «في وجوههم» خبره و «من أثر السجود» قد يكون حالا عن السيماء والأفضل أن تعد (من) نشوية أي : «سيماهم في وجوههم وهذه السيماء والعلامة من أثر سجودهم».

٤٩٦

سجودهم ...

وبالطبع يمكن أن تكون جباههم ووجوههم على هذه الهيّأة يوم القيامة إلّا أنّ الآية تتحدّث عن وضعهم الظاهري في الدنيا ...

وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق في تفسير هذه الجملة أنّه قال : «هو السهر في الصلاة!» (١).

ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني كلّها! ...

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ)! فهذه حقيقة مقولة قبلا وأوصاف وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام ...

ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير بـ (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يحكي عن معيّة النّبي في كلّ شيء ، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره ـ وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.

ثمّ يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (٢).

«الشطأ» : معناه الفسيل أو البرعم الذي يخرج إلى جانب الساق الأصلي للزرع ... و «آزره» مشتقّ من المؤازرة أي المعاونة.

و «استغلظ» مشتقّ من مادة الغلظة ، أي أنّه متين ...

__________________

(١) «من لا يحضره الفقيه» و «روضة الواعظين» ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٧٨.

(٢) هناك كلام بين المفسّرين في جملة «ومثلهم في الإنجيل» أهي جملة مستقلة ووصف آخر عن أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما وصفوا في التوراة ، أم هي معطوفة على جملة ذلك مثلهم في التوراة؟ فيكون الوصفان مذكورين في كتابين سماويين! الظاهر أنّ الآية ذكرت الوصفين كلّا على حدة في كتاب سماوي ولذلك كرّرت كلمة «مثلهم» ولو كان هذا الوصف معطوفا على السابق لاقتضت الفصاحة أن يكون التعبير : ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل.

٤٩٧

وجملة «استوى على سوقه» مفهومها أنّ هذا الزرع بلغ قدرا من المتانة بحيث ثبت على سيقانه : و «سوق» جمع ساق ـ والتعبير بـ «يعجب الزرّاع» يعني أنّ هذا الزرع يكون سريع النمو كثير البراعم وافر النتاج إلى درجة يسرّ به الزراع ويعجبون منه ، والطريف أنّ وصفهم الثّاني في الإنجيل جاء على خمسة أمور أيضا هي :

١ ـ أخراج الشطأ. ٢ ـ والمؤازرة للنموّ. ٣ ـ والاستغلاظ. ٤ ـ والإستواء.

٥ ـ والنمو المعجب.

وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدّث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية ...

وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدّث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).

أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة ... وتتنامى براعمهم دائما ويثمرون ويتآزرون كلّ حين ... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوما بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي! ...

أجل ، إنّهم لا يتكاسلون في حركتهم المتّجهة إلى الإمام دائما ، وهم في حال عبادتهم مجاهدون ، وفي حال جهادهم عابدون ظاهرهم سوي ، وباطنهم سليم ، وعواطفهم صادقة ، ونيّاتهم خالصة ، وهم مظهر غضب الله بوجه أعداء الحق ، ومظهر الرحمة بوجه إخوانهم.

ثمّ تضيف الآية معقّبة : أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (١).

__________________

(١) يرى كثير من المفسّرين أنّ اللام في جملة «ليغيظ بهم الكفّار» هي لام التعليل ، فيكون مفهوم الجملة : إنّ هذه القوّة والقدرة جعلها الله نصيب أصحاب محمّد ليغيظ بهم الكفّار ..

٤٩٨

ويضيف القرآن مختتما هذه الآية المباركة : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

بديهي أنّ أوصاف أصحاب النّبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح ، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما : أي أنّ الله وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمروا بالإيمان والعمل الصالح ، وإلّا فإنّ من كان يوما مع النّبي ويوما آخر مع سواه وعلى خلاف طريقته فلا يشملون بهذا الوعد أبدا.

والتعبير بـ «منهم» مع الالتفات إلى هذه المسألة ، وهي أنّ الأصل في كلمة «من» في مثل هذه الموارد التبعيض ، وظاهر الآية يعطي هذا المعنى أيضا ، وهذا التعبير يدلّ على أنّ أصحاب النّبي ينقسمون قسمين ـ فطائفة منهم ـ يواصلون إيمانهم وعملهم الصالح وتشملهم رحمة الله الواسعة وأجره العظيم ، وطائفة يحيدون عن نهجه فيحرمون من هذا الفيض العظيم! ...

وليس معلوما السبب في إصرار بعض المفسّرين على أنّ «من» في كلمة «منهم» بيانيّة حتما ، في حين لو ارتكبنا خلاف الظاهر وقلنا إنّ من هنا بيانية فكيف يمكن أن ندع القرائن العقلية هنا ، فلا أحد يدّعي أبدا أنّ جميع أصحاب النّبي معصومون وفي هذه الصورة يزول احتمال أنّ كلّ واحد منهم بقي على عمله الصالح وإيمانه ، ومع هذه الحال فكيف يعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم دون قيد وشرط سواء عملوا الصالحات في طول مسيرتهم ، أو أن يعملوا الصالحات في وقت ، ثمّ ينحرفوا من منتصف الطريق! ...

وهذه اللطيفة تستدعي الالتفات وهي أنّ جملة : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) لا تعني المرافقة الجسدية مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمصاحبة الجسمانية لأنّ المنافقين كانوا على هذه الشاكلة أيضا ... بل المراد من «معه» هو المعيّة من جهة أصول الإيمان

٤٩٩

والتقوى قطعا ... فبناء على هذا لا يمكننا أن نستنتج حكما كليّا من الآية الآنفة في شأن جميع المعاصرين والمجالسين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

* * *

بحثان

١ ـ قصة تنزيه الصحابة!

المعروف بين علماء أهل السنّة أنّ صحابة رسول الله جميعا أولو امتياز خاص دون سائر الناس من أمّة محمّد فهم مطهّرون أزكياء معصومون من الزلل وليس لنا الحق في انتقاص أي منهم أو انتقاده ويحرم الإساءة إليهم بالكلام وغيره ، حتى أنّ بعضهم قال بكفر من يفعل ذلك واستدلّوا على ذلك بآيات من الذكر الحكيم منها هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ...)

وبالآية (١٠٠) من سورة التوبة إذ تعبّر عن المهاجرين والأنصار بعد ذكرهم في آيات سابقة بقولها : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ...)

ولكنّنا إذا ابتعدنا عن الأحكام المسبقة الاعتباطية ، فسنجد أمامنا قرائن تتزلزل عندها هذه العقيدة!

الأولى : إنّ جملة : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) الواردة في سورة التوبة لا تخصّ المهاجرين والأنصار فحسب ، لأنّ في الآية تعبيرا آخر وهو : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) يشمل كلّ من يتّبعهم بالإحسان والصلاح إلى يوم القيامة ...

فكما أنّ «التابعين» إذا كانوا في خط الإيمان يوما وفي خط الكفر والإساءة يوما آخر يخرجون من خيمة رضا الله ، فإنّ الموضوع ذاته وارد في الصحابة لأنّهم في آخر سورة الفتح مقيّدون بالإيمان والعمل الصالح أيضا بحيث لو خرجوا عن هذا القيد ولو يوما واحدا لخرجوا عن رضوان الله سبحانه ...

وبتعبير آخر : إنّ كلمة «بإحسان» هي في شأن التابعين والمتبوعين جميعا ، فأي

٥٠٠