الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ «التعزير» أولا : معناه في الأصل المنع وذبّ الأعداء والدفاع عن «الشخص» ، ولا يصحّ ذلك في شأن الله إلّا على سبيل «المجاز» فحسب!

وأهم من ذلك هو شأن نزول الآية ، إذ أنّها نزلت بعد صلح الحديبية وكان بعضهم يسيء التعامل مع النّبي ولا يحترم مقامه الكريم ، وقد نزلت الآية لتنبه المسلمين على ما ينبغي عليهم من الوظائف بالنسبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية هي بمثابة النتيجة للآية السابقة التي وصفت النّبي بأنّه «شاهد ومبشر ونذير» وهذا الأمر يهيء الأرضية المناسبة للآية التي بعدها.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة «بيعة الرضوان» وقد جاء التفصيل عنها في الآية (١٨) من السورة ذاتها!

وتوضيح ذلك هو : كما قلناه آنفا إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في منامه كما تقول التواريخ أنّه دخل مع أصحابه مكّة ، فتوجّه على أثر هذه الرؤيا مع ألف وأربعمائة صحابي إلى مكّة ، إلّا أنّ قريشا صمّمت على منعه وهو على مقربة من مكّة ... فتوقف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه في منطقة الحديبيّة ... وتمّ تبادل المبعوثين بين قريش والنّبي حتى انتهى الأمر إلى معاهدة صلح الحديبيّة!

وفي عملية تبادل السفراء والمبعوثين ، أمر عثمان مرّة أن يبلغ أهل مكّة ـ من قبل النّبي ـ أنّه لا يريد الحرب ولا القتال وإنّما يريد العمرة فحسب ، إلّا أنّ المشركين من أهل مكّة أوقفوا عثمان مؤقتا وكان هذا الأمر سببا أن يشيع بين المسلمين خبر قتل عثمان ، ولو كان هذا الموضوع صحيحا لكان دليلا على إعلان قريش الحرب ومنازلة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك

فإنّ النّبي قال : «لا نبارح مكاننا «الحديبيّة» حتى نأخذ البيعة من قومنا» ، فطلب تجديد البيعة ... فاجتمع المسلمون وبايعوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرة هناك على أن لا يتركوا النبي وراءهم ظهريّا وأن يقاتلوا مع النّبي أعداءه ويذبّوا عنه ما دام فيهم طاقة على ذلك.

٤٤١

فبلغ هذا الأمر سمع المشركين ودبّ الرعب فيهم ، وهذا ما دعاهم إلى الصلح مع النبي. ومن هنا سمّيت مبايعة المسلمين نبيّهم تحت الشجرة بيعة الرضوان حيث وردت الإشارة إليها في الآية (١٨) من السورة ذاتها : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يتحدّث عن مبايعة المسلمين في الآية محلّ البحث فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)!

و «البيعة» معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته ، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك «القائد» المبايع!.

وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم «بعضهم إلى بعض» عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و «المصافحة» فقد أطلقت كلمة «البيعة» على هذه العقود والعهود أيضا. وخاصة أنّهم عند «البيعة» كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.

وعلى هذا يتّضح معنى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) .. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النّبي هي بيعة الله ، فكأنّ الله قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النّبي فحسب بل يبايعون الله ، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية!.

وبناء على هذا التّفسير فإنّ من يرى بأنّ معنى هذه الجملة (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) هو أنّ قدرة الله فوق قدرتهم أو أنّ نصرة الله أعظم من نصرة الناس وأمثال ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها وإن كان هذا الموضوع بحدّ ذاته صحيحا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١).

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ كلمة (عليه) في الآية الآنفة جاءت على خلاف ما نعهده ، إذ ضمّ الضمير وهو الهاء هنا ، وقد وجّه

٤٤٢

كلمة «نكث» مشتقة من «نكث» ومعناها الفتح والبسط ثمّ استعملت في نقض العهد (١).

والقرآن في هذه الآية ينذر جميع المبايعين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه الله أجرا عظيما ومن نكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال الله ضرره أبدا .. بل إنّه يهدّد وجود المجتمع وكرامته وعظمته ويعرّضه للخطر بنقضه البيعة!.

وقد ورد ـ في كلام ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «إنّ في النّار لمدينة يقال لها الحصينة ، أفلا تسألوني ما فيها؟! فقيل له : ما فيها يا أمير المؤمنين؟! قال : فيها أيدي الناكثين» (٢).

ومن هنا يتّضح بجلاء قبح نقض البيعة من وجهة نظر الإسلام!! وفي هذا المجال هناك بحوث في «البيعة في الإسلام» وحتى «قبل الإسلام» وكيفية البيعة وأحكامها ستأتي بأذن الله في ذيل الآية (١٨) من هذه السورة ذاتها!.

* * *

__________________

بعض المفسّرين إلى أنّ هذا أصله «هو» وبعد حذف الواو يأتي مضمونا أحيانا مثل له وعنه ويأتي مكسورا أحيانا لأنه يلي الياء ككلمة «عليه الله» وحيث أنّ كلمة «عليه» هنا تلاها لفظ الجلالة فقد ضم الضمير في «عليه» ينسجم مع تضخيم اللام في لفظ الجلالة «الله».

(١) «النكث» بفتح النون مصدر و «النكث» بكسر النون اسم مصدر.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء ٦٧ ، الصفحة ١٨٦.

٤٤٣

الآيات

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

التّفسير

اعتذار المخلفين :

ذكرنا ـ في تفسير الآيات الآنفة ـ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه من المدينة إلى مكّة مع ألف وأربعمائة من صحابته «للعمرة»!.

٤٤٤

وقد أبلغ عن النّبي جميع من في البادية من القبائل أن يحضروا معه في سفره هذا ، إلّا أنّ قسما من ضعيفي الإيمان لووا رؤوسهم عن هذا الأمر وأعرضوا عنه وكان تحليلهم هو أنّ المسلمين لا يستطيعون الحفاظ على أرواحهم في هذا السفر في حين أنّ كفار قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين وقاتلوهم في أحد والأحزاب على مقربة من المدينة ، فإذا توجّهت هذه الجماعة القليلة العزلاء من كلّ سلاح نحو مكّة وعرّضت نفسها إلى العدو المدجّج بالسلاح. فكيف ستعود إلى بيوتها بعدئذ؟!

إلّا أنّهم حين رأوا المسلمين وقد عادوا إلى المدينة ملاء الأيدي وافرين قد حصلوا على امتيازات تستلفت النظر من صلح الحديبيّة دون أن تراق من أحدهم قطرة دم ، عرفوا حينئذ خطأهم الكبير وجاؤوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا إليه ، ويبرّروا تخلّفهم عنه ويطلبوا منه أن يستغفر لهم!

غير أنّ الآيات آنفة الذكر نزلت ففضحتهم وأماطت عنهم اللثام.

وعلى هذا ، فالآيات هذه ـ تبيّن حالة المخلّفين ضعاف الإيمان بعد أن بيّنت الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتمّ حلقات البحث ويرتبط بعضها ببعض!

تقول هذه الآيات : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).

إنّهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم! فأبلغهم يا رسول و (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً)؟!

فليس على الله بعزيز ولا عسير أن يحفكم بأنواع البلاء والمصائب وأنتم في دار أمنكم وبين أهليكم وأبنائكم كما لا يعزّ عليه أن يجعلكم في حصن حصين من بأس الأعداء ولو كنتم في مركزهم!

٤٤٥

إنّما هو جهلكم الذي دعاكم إلى هذا التصور والاعتقاد!

أجل (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

وأقصى من هذا فهو خبير بأسراركم ونيّاتكم وهو يعلم جيدا أنّ هذه الحيل والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعيّة .. والواقع هو أنّكم متردّدون ضعيفو الإيمان. وهذه الأعذار لا تخفى على الله ولا تحول دون عقابكم أبدا!

الطريف هنا أنّه يستفاد من لحن الآيات ومن التواريخ أيضا أنّ هذه الآيات نزلت عند عودة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، أي أنّها قبل مجيء المخلّفين للاعتذار إليه ـ أماطت اللثام عنهم وكشفت الستار وفضحتهم!.

ومن أجل أن ينجلي الأمر ويتّضح الواقع أكثر يميط القرآن جميع الأستار فيقول : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً).

أجل ، إنّ السبب في عدم مشاركتكم النّبي وأصحابه في هذا السفر التاريخي لم يكن هو كما زعمتم ـ انشغالكم بأموالكم وأهليكم ـ بل العامل الأساس هو سوء ظنّكم بالله ، وكنتم تتصوّرون خطأ أنّ هذا السفر هو السفر الأخير للنبي وأصحابه وينبغي الاجتناب عنه!

وما ذلك إلّا ما وسوست به أنفسكم (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ).

لأنّكم تخيّلتم أنّ الله أرسل نبيّه في هذا السفر وأودعه في قبضة أعدائه ولن يخلصه ويحميه عنهم! (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) ـ أي هالكين ـ في نهاية الأمر!.

وأي هلاك أشدّ وأسوأ من عدم مشاركتهم في هذا السفر التأريخي وبيعة الرضوان وحرمانهم من المفاخر الأخر ... ثمّ الفضيحة الكبرى ... وبعد هذا كله ينتظرهم العذاب الشديد في الآخرة ، أجل لقد كان لكم قلوب ميتة فابتليتم بمثل هذه العاقبة!.

وحيث أنّ هؤلاء الناس ـ ضعاف الإيمان ـ أو المنافقين هم أناس جبناء

٤٤٦

وتائقون الى الدعة والراحة ويفرّون من الحرب والقتال فإنّ ما يحلّلونه إزاء الحوادث لا ينطبق على الواقع أبدا .. ومع هذه الحال فإنّهم يتصوّرون أنّ تحليلهم صائب جدّا.

وبهذا الترتيب فإنّ الخوف والجبن وطلب الدعة والفرار من تحمل المسؤوليات يجعل سوء ظنّهم في الأمور واقعيا ، فهم يسيئون الظنّ في كلّ شيء حتى بالنسبة الى الله والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونقرأ في نهج البلاغة من وصية للإمام علي عليه‌السلام إلى مالك الأشتر قوله : «إنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظنّ بالله» (١).

حادثة «الحديبيّة» والآيات محل البحث ، كلّ ذلك هو الظهور العيني لهذا المعنى ، ويدلّل كيف أنّ مصدر سوء الظنّ هو من الصفات القبيحة حاله حال البخل والحرص والجبن!.

وحيث أنّ هذه الأخطاء مصدرها عدم الإيمان فإنّ القرآن يصرّح في الآية التالية قائلا: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) (٢). و «السعير» معناه اللهيب.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن ومن أجل أن يثبت قدرة الله على معاقبة الكفار والمنافقين : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

وممّا يسترعي النظر أنّ موضوع المغفرة مقدّم هنا على العذاب ، كما أنّ في آخر الآية تأكيدا على المغفرة والرحمة أيضا ، وذلك لأنّ الهدف من هذه التهديدات جميعا هو التربية ، وموضوع التربية يوجب أن يكون طريق العودة مفتوحا بوجه

__________________

(١) نهج البلاغة : من رسالة له «برقم ٥٩».

(٢) أسلوب الجملة ونظمها كان ينبغي أن يكون : فقل : «إنّا اعتدنا لهم سعيرا» : إلّا أنّ القرآن حذف الضمير خاصة وجعل مكانه الاسم الصريح «الكافرين» ليبيّن أنّ علة هذا المصير المشؤوم هو الكفر بعينه ...

٤٤٧

الآثمين حتى الكفار. وخاصة أنّ أساس كثير من هذه الأمور السلبية هو الجهل وعدم الاطلاع ـ فينبغي أن يبعث في مثل هؤلاء الأفراد الأمل على المغفرة بمزيد من الرجاء ، فلعلّهم يؤوبون نحو السبيل!.

* * *

ملاحظة

تعليل الذنب وتوجيهه مرض عام :

مهما كان الذنب كبيرا فإنّه ليس أكبر من تبريره وتوجيهه ، لأنّ المذنب المعترف بالذنب غالبا ما يؤوب للتوبة ، لكنّ المصيبة تبدأ حين يقوم المذنب بتبرير ذنوبه ، فلا ينغلق باب التوبة بوجه الإنسان فحسب بل يتجرّأ على الذنب ويشتدّ على مقارفته!

وهذا التعليل أو التوجيه يقع أحيانا لحفظ ماء الوجه وتحسبا من الافتضاح ، ولكنّ أسوأ من هذا كلّه حين ينخدع به الضمير و «الوجدان»!

وهذا التعليل ليس أمرا جديدا ، ويمكن العثور على أمثال له على امتداد التاريخ البشري ، وكيف وجّه أكبر مجرمي التاريخ جناياتهم لخداع أنفسهم بتوجيهات مضحكة تجعل كلّ إنسان غارقا في ذهوله وتعجّبه منها!.

والقرآن المجيد الذي يسعى لتربية وصناعة الإنسان يعالج مسائل من هذا الباب كثيرة منها ما قرأناه في الآيات الآنفة ـ محلّ البحث ـ

ولا بأس بأن نقف على آيات أخرى لإكمال البحث في هذا الصدد.

١ ـ كان العرب المشركون يتذرّعون أحيانا بسيرة السلف لتوجيه شركهم وتبريره وكانوا يقولون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)! (١).

كما كانوا يتذرّعون أحيانا بنوع من الإجبار فكأنّهم مجبرون! ويقولون : (لَوْ

__________________

(١) سورة الزخرف ، ٢٣.

٤٤٨

شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (١).

٢ ـ كما كان بعض ضعفاء الإيمان يأتون إلى النّبي أحيانا متذرّعين عن عدم مشاركتهم في الحرب بأن بيوتهم عورة (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (٢).

٣ ـ وربّما تذرّعوا بعدم ذهابهم إلى الحرب لأنّ وجوه نساء الرومان النضرة تسلب قلوبهم وتفتنهم!! (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي)! (٣).

٤ ـ وربّما تذرّعوا بانشغالهم بأموالهم وأهليهم ونسائهم فيوجّهون ذنبهم الكبير في الفرار عن طاعة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هي الحال في الآيات الآنفة ـ محل البحث ـ

٥ ـ والشيطان أيضا وجّه عدم طاعته لله بمقايسة خاطئة فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)! (٤).

٦ ـ وفي العصر الجاهلي ومن أجل أن يوجّهوا ذنبهم الكبير وخطأهم في وأد البنات كانوا يقولون نخشى أن تؤسر بناتنا في الحرب وإن غيرتنا وناموسنا يدعوننا إلى قتلهن ودسّهنّ في التراب! وربّما قالوا إنّما نقتل الأطفال خشية الاملاق كما صرّحت به سورة الإسراء وغيرها في القرآن.

كما أنّه يظهر من بعض الآيات أنّ المجرمين يتشبّثون بالكبراء والاقتداء بهم في توجيه ذنوبهم (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٥).

والخلاصة إنّ بلاء توجيه الذنب بلاء واسع شمل طائفة عظيمة من الناس عامّهم وخاصهم ، وخطره الكبير أنّه يغلق سبل الإصلاح في وجوههم وربّما غيّر حتى

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤٨.

(٢) الأحزاب ، الآية ١٣.

(٣) التوبة ، الآية ٤٩.

(٤) الأعراف ، الآية ١٢.

(٥) سورة الأحزاب ، ٦٧.

٤٤٩

الواقعيات وأعطاها وجها آخر عند المذنبين!

فكثير من يوجّه الخوف والجبن بأنّه : احتياط.

والحرص بأنّه تأمين على الحياة في «المستقبل».

والتهوّر بأنّه حسم وجرأة.

وضعف النفس بالحياء!

وعدم الاكتراث بالزهد.

وارتكاب الحرام بالحيلة الشرعية.

والفرار من تحمّل المسؤولية بعدم ثبوت الموضوع!!

والتقصير والتفريط بالقضاء والقدر.

وهكذا يغلق الإنسان بيده سبيل نجاته!

وبالرغم من أنّ هذه المفاهيم كلّا منها له معنى صحيح في محلّه وموقعه ، ولكن الإشكال في أنّها حرّفت واتخذت نتيجة مقلوبة ، وكم نال المجتمعات البشرية والأسر والأفراد من أضرار من هذا المنفذ!! ... حفظنا الله جميعا من هذا البلاء العظيم «آمين».

* * *

٤٥٠

الآيات

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

التّفسير

المخلّفون الانتهازيّون :

يعتقد أغلب المفسّرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى «فتح خيبر» الذي كان في

٤٥١

بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبيّة! وتوضيح ذلك أنّه طبقا للرّوايات حين كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود من الحديبيّة بشّر المسلمين المشتركين بالحديبيّة ـ بأمر الله ـ بفتح خيبر ، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبيّة من المسلمين فحسب ، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شيء أبدا.

إلّا أنّ عبيد الدنيا الجبناء لمّا فهموا من القرائن أنّ النّبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعا ـ وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام ـ أفادوا من الفرصة فجاءوا الى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر ، وربّما توسّلوا بهذا العذر ، وهو أنّهم يريدون التكفير عن خطئهم السابق والتوبة من الذنب وأن يتحمّلوا عبء المسؤولية ، والخدمة الخالصة للإسلام والقرآن ويريدون الجهاد مع رسول الله في هذا الميدان ، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفا وأنّها كشفت حقيقتهم من قبل كما نقرأ ذلك في الآية الأولى من الآيات محل البحث ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ ..).

ولا نجد ذلك في هذا المورد فحسب ، بل في موارد كثيرة نجد هؤلاء الطامعين يركضون وراء اللقمة الدسمة التي لا تقترن بألم. ويهربون من المواطن الخطيرة وساحات القتال كما نقرأ ذلك في الآية (٤٢) من سورة التوبة : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ).

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم يقول ردا على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفرص (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) ثمّ يضيف قائلا للنبي : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا).

وليس هذا هو كلامي بل (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) وأخبرنا عن مستقبلكم أيضا.

إنّ أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصّة بأهل الحديبيّة ولن يشاركهم في ذلك

٤٥٢

أحد. لكنّ هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النّبي ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك : (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا).

وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم ، فالجهل ملازم لهم أبدا ، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها ، فهي زائلة لا محالة!.

صحيح أنّهم أذكياء في المسائل المادية والمنافع الشخصية ، ولكن أي جهل أعظم من أن يبيع الإنسان جميع كيانه وكلّ شيء منه بالثروة!

وأخيرا وطبقا لما نقلته التواريخ فإنّ النّبي الأكرم وزّع غنائم خيبر على أهل الحديبيّة فحسب ، حتى الذين لم يشتركوا في خيبر وكانوا في الحديبيّة جعل لهم النّبي سهما من غنائم خيبر ، وبالطبع لم يكن لهذا المورد أكثر من مصداق واحد وهو «جابر بن عبد الله الأنصاري» (١).

واستكمالا لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبيّة اقتراحا وتفتح عليهم باب العودة فتقول : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).

فمتى ما ندمتم عن أعمالكم وسيرتكم السابقة ورفعتم اليد عن عبادة الدنيا وطلب الراحة ، فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تسهموا فيها مرّة أخرى ، وإلّا فإنّ اجتناب الميادين الصعبة ، والمساهمة في الغنائم

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، الجزء ٣ ، الصفحة ٣٦٤.

٤٥٣

وميادين الراحة غير مقبول بأي وجه ودليل على نفاقكم أو ضعف إيمانكم وجبنكم.

الطريف هنا أنّ القرآن كرر التعبير بالمخلّفين في آياته ، وبدلا من الاستفادة من الضمير فقد عوّل على الاسم الظاهر.

وهذا التعبير خاصة جاء بصيغة اسم المفعول «المخلّفين» أي المتروكين وراء الظهر ، وهو إشارة إلى أنّ المسلمين المؤمنين حين كانوا يشاهدون ضعف هؤلاء وتذرعهم بالحيل كانوا يخلّفونهم وراء ظهورهم ولا يعتنون أو يكترثون بكلامهم! ويسرعون إلى ميادين الجهاد!.

ولكنّ من هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم بـ «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟! هناك كلام بين المفسّرين ...

وجملة (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) تدلّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، لأنّ أهل الكتاب لا يجبرون على قبول الإسلام ، بل يخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمّة.

وإنّما الذين لا يقبل منهم إلّا الإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب ، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام دينا ويرى انّه لا بدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.

ومع الالتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمّة في عصر النّبي بعد حادثة الحديبيّة مع المشركين سوى فتح مكّة وغزوة حنين ، فيمكن أن تكون الآية المتقدّمة إشارة إلى ذلك وخاصّة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من «هوازن» و «بني سعد».

وما يراه بعض المفسّرين من احتمال أنّ الآية تشير إلى غزوة (مؤتة) التي حدثت مع أهل الروم فهذا بعيد ، لأنّ أهل الروم كانوا كتابيين.

واحتمال أنّ المراد منها الغزوات التي حدثت بعد النّبي ومن جملتها غزوة

٤٥٤

فارس واليمامة ، فهذا أبعد بكثير ، لأنّ لحن الآيات مشعر بأنّ الحرب ستقع في زمان النبيّ ولا يلزمنا أبدا أن نطبّق ذلك على الحروب التي حدثت بعده ، ويظهر أنّ للدوافع السياسية أثرا في بعض الأفكار المفسّرين في هذه القضية!.

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمّل وهي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعدهم بالقول أنّهم سيغنمون في الحروب والمعارك المقبلة ، لأنّ الهدف من الجهاد ليس كسب الغنائم بل المعوّل عليه هو ثواب الله العظيم وهو عادة إنّما يكون في الدار الآخرة!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّ الآية (٨٣ : من سورة التوبة تردّ ردّا قاطعا على هؤلاء المخلّفين فتقول : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ).

في حين أنّ الآية محل البحث تدعوهم إلى الجهاد والقتال في ميدان صعب (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). فما وجه ذلك؟

ولكن مع الالتفات إلى الآية (٨٣) في سورة التوبة تتعلق بالمخلّفين في معركة تبوك الذين قطع النّبي الأمل منهم ، أمّا الآية محل البحث فتتحدّث عن المخلّفين عن الحديبيّة ، وما يزال النّبي يأمل فيهم المشاركة ، فيتّضح الجواب على هذا الاشكال!.

وحيث أنّ من بين المخلّفين ذوي أعذار لنقص عضوي في أبدانهم أو لمرض وما الى ذلك فلم يقدروا على الاشتراك في الجهاد ، ولا ينبغي أن نجحد حقهم ، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصّة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النّبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، فقالوا : يا رسول الله ما هي مسئوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).

وليس الجهاد وحده مشروطا بالقدرة ، فجميع التكاليف الإلهيّة هي سلسلة من

٤٥٥

الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة ، وكثيرا ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى وفي الآية (٢٨٦) من سورة البقرة نقرأ تعبيرا كليا عن هذا الأصل وهو : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

وهذا الشرط ثابت بالأدلة النقلية والعقليّة!.

وبالطبع فإن هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد ، إلّا أنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية كما نقرأ ذلك في الآية (٩١) من سورة التوبة : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ).

أي أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يؤدّوا عملا بأيديهم ، فلا ينبغي أن يألوا جهدا فيما يقدرون عليه ولا يعتذروا بألسنتهم عنه ، وهذا التعبير الطريف يدلّ على أنّه لا ينبغي الإغماض عن القدرات أبدا ، وبتعبير آخر أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يشاركوا في الجبهة فعلى الأقل عليهم أن يحكموا المواضع الخلفية للجبهة!

ولعلّ الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضا إلى هذا المعنى فتقول : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً).

وهذا الاحتمال وارد أيضا ، وهو أنّ بعض الأفراد في المواقع الاستثنائية يعتذرون عن المساهمة [ويسيئون فهم النص] فالقرآن هنا يحذّرهم أنّهم إذا لم يكونوا معذورين واقعا فإنّ الله أعدّ لهم عذابا أليما.

ومن نافلة القول أنّ كون المريض والأعمى والأعرج معذورين خاص بالجهاد ، أمّا في الدفاع عن حمى الإسلام والبلد الإسلامي والنفس فيجب أن يدافع كلّ بما وسعه ، ولا استثناء في هذا المجال!

* * *

٤٥٦

الآيتان

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

التّفسير

رضي الله عن المشتركين في بيعة الرضوان :

ذكرنا آنفا أنّه في الحديبيّة جرى حوار بين ممثلي قريش والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان من ضمن السفراء «عثمان بن عفان» الذي تشدّه أواصر القربى بأبي سفيان ، ولعلّ هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلا عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعثه إلى أشراف مكّة ومشركي قريش ليطلعهم على أنّ النّبي لم يكن يقصد الحرب والقتال بل هدفه زيارة بيت الله واحترام الكعبة المشرّفة بمعية أصحابه ... إلّا أنّ قريشا أوقفت عثمان مؤقتا وشاع على أثر ذلك بين المسلمين أنّ عثمان قد قتل! فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أبرح مكاني هذا حتى أقاتل عدوّي!

ثمّ جاء إلى شجرة هناك فطلب من المسلمين تجديد البيعة تحتها ، وطلب منهم

٤٥٧

أن لا يقصّروا في قتالهم المشركين وأن لا يولّوا أدبارهم من ساحات القتال (١).

فبلغ صدى هذه البيعة مكّة واضطربت قريش من ذلك بشدّة وأطلقوا عثمان.

وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفا في تاريخ الإسلام.

فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصة فتقول الأولى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

والهدف من هذه البيعة الانسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء!

وهذه البيعة أعطت روحا جديدا في المسلمين لأنّهم أعطوا أيديهم إلى النبي وأظهروا وفاءهم من أعماق قلوبهم.

فأعطى الله هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول الله في هذه اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور ، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو «رضوانه» كما عبّرت عنه الآية (٧٢) من سورة التوبة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ...) أيضا.

ثمّ تضيف الآية قائلة : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ).

سكينة واطمئنانا لا حدّ لهما ، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح ، في حين أن المسلمين عزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقا إلى قلوبهم!.

وهذا هو الأجر الثّاني والموهبة الإلهية الأخرى ، وأساسا فإنّ الألطاف الخاصة والإمدادات الإلهية تشمل حال المخلصين والصادقين.

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

٤٥٨

لذلك فإنّنا نقرأ حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول فيه! : «إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول يا ربّ ارزقني حتى افعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير فإذا علم الله عزوجل ذلك منه بصدق نيّته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إنّ الله واسع كريم» (١).

وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثّالث إذ تقول الآية : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً).

أجل ، هذا الفتح وهو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسّرين [وإن كان يرى بعضهم أنّه فتح مكّة] هو ثالث أجر وثواب للمؤمنين المؤثرين ، المضحّين.

والتعبير بـ «قريبا» تأييد على أنّ المراد منه «فتح خيبر» ، لأنّ هذا الفتح حدث وتحقّق بعد بضعة أشهر من قضيّة الحديبيّة وفي بداية السنة السابعة للهجرة!

والأجر الرابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها).

وواحدة من هذه الغنائم الكثيرة هي «غنائم خيبر» التي وقعت في أيدي المسلمين بعد فترة قصيرة من قضية الحديبيّة ، ومع الالتفات إلى ثروة اليهود الكثيرة جدّا تعرف أهمية هذه الغنائم.

إلّا أنّ تحديد هذه الغنائم بغنائم خيبر لا دليل قطعي عليه ، ويمكن عدّ الغنائم الأخرى التي وقعت في أيدي المسلمين خلال الحروب الإسلامية بعد فتح (الحديبيّة) في هذه الغنائم الكثيرة!

وحيث أنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئنانا كاملا فإنّ الآية تضيف في الختام : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

فإذا ما أمركم في الحديبيّة أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته ، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن ، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ١٩٩.

٤٥٩

الكثيرة فهو قادر على أن يلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق!

وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصارا في الدنيا والآخرة ، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات!

ونختم حديثنا بكلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يتحدّث عن بسالة المسلمين الأوائل وثباتهم وجهادهم الذي لا نظير له ويخاطب ضعاف الإيمان موبّخا إيّاهم على خذلانهم

فيقول : «فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوّئا أوطانه ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم. ما قام للدين عمود. ولا اخضرّ للإيمان عود وأيم الله لتحتلبنّها دما ولتتبعنّها ندما!» (١).

* * *

بحث

البيعة وخصوصيّاتها!

«البيعة» من مادة «بيع» وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثمّ أطلق هذا التعبير على مدّ اليد على المعاهدة ، وهكذا كانت حين كان الشخص يريد أن يعلم الآخر بوفائه له وأن يطيع أمره ويعرفه رسميّا فيبايعه ويمدّ له يده ، ولعلّ إطلاق هذه الكلمة من جهة أنّ كلّا من الطرفين يتعهّد كما يتعهّد ذوا المعاملة فيما بينهما ، وكان المبايع مستعدا أحيانا أن يضحّي بروحه أو بماله أو بولده في سبيل الطاعة! والذي يقبل البيعة يتعهّد على رعايته وحمايته والدفاع عنه! ...

يقول «ابن خلدون» في مقدمة تأريخه في هذا الصدد «كانوا إذا بايع الأمير جعل أيديهم في يده تأكيدا فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ٥٦.

(٢) مقدمة ابن خلدون ، صفحة ١٧٤.

٤٦٠