الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

وهنا يأتي سؤال ، وهو : إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم ، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟

غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين ، فتقول أولا : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) (١) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة ، حيث يقل التفاوت الطبقي ، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع ، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد. هذا ثوابكم الدنيوي.

وأمّا في الآخرة ، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر ، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه! وبتعبير آخر : فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد ، والتعبير بـ (فِي سَبِيلِ اللهِ) يلائم هذا المعنى أيضا ، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.

والجواب الآخر هو : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله ، وغني عن طاعتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.

إنّ الموجودات الممكنة ـ وما سوى الله سبحانه ـ متسربلة في الفقر جميعا ، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير ، فإنّها فقيرة إليه دائما ، حتى في أصل وجودها ، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة ، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة ، فسينتهي وجودها ، وتخرّ أبدانها جثثا هامدة!

وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة ، والموهبة العظيمة ، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه ، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها ، إذ : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

__________________

(١) «البخل» يتعدّى مرة بعن ، وأخر بعلى ، وعلى الأوّل يعني المنع ، وعلى الثّاني يعني الإضرار.

٤٠١

أجل ، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبدا ، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها ، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله ، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة ، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة .. أولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!

وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (٥٤) من سورة المائدة ، حيث تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).

والطريف أنّ أكثر المفسّرين قد نقلوا في ذيل الآية ـ مورد البحث ـ أنّ جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوه بعد نزول هذه الآية : من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان «سلمان» جالسا قريبا من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضرب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده على فخذ سلمان ـ وفي رواية على كتفه ـ وقال : «هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس».

لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المعروفة ، كالبيهقي والترمذي ، وعليه اتفاق مفسّري الشيعة والسنّة المشهورين ، كصاحب تفسير القرطبي ، وروح البيان ، ومجمع البيان ، والفخر الرازي ، والمراغي ، وأبي الفتوح الرازي وأمثالهم.

وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد البحث (١).

وروي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، يكمل الحديث السابق ، إذ يقول : «والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٦٧.

(٢) تفسير مجمع البيان ، الجزء ٩ ، صفحة ١٠٨.

٤٠٢

إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقّة ، وبنظرة بعيدة عن التعصّب ، ولا حظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة ـ في ميادين الجهاد ومحاربة العدو من جهة ، وتنقيح العلوم الإسلامية ، وتدوينها من جهة أخرى ، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث ، وتفصيل هذا الكلام طويل.

اللهمّ! ثبّت أقدامنا في طريق الجهاد والإيثار والتضحية في سبيل دينك القويم.

اللهمّ! لا تسلبنا ما منحتنا من الفخر العظيم إذ جعلتنا دعاة لدينك الحنيف.

إلهنا! زد في قوّتنا وإيماننا ، وتضحياتنا وإخلاصنا في هذا الوقت الذي هبّت فيه عواصف الشرق والغرب الهوجاء لمحو آثار دينك.

آمين يا رب العالمين.

نهاية سورة محّمد

* * *

٤٠٣
٤٠٤

سورة

الفتح

مدنيّة

وعدد آياتها تسع وعشرون آية

٤٠٥
٤٠٦

سورة الفتح

محتوى السورة

هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر! الفتح والنصر على أعداء الإسلام ، الفتح المبين والأكيد «سواء كان هذا الفتح متعلقا بفتح مكّة أو بصلح الحديبيّة أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق».

ومن أجل أن نفهم محتوى هذه السورة فينبغي أن نعرف ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ هذه السورة نزلت في السنة السادسة للهجرة بعد قضيّة «صلح الحديبية».

وبيان ذلك .. أنّ النّبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صمّم في السنّة السادسة للهجرة مع أصحابه من المهاجرين والأنصار وباقي المسلمين أن يتحرّكوا نحو مكّة للعمرة ، وكان من قبل قد أخبر المسلمين بأنّه رأى رؤيا في منامه وكأنّه مشغول بأداء مناسكه مع أصحابه في المسجد الحرام معتمرين فعقد المسلمون إحرامهم عند «ذي الحليفة» «المنطقة التي تقرب من المدينة المنوّرة» وتحرّكوا نحو مكّة المكرّمة في إبل كثيرة لتنحر «يوم الهدي» هناك.

وكانت الحالة التي يتحرك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها توحي بصورة جيدة أنّه لا هدف لديه سوى هذه العبادة الكبرى ... إلى أن وصل النّبي منطقة الحديبيّة «وهي قرية على مقربة من مكّة ولا تبعد عنها أكثر من عشرين كيلو مترا».

إلّا أنّ قريشا علمت بوصول النّبي إلى الحديبيّة فأوصدت بوجهه الطريق ومنعته من الدخول إلى مكّة المكرمة.

٤٠٧

وبهذا ألغت قريش جميع السنن التي ترتبط بأمن المسجد الحرام وضيوف الله والشهر الحرام ووضعتها تحت أقدامها .. إذ كانت تعتقد بحرمة الأشهر الحرام «ومن ضمنها شهر ذي القعدة الذي عزم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه على العمرة» وخاصّة إذا كان الناس حال الإحرام فلا ينبغي التعرّض لهم حتى لو كان المحرم قاتل واحد من رجالهم ، ورئي محرما في مناسكه فلا يمس بسوء أبدا».

وفي هذا المكان أي «الحديبية» جرى ما جرى بين رسول الله والمشركين من الكلام حتى انتهى إلى عقد معاهدة الصلح بين المسلمين وبين المشركين من أهل مكّة وقد سمّي هذا الصلح بصلح الحديبيّة وسنتحدث عنه في الصفحات المقبلة بإذن الله.

وعلى كلّ حال فقد منع النّبي أن يدخل مكّة ويؤدي مناسك العمرة .. فاضطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمر أصحابه بأن ينحروا إبلهم ويحلقوا رؤوسهم ويحلّوا من إحرامهم! وأن يعودوا نحو المدينة!

وهنا غمر المسلمين طوفان من الحزن والغم وربّما تغلّب الشك والترديد على قلوب بعض الأفراد ضعيفي الإيمان!

وعن عبد الله بن مسعود قال : أقبل رسول الله من الحديبيّة فجعلت ناقته تثقل فتقدّمنا فأنزل الله عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فأدركنا رسول الله وبه من السرور ما شاء الله. فأخبر أنّها نزلت عليه (١).

ومن هنا فإنّه يبدو واضحا هذا الجو الخاص الحاكم على هذه السورة وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنّها تتألف من سبعة أقسام! ..

١ ـ تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضا ، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النّبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكّة وأداء مناسك العمرة.

__________________

(١) مجمع البيان ، سورة الفتح ، ومثله في تفسير القمي وفي ظلال القرآن.

٤٠٨

٢ ـ يتحدّث قسم آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلّقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و «بيعة الرضوان» وما إلى ذلك! ..

٣ ـ ويتحدّث قسم ثالث منها عن مقام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدفه الأسمى.

٤ ـ ويكشف القسم الرابع الستار عن غدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له ويعطي أمثلة من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النّبي جهاده المشركين والكفّار.

٥ ـ وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات «المنافقين» في غير محلّها.

٦ ـ والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم!

٧ ـ وأخيرا ... فإنّ القسم السابع يتحدّث عن خصائص أصحاب النّبي وأتباعه في طريقته وسنّته وصفاتهم التي يتميّزون بها .. وبشكل عام فإنّ آيات هذه السورة حسّاسة للغاية كما أنّها مصيريّة وخاصّة لمسلمي اليوم الذين يواجهون الحوادث المختلفة في مجتمعاتهم الإسلامية ففيها إلهام كبير لهم! ...

فضيلة تلاوة سورة الفتح :

تلاحظ روايات عجيبة في فضيلة هذه السورة في المصادر الإسلامية ففي حديث عن أنس أنّه قال : حين كنّا نعود من الحديبيّة وكان المشركون قد منعونا من الدخول الى مكّة وأداء مناسك العمرة فكنّا في حزن وغم شديدين فأنزل الله آيته (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...).

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها» وفي بعض الروايات : «لقد أنزلت عليّ سورة هي أحبّ من الدنيا كلّها» (١).

ويقول عبد الله بن مسعود حين كنّا نرجع من الحديبيّة ونزلت (إِنَّا فَتَحْنا) على

__________________

(١) مجمع البيان ، الجزء التاسع ، الصفحة ١٠٨.

٤٠٩

النّبي سرّ سرورا لا يعلم مداه إلّا الله (١).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من قرأها فكأنّما شهد مع محمّد فتح مكّة».

وفي رواية «فكأنّما كان مع من بايع محمّدا تحت الشجرة» (٢).

وأخيرا نقرأ حديثا للإمام الصادق عليه‌السلام يقول فيه : «حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت إيمانكم من التلف بقراءة (إِنَّا فَتَحْنا) فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ، الحقوه بالصالحين من عبادي وأدخلوه جنّات النعيم واسقوه من رحيق مختوم بمزاج الكافور» (٣).

ومن الواضح أنّ كلّ هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بتلاوة خالية من التفكّر ، بل الهدف الأصلي من تلاوة هذه السورة هو تطبيق أعمال القارئ وخلقه وطبعه على مفاد هذه السورة ومضامينها.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٠٩.

(٢) مجمع البيان الجزء التاسع ، ص ١٠٨.

(٣) ثواب الأعمال طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٦.

٤١٠

الآية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١))

التّفسير

الفتح المبين :

في الآية الأولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرى هي عند النّبي طبقا لبعض الرّوايات أحبّ إليه من الدنيا وما فيها إذ تقول الآية : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

(... فَتْحاً مُبِيناً) تظهر آثاره في حياة المسلمين في فترة وجيزة ، وفي فترة مديدة أيضا .. وذلك في انتشار الإسلام ... فتحا يقل نظيره أو ينعدم نظيره في طول تاريخ الإسلام وعلى امتداده.

وهنا كلام عريض وبحث طويل بين المفسّرين ... حول المراد من هذا الفتح أيّ فتح هو؟!

فأكثر المفسّرين يرون أنّه إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر «صلح الحديبية» (١).

__________________

(١) اختار هذا التّفسير جماعة منهم أبو الفتوح الرازي في تفسيره ، والآلوسي في روح المعاني ، والفيض الكاشاني في تفسير

٤١١

وبعض ذهبوا إلى أنّه «فتح مكّة».

وآخرون قالوا بأنّه «فتح خيبر».

وآخرون أنّه إشارة إلى انفتاح أسرار العلوم على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

غير أنّ قرائن كثيرة لدينا ترجح أنّ هذا الفتح هو ما يتعلّق بموضوع صلح الحديبية.

ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض ولو بشكل مضغوط قصة صلح الحديبيّة ليتّضح «المقام» وليكون هذا العرض الموجز بمثابة شأن نزول الآيات أيضا.

قصّة «صلح الحديبية» :

في السنة السادسة للهجرة وفي شهر ذي القعدة منها تحرّك النّبي نحو مكّة لأداء مناسك العمرة ورغب المسلمين جميعا في هذا الأمر .. غير أنّ قسما منهم امتنع عن ذلك ، في حين أنّ معظم المهاجرين والأنصار وجماعة من أهل البادية عزموا على الاعتمار (١) مع النّبي فساروا نحو مكّة! ...

فأحرم هؤلاء المسلمون الذين كانوا مع النّبي وكان عددهم في حدود «الألف والأربعمائة» ولم يحملوا من أسلحة الحرب شيئا سوى السيوف التي كانت تعدّ أسلحة للسفر فحسب!.

ولمّا وصل النّبي إلى «عسفان» التي لا تبعد عن مكّة كثيرا أخبر أنّ قريشا تهيّأت لصدّه وصمّمت على منعه من الدخول إلى مكّة. ولمّا بلغ النّبي الحديبيّة [وهي قرية على مسافة عشرين كيلو مترا من مكّة وسمّيت بذلك لوجود بئر فيها

__________________

الصافي والعلّامة الطباطبائي في الميزان .. في حين أنّ بعض المفسّرين يرجحون أنّ المراد من هذا الفتح هو فتح مكّة كما هو في تفسير التبيان للطوسي ، والكشاف للزمخشري وتفسير الفخر الرازي وغيرهم .. أمّا العلّامة الطبرسي فقد جمع بين القولين في مجمع البيان مع أقوال أخرى إلّا أنّه يميل إلى تفسير الطائفة الثانية ..

(١) الاعتمار مصدر من : اعتمر والعمرة أو اسم مصدر من عمر وكلا المصدرين بمعنى واحد وهو الزيارة مطلقا (لغة) غير أنّه اصطلح عليهما في زيارة بيت الله خاصّة.

٤١٢

أو شجرة] أمر أصحابه أن يحطّوا رحالهم فيها. فقالوا : يا رسول الله ليس هنا ماء ولا كلأ ، فهيّأ النّبي عن طريق الاعجاز لهم ماء من البئر الموجودة في تلك المنطقة .. وبدأ التزاور بين سفراء النّبي وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتحلّ المشكلة على أي نحو كان ، وأخيرا جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلا حازما عند النّبي فقال له النبي : «إنّا لم نجيء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ...».

وهذا وقد لاحظ عروة الثقفي ، ضمنا حالة الأصحاب وهم يكتنفون نبيّهم عند وضوئه فلا يدعون قطرة تهوي إلى الأرض منه.

وحين رجع عروة إلى قريش قال : لقد ذهبت إلى قصور كسرى وقيصر والنجاشي فلم أر قائدا في قومه في عظمته كعظمة محمّد بين أصحابه ... وقال عروة لرجال قريش أيضا إذا كنتم تتصورون أنّ أصحاب محمّد يتركونه فأنتم في خطأ كبير ... فأنتم في مواجهة أمثال هؤلاء الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم فاعرفوا كيف تواجهونهم!؟

ثمّ أنّ النّبي أمر عمر أن يمضي إلى مكّة ليطلع أشراف قريش على الهدف من سفر النّبي فاعتذر عمر وقال إنّ بينه وبين قريش عداوة شديدة وهو منها على حذر فالأفضل أن يرسل عثمان بن عفان ليبادر إلى هذا العمل ، فمضى عثمان إلى مكّة ولم تمض فترة حتى شاع بين المسلمين خبر مفاده أنّ عثمان قتل ، فاستعد النّبي لأن يواجه قريشا بشدّة! فطلب بتجديد البيعة من أصحابه فبايعوه تحت الشجرة بيعة سمّيت «بيعة الرضوان» وتعاهدوا على مواصلة الجهاد حتى آخر نفس ؛ إلّا أنّه لم يمض زمن يسير حتى عاد عثمان سالما وأرسلت قريش على أثره سهيل بن عمرو للمصالحة مع النّبي غير أنّها أكّدت على النّبي أنّه لا يدخل مكّة في عامه هذا أبدا.

وبعد كلام طويل تمّ عقد الصلح بين الطرفين وكان من موادّه ما بيّناه آنفا وهو أن يغض المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام وأن يأتوا في العام القابل

٤١٣

الى مكّة شريطة أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيّام وأن لا يحملوا سلاحا غير سلاح السفر كما كان من مواد العقد أمور أخرى تدور حول سلامة الأرواح والأموال التي تعود للمسلمين والذين يأتون مكّة منهم [من قبل المدينة] ومن مواد العقد أيضا إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين وأن يكون مسلمو مكّة أحرارا في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلامية.

وكان هذا العقد [أو هذه المعاهدة] بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين ولحسم المعارك المستمرّة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة.

وكان مؤدّى هذه المعاهدة وما يتضمّنه عقد الصلح بالنحو التالي :

«قال النّبي لعلي اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : فقال سهيل بن عمرو الذي كان سفير المشركين لا أعرف هذه العبارة بل ليكتب بسمك اللهمّ! فقال النّبي لعلي اكتب : بسمك اللهمّ : ثمّ قال النّبي لعلي اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو كنّا نعرفك رسول الله لما حاربناك فاكتب اسمك واسم أبيك فحسب. فقال النبيّ : لا مانع من ذلك اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية ، وإضافة إلى ذلك من يأت محمّدا من قريس مسلما دون إذن وليّه فيجب إعادته الى أهله ومن جاء قريشا من أصحاب محمّد فلا يجب إعادته إلى محمّد!

والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمّد ومن شاء دخل في عهد قريش! ويتعهّد الطرفان أن لا يخون كلّ منهما [صاحبه] الآخر وأن يحترم ماله ونفسه! ثمّ بعد هذا ليس لمحمّد هذا العام أن يدخل مكّة ، لكن في العام المقبل تخرج قريش من مكّة لثلاثة أيّام ويأتي محمّد وأصحابه إلى مكّة على أن لا يمكثوا فيها أكثر من ثلاثة أيّام ويؤدّوا مناسك العمرة ثمّ يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحا سوى السيف الذي هو من عدة السفر وأن يكون في الغمد وشهد على هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي

٤١٤

بن أبي طالب عليه‌السلام» (١).

وذكر العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» مواد أخرى منها :

«ينبغي أن يكون الإسلام في مكّة غير خفي وأن لا يجبر أحد في اختيار مذهبه وأن لا ينال المسلمين أذى من المشركين» (٢).

وهذا المضمون كان موجودا في التعبير السابق بصورة إجمالية.

وهنا أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تنحر الإبل التي جيء بها مع المسلمين وأن يحلق المسلمون رؤوسهم وأن يتحلّلوا من إحرامهم! ..

لكن هذا الأمر كان على بعض المسلمين عسيرة للغاية وغير مستساغ أيضا .. لأنّ التحلل من الإحرام في نظرهم دون أداء العمرة غير ممكن!! لكنّ النّبي تقدّم بنفسه ونحر «هديه» وتحلّل من إحرامه وأشعر المسلمين أنّ هذا «استثناء» في قانون الإحرام أمر به الله سبحانه نبيّه!

ولمّا رأى المسلمون ذلك من نبيّهم أذعنوا للأمر الواقع ونفذوا أمر النّبي بدقة وعزموا على التوجّه نحو المدينة من هناك ، غير أنّه كان بعضهم يحسّ كأنّ جبلا من الهم والحزن يجثم على صدره لأنّ ظاهر القضية أنّ هذا السفر كان غير موفّق بل مجموعة من الهزائم! لكنّ مثل هذا وأضرابه لم يعلموا ما ينطوي وراء صلح الحديبية من انتصارات للمسلمين ولمستقبل الإسلام. وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين (٣).

* * *

__________________

(١) منقول بتصرّف يسير عن تأريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٨١.

(٢) بحار الأنوار ، الجزء العشرون ، ص ٣٥٢.

(٣) راجع سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٤ ، تفسير مجمع البيان وتفسير في ظلال القرآن والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ومصادر أخرى [مع شيء من التلخيص طبعا].

٤١٥

الآثار السياسية والاجتماعية والمذهبية لصلح الحديبية :

يتّضح بمقايسة إجمالية بين حال المسلمين في السنة السادسة للهجرة «أي عند صلح الحديبية» وحالهم بعدها بسنتين حيث تحرّك المسلمون لفتح مكّة بعشرة آلاف مقاتل ليردّوا على نقض العهد بشدّة ، وقد فتحوا مكّة دون أية مواجهة عسكرية لأنّ قريشا لم تجد في نفسها القدرة على المقاومة أبدا.

يتّضح بهذه المقايسة الإجمالية ـ سعة ردّ الفعل ـ التي أحدثتها معاهدة صلح الحديبية! ..

وباختصار فإنّ المسلمين حصلوا على امتيازات عديدة من وراء هذا الصلح وفتحا كبيرا نذكرها على النحو التالي :

١ ـ بيّنوا عمليا للمضللين من أهل مكّة أنّهم ليس لديهم نيّة للحرب وسفك الدماء وأنّهم يحترمون مكّة وكعبتها المقدسة وكان هذا الأمر سببا لاكتساب قلوب الكثيرين نحو الإسلام.

٢ ـ اعترفت قريش لأوّل مرّة بالإسلام والمسلمين «بصورة رسمية» وكان ذلك سببا لتثبيت موقعهم في جزيرة العرب! ...

٣ ـ استطاع المسلمون بعد صلح الحديبيّة أن يمضوا حيث يشاءون وأن تبقى أرواحهم وأموالهم في مأمن من الخطر واتصلوا بالمشركين من قريب اتصالا أثمر نتيجته ، فكان أن عرف المشركون الإسلام بصورة أكثر واسترعى أنظارهم نحوه!.

٤ ـ انفتح الطريق بعد صلح الحديبيّة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية. وأثار موقف النّبي الإيجابي من الصلح القبائل العربية وأصلح نظرتها إلى الإسلام ورسوله الكريم. وحصل المسلمون على مجال إعلامي واسع في هذا الصدد.

٥ ـ هيّأ صلح الحديبيّة الطريق لفتح «خيبر» واستئصال هذه الغدة السرطانية «المتمثلة باليهود» والتي كانت تشكل خطرا مهمّا «بالفعل والقوّة» على الإسلام والمسلمين!

٤١٦

٦ ـ وأساسا فإنّ استيحاش قريش من مواجهة الجيش الذي كان يتألّف من ألف وأربعمائة مسلم فحسب ولا يحمل أي منهم سلاحا سوى سلاح السفر وقبول قريش بمعاهدة الصلح كان بنفسه أيضا عاملا مهما على تقوية المعنويات عند المسلمين وهزيمة أعداء الإسلام إلى درجة أنّهم كانوا يتهيّبون من مواجهة المسلمين!.

٧ ـ وبعد صلح الحديبيّة كتب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتبا و (رسائل) متعددة إلى رؤساء الدول الكبرى (إيران والروم والحبشة) وملوك العالم البارزين يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وهذا بنفسه يدل على أن صلح الحديبيّة أعطى المسلمين الثقة بأنفسهم وأن ينفتحوا لا على الجزيرة العربية فحسب بل على آفاق العالم قاطبة!

* * *

والآن لنعد ثانية إلى تفسير الآيات! ...

نستطيع أن ندرك ممّا ذكر آنفا ـ بشكل جيد ـ أنّ صلح الحديبيّة كان بحق انتصارا للإسلام وفتحا للإسلام والمسلمين فلا غرابة أن يعبّر عنه القرآن بالفتح المبين!.

ثمّ بعد هذا كله فإنّ هناك قرائن كثيرة تؤيد هذا التّفسير ..

١ ـ جملة ـ فتحنا ـ التي جاءت بصيغة الفعل الماضي تدل على أنّ هذا الأمر قد تحقق عند نزول الآيات في حين أنّه لم يكن وقتئذ أي شيء سوى صلح الحديبية!.

٢ ـ زمان نزول الآيات المشار إليها آنفا والآيات الأخرى المذكورة في هذه السورة التي تمدح المؤمنين وتذم المنافقين والمشركين في صلح الحديبيّة كلّ ذلك شاهد آخر على هذا المعنى ، والآية (٢٧) من سورة الفتح التي تؤكّد على تحقق رؤيا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) هي شاهد بليغ على أنّ

٤١٧

هذه السورة نزلت بعد الحديبيّة وقبل فتح مكّة!.

٣ ـ هناك روايات كثيرة تعبّر عن صلح الحديبيّة بأنّه «الفتح المبين»! ومن ضمنها ما ورد في تفسير «جوامع الجامع» أنّه حين كان النّبي راجعا من الحديبيّة ونزلت عليه سورة الفتح .. قال أحد أصحابه : ما هذا الفتح؟! لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا!.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بئس الكلام «هذا» بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراع ويسألوكم القضيّة! ورغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا ...» (١).

ثمّ ذكّرهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تحمل المشركون من مساءة يوم بدر ويوم الأحزاب فصدّق المسلمون رسولهم على أنّ هذا أعظم الفتوح وأنّهم قضوا عن عدم اطلاعهم بما قالوا (٢).

يقول «الزهري» وهو من التابعين : لم يكن فتح أعظم من الحديبيّة وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام.

ففي هذه الأحاديث إشارة إلى جانب من الامتيازات التي حصل عليها المسلمون ببركة صلح الحديبية.

إلّا أنّ حديثا واحدا ورد عن الإمام الرضا «علي بن موسى» عليه‌السلام يقول (إِنَّا فَتَحْنا) نزلت بعد «فتح مكّة» (٣).

بيد أنّه يمكن توجيه هذه الرواية ببساطة بالقول بأنّ صلح الحديبيّة كان مقدمة لفتح مكّة بعد سنتين ، فيرتفع الإشكال.

__________________

(١) جوامع الجامع «طبقا لنور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨ ، الحديث التاسع».

(٢) الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٦٨ ـ ٣ ـ نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨.

(٣) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٨.

٤١٨

أو بتعبير آخر أنّ «صلح الحديبية» كان سببا لفتح خيبر في فترة وجيزة «في السنة السابعة للهجرة» وأوسع من ذلك كان سببا لفتح مكّة (السنة الثامنة للهجرة) وانتصارات الإسلام في مجالات شتى من حيث النفوذ في قلوب العالمين!.

وبهذا يمكن الجمع بين التفاسير الأربعة مع هذا القيد وهو أنّ صلح الحديبيّة يشكل المحور الأصلي لهذه التفاسير!.

* * *

٤١٩

الآيتان

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

التّفسير

نتائج الفتح المبين الكبرى :

في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من «الفتح المبين» [صلح الحديبية] والتي ورد ذكره في الآية السابقة فتقول الآيتان : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

وبهذا فإنّ الله منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي «المغفرة» ، و «إتمام النعمة» ، و «الهداية» و «النصر».

* * *

٤٢٠