الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يذكرون علامات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ظهوره ، وذلك استنادا إلى ما ورد في كتبهم السماوية ، وكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر ، إلّا أنّهم أعرضوا عنه بعد ظهوره واتضاح هذه العلامات وتحقّقها ، ومنعتهم شهواتهم ومصالحهم من الإيمان به.

بالرغم من ذلك ، فإنّ القرائن الموجودة في الآيات السابقة واللاحقة تبيّن جيدا أنّ هذه الآية تتحدث أيضا عن المنافقين الذين جاؤوا ورأوا بأمّ أعينهم الدلائل الدالّة على حقانية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمعوا آياته ، إلّا أنّهم أدبروا اتباعا لأهوائهم وشهواتهم ، وطاعة لوساوس الشيطان.

«سوّل» من مادة سؤل ـ على وزن قفل ـ وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان (١) ، و «التسويل» بمعنى الترغيب والتشويق إلى الأمور التي يحرص عليها ، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان ، وتمنع من هدايته.

وجملة (وَأَمْلى لَهُمْ) من مادة «إملاء» ، وهو زرع طول الأمل فيهم ، والآمال البعيدة المدى ، والتي تشغل الإنسان ، فتصدّه عن الحق والهدى.

وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) وهذا دأب المنافقين في البحث عن العصاة والمخالفين ، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كلّ المواقف ، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم ، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر.

بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة ـ وهم «بنو النضير» و «بنو قريظة»

__________________

(١) ولذلك فإنّ البعض قد فسّرها بمعنى الأمل ، كما نقرأ ذلك في الآية (٣٦) من سورة طه : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى).

٣٨١

الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا بعد ظهوره ومبعثه ، وتعرّض مصالحهم للخطر ، ولحسدهم وكبرهم ، فإنّهم اعتبروا الإسلام دينا باطلا ، وغير سليم ـ ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتآمرهم ضد الإسلام ، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

وربّما كان تعبير (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط ، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام ، وتعتقدون بالبعث والقيامة ، ونحن لا نتفق معكم في هذه الأمور (١).

هذا الكلام شبيه بما جاء في الآية (١١) من سورة الحشر : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ).

وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم ، وبتآمرهم مع اليهود ، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت المناسب. وعليم بما كان يخفيه اليهود من حسدهم وعدائهم وعنادهم ، فقد كانوا يعرفون علامات نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يعرفون أبناءهم بشهادة كتابهم ، وكانوا يذكرون هذه العلامات للناس من قبل ، إلّا أنّهم أخفوها جميعا بعد ظهوره ، والله عليم بهذا الإخفاء ومحاولة طمس الحق.

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام : أنّ المراد من (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) بنو أميّة الذين كرهوا نزول أمر الله تعالى في ولاية علي عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) ثمّة احتمالات عديدة أخرى في تفسير هذه الآية ، لا ينسجم أي منها مع الآيات السابقة واللاحقة ، ولذلك أعرضنا عن ذكرها.

(٢) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ١٠٥.

٣٨٢

وواضح أنّ هذا النوع تطبيق وبيان مصداق ، وليس حصرا لمعنى الآية.

والآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم ، فتقول : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (١).

نعم ، إنّ هؤلاء الملائكة مأمورون أن يذيقوا هؤلاء العذاب وهم على أعتاب الموت ليذوقوا وبال الكفر والنفاق والعناد ، وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء الله ، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات الله ونبيّه.

وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (٥٠) من سورة الأنفال حول الكفار والمنافقين : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

لأنّ رضى الله سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكلّ سعي وجهد ، وبناء على هذا ، فمن الطبيعي أن تحبط أعمال أولئك الذين يصرون على إغضاب الله عزوجل وإسخاطه ، ويخالفون ما يرتضيه ، ويودعون هذه الدنيا وهم خالو الوفاض ، قد أثقلتهم أوزارهم ، وأرهقتهم ذنوبهم.

إنّ حال هؤلاء القوم يخالف تماما حال المؤمنين الذين تستقبلهم الملائكة بوجوه ضاحكة عند ما يشرفون على الموت ، وتبشّرهم بما أعد الله لهم : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

وممّا يلفت النظر أنّ الجملة فعلية في مورد غضب الله تعالى : (ما أَسْخَطَ اللهَ) وهي أسمية في مورد رضاه : (رِضْوانَهُ) ، وقال بعض المفسّرين : إنّ هذا التفاوت

__________________

(١) كيف ، خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : فكيف حالهم ...

(٢) النحل ، الآية ٣٢.

٣٨٣

في التعبير يتضمن نكتة لطيفة ، وهي أنّ غضب الله قد يحدث وقد لا يحدث ، أمّا رضاه ورحمته فهي مستمرة دائمة.

وواضح أيضا أنّ غضب الله تعالى وسخطه لا يعني التأثر النفسي ، كما أنّ رضاه سبحانه لا يعني انبساط الروح وانشراح الأسارير ، بل هما كما ورد في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : «غضب الله عقابه ، ورضاه ثوابه» (١).

* * *

__________________

(١) توحيد الصدوق ، طبق نقل الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ٢٦٦.

٣٨٤

الآيات

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

التّفسير

يعرف المنافقون من لحن قولهم :

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم ، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين دائما ، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة الكبرى ، فتقول أوّلا : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (١).

«الأضغان» جمع ضغن ، وهو الحقد الشديد.

__________________

(١) اعتبر البعض (أم) في الآية أعلاه استفهامية ، والبعض الآخر اعتبرها منقطعة بمعنى بل ، ويبدو أنّ الأوّل هو الأفضل.

٣٨٥

نعم ، لقد كانت قلوب هؤلاء مملوءة غيظا وحقدا شديدا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وكانوا يتحيّنون الفرص لإنزال الضربة بهم ، فهنا يحذّرهم القرآن بأن لا يظنّوا أنّ بإمكانهم أن يخفوا وجههم الحقيقي دائما ، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم ، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عند ما تنظر ظاهرهم.

ثمّ تضيف : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم.

يقول الراغب في مفرداته : «اللحن» عبارة عن صرف الكلام عن قواعده وسننه ، أو إعرابه على خلاف حاله ، أو الكناية بالقول بدلا من الصراحة. والمراد في الآية مورد البحث هو المعنى الثّالث ، أي : يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم ، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.

حينما يكون الكلام عن الجهاد ، فإنّهم يسعون إلى إضعاف إرادة الناس ومعنوياتهم ، وحينما يكون الكلام عن الحق والعدالة ، فإنّهم يحرّفونه بنحو من الأنحاء ، وإذا ما أتى الحديث عن الصالحين المتّقين السابقين إلى الإسلام ، فإنّهم يسعون إلى تشويه سمعتهم ، وتقليل أهميتهم ومكانتهم ، ولذلك روي عن «أبي سعيد الخدري» حديثه المعروف الذي يقول فيه : لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب ، وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب (١).

نعم ، لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال ، وأول مضح في سبيل الإسلام ، ويبغضونه.

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث. ثمّ إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم ، ومن جملتهم : أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل ، وابن عبد البر في الإستيعاب ، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام ، وابن الأثير في جامع الأصول ، والعلّامة الگنجي في كفاية الطالب ، ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة ، والسيوطي في الدر المنثور ، والآلوسي في روح المعاني ، وأورده جماعة آخرون في كتبهم ، وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلمة عن الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمزيد من الإيضاح يراجع إحقاق الحق ، المجلد الثّالث ، صفحة ١١٠ وما بعدها.

٣٨٦

إنّ الإنسان لا يستطيع عادة أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه ، ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه ، وصفحات وجهه» (١).

وقد ذكرت آيات القرآن الأخرى كلمات المنافقين الجارحة ، والتي هي مصداق للحن القول هذا ، أو حركاتهم المشبوهة ، ولعلّه لهذا السبب قال بعض المفسّرين : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف المنافقين جيدا ، من خلال علاماتهم ، بعد نزول هذه الآية.

والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعيا الله له : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (٢).

لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم ، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وخاصّة في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب ، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته ، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم ، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف.

واليوم أيضا لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمة ، وخاصة عند الاضطرابات أو الحروب ، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم ، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٢٦.

(٢) التوبة ، الآية ٨٤.

٣٨٧

ويفضحوها.

وأخيرا تضيف الآية : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن ، ويعلم أعمال المنافقين ، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس ، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن الله الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم ، وخلوتهم واجتماعهم؟

وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقا أخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.

ومع أنّ لهذا الابتلاء والاختبار أبعادا واسعة ، ومجالات رحبة تشمل الصبر والثبات في أداء كلّ الواجبات والتكاليف ، ولكن المراد منه هنا الامتحان في ساحة الحرب والقتال لمناسبته كلمة «المجاهدين» ، والآيات السابقة واللاحقة ، والحق أنّ ميدان الجهاد ساحة اختبار عسير وشديد ، وقلّما يستطيع المرء أن يخفي واقعه في أمثال هذه الميادين.

وتقول الآية الأخيرة : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ).

قال كثير من المفسّرين : إنّ المراد من الأخبار هنا أعمال البشر ، وذلك أن عملا ما إذا صدر من الإنسان ، فإنّه سينتشر بين الناس كخبر.

وقال آخرون : إنّ المراد من الأخبار هنا : الأسرار الداخلية ، لأنّ أعمال الناس تخبر عن هذه الأسرار.

ويحتمل أن تكون الأخبار هنا بمعنى الأخبار التي يخبر بها الناس عن وضعهم وعهودهم ومواثيقهم ، فالمنافقون ـ مثلا ـ كانوا قد عاهدوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يرجعوا عن القتال ، في حين أنّهم نقضوا عهدهم : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) (١).

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ١٥.

٣٨٨

ونراهم في موضع آخر : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (١).

وبهذا فإنّ الله سبحانه يختبر أعمال البشر ، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم. وطبقا لهذا التّفسير فإنّ لهاتين الجملتين في الآية مورد البحث معنيين متفاوتين ، مع أنّ إحداهما تؤكّد الأخرى طبقا للتفاسير السابقة.

وعلى أية حال ، فليست هذه المرة الأولى التي يخبر الله سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم ، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون ، وقد ذكرت مسألة الامتحان والابتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالاختبار الإلهي في ذيل الآية (١٥٥) من سورة البقرة ، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.

ثمّ إنّ جملة (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) لا تعني أنّ الله لا يعلمهم ، بل المراد تحقق هذا المعلوم عمليا ، وتشخيص هؤلاء المجاهدين ، فالمعنى : ليتحقق علم الله سبحانه في الخارج ، وتحصل العينية ، وتتميز الصفوف.

* * *

__________________

(١) الأحزاب ، الآية ١٣.

٣٨٩

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤))

التّفسير

الذين يموتون على الكفر لن يغفر الله لهم :

بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة ، تبحث هذه الآيات وضع جماعة أخرى من الكفار ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) حتى وإن عملوا خيرا ، لأنّه لم يكن مقترنا بالإيمان.

هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكّة ، أو الكفار من يهود المدينة ، أو كليهما ، لأنّ التعبير بـ «الكفر» ، و «الصد عن سبيل الله» ، و (شَاقُّوا الرَّسُولَ) قد ورد بحقّ

٣٩٠

الفريقين في آيات القرآن الكريم.

أمّا «تبيّن الهدى» ، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكّة ، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.

و «إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحيانا كإقراء الضيف ، والإنفاق ، ومعونة ابن السبيل ، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.

وعلى أية حال ، فقد كان هؤلاء الجماعة متّصفين بثلاث صفات : الكفر ، والصد عن سبيل الله ، والعداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه ، والأخرى بعباد الله ، والثالثة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعد أن تبيّن حال المنافقين ، والخطوط العامة لأوضاعهم ، وجّهت الآية التالية الخطاب إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم ، فقالت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

في الواقع ، إنّ أسلوب حياة المؤمنين وبرنامجهم يقع في الطرف المقابل للكفار والمنافقين في كلّ شيء ، فهؤلاء يعصون أمر الله سبحانه ، وأولئك يطيعونه ، هؤلاء يعادون النبي ، وأولئك يطيعون أمر هو هؤلاء تحبط أعمالهم لكفرهم وريائهم ومنّتهم ، أمّا أولئك فإنّ أعمالهم محفوظة عند الله سبحانه وسيثابون عليها ، لاجتنابهم هذه الأمور.

وعلى كلّ حال ، فإنّ أسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفرادا كانوا قد قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل ، ولذلك فإنّ الله سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.

والشاهد لهذا الكلام سبب النّزول الذي ذكره البعض لهذه الآية ، وهو : إنّ «بني أسد» كانوا قد أسلموا وأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنّنا نؤثرك على أنفسنا ، ونحن وأهلونا رهن إشارتك وأمرك. غير أنّ أسلوبهم في الكلام كانت تلوح منه المنّة ،

٣٩١

فنزلت الآية أعلاه ، وحذّرتهم من ذلك.

واستدل بعض الفقهاء بجملة : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) على حرمة قطع الصلاة ، ولكنّ الآية مورد البحث وما قبلها وما بعدها شاهدة على أنّها لا تتعلق بهذا الأمر ، بل عدم الإبطال عن طريق الشرك والرياء والمن وأمثال ذلك.

وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار ، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت ، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم ، فكيف يغفر الله لهم؟

وبهذا ، فقد ورد الحديث في مجموع هذه الآيات عن ثلاث مجموعات : الكفّار ، والمنافقون ، والمؤمنون ، وتحدّدت صفات كلّ منهم ومصيره.

* * *

بحث

عوامل إحباط ثواب العمل :

من المسائل الأساسية التي أكدت عليها آيات القرآن المختلفة ، ومنها الآية مورد البحث ، هي أن يحذر المؤمنون من أن تحبط أعمالهم كالكفار ، وبتعبير آخر : فإنّ نفس العمل شيء ، والحفاظ عليه شيء أهمّ ، فإنّ العمل الصالح السالم المفيد ، هو العمل الذي يكون منذ البداية سالما من العيوب وأن يحافظ عليه من الخلل والعيب حتى نهاية العمر.

والعوامل التي تؤدي إلى إحباط أعمال الإنسان ، أو تهددها بذلك الخطر كثيرة ، ومن جملتها :

١ ـ المن والأذى كما يقول القرآن الكريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا

٣٩٢

صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١).

فهنا ذكر عاملان لبطلان العمل : أحدهما المنّ والأذى ، والآخر الرياء والكفر ، فالأوّل يأتي بعد العمل والثّاني قرينه ، وهما كالنّار يحرقان الأعمال الصالحة.

٢ ـ العجب عامل آخر في إحباط آثار العمل ، كما ورد ذلك في الحديث : «العجب يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب» (٢).

٣ ـ الحسد ـ أيضا ـ أحد هذه الأسباب ، والذي ورد فيه تعبير شبيه بما ورد في العجب ، فقد روي عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إيّاكم والحسد ، فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب» (٣).

وكما تذهب الحسنات السيئات (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٤) ، فإنّ السيئات تمحو كلّ الحسنات أحيانا.

٤ ـ المحافظة على الإيمان إلى آخر لحظات العمر ، وهذا أهم شرط لبقاء آثار العمل ، لأنّ القرآن يقول بصراحة : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥).

من هنا نعرف أهمية ومشاكل وصعوبات مسألة المحافظة على الأعمال ، ولذلك ورد في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «الإبقاء على العمل أشدّ من العمل» ، قال ـ أي الراوي ـ : وما الإبقاء على العمل؟ قال : «يصل الرجل بصلة ، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتب له سرّا ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٤.

(٢) روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٥٢٢.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧٣ ، صفحة ٢٥٥.

(٤) هود ، الآية ١١٤.

(٥) الزمر ، الآية ٦٥.

٣٩٣

يذكرها فتمحى وتكتب له رياء» (١).

وقد أشارت الآية ـ مورد البحث ـ إشارة خفية إلى هذه الأمور حيث تقول : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٢).

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثاني ، باب الرياء ، الحديث ١٦.

(٢) لمزيد من الإيضاح والتفصيل حول مسألة إحباط العمل راجع ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة.

٣٩٤

الآية

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

التّفسير

الصلح المذل!!

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدّث حول مسألة الجهاد ، تشير هذه الآية إلى أحد الأمور الهامة في مسألة الجهاد ، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالبا مسألة الصلح للفرار من مسئولية الجهاد ، ومصاعب ميدان الحرب.

من المسلّم أنّ الصلح خير وحسن جدّا ، لكن في محله ، إذ يكون حينها صلحا يحقق الأهداف الإسلامية السامية ، ويحفظ ماء وجه المسلمين وحيثيتهم وهيبتهم وعظمتهم. أمّا الصلح الذي يؤدي إلى ذلّتهم وانكسار شوكتهم فلا ، ولذلك تقول الآية الشريفة : الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (١).

أي : الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم ، كيف تذلّون أنفسكم وترضون

__________________

(١) «تدعوا» مجزوم ، وهو معطوف على (لا تهنوا) ، والمعنى : لا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم.

٣٩٥

بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلّا التراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحا في الواقع ، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والانهيار ، وهو نوع من طلب الراحة والعافية ، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.

ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية : (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) فإنّ من كان الله معه تكون كلّ عوامل الإنتصار مسخّرة له ، فلا يحس بالوحشة أبدا ، ولا يدع للضعف والانهزام سبيلا إلى نفسه ، ولا يستسلم للعدو باسم الصلح ولن يدع نتائج دماء الشهداء ومكاسبها تذهب سدى في اللحظات الحسّاسة.

(لَنْ يَتِرَكُمْ) من مادة «الوتر» ، وهو المنفرد ، ولذلك يقال لمن قتل قريبه ، وبقي وحيدا : وتر. وجاء أيضا بمعنى النقصان.

وفي الآية ـ مورد البحث ـ كناية جميلة عن هذا المطلب ، بأنّ الله سبحانه لن يترككم وحدكم ، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم ، خاصّة وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوة إلّا كتبت لكم ، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئا ، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.

اتضح ممّا قلناه أنّ الآية مورد البحث لا تنافي مطلقا الآية (٦١) من سورة الأنفال حيث تقول : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لنجعل إحداهما ناسخة للأخرى ، بل إنّ كلا منها ناظرة إلى مورد خاص ، فإحداهما تنظر إلى الصلح المعقول ، والأخرى إلى الصلح الذي ليس في محله فإنّ أحدهما صلح يحفظ مصالح المسلمين ، والآخر صلح يطرحه ضعفاء المسلمين وهم على أبواب النصر ، ولذلك فإنّ تتمة آية سورة الأنفال تقول : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ).

وقد أشار أمير المؤمنين علي عليه‌السلام إلى كلا الصالحين في عهده لمالك الأشتر ،

٣٩٦

حيث يقول : «ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى» (١).

إنّ طرح قضية الصلح من ناحية العدو من جهة ، وكونه مقترنا برضى الله سبحانه من جهة أخرى ، يبيّن انقسام الصلح إلى القسمين اللذين أشرنا إليهما فيما قلناه.

وعلى أية حال ، فإنّ أمراء المسلمين وأولياء أمورهم يجب أن يكونوا في غاية الحذر في تشخيص موارد الصلح والحرب ، والتي هي من أعقد المسائل وأدقّها ، لأنّ أدنى اشتباه في المحاسبة سيستتبع عواقب وخيمة في هذا المجال.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣٩٧

الآيات

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

التّفسير

إن تتولّوا سيمنح الله الرسالة قوما آخرين :

قلنا : إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد ، فبأمر الجهاد بدأت ، وبه تنتهي ، والآيات مورد البحث ـ وهي آخر آيات هذه السورة ـ تتناول مسألة أخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان ، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموما ، والى أمر الجهاد بالخصوص ، لأنّ حبّ الدنيا والانشداد إليها أحد عوامل المهمّة التي تعوّق عن

٣٩٨

الجهاد ، فتقول : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

«اللعب» يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي ، و «اللهو» يقال لكلّ عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.

والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلّا ، فلا يحصل منها أنس وارتياح ، وليس لها دوام وبقاء ، وإنّما هي لحظات كلمح البصر ، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.

ثمّ تضيف الآية : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (١) فلا أنّ الله يسألكم أجرا مقابل الهداية والرشاد وكلّ تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة ، ولا رسوله ، فإنّ الله تعالى غني عن العالمين ، ولا يحتاج رسوله إلى غير الله.

وإذا كان الشيء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية أخرى ، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم ، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم ، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها ، ولاستقرار النظام والأمن ، ولتأمين احتياجاتكم ، وعمران دياركم.

بناء على هذا ، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم ، فإنّ الله ورسوله في غنى عنكم ، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.

ثمّة احتمالات أخرى عديدة في تفسير جملة : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) ولرفع ما يبدو في الظاهر تناقضا :

فقال البعض : إنّه تعالى لا يسألكم شيئا من أموالكم مقابل الهداية والثواب.

وقال آخرون : إنّه تعالى لا يسألكم كلّ أموالكم ، بل يريد قسما منها فقط.

وقال جماعة : إنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ أموال الجميع من الله سبحانه ، وإن كانت ودائع بأيدينا أيّاما قليلة.

__________________

(١) جملة (لا يسألكم) مجزومة ، ومعطوفة على جزاء الجملة الشرطية ، أي : يؤتكم.

٣٩٩

لكن أفضلها جميعا هو التّفسير الأول.

وعلى أية حال ، فلا ينبغي نسيان أنّ جانبا من الجهاد هو الجهاد بالأموال ، ومن الطبيعي أنّ كلّ جهاد للعدو وقتال ضده يحتاج إلى أموال وميزانيات يجب أن تجمع وتهيّأ من قبل المسلمين الزاهدين في الدنيا وغير المتعلّقين بها. والآيات مورد البحث تهيء ـ في الحقيقة ـ الأرضية الفكرية والثقافية لهذه المسألة.

ولتبيان تعلّق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ).

«يحفكم» من مادة إحفاء ، أي : الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال ، وهي في الأصل من حفأ ، وهو المشي حافيا ، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود ، ومن هنا كان إحفاء الشارب يعني تقصيره ما أمكن.

و «الأضغان» جمع ضغن ، وهو بمعنى الحقد الشديد ، وقد أشرنا إليه سابقا.

وخلاصة القول : فإنّ الآية تبيّن التعلّق الشديد لكثير من الناس بالأمور المالية ، وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء ، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك هذا الارتباط ، وتشويق إلى هذا المعنى ، فإنّ تعلّقهم بلغ حدّا أنّ الله سبحانه إذا سألهم شيئا من أموالهم فإنّهم يغضبون ويحقدون عليه!

وبذلك فإنّ الآية ترديد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب ، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال ، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكلّ ما لديهم في سبيل الله ، ويقدّمون ما عندهم بين يديه ، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلّا الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.

والآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ، وهي آخر آية من سورة محمّد ـ تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها ، ومسألة الإنفاق في سبيل الله ، فتقول : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ).

٤٠٠