الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

إنّ جملة : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد خلق هذه المراكب على هيئة تستطيعون معها ركوبها بصورة جيّدة ، وتصلون إلى مقاصدكم براحة ويسر (١).

لقد أوضحت هذه الآية هدفين لخلق هذه المراكب البحريّة والبريّة ، من الفلك والأنعام ، أحدهما : ذكر نعم الله سبحانه حين الإستواء على ظهورها ، والآخر : تنزيه الله سبحانه الذي سخّرها للإنسان ، فقد جعل الفلك على هيئة تقدر أن تشقّ صدر الأمواج وتسير نحو المقصد ، وجعل الدواب والأنعام خاضعة لأمر الإنسان ومنقادة لإرادته.

«مقرنين» من مادة «إقران» ، أي امتلاك القدرة على شيء ، وقال بعض أرباب اللغة : إنّه يعني مسك الشيء وحفظه ، وفي الأصل بمعنى وقوع الشيء قرينا لشيء آخر ، ولازم ذلك القدرة على حفظه (٢).

بناء على هذا ، فإنّ معنى جملة (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) هو أنّه لو لم يكن لطف الله وعنايته لما كان بإمكاننا السيطرة على هذه المراكب وحفظها ، ولتحطمت بفعل الرياح المخالفة لحركة السفن ، وكذلك الحيوانات القويّة التي تفوق قوّتها قوّة الإنسان أضعافا ، ما كان الإنسان ليستطيع أن يقترب منها مطلقا لو لا روح التسليم التي تحكمها ، ولذلك حين يغضب أحد هذه الحيوانات ويفقد روح التسليم ، فإنّه سيتحوّل إلى موجود خطر لا يقوى عدّة أشخاص على مقابلته ، في حين أن من الممكن في حالة سكونها ودعتها ـ أن ترتبط عشرات ، بل مئات منها بحبل وزمام ، ويسلّم بيد صبي ليذهب بها حيث يشاء ، وكأنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن للإنسان نعمة الحالة الطبيعيّة للحيوانات من خلال بيان الحالة الاستثنائيّة.

__________________

(١) الضمير في «على ظهوره» يعود على «ما» الموصولة والتي وردت في جملة «ما تركبون» وهي تشمل السفن والدواب ، وكونه مفردا لظاهر اللفظ.

(٢) جاء في لسان العرب : «أقرن له وعليه» : أطاق وقوي عليه واعتلى ، وفي التنزيل العزيز : (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).

٢١

وتذكر آخر آية ـ من هذه الآيات ـ قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب ، إذ يقولون : (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ).

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد ، لأنّ الانتباه إلى الخالق والمبدأ ، يلفت نظر الإنسان نحو المعاد دائما.

وهي أيضا إشارة إلى أن لا تغترّوا عند ما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها ، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها ، بل يجب أن تكونوا دائما ذاكرين للآخرة غير ناسين لها ، لأنّ حالات الغرور تشتد وتتعمّق في مثل هذه الموارد خاصّة ، والأشخاص الذين يتّخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبّر على الآخرين ليسوا بالقليلين.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ الإستواء على المركب والانتقال من مكان إلى آخر يذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

نعم .. فنحن أخيرا ننقلب إلى الله سبحانه.

* * *

ملاحظة

ذكر الله عند الانتفاع بالنعم :

من النكات الجميلة التي تلاحظ في آيات القرآن الكريم ، أنّ المؤمنين قد علّموا أدعية يقرءونها عند التنعّم بمواهب الله سبحانه ونعمه ... تلك الأدعية التي تصقل روح الإنسان وتهذّبها بمحتوياتها البنّاءة ، وتبعد عنها آثار الغرور والغفلة.

فيأمر الله سبحانه نوحا عليه‌السلام أن : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١).

ويأمره أيضا أن يقول عند طلب المنزل المبارك : (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ٢٨.

٢٢

وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (١).

وهو سبحانه يأمرنا في هذه الآيات أن نشكر نعم الله تعالى ، وأن نسبّح الله عزوجل عند الإستواء على ظهورها.

فإذا تحوّل ذكر المنعم الحقيقي عند كلّ نعمة ينعم بها إلى طبع وملكة في الإنسان ، فسوف لا يغرق في ظلمة الغفلة ، ولا يسقط في هاوية الغرور ، بل إنّ المواهب والنعم الماديّة ستكون له سلّما إلى الله سبحانه!

وقد ورد في سيرة الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ما وضع رجله في الركاب إلّا وقال : «الحمد لله» ، وإذا ما استوى على ظهر الدابّة فإنّه يقول : الحمد لله على كل حال ، (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (٢).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام أنّه رأى رجلا ركب دابّة فقال: سبحان الذي سخّر لنا هذا ، فقال له : «ما بهذا أمرت ، أمرت أن تقول : «الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمّد ، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمّة أخرجت للناس ، ثمّ تقول : سبحان الذي سخّر لنا هذا» (٣) ، إشارة إلى أنّ الآية لم تأمر بأن يقال : سبحان الذي سخّر لنا هذا ، بل أمرت أوّلا بذكر نعم الله العظيمة : نعمة الهداية إلى الإسلام ، نعمة نبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نعمة جعلناه في زمرة خير أمّة ، ثمّ تسبيح الله على تسخيره لما نركب!

وممّا يستحقّ الانتباه أنّه يستفاد من الرّوايات أنّ من قال عند ركوبه : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) فسوف لن يصاب بأذى بأمر الله! وقد روي هذا المطلب في حديث في الكافي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (٤).

ونكتشف من خلال ذلك البون الشاسع بين تعليمات الإسلام البنّاءة هذه ، وبين

__________________

(١) المؤمنون ، الآية ٢٩.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ١٩٩.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٥٩٣.

٢٣

ما يلاحظ من جماعة من المغرورين ومتّبعي الأهواء والميول الذين يتّخذون وسائط نقلهم وسيلة للفخر ولإظهار أنفسهم بمظهر العزيز الوجيه ، وقد يجعلونها سببا لارتكاب أنواع المعاصي كما ينقل «الزمخشري» في الكشّاف عن بعض السلاطين أنّه يركب مركبه الخاص يريد الذهاب من مدينة إلى أخرى التي تبعد عنها مسافة شهر فكان يكثر من شرب الخمر لئلّا يحسّ بطول الطريق وتعبه ، ولا يفيق من سكره إلّا حين يصل تلك المدينة!

* * *

٢٤

الآيات

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))

التّفسير

كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات الله؟

بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات الله سبحانه في نظام الوجود ، وذكر نعمه ومواهبه ، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك ، أيّ محاربة الشرك وعبادة غير الله تعالى ، فتطرّقت أوّلا إلى أحد فروعها ، أيّ عبادة الملائكة فقالت : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) فظنّوا أنّ الملائكة بنات الله سبحانه ، وأنّها آلهتهم ، وكانت هذه الخرافة القبيحة رائجة بين الكثيرين من عبدة الأوثان.

٢٥

إنّ التعبير بـ «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد الله تعالى ، لأنّ الولد جزء من وجود الأب والأمّ ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح ، وإذا ما تلقّحت تكوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها ، لأنّهم كانوا يظنّون الملائكة جزءا من الآلهة في مقابل الله سبحانه.

ثمّ إنّ هذا التعبير استدلال واضح على بطلان اعتقاد المشركين الخرافي ، لأنّ الملائكة إن كانت أولادا لله سبحانه ، فإنّ ذلك يستلزم أن يكون لله جزء ، ونتيجة ذلك أنّ ذات الله ، مركّبة سبحانه ، في حين أنّ الأدلّة العقليّة والنقليّة شاهدة على بساطة وجوده وأحديّته ، لأنّ الجزاء مختصّ بالموجودات الممكنة.

ثمّ تضيف : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) فمع كل هذه النعم الإلهيّة التي أحاطت بوجوده ، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة ، فإنّه بدل أن يطأطئ رأسه إعظاما لخالقه ، وإجلالا لولي نعمته ، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات الله ليعبدها!

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكريّة لدى هؤلاء من أجل إدانة هدا التفكير الخرافي ، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة ، وكانوا يعدّون البنت عارا ـ عادة ـ يقول تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ)؟ فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم ، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على الله ، فتجعلون نصيبه بنتا ، ونصيبكم ولدا؟

صحيح أنّ المرأة والرجل متساويان في القيم الإنسانيّة السامية عند الله سبحانه ، إلّا أنّ الاستدلال باعتقادات المخاطب يترك أحيانا في فكره أثرا يدفعه إلى إعادة النظر فيما يعتقد.

وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر ، فتقول : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ).

والمراد من (بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات

٢٦

الله ، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم ، وأنّها شبيهة به ـ سبحانه ـ ومثله.

إنّ لفظة (كظيم) من مادّة «كظم» ، وتعني الحلقوم ، وجاءت أيضا بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضبا أو غمّا وحزنا. وهذا التعبير يحكي جيّدا عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت ، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم ، إلّا أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه!

وتضيف في الآية الكريمة : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١).

لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالبا ، تنبعثان من ينبوع عاطفتهنّ ، إحداهما : تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة ، والأخرى : عدم امتلاكهنّ القدرة الكافية على إثبات مرادهنّ أثناء المخاصمة والجدال لحيائهنّ وخجلهنّ.

لا شكّ أنّ بعض النسوة ليس لداهنّ هذا التعلّق الشديد بالزينة ، ولا شكّ أيضا أنّ التعلّق بالزينة ومحبّتها في حدود الاعتدال لا يعد عيبا في النساء ، بل أكّد عليها الإسلام ، إلّا أنّ المراد هو أكثريّة النساء اللاتي تعوّدن على الإفراط في الزينة في أغلب المجتمعات البشريّة ، وكأنّهن يولدن بين أحضان الزينة ويتربّين في حجرها.

وكذلك لا يوجد أدنى شكّ في أنّ بعض النسوة ارتقين أعلى الدرجات في قوّة المنطق والبيان ، لكن لا يمكن إنكار ضعف النساء عند المخاصمة والبحث والجدال ، إذا ما قورنت بقدرة الرجال ، وذلك بسبب خجلهنّ وحيائهنّ.

والهدف بيان هذه الحقيقة ، وهي : كيف تظنّون وتعتقدون بأنّ البنات أولاد الله سبحانه ، وأنّكم مصطفون بالبنين؟

__________________

(١) «ينشّؤا» من مادة «الإنشاء» ، أي إيجاد الشيء ، وهنا بمعنى تربية الشيء ، وتنميته ، و «الحلية» تعني الزينة ، و «الخصام» هو المجادلة والنزاع على شيء ما.

٢٧

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ هذا المطلب بصراحة أكثر ، فتقول : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً).

أجل ... إنّهم عباد الله ، مطيعون لأمره ، ومسلمون لإرادته ، كما ورد ذلك في الآيتين (٢٦) ، (٢٧) من سورة الأنبياء : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

إنّ التعبير بكلمة (عباد) في الواقع ردّ على ظنّ هؤلاء ، لأنّ الملائكة لو كانت مؤنّثا لوجب أن يقول : (عبدات) ، لكن ينبغي الانتباه إلى أنّ العباد تطلق على جمع المذكّر وعلى الموجودات التي تخرج عن إطار المذكر والمؤنث كالملائكة ، ويشبه ذلك استعمال ضمائر المفرد المذكّر في حقّ الله سبحانه ، في حين أنّه تعالى فوق كلّ هذه التقسيمات.

وجدير بالذكر أنّ كلمة (عباد) قد أضيفت إلى (الرحمن) في هذه الجملة ، ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أن أغلب الملائكة منفذون لرحمة الله ، ومدبرون لقوانين عالم الوجود وأنظمته ، وكل ذلك رحمة.

لكن لماذا وجدت هذه الخرافة بين عرب الجاهليّة؟ ولماذا بقيت ترسباتها إلى الآن في أذهان جماعة من الناس؟ حتى أنّهم يرسمون الملائكة ويصورونها على هيئة المرأة والبنت ، بل حتى إذا أرادوا أن يرسموا ما يسمى بملك الحرية فإنّهم يرسمونه على هيئة امرأة جميلة طويلة الشعر!

يمكن أن يكون هذا الوهم نابعا من أنّ الملائكة مستورون عن الأنظار ، والنساء مستورات كذلك ، ويلاحظ هذا المعنى في بعض موارد المؤنث المجازي في لغة العرب ، حيث يعتبرون الشمس مؤنثا مجازيّا والقمر مذكرا ، لأنّ قرص الشمس مغطى عادة بأمواج نورها فلا سبيل للنظر إليه ، بخلاف قرص القمر.

أو أن لطافة الملائكة ورقتها قد سببت أن يعتبروها كالنساء ، حيث أن النساء اكثر رقّة ولطافة إذا قيست بالرجال.

٢٨

والعجيب أنّه بعد كل هذه المحاربة الإسلامية لهذا التفكير الخرافي وإبطاله ، فإنّهم إذا ما أرادوا أن يصفوا امرأة فإنّهم يقولون : إنّها ملك ، أمّا في شأن الرجال فقلما يستعمل هذا التعبير. وكذلك قد يختارون كلمة الملك والملاك اسما للنساء!

ثمّ تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ وتضيف في النهاية : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).

لقد ورد ما قرأناه في هذه الآيات بصورة أخرى في سورة النحل الآيات (٥٦ ـ ٦٠) أيضا ، وقد أوردنا هناك بحثا مفصّلا حول عقائد عرب الجاهليّة فيما يتعلق بمسألة الوأد ، وعقيدتهم في جنس المرأة ، وكذلك حول دور الإسلام في إحياء شخصيّة المرأة ومقامها السامي.

* * *

٢٩

الآيات

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢))

التّفسير

لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين!

أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة ، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات الله ، والجواب هو : إنّ الرؤية والحضور في موقف ما ضروري قبل كل شيء لإثبات ادعاء ما ، في حين لا يقوى أي عابد ، وثن أن يدّعي أنّه كان حاضرا حين خلق الملائكة ، وأنّه رأى كيفيّة ذلك الخلق بعينه.

وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع ، وتسلك مسالك أخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة ، فتتعرض أوّلا ـ وبصورة مختصرة ـ لأحد الأدلة الواهية لهؤلاء ثمّ تجيب عليه ، فتقول : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ).

٣٠

إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر ، وأن كل ما يصدر منا فهو بإرادة الله ، وكل ما نفعله فهو برضاه أو أنّه لو لم يكن راضيا عن أعمالنا وعقائدنا لوجب أن ينهانا عنها ، ولما لم ينهنا عنها فإنّ ذلك دليل على رضاه.

الحقيقة ، أنّ هؤلاء اختلقوا خرافات جديدة من أجل توجيه عقائدهم الخرافية الفاسدة الأولى ، وافتروا أكاذيب جديدة لإثبات أكاذيبهم الأولى ، وأيّا من الاحتمالين ـ أعلاه ـ كان مرادهم ، فهو فاسد من الأساس.

صحيح أنّ كل شيء في عالم الوجود لا يكون إلّا بإذن الله تعالى ، إلّا أنّ هذا لا يعني الجبر ، إذ يجب أن لا ننسى أنّ الله سبحانه هو الذي أراد لنا أن نكون مختارين وأحرارا في اختيارنا وتصرفنا ، ليختبرنا ويربينا.

وصحيح أيضا أنّه يجب أن يجب أن ينهى الله سبحانه عباده عن الباطل ، لكن لا يمكن إنكار أنّ جميع الأنبياء قد تصدّوا لردع الناس عن كل نوع من أنواع الشرك والازدواجيّة في العبادة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ عقل الإنسان السليم ينكر هذه الخرافات أيضا أليس العقل ـ هو رسول الله الداخلي ـ في أعماق الإنسان؟!

وتجيب الآية في النهاية بجملة قصيرة على هذا الاستدلال الواهي لعبدة الأصنام ، فتقول : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى الله سبحانه عن أعمالهم ، بل هم ـ ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين ـ يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد ، فيقولون : إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا! مع علمهم بأنّهم يكذبون ، وأن هذه ذريعة ليس إلّا ، ولذلك فإنّ أحدا لو اغتصبهم حقّا فإنّهم غير مستعدين أبدا لغض النظر عن معاقبته مطلقا ، ولا يقولون : إنّه كان مجبرا على عمله هذا!

٣١

«يخرصون» من الخرص ، وهو في الأصل بمعنى التخمين ، وأطلقت هذه الكلمة أوّلا على تخمين مقدار الفاكهة ، ثمّ أطلقت على الحدس والتخمين ، ولما كان الحدس والتخمين يخطئ أحيانا ولا يطابق الواقع ، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضا ، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.

وعلى أيّة حال ، فيظهر من آيات قرآنية عديدة بأنّ عبدة الأوثان كانوا يستدلون ـ مرارا ـ بمسألة المشيئة الإلهيّة من أجل توجيه خرافاتهم ، ومن جملة ذلك أنّهم كانوا قد حرّموا على أنفسهم أشياء وأحلّوا أخرى ، ونسبوا ذلك إلى الله سبحانه ، كما جاء ذلك في الآية (١٤٨) من سورة الأنعام : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ).

وتكرر هذا المعنى في الآية (٣٥) من سورة النحل أيضا : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ).

وقد كذّبهم القرآن الكريم في ذيل آية سورة الأنعام ، حيث يقول : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) ويصرح في ذيل آية سورة النحل : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ)؟!

وفي ذيل الآية مورد البحث ينسبهم إلى التخمين والكذب كما رأينا ، وكلها ترجع في الحقيقة إلى أساس ومصدر واحد.

وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به ، فتقول : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (١)؟ أي يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الادّعاء ، أو بدليل النقل ، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل ولا من النقل ، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعوا إلى التوحيد ، وكذلك دعا كل

__________________

(١) «أم» هنا متصلة ، وهي معطوفة على (اشهدوا خلقهم) ، والضمير في (من قبله) يعود إلى القرآن. وما احتمله البعض من أن (أم) هنا منقطعة ، أو أن الضمير يرجع إلى الرّسول ، لا يتناسب كثيرا مع القرائن التي في الآية.

٣٢

الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى ذريعتهم الأصلية ، وهي في الواقع خرافة لا أكثر ، أصبحت أساسا لخرافة أخرى ، فتقول : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

لم يكن لهؤلاء دليل إلّا التقليد الأعمى للآباء والأجداد ، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد ، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري ، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل» ، لأنا نعلم أن آباء أولئك المشركين لم يكن لهم أدنى حظ من العلم ، وكانت أدمغتهم مليئة بالخرافات والأوهام ، وكان الجهل حاكما على أفكارهم ومجتمعاتهم ، كما توضح ذلك الاية (١٧٠) من سورة البقرة : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)؟

التقليد يصحّ في المسائل الفرعية وغير الأساسية فقط ، وأيضا يجب أن يكون تقليدا لعالم ، أي رجوع الجاهل إلى العالم ، كما يرجع المريض إلى الطبيب ، وغير المتخصصين إلى أصحاب الإختصاص ، وبناء على هذا فإنّ تقليد هؤلاء كان باطلا بدليلين.

لفظة «الأمّة» تطلق ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ على الجماعة التي تربط بعضها مع البعض الآخر روابط ، إمّا من جهة الدين ، أو وحدة المكان ، أو الزمان ، سواء كانت حلقة الاتصال تلك اختيارية أم إجباريّة. ومن هنا استعملت هذه الكلمة أحيانا بمعنى المذهب ، كما هو الحال في الآية مورد البحث ، إلّا أن معناها الأصلي هو الجماعة والقوم ، وإطلاق هذه الكلمة على الدين يحتاج إلى قرينة (١).

* * *

__________________

(١) في جملة (إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) مهتدون خبر (إن) و «على آثارهم» متعلق به ، وأمّا ما احتمله البعض من أن «على آثارهم» خبر أوّل ، و (مهتدون) خبر ثان ، فيبدو بعيدا عن الصواب.

٣٣

الآيات

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

التّفسير

عاقبة هؤلاء المقلدين :

تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام ، وهو تقليد الآباء ، والأجداد ، فتقول : إن هذا مجرّد ادعاء واه من مشركي العرب : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

يستفاد من هذه الآية جيدا أنّ المتصدين لمحاربة الأنبياء ، والذين كانوا يقولون بمسألة تقليد الآباء ويدافعون عنها بكل قوّة ، كانوا من المترفين والأثرياء

٣٤

السكارى والمغرورين ، لأنّ (المترف) من مادة (الترفّه) أي كثرة النعمة ، ولما كان كثير من المنعمين يغرقون في الشهوات والأهواء ، فإنّ كلمة «المترف» تعني من طغى بالنعمة وغرق في سكرتها وأصبح مغرورا (١) ، ومصداق ذلك ـ على الأغلب ـ الملوك والجبابرة والأثرياء المستكبرون والأنانيون.

نعم ، هؤلاء هم الذين تتعرض مصالحهم وأنانيّاتهم للفناء بثورة الأنبياء ، ويحدق الخطر بمنافعهم وثرواتهم اللامشروعة ، ويتحرّر المستضعفون من مخالبهم ، ولهذا كانوا يسعون إلى تخدير الناس وإبقائهم جهلاء بمختلف الأساليب والحيل. وأغلب فساد الدنيا ينبع من هؤلاء المترفين الذين يتواجدون في أماكن الظلم والتعدي والمعصية والفساد والرذيلة.

وجدير بالذكر ، أنّنا قرأنا في الآية السابقة أن هؤلاء كانوا يقولون : (إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وهنا يذكر القرآن أنّهم يقولون : (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) وبالرغم من أن التعبيرين يعودان إلى معنى واحد في الحقيقة ، إلّا أنّ التعبير الأوّل إشارة إلى دعوى أحقيّة مذهب الآباء ، والتعبير الثّاني إشارة إلى إصرار هؤلاء. وثباتهم على اتباع الآباء والاقتداء بهم.

وعلى أية حال فإنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ليعلموا أن ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشيء الجديد ، إذ أنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التأريخ.

وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام ، فتقول : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) (٢)؟

__________________

(١) تقرأ في لسان العرب : أترفته النعمة ، أي : أطغته.

(٢) لهذه الجملة محذوف تقديره : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم. تفسير الكشاف المراغي ، القرطبي ، وروح المعاني.

٣٥

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين ، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقا ، فهو لا يقول : إن ما تقولونه كذب وخرافة ، بل يقول : إنّ ما جئت به أهدى من دين آبائكم ، فتعالوا وانظروا فيه وطالعوه.

إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصّة أمام الجاهلين المغرورين.

ومع كل ذلك ، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق ، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) دون أن يأتوا بأيّ دليل على مخالفتهم ، ودون أن يتأملوا في الاقتراح المعقول المتين لأنبياء الله ورسله.

من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين ، لا يستحقون البقاء ، وليست لهم أهليّة الحياة ، ولا بدّ أن ينزل عذاب الله ليقتلع هذه الأشواك من الطريق ويطهره منها ، ولذلك فإنّ آخر آية ـ من هذه الآيات ـ تقول : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فبعضهم بالطوفان ، وآخرون بالزلزلة المدمرة ، وجماعة بالعاصفة والصاعقة ، وخلاصة القول : إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.

وأخيرا وجهت الآية الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل أن يعتبر مشركو مكّة أيضا ، فقالت : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فعلى مشركي مكّة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.

* * *

٣٦

الآيات

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

التّفسير

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة :

أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصّة إبراهيم ، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان ، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد ، الذي ورد في الآيات السابقة ، وذلك لأنّه :

أوّلا : إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان الجد الأكبر للعرب ، وكانوا يعدونه محترما ويقدّسونه ، ويفتخرون بتأريخه ، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّا فيجب عليهم أن يتبعوه عند ما مزّق حجب التقليد. وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء ، فلما ذا يقلّدون عبدة

٣٧

الأوثان ولا يتّبعون إبراهيم عليه‌السلام.

ثانيا : إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي ـ وهو اتباع الآباء ـ فلم يقبله إبراهيم منهم أبدا ، كما يقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء ـ ٥٣ ، ٥٤ : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

ثالثا : إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائما ، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.

تقول الآية الأولى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) (١) ، ولما كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون الله أيضا ، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).

إنّه عليه‌السلام يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلا على انحصار العبوديّة بالله تعالى ، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر ، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو الله سبحانه ، وكذلك أشار عليه‌السلام في هذه العبارة إلى مسألة هداية الله التكوينيّة والتشريعيّة التي يوجبها قانون اللطف (٢).

وقد ورد هذا المعنى في سورة الشعراء ، الآيات ٧٧ ـ ٨٢ أيضا.

ولم يكن إبراهيم عليه‌السلام من أنصار أصل التوحيد ، ومحاربة كل اشكال الشرك طوال حياته وحسب ، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل إبقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد ، كما تبيّن ذلك الآية التالية إذ تقول : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي

__________________

(١) «براء» مصدر ، وهي تعني التبرؤ ، ولها في مثل هذه الموارد معنى الوصف بشكل مؤكد والمبالغة ، كـ (زيد عدل) ولما كانت مصدرا فقد تساوى فيها المفرد والجمع ، والمذكر والمؤنث.

(٢) طبقا لهذا التفسير ، فإن الاستثناء في جملة «إلا الذي فطرني» متصل ، لأن كثيرا من عبدة الأوثان لم يكونوا منكرين لله ، بل كانوا يشركون معه غيره ، إلا أنه احتمل أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا ، و (إلا) بمعنى (لكن) لأن التعبير بـ (ما تعبدون) يشير إلى الأصنام ، فإن هذا التعبير غير متعارف في شأن الله تعالى. (تأمل).

٣٨

عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدّث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيم عليه‌السلام التوحيديّة ، وأنّ ثلاثة من أنبياء الله العظام ـ وهم موسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من ذرّيته ، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب.

صحيح أنّ أنبياء آخرين قبل إبراهيم عليه‌السلام ـ كنوح عليه‌السلام ـ قد حاربوا الشرك والوثنيّة ، ودعوا البشر إلى التوحيد ، إلّا أنّ الذي منح هذه الكلمة الاستقرار والثبات ، ورفع رايتها في كلّ مكان ، كان إبراهيم عليه‌السلام محطّم الأصنام. فهو عليه‌السلام لم يسع لاستمرار خطّ التوحيد في زمانه وحسب ، بل إنّه طلب استمرار هذا الأمر من الله سبحانه في أدعيته إذ قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٢).

ثمّة تفسير آخر ، وهو : إنّ الضمير في (جعل) يعود إلى الله سبحانه ، فيكون معنى الجملة : إنّ الله سبحانه قد جعل كلمة التوحيد في أسرة إبراهيم.

غير أنّ رجوع الضمير إلى إبراهيم عليه‌السلام ـ وهو التّفسير الأوّل يبدو أنسب ، لأنّ الجمل السابقة تتحدّث عن إبراهيم ، ومن المناسب أن يكون هذا الجزء من جملة أعمال إبراهيم ، خاصّة وأنّه قد أكّد على هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن الكريم ، وإنّ إبراهيم كان مصرّا على أن يبقى بنوه وعقبه على دين الله ، كما نقرأ في الآيتين (١٣١) ، (١٣٢) من سورة البقرة : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

والتصوّر بأنّ (جعل) يعني الخلق ، وأنّه مختصّ بالله سبحانه ، تصوّر خاطئ ، لأنّ (الجعل) يطلق على أعمال البشر وغيرهم أيضا ، وفي القرآن نماذج كثيرة

__________________

(١) «العقب» في الأصل بمعنى كعب القدم ، إلّا أن هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

(٢) إبراهيم ، الآية ٣٥.

٣٩

لذلك ، فمثلا عبّر القرآن عن إلقاء يوسف في البئر من قبل إخوته ، بالجعل : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) (١)

اتّضح ممّا قلناه أنّ ضمير المفعول في (جعلها) يعود إلى كلمة التوحيد وشهادة (لا إله إلّا الله) ويستفاد هذا من جملة : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) التي تخبر عن مساعي إبراهيم من أجل استمرار خط التوحيد في الأجيال القادمة.

وورد في روايات عديدة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام اعتبار مرجع الضمير إلى مسألة الإمامة ، وضمير الفاعل يرجع إلى الله طبعا ، أي إنّ الله سبحانه قد جعل مسألة الإمامة مستمرّة في ذريّة إبراهيم عليه‌السلام ، كما يستفاد من الآية (١٢٤) من سورة البقرة ، إذ لما قال الله سبحانه لإبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) طلب إبراهيم عليه‌السلام أن يكون أبناؤه أئمّة أيضا ، فاستجاب الله دعاءه ، إلّا في الذين ظلموا وتلوّثوا بالمعصية والجور : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

إلّا أنّ الإشكال الذي يتبادر لأوّل وهلة هو أنّه لا كلام عن الإمامة في الآية مورد البحث ، اللهمّ إلّا أن تكون جملة (سيهدين) إشارة إلى هذا المعنى ، لأنّ هداية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمّة عليهم‌السلام شعاع من هداية الله المطلقة ، وحقيقة الهداية والإمامة واحدة.

والأفضل من ذلك أن يقال : إنّ مسألة الإمامة مندرجة في كلمة التوحيد ، لأنّ للتوحيد فروعا أحدها التوحيد في الحاكميّة والولاية والقيادة ، ونحن نعلم أنّ الأئمّة يأخذون ولايتهم وزعامتهم من الله سبحانه ، لا أنّهم مستقلّون بأنفسهم ، وبهذا فإنّ هذه الرّوايات تعتبر من قبيل بيان مصداق وفرع من المعنى العام لـ (جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) ولهذا فإنّه لا منافاة مع التّفسير الذي ذكرناه في البداية.

__________________

(١) يوسف ، الآية ١٥.

٤٠