الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

موضع قرب المدينة ـ وكان مضطجعا على حصير من الخوص ، وجزء من بدنه الشريف على التراب ، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل ، فسلّم وجلس ، وقال : أنت نبيّ الله وأفضل خلقه ، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج والحرير ، وأنت على هذا الحال؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أولئك قوم عجلت طيّباتهم وهي وشيكة الانقطاع ، وإنّما أخرت لنا طيباتنا» (١).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه أتي يوما بحلوى ، فامتنع من تناولها ، فقالوا : أتراها حراما؟ قال : «لا ، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه ، ثمّ تلا هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ...) (٢).

وجاء في حديث آخر : «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام اشتهى كبدا مشوية على خبزة لينة ، فأقام حولا يشتهيها ، وذكر ذلك للحسن عليه‌السلام وهو صائم يوما من الأيّام فصنعها له ، فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه ، فوقف سائل بالباب ، فقال : يا بني احملها إليه ، لا تقرأ صحيفتنا غدا : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٨٨.

(٢) تفسير البرهان ، المجلد ٤ ، صفحة ١٧٥ ، ذيل الآية مورد البحث.

(٣) سفينة البحار ، الجزء الثاني ، مادة كبد.

٢٨١

الآيات

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

التّفسير

قوم عاد والريح المدمرة :

لما كان القرآن يذكر قضايا كلية ، ثمّ يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها ،

٢٨٢

ليطبق تلك الكليات. فإنّه هنا يسلك نفس السبيل ، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين ، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة ، فتقول الآية : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ).

إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النّبي العظيم وحرصه على قومه ، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد ـ كما نعلم ـ في مورد عدة أنبياء عظام كانوا إخوة لأقوامهم حريصين رحماء بهم ، لم يبخلوا من أجلهم بأي نوع من الإيثار والتضحية.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى علاقة القرابة والرحم بين هؤلاء الأنبياء وأقوامهم.

ثمّ تضيف الآية : (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ).

«الأحقاف» ـ كما قلنا سابقا ـ تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات ، على أثر هبوب العواصف في الصحاري ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضا حصباء كبيرة.

وذهب البعض أنّها في قلب جزيرة العرب بين نجد والأحساء وحضرموت وعمان.

إلّا أنّ هذا المعنى يبدو بعيدا ، حيث يظهر من آيات القرآن الأخرى ـ في سورة الشعراء ـ أنّ قوم عاد كانوا يعيشون في مكان كثير المياه والأشجار الجميلة ، ومثل هذا الحال بعيد جدّا عن قلب الجزيرة.

وذهب جمع آخر من المفسّرين أنّها في الجزء الجنوبي للجزيرة حول اليمن ، أو في سواحل بحر العرب (١).

واحتمل البعض أنّ الأحقاف كانت منطقة في أرض العراق في مناطق كلدة

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٨٣

وبابل (١).

ونقل عن الطبري أنّ الأحقاف اسم جبل في الشام (٢).

لكن يبدو أنّ القول بأنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن ، هو الأقرب ، بملاحظة ملاءمته المعنى اللغوي للأحقاف ، وبملاحظة أنّ أرضهم كانت غزيرة المياه وفيرة الأشجار ، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه بمأمن من العواصف الرملية.

وجملة : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا قبله ، بعضهم قريب عهد به ، وهم الذين عبّر عنهم القرآن بـ (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) والبعض الآخر تقادمت الفترة الزمنية بينهم وبينه الذين عبّر عنهم بـ (مِنْ خَلْفِهِ).

أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من هذه الجملة الأنبياء الذين جاؤوا قبل هود وبعده ، فيبدو بعيدا جدّا ، ولا ينسجم مع جملة : (وَقَدْ خَلَتِ) التي تعني الزمن الماضي.

ولنر الآن ماذا كان محتوى دعوة هذا النّبي العظيم؟

يقول القرآن الكريم : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ثمّ هدّدهم بقوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وبالرغم من أنّ التعبير بـ (يَوْمٍ عَظِيمٍ) جاء بمعنى يوم القيامة غالبا ، إلّا أنّه أطلق أحيانا في آيات القرآن على الأيّام القاسية المرعبة التي مرّت على الأمم ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، لأنّنا نقرأ في متابعة هذه الآيات أنّ قوم عاد قد ابتلوا بعذاب الله في يوم عسر مرعب وانتهى أمرهم.

إلّا أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية ، وخاطبوا هودا :

__________________

(١) طبقا لنقل المرحوم الشعراني في هامش تفسير أبي الفتوح الرازي ، المجلد ١٠ ، صفحة ١٦٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٨٤

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). (١)

هاتين الجملتين تبيّنان بوضوح مدى انحراف هؤلاء القوم وتعصبهم ، فهم في الجملة الأولى يقولون : إنّ دعوتك كاذبة : لأنّها تخالف آلهتنا التي تعوّدنا على عبادتها ، وهي إرث ورثناه عن آبائنا.

ونراهم في الجملة الثّانية يطلبون وقوع العذاب! ذلك العذاب الذي إن نزل بهم فلا رجعة معه مطلقا ، وأي ذي لب يتمنّى نزول مثل هذا العذاب ، حتى وإن لم يكن لديه يقين بوقوعه؟

إلّا أنّ هودا عليه‌السلام قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون : (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الاستئصال ، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم ، ولا هو تابع لرغبتي ، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق ، ألا وهو إتمام الحجّة عليكم ، فإنّ حكمته سبحانه تقتضي ذلك.

ثمّ يضيف : (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) فهو مهمتي الأساسية ، ومسئوليتي الرئيسية ، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم ، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم ، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور وهو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل الله ، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها ... ذلك الجهل الذي يحملكم على الإصرار على نزول عذاب الله ليهلككم ، ولو كان لديكم أدنى وعي أو تعقل لكنتم تحتملون ـ على الأقل ـ وجود احتمال إيجابي في مقابل كلّ الاحتمالات السلبية ، والذي إذا ما تحقق فسوف لا يبقى لكم أثر.

وأخيرا لم تؤثر نصائح هود عليه‌السلام المفيدة ، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب أولئك ، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم ، وتعصبوا له ، وحتى نوح عليه‌السلام

__________________

(١) «لتأفكنا» من مادة «إفك» ، أي الكذب والانحراف عن الحق.

٢٨٥

كذّبه قومه بهذا الادعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقا فيما تقول فأين عذابك الموعود؟

والآن ، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي ، وأظهر أولئك عدم أهليتهم للبقاء ، وعدم استحقاقهم للحياة ، فإنّ حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الاستئصال» ، ذلك العذاب الذي يجتث كلّ شيء ولا يبقي ولا يذر.

وفجأة رأوا سحابا قد ظهر في الأفق ، واتسع بسرعة : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) (١).

قال المفسّرون : إنّ المطر انقطع مدّة عن قوم عاد ، وأصبح الهواء حارا جافا خانقا ، فلمّا وقع بصر قوم عاد على السحب المظلمة الواسعة في الأفق البعيد ، وهي تتجه صوبهم فرحوا لذلك جدّا وهبّوا لاستقبالها ، وجاؤوا إلى جوانب الوديان والسهول ومجاري السيول والمياه. ليروا منظر نزول المطر المبارك ليحيوا من جديد ، وتسر بذلك نفوسهم.

لكن ، قيل لهم سريعا بأنّ هذا ليس سحابا ممطرا : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ).

والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، أو أنّ هودا لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.

نعم ، إنّها ريح مدمّرة : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها).

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من (كُلَّ شَيْءٍ) البشر ودوابهم وأموالهم ، لأنّ الجملة التالية تقول : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة ، أمّا هم فقد هلكوا ، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة ، أو في البحر.

__________________

(١) «عارض» من مادة (عرض) ، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء ، وربّما كان هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثمّ تصعد. و «الأودية» جمع واد ، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.

٢٨٦

وقال البعض : إنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذه السحب السوداء هي رياح قوية مغبرة ، إلّا عند ما وصلت قريبا من ديارهم ، ورفعت دوابهم ورعاتهم ـ الذين كانوا في الصحاري المحيطة بهم ـ من الأرض ورمتهم في الهواء ، ورأوا أنّها تقتلع الخيام من مكانها وتلقيها في الهواء حتى كانت تبدو كالجواد!

عند ما رأوا ذلك المشهد ، فروا والتجأوا إلى دورهم وأغلقوا الأبواب عليهم ، إلّا أنّ الأعاصير اقتلعت الأبواب وألقتها على الأرض ـ أو حملتها معها ـ ورمت أجساد هؤلاء بالأحقاف ، وهي الرمال المتحركة.

وجاء في الآية (٧) من سورة الحاقة : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) وهكذا بقي هؤلاء القوم يئنّون تحت تل من الرمال والتراب ، ثمّ أزالت الرياح القوية التراب فظهرت أبدانهم مرّة أخرى ، فحملتها وألقتها في البحر (١).

وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة ، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين ، بل : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

وهذا إنذار وتحذير لكلّ المجرمين العصاة ، والكافرين المعاندين الأنانيين ، بأنّكم إن سلكتم هذا الطريق فسوف لن يكون مصيركم أحسن حالا من هؤلاء ، فإنّه تعالى قد يأمر الرياح بأن تهلككم ، ذات الرياح التي يعبر القرآن الكريم بأنّها : (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) لأنّ الرياح تتصف بصفة الأمر الإلهي المطلوب منها.

وقد يبدل الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان واطمئنانه ، إلى قبر له بزلزلة شديدة.

وقد يبدّل المطر الذي هو أساس حياة كلّ الكائنات الحية ، إلى سيول جارفة تغرق كل شيء.

نعم ، إنّه عزوجل يجعل جنود الحياة جنود موت وفناء ، وكم هو مؤلم الموت

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٨ ، صفحة ٢٨ ، ذيل الآيات مورد البحث ، وجاء هذا المعنى أيضا في تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٠٢٦.

٢٨٧

الذي يأتي من سبب الحياة وأساسها؟ خاصّة إذا كان الأمر كما في قوم هود إذ فرحوا وسروا في البداية ثمّ جاءتهم البطشة ليكون العذاب أشد وآلم.

والطريف أنّه يقول : إنّ هذه الرياح ، هي في الأصل أمواج هوائية لطيفة تتحوّل إعصار يدمّر كلّ شيء بأمر الله (١).

* * *

__________________

(١) «تدمّر» من مادة تدمير ، وهو الإهلاك والإفناء.

٢٨٨

الآيات

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

التّفسير

لستم بأقوى من قوم عاد أبدا :

إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم ، فتخاطب مشركي مكّة وتقول : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ

٢٨٩

فِيهِ) (١) فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية ، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية ، فإذا كان بإمكان القوّة الجسمية والمال والثروة والتطور المادي أن تنقذ أحدا من قبضة الجزاء الإلهي ، فكان ينبغي على قوم عاد أن يصمدوا أمام العاصفة ولا يكونوا كالقشة في مهب الرياح ، تتقاذفهم كيف شاءت ولا يبقى من آثارهم إلّا أطلال مساكنهم!

إنّ هذه الآية شبيهة بما ورد في سورة الفجر في شأن قوم عاد : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (٢).

أو هي نظير ما جاء في الآية (٣٦) من سورة ق : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً).

وخلاصة القول : إنّ الذين كانوا أشدّ منكم وأقوى ، عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي ، فكيف بكم إذن؟

ثمّ تضيف الآية : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) (٣) فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضا ، وكانوا يدركون الأمور جيدا ، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه ، لكن : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) (٤) وأخيرا : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

نعم ، لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية ، وبوسائل إدراك الحقيقة ، إلّا أنّهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الاستكبار والعناد ، وكانوا يتلقون كلام

__________________

(١) «إن» في جملة (إن مكّناكم فيه) نافية ولدينا شواهد متعددة من آيات القرآن الكريم وردت في المتن. إلّا أنّ البعض اعتبرها شرطية ، أو زائدة ولا نرى ذلك صوابا.

(٢) الفجر ، الآيات ٦ إلى ٨.

(٣) يجدر الانتباه إلى أنّ الأبصار والأفئدة وردت بصيغة الجمع ، في حين أنّ السمع قد ورد بصيغة المفرد ، ويمكن أن يكون هذا الاختلاف بسبب أنّ للسمع معنى المصدر ، والمصدر يستعمل دائما بصيغة المفرد ، أو لوحدة المسموعات أما تفاوت المرئيات والمدركات.

(٤) من في (من شيء) زائدة وللتأكيد ، أي لم ينفعهم أي شيء.

٢٩٠

الأنبياء بالسخرية والاستهزاء ، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم ، وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أنّ لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل ، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه ، فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة.

فإذا كان أولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كلّ تلك القدرات والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها ، وأصبحت جثثهم الهامدة ، كالريشة في مهب الرياح تتقاذفهم من كلّ جانب بكلّ مذلة واحتقار ، أولى لكم أن تعتبروا إذا أنتم أضعف منهم وأعجز.

وليس عسيرا على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم وجرائمكم ، وأن يجعل عوامل حياتكم أسباب فنائكم ، وهذا خطاب لمشركي مكّة ، ولكلّ البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ ، وفي كلّ الأعصار والأمصار.

وحقا فإنّ الأمر كما يقول القرآن الكريم ، فلسنا أوّل من وطأ الأرض ، فقد كان قبلنا أقوام كثيرون يعيشون فيها ، ولديهم الكثير من الإمكانيات والقدرات ، فكم هو جميل أن نجعل تأريخ أولئك مرآة لأنفسنا لنعتبر به ، ولنرى من خلاله مستقبلنا ومصيرنا.

ثمّ تخاطب الآية مشركي مكّة من أجل التأكيد على هذا المعنى ، ولزيادة الموعظة والنصيحة ، فتقول : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى).

أولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيرا عنكم ، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب ، فقوم عاد كانوا يعيشون في أرض الأحقاف في جنوب الجزيرة ، وقوم ثمود في أرض يقال لها «حجر» في شمالها ، وقوم سبأ الذين لاقوا ذلك المصير المؤلم في أرض اليمن ، وقوم شعيب في أرض مدين في طريقكم الشام ، وكان قوم لوط يعيشون في هذه المنطقة ، وابتلوا بأنواع العذاب لكثرة معاصيهم وكفرهم.

٢٩١

لقد كان كلّ قوم من أولئك عبرة ، وكان كلّ منهم شاهدا ناطقا معبرا ، يسأل : كيف لا يستيقظ هؤلاء ولا يعون مع كلّ وسائل التوعية هذه؟!

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فتارة أريناهم المعجزات وخوارق العادات ، وأخرى أنعمنا عليهم ، وثالثة بلوناهم بالبلاء والمصائب ، ورابعة عن طريق وصف الصالحين المحسنين ، وأخرى بوصف المجرمين ، وأخرى وعظناهم بعذاب الاستئصال الذي أهلكنا به الآخرين. إلّا أنّ الكبر والغرور والعجب لم يدع لهؤلاء سبيلا إلى الهداية.

وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة ، وتذمهم بهذا البيان : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) (١).

حقّا ، إذا كانت هذه آلهة على حق ، فلما ذا لا تعين أتباعها وعبادها ، وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة ، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.

ثمّ تضيف : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية ، والتي ليست مبدأ لأي أثر ، ولا تأتي بأي فائدة ، وهي عند العسر صماء عمياء ، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلا لها؟

وأخيرا تقول الآية : (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) فإنّ هذا الهلاك والشقاء ، وهذا العذاب الأليم ، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر ، كان نتيجة لأكاذيب أولئك وأوهامهم وافتراءاتهم (٢).

* * *

__________________

(١) المفعول الأوّل لـ (اتخذوا) محذوف ، و (آلهة) مفعولها الثاني ، و (قربانا) حال ، والتقدير : اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونهم متقربا بهم ، ويحتمل أيضا أن تكون (قربانا) مفعولا لأجله. وقد احتملت احتمالات أخرى في تركيب الآية ، لكنّها لا تستحق الاهتمام.

(٢) بناء على هذا فإنّ للآية محذوفا ، والتقدير : وذلك نتيجة إفكهم. ويحتمل أيضا أن لا يحتاج الآية إلى محذوف ، وفي هذه الحالة يصبح المعنى : كان هذا كذبهم وافتراءهم ، غير أنّ المعنى الأوّل يبدو هو الأنسب.

٢٩٢

الآيات

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في سبب نزول هذه الآيات ، ومن جملتها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من مكّة إلى سوق عكاظ في الطائف ـ وكان معه زيد بن حارثة ـ من أجل أن يدعو الناس إلى الإسلام ، إلّا أنّ أحدا لم يجبه ، فاضطر الى الرجوع إلى مكّة ، وفي طريق عودته وصل إلى موضع يقال له : وادي الجن ، فبدأ بتلاوة القرآن

٢٩٣

في جوف الليل ، وكانت طائفة من الجن يمرون من هناك ، فلما سمعوا قراءة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقرآن أصغوا إليه وقال بعضهم لبعض : اسكتوا وأنصتوا ، فلما أتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلاوته آمنوا به ، وأتوا قومهم كرسل يدعونهم إلى الإسلام ، فآمن لهم جماعة ، وأتوا جميعا الى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلّمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام ، فنزلت هذه الآيات وآيات سورة الجن (١).

ونقل جماعة عن ابن عباس سبب نزول آخر يقرب من سبب النّزول السابق ، باختلاف : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشتغلا بصلاة الصبح وكان يقرأ القرآن فيها ، وكان جماعة من الجن في حالة بحث وتحقيق ، إذا كان انقطاع أخبار السماء عنهم قد أقلقهم ، فسمعوا صوت تلاوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : هذا سبب انقطاع أخبار السماء عنّا ، فرجعوا إلى قومهم ودعوهم إلى الإسلام (٢).

وقد أورد العلّامة الطبرسي في مجمع البيان سببا ثالثا للنزول هنا ، وهو يرتبط بقصة سفر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف وخلاصته :

بعد وفاة أبي طالب صعب الأمر على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرحل إلى الطائف لعله يجد أنصار ، فبرز إليه أشراف الطائف وكذّبوه أشدّ تكذيب ، ورموا النّبي بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه ، فأعياه التعب ، فأتى إلى جنب بستان واستظل بظل نخلة ، وكانت الدماء تسيل منه.

وكان البستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وكانا من أثرياء قريش ، فتأذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رؤيتهما لعلمه بعدائهما للإسلام من قبل ، فأرسلا غلامهما «عداسا» ـ وكان رجلا نصرانيا ـ إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطبق من العنب ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعداس : «من أي أرض أنت»؟ قال : من نينوى ، قال : «من مدينة العبد الصالح يونس بن

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ١٩ ، باختصار يسير.

(٢) ورد هذا الحديث الذي أوردنا ملخصه في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد بصورة مفصلة ، طبقا لنقل في ظلال القرآن ، المجلد ٧ ، صفحة ٤٢٩.

٢٩٤

متى» ، فقال : وما يدريك من يونس بن متى؟ قال : «أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى» فعرف عداس صدق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرّ ساجدا لله تعالى ، ووقع على قدمي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبلهما.

فلما رجع لامه عتبة وشيبة على ما صنع ، فقال : لقد أخبرني هذا الرجل الصالح بما يجهله أهل هذه البلاد من أمر نبيّنا يونس ، فضحكا وقالا : لا يفتننك عن نصرانيتك ، فإنّه رجل خداع!

فرجع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة ، ولم يكن حاصل سفره هذا إلّا مؤمن واحد ، فوصل نخلا في جوف الليل ، فما إن حلّ حتى تهيّأ للصلاة ، وكان جماعة من الجن من أهل نصيبين أو اليمن يمرون من هناك ، فسمعوا صوت تلاوة القرآن في صلاة الصبح فأصغوا إليه وآمنوا (١).

* * *

التّفسير

إيمان طائفة من الجن :

جاء في هذه الآيات ـ وكما أشير في سبب النّزول ـ بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه السماوي ، لتوضح لمشركي مكّة حقيقة ، هي : كيف تؤمن طائفة من الجن البعيدين ـ ظاهرا ـ بهذا النبي الذي هو من الإنس ، وبعث من بين أظهركم ، وأنتم تصرون على الكفر ، وتستمرون في عنادكم ومخالفتكم؟

وسيكون لنا بحث مفصل حول (الجن) وخصوصياته في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى ، ونتناول هنا تفسير الآيات مورد البحث فقط.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٢. وأورد هذه القصة باختلاف يسير ابن هشام في تأريخه (السيرة النبوية) ، المجلد ٢ ، صفحة ٦٢ ـ ٦٣.

٢٩٥

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيرا لمشركي مكّة في الحقيقة ، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيرا آخر.

تقول الآية أوّلا : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ).

إنّ التعبير بـ (صرفنا) ـ من مادة صرف ، يعني نقل الشيء وتبديله من حالة إلى اخرى ـ ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع ، ومع ظهور نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن.

و «النفر» كما يقول الراغب في مفرداته ـ عدّة رجال يمكنهم النفر ، والمشهور بين أرباب اللغة أنّه الجماعة من الثلاثة إلى العشرة ، وأوصلها البعض إلى الأربعين.

ثمّ تضيف الآية : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) وذلك حينما كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو آيات القرآن في جوف الليل ، أو في صلاة الصبح.

«انصتوا» من مادة إنصات ، وهو السكوت مع الاستماع والانتباه.

وأخيرا أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء ، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقا ، ولذلك : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وهذا دأب المؤمنين دائما ، في أن يطلعوا الآخرين على الحقائق التي اطلعوا عليها ، ويدلوهم على مصادر إيمانهم ومنابعه الفياضة.

وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم ، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة ، الوجيزة والعميقة المعنى : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى).

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها ، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) (١).

وصفته الأخرى أنّه : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بحيث أنّ كلّ من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

__________________

(١) لقد أوردنا تفسير هذه الجملة مفصلا في ذيل الآية ٤١ من سورة البقرة.

٢٩٦

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد : (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).

إنّ التفاوت بين الدعوة إلى الحق والى الصراط المستقيم ، يكمن ظاهرا في أنّ الأوّل إشارة إلى العقائد الحقة ، والثّاني إلى البرامج العملية المستقيمة الصحيحة.

وجملة : (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) وجملة : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) تؤيدان أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين بالكتب السماوية السابقة ، وخاصة كتاب موسى عليه‌السلام ، وكانوا يبحثون عن الحق.

وإذا رأينا أنّ الكلام لم يرد عن كتاب عيسى الذي أنزل بعد موسى عليه‌السلام ، فليس ذلك بسبب ما روي عن ابن عباس من أنّ الجن لم يكونوا مطلعين على نزول الإنجيل مطلقا ، إذ أنّ الجن كانوا مطلعين على أخبار السماوات وعالمين بها ، فكيف يمكن أن يغفلوا عن أخبار الأرض إلى هذا الحد؟ بل بسبب أنّ التوراة كانت هي الكتاب الأساسي ، فحتى المسيحيون كانوا قد أخذوا ويأخذون أحكام شريعتهم عنها.

ثمّ أضافوا : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (١).

المراد من : (داعِيَ اللهِ) نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يرشدهم إلى الله سبحانه ، ولما كان أغلب خوف الإنسان واضطرابه من الذنوب وعذاب القيامة الأليم ، فقد ذكروا لهم الأمن تجاه هذين الأمرين ، ليلفت انتباههم قبل كلّ شيء.

واعتبر جمع من المفسّرين كلمة (من) في (من ذنوبكم) زائدة ، ليكون ذلك تأكيدا على غفران جميع الذنوب في ظل الإيمان. في حين اعتبرها البعض تبعيضية ، وأنّها إشارة إلى تلك الذنوب التي اقترفوها قبل إيمانهم ، أو الذنوب التي تتعلق بالله سبحانه ، لا بحق الناس.

غير أنّ الأنسب هو كون (من) زائدة وللتأكيد ، والآية الشريفة تشمل كلّ

__________________

(١) «يجركم» من مادة (إجارة) ، وقد وردت بمعان مختلفة : الإغاثة ، الإنقاذ من العذاب الإيواء ، والحفظ.

٢٩٧

الذنوب.

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ كلام مبلغي الجن ، فتقول : (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) ينصرونه من عذاب الله ، ولذلك فإنّ : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبيّ الله ، بل حتى إلى محاربة الله الذي لا ملجأ له سواه في كلّ عالم الوجود ، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!

وقد قلنا مرارا : إنّ (معجز) ـ أو سائر مشتقات هذه الكلمة ـ تعني في مثل هذه الموارد العجز عن المطاردة والتعقيب والمجازاة ، وبتعبير آخر : الفرار من قبضة العقاب.

وعبارة (في الأرض) إشارة إلى أنّكم حيثما تذهبون في الأرض فإنّه ملك الله وسلطانه ، ولا يمكن أن تكونوا خارج حدود قدرته وقبضته ، وإذا كانت الآية لا تتحدث عن السماء ، فلأنّ مكان الإنس والجن هو الأرض على كلّ حال.

* * *

بحثان

١ ـ الإعلام المؤثر

كما قلنا سابقا ، فإنّ البحث حول الجن وكيفية حياتهم والخصوصيات الاخرى المتعلقة بهم ستأتي في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى ، والذي يستفاد من هذه الآيات أنّ الجن موجودات عاقلة لها إدراك وشعور ، وهم مكلّفون بالواجبات الإلهية ، وفيهم المؤمن والكافر ، ولديهم الاطلاع الكافي على الدعوات الإلهية.

والمسألة الملفتة للنظر في هذه الآيات هو الأسلوب الذي اتبعه هؤلاء للتبليغ من أجل الإسلام بين قومهم ، فهم بعد حضورهم عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماعهم آيات

٢٩٨

القرآن ، واطلاعهم على محتواها ، أتوا قومهم مسرعين وشرعوا بدعوتهم.

لقد تحدّثوا أوّلا عن كون القرآن حقّا ، وأثبتوا ذلك بأدلة ثلاثة ، ثمّ بدأوا بترغيبهم ، فبشروهم بالنجاة والخلاص من قبضة عذاب الآخرة في ظل الإيمان بهذا الكتاب السماوي ، وكان ذلك تأكيدا على مسألة المعاد من جانب ، وصرف الاهتمام إلى قيم الآخرة الأصيلة في مقابل قيم الدنيا الزائلة الفانية من جانب آخر.

ثمّ نبّهوهم في المرحلة الثّالثة على أخطار ترك الإيمان ، وحذروهم تحذيرا مقترنا بالاستدلال والحرص ، وأخيرا بيّنوا لهم عاقبة الانحراف عن هذا المسير ، فالانحراف عنه هو الضلال المبين.

إنّ هذا الأسلوب في التبليغ والإعلام أسلوب مؤثر نافع لكلّ فرد ولكلّ فئة.

٢ ـ أفضل دليل على عظمة القرآن محتواه

يظهر جليا من الآيات أعلاه ـ وآيات سورة الجن ـ أنّ هذه الفرقة من الجن قد انجذبوا إلى القرآن وانشدوا إليه بمجرّد سماع آياته ، ولا يوجد أي دليل على أنّهم قد طلبوا من نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة أخرى.

لقد اعتبر هؤلاء انسجام القرآن المجيد مع آيات الكتب السابقة من جهة ، وأنّه يدعوا الى الحق من جهة ثانية ، واستقامة برامجه العملية وتخطيطه من جهة ثالثة ، كافيا لأن يدل على كونه حقّا.

والحق أنّ الأمر كذلك ، فإنّ التدبّر في محتوى القرآن والتحقيق فيه يغنينا عن الحاجة إلى أي دليل آخر.

إنّ كتابا لشخص أمي لم يدرس ، وفي محيط مليء بالجهل والخرافات ، يكون فيه هذا المحتوى السامي ، والعقائد الطاهرة النقية ، والتوحيد الخالص ، والقوانين المحكمة المنسجمة ، والاستدلالات القوية القاطعة ، والبرامج المتينة البنّاءة ،

٢٩٩

والمواعظ والإرشادات العالية الجلية ، وبتلك الجاذبية القوية ، والجمال المذهل ، كل ذلك يشكل بنفسه أفضل دليل على حقانية هذا الكتاب السماوي ، فإنّ ظهور الشمس دليل على ظهورها ـ كما يقول المثل ـ (١).

* * *

__________________

(١) كان لنا بحث مفصّل حول إعجاز القرآن في التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٢٣) من سورة البقرة.

٣٠٠