الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣))

التّفسير

خلق هذا العالم على أساس الحق :

هذه السورة هي آخر سورة تبدأ بـ (حم) وتسمى جميعا الحواميم.

وقد كانت لنا بحوث كثيرة حول الحروف المتقطعة بعامة ، و (حم) بخاصة ، في بدايات سور البقرة وآل عمران والأعراف سور الحواميم السابقة ، فلا حاجة لتكرارها هنا.

ونكتفي هنا بالقول بأنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق ، وتحرك الوجدان ، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة ، من الألف والباء ، والحاء والميم وأمثالها ، وكفى بها دليلا على عظمة الله سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة ، ولو تأملنا فيه كثيرا ، وفكرنا في أسراره حتى القيامة فسيبقى فيه من الأسرار الخافية الكثير الكثير.

٢٤١

وربّما كان هذا هو السبب في أن تضيف الآية مباشرة : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

إنّه نفس التعبير الذي ورد في بداية ثلاث سور من الحواميم ، وهي : المؤمن ، والجاثية ، والأحقاف.

ولا شكّ في الحاجة إلى قوّة لا تقهر ، وحكمة لا حد لها ، لكي تنزل مثل هذا الكتاب.

ثمّ تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين ، فتحدثت الآية عن عظمة السماوات والأرض وكونهما حقا ، فقالت : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق ، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئا نشازا لا ينسجم والحق ، فالكل منسق منتظم ، وكله مقترن بالحق.

لكن ، كما أنّ لهذا الكون بداية ، فإنّ له نهاية أيضا ، ولذلك تضيف الآية : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) فإذا حل الأجل ستفنى الدنيا بما فيها ، ولما كان هذا العالم مقترنا بالحق ويسير ضمن منهجه ، وله هدف مرجو ، فمن الطبيعي أن يوجد عالم آخر تبحث فيه الأعمال وتعلن فيه النتائج ، وبناء على هذا ، فإنّ كون هذا العالم حقّا دليل بنفسه على وجود المعاد ، وإلّا فإنّه سيكون لغوا وعبثا لا فائدة فيه ، وسيقترن حين ذلك بكثير من المظالم والمفاسد.

لكن مع أنّ القرآن حق ، وخلق العالم حق أيضا : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية ، وتحذرهم بأن محكمة عظمى أمامهم ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّ نظام الخلقة بدقته وأنظمته الخاصّة يدل بنفسه على أنّ في الأمر حسابا ونظاما ، غير أنّ هؤلاء الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذلك.

كلمة «معرضون» ـ من الإعراض ـ تشير إلى أنّ هؤلاء إذا نظروا إلى آيات

٢٤٢

التكوين والتدوين فسيدركون الحقائق ، إلّا أنّهم أعرضوا بوجوههم عنها ، وفروا من الحق لئلا يغير من أسلوب تقاليدهم وأهوائهم وميولهم وشهواتهم وإتباعهم لها.

* * *

٢٤٣

الآيات

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

التّفسير

أضل الناس :

كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعا من صنع الله العزيز الحكيم ، ولازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه ، لأنّ من له أهلية الألوهية هو خالق العالم ومدبره ، وهاتان الصفتان قد جمعتا في الذات المقدسة.

ومن أجل تكملة هذا البحث ، تخاطب هذه الآيات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول : (قُلْ

٢٤٤

أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ).

إذا كنتم تقرون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقا ، ولا في خلق الشمس والقمر والنجوم وموجودات العالم العلوي ، وتقولون بصراحة بأن الله هو خالقها جميعا (١) ، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تعقل ، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم ، ودفع البلاء عنكم ، واستجلاب البركات إليكم؟

وإذا قلتم ـ على سبيل الفرض ـ إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين فـ (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وخلاصة القول ، فإنّ الدليل إمّا أن يكون نقليا عن طريق الوحي السماوي ، أو عقليا منطقيا ، أو بشهادة العلماء وتقريرهم ، أمّا أنتم فلستم مستندين إلى الوحي والكتاب السماوي في دعواكم حول الأصنام ، وغير قادرين من طريق العقل على إثبات اشتراكها في خلق السماوات والأرض وبالتالي إثبات كونها آلهة ، ولم يرد أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيد رأيكم ويدعم اعتقادكم ، ومن هنا يتبيّن أنّ دينكم ومعتقدكم لا يعدو كونه حفنة من الخرافات المستهجنة ، والأوهام الكاذبة.

بناء على هذا ، فإنّ جملة (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ...) إشارة إلى دليل العقل ، وجملة (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) إشارة إلى الوحي السماوي ، والتعبير بـ (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم ، أو آثار العلماء السابقين (٢). وقد ذكر علماء اللغة والمفسّرون عدةّ معان لكلمة «أثارة» ـ على وزن حلاوة ـ فمنها : بقية الشيء ، الرواية ، العلامة. لكنّ الظاهر أنّها تعود إلى معنى واحد ،

__________________

(١) لقد ورد هذا المعنى في أربع آيات من القرآن ، وطالعوا تفصيلا أكثر حول هذا المطلب في ذيل الآية (٢٥) من سورة الزخرف من التّفسير الأمثل.

(٢) نقرأ في حديث روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام في أصول الكافي في تفسير جملة (أو أثارة من علم) أنّه قال : «إنّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء». نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٩.

٢٤٥

وهو الأثر الذي يبقى من الشيء ويدل على وجوده.

وقد وردت مثل هذه المناظرة والمحاكمة مع الوثنيين في الآية (٤٠) من سورة فاطر ، حيث تقول : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً).

وممّا يلفت النظر أنّه يقول في مورد الأرض : (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أمّا في مورد السماء فيقول : (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي إنّ الكلام في الموردين عن الاشتراك ، لأنّ الشرك في العبادة يجب أن ينشأ من الشرك في الخالقية وتدبير النشأة.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : إذا كان المشركون يعتقدون ـ عادة ـ أنّ أمر الخلق مختص بالله سبحانه ، فلما ذا يطالبون بأحد هذه الأدلة الثالثة؟

ويمكن الإجابة بأنّ هذه المطالبة موجهة إلى فئة قليلة بين عبدة الأوثان ، يحتمل أنّهم كانوا يقولون باشتراك الأصنام في الخلق ، أو أنّها طرحت على سبيل الفرض ، أي إنّكم إذا ظننتم يوما أنّ الأصنام شريكة في خلق العالم ، فاعلموا أن لا دليل لكم على ذلك ، لا من النقل ولا من العقل.

بعد ذلك تبيّن الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم ، فتقول : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ولا يقف الأمر عند عدم إجابتهم وحسب ، بل إنّهم لا يسمعون كلامهم : (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ).

ويرى بعض المفسّرين أنّ مرجع الضمير في هذه الآية إلى الأصنام الجامدة الميتة ، باعتبار أنّ أكثر آلهة مشركي العرب كانت الأصنام. واعتبره البعض إشارة إلى الملائكة والبشر الذين عبدوا من دون الله ، لأنّ عبدة الملائكة والجن لم يكونوا قلّة بين العرب ، والتعبيرات المختلفة لهذه الآية ، والمتناسبة مع ذوي العقول تؤيد

٢٤٦

هذا المعنى.

لكن لا مانع من أن نفسر الآية بمعناها الواسع ، فتدخل فيه كلّ هذه المعبودات ، سواء الحية والميتة ، العاقلة وغير العاقلة ، فتكون التعابير متناسبة مع ذوي العقول من باب التغليب.

وعند ما تقول الآية : إنّهم لا يجيبونهم إلى يوم القيامة ، فإنّ ذلك لا يعني أنّهم سيجيبونهم يوم القيامة ـ ما ظن البعض ذلك ـ بل إنّ هذا التعبير متداول في النفي المؤيد ، كما نقول مثلا : لو أصررت على فلان إلى يوم القيامة لما أقرضك ، أي أنّه سوف لا يقوم بها العمل أبدا ، لا أنّه سيلبي طلبك في يوم القيامة.

وسبب ذلك معلوم أيضا ، لأنّ كلّ سعي وجهد وتلبية طلب وقضاء حاجة نافع في هذه الحياة الدنيا ، فإذا انتهت انتهى معها إمكان القيام بكلّ هذه الأعمال.

والأشد أسفا من ذلك أنّه : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ).

أمّا المعبودات من العقلاء ، فإنّهم سيهبون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين ، فالمسيح عليه‌السلام يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه ، وتتبرأ الملائكة منهم ، بل وحتى الشياطين والجن تظهر عدم رضاها. وأمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة ، فإنّ الله سبحانه سمحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي غضبها عليهم.

لقد ورد نظير هذا المعنى في آيات القرآن الأخرى ، ومن جملتها الآية (١٤ من سورة فاطر ، حيث تقول : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ). وكررت في الآيات مورد البحث كلّ هذه المسائل بتفاوت يسير.

لكن كيف ينكر المعبودون عبادة عابديهم ، وهي ممّا لا ينكر؟

ربّما كان ذلك إشارة إلى أنّهم كانوا يعبدون أهواءهم في الحقيقة ، ولم يكونوا

٢٤٧

يعبدون تلك الآلهة ، لأنّ أساس الوثنية عبادة الهوى.

وهنا نكتة تستحق الانتباه ، وهي : إنّ عداء المعبودين لعبدتهم يوم القيامة لم يرد التأكيد عليه هنا فقط ، بل نقرأ ذلك أيضا في الآية (٢٥) من سورة العنكبوت على لسان إبراهيم عليه‌السلام بطل التوحيد ومحطم الأصنام إذ يقول : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

وجاء في الآية (٨٢) من سورة مريم : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا).

* * *

٢٤٨

الآيات

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

التّفسير

لم أكن أوّل نبيّ!!

يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين ، وكيفية تعاملهم مع آيات الله ، فتقول : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا

٢٤٩

سِحْرٌ مُبِينٌ) فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب ، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة ، وهم من جهة أخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّا ، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون : إنّه سحر مبين ، وهذا القول ـ بحدّ ذاته ـ اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر.

بناء على هذا فإنّ «الحق» ـ في الآية المذكورة ـ إشارة إلى آيات القرآن ، وإن كان البعض قد فسّرها بالنبوّة ، أو الإسلام ، أو معجزات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخرى ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة بداية الآية.

غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به ، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوة أوسع ، وأكثر صراحة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ).

إنّ الله سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع ، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) (١) فكيف يمكن أن يظهر الله سبحانه هذه الآيات البينات والمعجزة الخالدة على يد كذّاب؟ إنّ هذا بعيد عن حكمة الله ولطفه.

وهذا كما ورد في الآيات (٤٤) ـ (٤٧) من سورة الحاقة : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).

بناء على هذا ، هل يمكن أن أقدم على مثل هذا العمل الخطير من أجلكم؟

وكيف تصدّقون أنّ بالإمكان أن أكذب مثل هذه الكذبة ثمّ يبقيني الله حيا ، بل ويمنحني معاجز أخر؟

__________________

(١) جملة (إن افتريته) جملة شرطية حذف جزاؤها ، والتقدير : إن افتريته أخذني وعاجلني بالعقوبة.

٢٥٠

ثمّ يضيف مهددا : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) (١) وسيعاقبكم في الوقت اللازم.

نعم ، إنّه يعلم كلّ ما رميتموني به من التهم ، وأنّكم وقفتم بوجه رسوله ، وكنتم تصدون الناس عن الإيمان بالحق بنفثكم السموم بينهم.

ثمّ يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّا : (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يعلم صدق دعوتي ، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة ، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي ، وهذا كاف لي ولكم.

ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق ، ويعلمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة ، يقول : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم ، ويدخلهم في رحمته.

ويضيف في الآية التالية : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

إنّ هذه الجمل الوجيزة الغنية المحتوى تجيب عن كثير من إشكالات المشركين ، ومن جملتها أنّهم كانوا يتعجبون أحيانا ـ في مسألة بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كيف يمكن أن يتصل إنسان بالله ويرتبط به؟

وأحيانا كانوا يقولون : لماذا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وتارة كانوا يطلبون معاجز عجيبة غريبة ، وكان كلّ منهم يتمنى شيئا.

وكانوا يظنون أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستودع لعلم الغيب ، فيطلبون منه أن يخبرهم بكلّ حوادث المستقبل.

وأخيرا فإنّهم كانوا يعجبون أحيانا من دعوته لنبذ الآلهة والتوجّه إلى عبادة الله

__________________

(١) «ما» في جملة (ما تفيضون فيه) يمكن أن تكون موصولة ، وتعني التهم غير الصحيحة ، والتي كان يعلمها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبناء على هذا فإنّ ضمير (فيه) يعود إليها. وإن كانت مصدرية فإنّ الضمير (فيه) يعود إلى القرآن أو إلى الحق ، وهنا تكون (تفيضون) بمعنى الدخول في عمل ما بقصد الإفساد والتخريب.

٢٥١

وتوحيده.

وهذه الآية إشارة إجمالية إلى أجوبة جميع هذه الأسئلة ، وقطع لكلّ تلك الأعذار الواهية.

يقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد ، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشرا ، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام ، ولم يدّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق ، بل كانوا يقولون : إنّنا نعلم من أمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط.

ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس ، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.

كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضا عبد من عباد الله ، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه ، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلّ وعلاء وحسب.

هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها ، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء.

كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة ، حيث كانوا يرمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر مرّة ، وبالافتراء أخرى ، ليعلم أنّ منبع هذه الاتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أجيب عنها في هذه الآية.

ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأخرى التي توحي بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم الغيب ، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام ـ الآية ٢٧ من سورة الفتح ـ أو ما ورد في شأن المسيح عليه‌السلام حيث يقول : (أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (١) ، وأمثال ذلك ، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق ، لا مطلق علم الغيب ، وبتعبير آخر ، فإنّ الآية

__________________

(١) آل عمران ، الآية ٤٩.

٢٥٢

تنفي علم الغيب الاستقلالي ، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي ينال ببركة التعليم الإلهي.

والشاهد على هذا الكلام الآيتان (٢٦) ـ (٢٧) من سورة الجن : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).

وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث ، فقالوا : إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة ، رأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير ، فذكر ذلك لأصحابه ، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجا وسعة بعد أذى المشركين ، فصبروا مدّة فلم يروا أثرا لذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، لم نر ما أخبرتنا به ، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآية : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (١).

إلّا أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيدا ، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه ، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق ، أي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.

وتضيف آخر آية من هذه الآيات ، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢).

وللمفسّرين أقوال في الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّا ...

قال البعض : إنّه موسى بن عمران عليه‌السلام الذي أخبر في عصره بظهور نبيّ الإسلام ، وأعطى أوصافه وعلاماته.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٨ ، صفحة ٨.

(٢) جزاء الجملة الشرطية : (إن كان من عند الله) محذوف ، وتقديره : (من أضل منكم).

٢٥٣

إلّا أنّ هذا الاحتمال غير صحيح بملاحظة جملة : (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) التي توحي بأنّ هذا الشاهد من بني إسرائيل قد آمن بنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوقت الذي استكبر فيه المشركون ولم يؤمنوا ، لأنّ ظاهر الجملة يوحي بأنّ هذا الشاهد كان موجودا في عصر نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن به ، بينما اختار الآخرون طريق الاستكبار والكفر.

وقال آخرون : إنّه كان رجلا من علماء أهل الكتاب ، كان يحيا في مكّة. ومع أنّ أنصار الدين اليهودي والمسيحي كانوا قلة في مكّة ، لكن لا يعني هذا أنّ أحدا منهم لم يكن فيها ، ومع ذلك فلا يعرف من كان هذا العالم من بني إسرائيل؟ وما هو اسمه؟

وهذا التّفسير باطل منهم أيضا لأنّه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب في مكّة في عصر ظهور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تذكر التواريخ اسما له (١).

طبعا ، يمتاز هذا التّفسير والذي قبله بأنّهما ينسجمان مع كون كلّ سورة الأحقاف مكية.

والتّفسير الثّالث الذي ارتضاه أكثر المفسّرين ، هو أنّ هذا الشاهد كان «عبد الله بن سلام» عالم اليهود المعروف ، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.

وقد ورد ـ في حديث ـ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انطلق حتى دخل كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخوله عليهم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، يحط الله عن كلّ يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه» فسكتوا فما أجابه منهم أحد ، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا ، فقال : «أبيتم ، فو الله لأنا الحاشر ، وأنا العاقب ، وأن المقض ، آمنتم أو كذبتم» ثمّ انصرف حتى كاد يخرج ، فإذا رجل من خلفه ، فقال : كما أنت يا محمّد فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلموني فيكم يا

__________________

(١) التعبير هنا بـ (شاهد) بصيغة النكرة للتعظيم ، وهو يوحي بأنّه كان شخصا معروفا عظيما.

٢٥٤

معشر اليهود؟ فقالوا : والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك ، فقال : فإنّي أشهد بالله إنّه النّبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ، قالوا : كذبت ، ردوا عليه وقالوا شرّا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كذبتم ، لن يقبل منكم قولكم» ـ ولم يكن هذا الرجل غير عبد الله بن سلام ـ فنزلت الآية : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ...) (١).

وطبقا لهذا التّفسير ، فإنّ هذه الآية نزلت في المدينة بالرغم من أنّ السورة مكيّة ، وهذا ليس منحصرا بالآية مورد البحث ، بل يلاحظ ـ أحيانا ـ في سور القرآن الأخرى وجود آيات مكية في طيات السور المدنية وبالعكس ، وهذا يبيّن أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر بوضع الآية مع ما يناسبها من مفاد السورة من دون الالتفات إلى تاريخ نزولها.

ويبدو من جهات عديدة أنّ هذا التّفسير هو الأنسب.

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٦ ، صفحة ١٤.

٢٥٥

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآية الأولى من هذه الآيات :

١ ـ إنّ هذه الآية نزلت في «أبي ذر الغفاري» الذي أسلم في مكّة ، ثمّ تابعته في الإيمان قبيلته ـ بنو غفار ـ ولما كانت قبيلة بني غفار من سكان البادية وكانوا فقراء ، قال كفار قريش ـ وكانوا أثرياء من أهل المدن ـ : لو كان الإسلام خيرا ما

٢٥٦

سبقنا إليه غفار الحلفاء ، فنزلت هذه الآية وأجابتهم.

٢ ـ كانت في مكّة جارية رومية يقال لها «زنيرة» (١) ، لبت دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام ، فقال زعماء قريش : لو كان ما جاء به محمّد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة.

٣ ـ إنّ جماعة من قبائل البوادي أسلموا قبل سكان مكّة ، فقال أشراف مكّة : لو كان الإسلام خيرا ما سبقتنا إليه رعاة الإبل.

٤ ـ إنّ جماعة من الرجال الطاهرين والفقراء كبلال وصهيب وعمار ، قد اعتنقوا الإسلام ، فقال زعماء مكّة : أيمكن أن يكون دين محمّد خيرا ويسبقنا إليه هؤلاء؟

٥ ـ إنّ عبد الله بن سلام وجماعة من أصحابه لما آمنوا ، قال جماعة من اليهود : لو كان دين محمّد خيرا ما سبقونا إليه (٢).

ويمكن تلخيص أسباب النّزول الأربعة الأولى بالقول بأنّ الإسلام لاقى ترحيبا واسعا وامتدادا سريعا بين الطبقات الفقيرة وسكان البوادي ، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر ، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم ، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة ، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين ، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا : أي دين هذا الذي يتبعه سكان البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان دينا مقبولا ومعقولا فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعيا ، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.

والطريف أنّ نمط التفكير المنحرف هذا من أكثر أنماط التفكير رواجا اليوم بين الأثرياء والمترفين فيما يتعلّق بالدين ، حيث يقولون : إنّ الدين ينفع الفقراء والحفاة ، وكلّ منهما ينفع صاحبه وينسجم معه ، ونحن في مستوى أسمى منه

__________________

(١) كانت «زنيّرة» بكسر الزاي وتشديد النون من السابقات إلى الإسلام ، ولذلك كان أبو جهل يؤذيها ويعذبها.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٦٠٠٩.

٢٥٧

وأعلى.

وقد أجاب القرآن هؤلاء جوابا شافيا كافيا سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

أمّا سبب النّزول الخامس الذي ذكر أعلاه ، والقائل بأنّ المراد هو عبد الله بن سلام وأصحابه ، فمع أنّه نقل عن أكثر المفسّرين على قول الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، إلّا أنّه يبدو بعيدا من جهتين :

الأولى : إنّ التعبير بـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) بصورة مطلقة يستعمل عادة في مورد المشركين ، لا في أهل الكتاب واليهود والنصارى.

والأخرى : إنّ عبد الله بن سلام لم يكن رجلا مجهولات أو ضعيف الشخصية بين اليهود ليقولوا فيه : إنّ الإسلام لو كان خيرا ما سبقنا هذا وأصحابه إليه.

* * *

التّفسير

شرط الإنتصار الإيمان والاستقامة :

تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم ، ثمّ تقريعهم وملامتهم بعد ذلك ، فتشير أوّلا إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم ، مبنيّ على أساس الكبر والغرور ، فتقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (١).

فما هؤلاء إلّا حفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى ، والعبيد الذين لا حظ لهم من العلم والمعرفة إلّا القليل ، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن ـ أعيان المجتمع وأشرافه ـ في غفلة عنه؟

__________________

(١) بحث المفسّرون كثيرا في معنى «اللام» في (الذين آمنوا) إلّا أنّ أنسب الاحتمالات جميعا هو أن «اللام» بمعنى (في) وبناء على هذا فإنّ معنى الجملة : إنّ الكافرين قالوا في المؤمنين ، ولا يأتي في هذه الحالة إشكال من جهة كون فعل (سبقونا) للغائب. في حين أنّ البعض قد اعتبر اللام لام التعليل! وقال آخرون (الذين آمنوا) هنا مخاطبون ، وجملة (سبقونا) بمعنى سبقتمونا!

٢٥٨

لقد غفل هؤلاء عن أن العيب فيهم لا في الإسلام ، فلو لا حجب الكبر والغرور الملقاة على قلوبهم ولولا أنّهم سكرى من خمرة المال والجاه والمقام ، ولو لا أنّ غرورهم وتكبرهم يمنعهم من التحقيق في أمر هذا الدين ، إذن لا نجذبوا بسرعة الى الإسلام كما انجذب الفقراء إليه.

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (١) أي إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن ، لا أن القصور في قابلية القرآن على الهداية.

والتعبير بـ «الإفك القديم» شبيه بتهمة أخرى حكيت عنهم في آيات القرآن الأخرى ، إذ قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢).

جملة «سيقولون» بصيغة المضارع ، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائما ، وكانوا يتخذون هذا الاتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقا ، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون : هذا إفك قديم ، فقالت : إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماما أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته. وهذا القرآن أيضا كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف تقولون : هذا إفك قديم؟

لقد أكّد القرآن في آياته مرارا على أنّه مصدق للتوراة والإنجيل ، أي إنّه يتفق مع العلامات والصفات التي وردت في هذين الكتابين السماويين حول نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كانت هذه العلامات دقيقة إلى الحد الذي يقول القرآن الكريم :

__________________

(١) (إذ) في هذه الآية ظرفية ، ويعتقد البعض أنّها متعلقة (سيقولون) ، ويقولون : إنّ وجود الفاء غير مانع. إلّا أنّ البعض الآخر ـ كالزمخشري في الكشاف ـ يرى أنّه بما أنّ الفعل بعدها ماض ، و (سيقولون) فعل مضارع فلا يمكن أن يكون متعلقها ، بل متعلقها محذوف ، والتقدير : «وإذا لم يهتدوا به ظهر عنادهم» إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أكثر انسجاما مع معنى الآية.

(٢) الفرقان ، الآية ٥.

٢٥٩

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (١).

وقد ورد نظير معنى الآية مورد البحث في الآية (١٧) من سورة هود : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).

والتعبير بـ (إِماماً وَرَحْمَةً) يحتمل أن يكون من جهة أن ذكر الإمام يستدعي أحيانا أن تخطر في الذهن مسألة التكليف الشاق الصعب ، نتيجة الذكريات التي كانت لديهم عن أئمتهم ، إلّا أنّ ذكر الرحمة يبدل هذا الخطور الذهني إلى ما يبعث على الاطمئنان ، فهو يقول : إنّ هذا الإمام توأم الرحمة ومقترن بها ، فحتى إذا أتاكم بالتكاليف والأوامر فهي رحمة أيضا ، وأي رحمة أعم وأسمى من تربية نفوس هؤلاء القوم؟!

ثمّ تضيف بعد ذلك : (لِساناً عَرَبِيًّا) يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثمّ تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين ، فتقول : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) وإذا لا حظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الاستمرار والدوام ، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر ، فهو يحذر الظالمين والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم ، ويبشر المحسنين على الدوام.

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت الظالمين في مقابل المحسنين لأنّ للظلم هنا معنى واسعا يشمل كلّ إساءة ومخالفة ، ومن الطبيعي أنّ الظلم إمّا بحق الآخرين أو بحق النفس.

والآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٤٦.

(٢) (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) مبتدأ ، وجملة (لا خوف عليهم) خبره ، والفاء لا تأتي مع الخبر إلّا في الموارد التي يكون في

٢٦٠