الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

تعالى على كلّ فرد ، وعلى كلّ شيء ، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.

لكن ، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي ، فقد أضافت الآية : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديدا للكفار والمجرمين ، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن تكون تهديد لتلك الفئة من جانب ، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر ، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضا.

تقول الآية : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).

إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مرارا ، وبعبارات مختلفة ، يشكل جوابا لمن يقول : ماذا يضر عصياننا الله تعالى ، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا الإصرار على طاعة وأوامره ، والانتهاء عن معاصيه؟

فتقول هذه الآيات : إنّ كلّ ضرر ذلك وكلّ نفعه يعود عليكم ، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة ، وتحلقون إلى سماء قرب الله عزوجل ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي ، فتبتعدون عن الله عزوجل وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

إن كلّ أمور التكليف ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد السامي ، ولذلك يقرر القرآن الحكيم (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١)

ويقول في موضع آخر : (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (٢) ونقرأ في موضع ثالث : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٣)

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٢.

(٢) الزمر ، الآية ٤١.

(٣) فاطر ، الآية ١٨.

٢٠١

وخلاصة القول : إنّ أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أنّ دعوة الداعين إلى الله سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها ، وليست خدمة لله الغني عن كلّ شيء ، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.

إنّ الانتباه إلى هذه الحقيقة يعدّ عاملا مهما في السير نحو طاعة الله سبحانه ، والابتعاد عن معصيته.

* * *

٢٠٢

الآيات

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

التّفسير

(آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) كل ذلك ، ولكن ...

متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها والعمل الصالح ، تتناول هذه الآيات نموذجا من حياة بعض الأقوام الماضين

٢٠٣

الذين غمرتهم نعم الله سبحانه ، إلّا أنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الأولى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وبالإضافة إلى النعمة الأخرى التي سيأتي ذكرها في الآية التالية تشكل ست نعم عظيمة.

النعمة الأولى هي الكتاب السماوي ، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام ، طريق الهداية والسعادة.

والثانية مقام الحكومة والقضاء ، لأنا نعلم أنّهم كانوا يمتلكون حكومة قوية مترامية الأطراف ، فلم يكن داود وسليمان وحدهما حاكمين وحسب ، بل إنّ كثيرا من بني إسرائيل قد تسلموا زمام الأمور في زمانهم وعصورهم.

«الحكم» في التعبيرات القرآنية يعني عادة القضاء والحكومة ، لكن لما كان مقام القضاء ، يشكل جزء من برنامج الحكومة دائما ، ولا يمكن للقاضي أن يؤدي واجبه من دون حماية الدولة وقوّتها ، فإنّه يدل دلالة التزامية على مسألة التصدي وتسلم زمام الأمور.

ونقرأ في الآية (٤٤) من سورة المائدة في شأن التوراة : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا).

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبّوة ، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي (١) ، وفي رواية أخرى : إن عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٧٥.

(٢) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، المجلد ١١ صفحة ٣١.

٢٠٤

وكل هذه كانت مواهب ونعما من الله سبحانه.

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثا جامعا شاملا عن المواهب المادية ، فتقول : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

النعمة الخامسة ، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد ، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

لا شك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر ، لأنّ الآية (١١٠) من سورة آل عمران تقول بصراحة : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

وكذلك نعلم أنّ الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أشرف الأنبياء وسيدهم ، وبناء على هذا فإنّ أمته أيضا تكون خير الأمم ، كما ورد ذلك في الآية (٨٩) من سورة النحل : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل ، فتقول : (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ).

«البينات» يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله سبحانه موسى بن عمران عليه‌السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل ، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة ، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلامات الواضحة التي تتعلق بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي علمها هؤلاء ، وكان باستطاعتهم أن يعرفوا نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلالها كمعرفتهم بأبنائهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (١).

لكن لا مانع من أن تكون كلّ هذه المعاني مجتمعة في الآية.

وعلى أية حال ، فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة ، والدلائل البينة الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف ، إلّا أنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أنّ

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٤٦.

٢٠٥

اختلفوا ، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

نعم ، لقد رفع هؤلاء راية الطغيان ، وأنشبت كلّ جماعة أظفارها في جسد جماعة أخرى ، واتخذوا حتى عوامل الوحدة والألفة والانسجام سببا للاختلاف والتباغض والشحناء ، وتنازعوا أمرهم بينهم فذهبت ريحهم وضعفت قوتهم ، وأفل نجم عظمتهم ، فزالت دولتهم ، وأصبحوا مشردين في بقاع الأرض ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

وقال البعض : إنّ المراد هو الاختلاف الذي وقع بينهم بعد علمهم واطلاعهم الكافي على صفات نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وبهذا فقد فقدوا قوتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة ، واختلافهم فيما بينهم ، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل ، وكفرانها من قبلهم ، ورد الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فقالت الآية : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ).

«الشريعة» تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل ، ثمّ أطلقت على كلّ طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

إن استعمال هذا التعبير في مورد دين الحق ، بسبب أنّه يوصل الإنسان إلى مصدر الوحي ورضى الله سبحانه ، والسعادة الخالدة التي هي بمثابة الماء للحياة المعنوية.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم ، وفي شأن الإسلام فقط.

٢٠٦

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضا ، حيث قالت : (بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ).

ولما كان هذا المسير مسير النجاة والنصر ، فإنّ الله سبحانه يأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أنّ (فَاتَّبِعْها).

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلّا اتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم ، فإنّ الآية تضيف في النهاية : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

في الحقيقة ، لا يوجد إلّا طريقان : طريق الأنبياء والوحي ، وطريق أهواء الجاهلين وميولهم ، فإذا ولّى الإنسان دبره للأوّل فسيقع في الثّاني ، وإذا توجه الإنسان إلى ذلك السبيل فسينفصل عن خط الأنبياء ويبتعد عنهم ، وبذلك فإنّ القرآن أبطل كلّ البرامج الإصلاحية التي لا تستمد تعليماتها من مصدر الوحي الإلهي.

والجدير بالانتباه أنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ رؤساء قريش أتوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : ارجع إلى دين آبائك ، فإنّهم كانوا أفضل منك وأسلم. وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يزال في مكّة ، فنزلت الآية أعلاه (١) وأجابتهم بأن طريق الوصول إلى الحق هو الوحي السماوي الذي نزل عليك ، لا ما يمليه هوى هؤلاء الجاهلين ورغبتهم.

لقد كان القادة المخلصون يواجهون دائما وساوس الجاهلين هذه عند ما يأتون بدين جديد ويطرحون أفكارا بناءة طاهرة ، فقد كان الجهال يطرحون عليهم : أأنتم أعلم أم الآباء السابقون والعظماء الذين جاؤوا قبلكم؟ وكانوا يصرون على الاستمرار في ذلك الطريق ، وإذا كان مثل هذا الاقتراح يمكن أن ينزل إلى حيز التطبيق والواقع العملي ، فليس بوسع الإنسان أن يخطو خطوة في طريق التكامل.

وتعتبر الآية التالية تبيانا لعلة النهي عن الاستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم ، فتقول : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فإذا ما اتبعت دينهم

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، صفحة ٢٦٥.

٢٠٧

الباطل فأحاط بك عذاب الله تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبوا لنجدتك وإنقاذك ، ولو أنّ الله سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثمّ تضيف الآية : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فكلهم من جنس واحد ، ويسلكون نفس المسير ، ونسجهم واحد ، وكلهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنك وحيد ، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين ، بل : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).

صحيح أنّ جمع هؤلاء عظيم في الظاهر ، وفي أيديهم الأموال الطائلة والإمكانيات الهائلة ، لكن كلّ ذلك لا يعتبر إلّا ذرة عديمة القيمة إزاء قدرة الله التي لا تقهر ، وخزائنه التي لا تفنى.

وكتأكيد لما مرّ ، ودعوة إلى اتباع دين الله القويم ، تقول آخر آية من هذه الآيات : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

«البصائر» جمع بصيرة ، وهي النظر ، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية ، إلّا أنّها تطلق على كلّ الأمور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

والطريف أنّها تقول : إنّ هذا القرآن والشريعة بصائر ، أي عين البصيرة ، ثمّ أنّها ليست ، بصيرة ، بل بصائر ، ولا تقتصر على بعد واحد ، بل تعطي الإنسان الأفكار والنظريات الصحيحة في كافة مجالات حياته.

وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن الكريم ، كالآية (١٠٤) من سورة الأنعام ، حيث تقول : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ).

وقد طرحت هنا في هذه الآية ثلاثة مواضيع : البصائر والهدى والرحمة ، وهي حسب التسلسل علة ومعلول لبعضها البعض ، فإنّ الآيات الواضحة والشريعة

٢٠٨

المبصّرة تدفع الإنسان نحو الهداية بدورها أساس رحمة الله.

والجميل في الأمر أنّ الآية تذكر أنّ البصائر لعامة الناس ، أمّا الهدى والرحمة فخصت الموقنين بهما ، ويجب أن يكون الأمر كذلك ، لأنّ آيات القرآن ليست مقصورة على قوم بالخصوص ، بل يشترك فيها كلّ البشر الذين دخلوا في كلمة (الناس) في كلّ زمان ومكان ، غير أنّ من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين ، وأن تكون الرحمة وليدته ، فلا تشمل الجميع حينئذ.

وعلى أية حال ، فإنّ ما تقوله الآية من أنّ القرآن عين البصيرة ، وعين الهداية والرحمة ، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه بالنسبة لأولئك السالكين طريقه ، والباحثين عن الحقيقة.

* * *

٢٠٩

الآيات

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

التّفسير

ليسوا سواء محياهم ومماتهم :

متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما : المؤمنون والكافرون ، أو المتقون والمجرمون ، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما ، فقالت : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

هل يمكن أن يتساوى النور والظلمة ، والعلم والجهل ، والحسن والقبيح ،

٢١٠

والإيمان والكفر؟

هل يمكن أن تكون نتيجة هذه الأمور غير المتساوية متساوية؟

كلا ، فإنّ الأمر ليس كذلك ، إذ المؤمنون ذوو الأعمال الصالحات يختلفون عن المجرمين الكافرين ، ويفترقون عنهم في كلّ شيء ، إذ أنّ كلا من الإيمان والكفر ، والعمل الصالح والطالح ، يصبغ كلّ الحياة بلونه.

وهذه الآية نظير الآية (٢٨) من سورة ص ، حيث تقول : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)؟

أو كالآيتين ٣٥ ، ٣٦ ، من سورة القلم حيث : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟

«اجترحوا» في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر مرض ضرر ، ولما كان ارتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب ، فقد استعملت كلمة الاجتراح بمعنى ارتكاب الذنب ، وتستعمل أحيانا بمعنى أوسع يدخل فيه كلّ اكتساب. وإنّما يقال لأعضاء البدن : جوارح ، لأنّ الإنسان يحقق مقاصده ورغباته بواسطتها ، ويحصل على ما يريد ، ويكتسب ما يشاء بواسطتها.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تقول : إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح ، أو الكفر والمعصية ، لا يترك أثره في حياة الإنسان ، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماما :

فالمؤمنون يتمتعون باطمئنان خاص في ظل الإيمان والعمل الصالح ، بحيث لا تؤثر في نفوسهم أصعب الحوادث وأقساها ، في حين أنّ الكافرين والملوثين بالمعصية والذنوب مضطربون دائما ، فإنّ كانوا في نعمة فهم معذبون دائما من خوف زوالها وفقدانها ، وإن كانوا في مصيبة وشدّة فلا طاقة لهم على تحملها ومواجهتها.

وتصور الآية (٨٢) من سورة الأنعام حال المؤمنين ، فتقول : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ

٢١١

يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

إنّ المؤمنين مطمئنون بمواعيد الله سبحانه ، وهم يرتعون في رحمته ولطفه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ).

فنور الهداية يضيء قلوب الفريق الأوّل لتشرق بنور ربّها ، فيسيرون بخطى ثابتة نحو هدفهم المقدس : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (١).

أمّا الفريق الثّاني ، فليس لديهم هدف واضح يطمحون إلى بلوغه ، ولا هدى بيّن يسيرون في ظله ، بل هم سكارى تتقاذفهم أمواج الحيرة في بحر الضلالة والكفر : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ).

هذا في الحياة الدنيا ، أما عند الموت الذي هو نافذة تطل على عالم البقاء ، وباب للآخرة ، فإنّ الحال كما تصوره الآية (٣٢) من سورة النحل حيث تقول : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

أمّا المجرمون الكافرون ، فإنّ الآيتين (٢٨) ـ (٢٩) من سورة النحل تتحدثان معهم بأسلوب آخر ، فتقولان : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

وخلاصة القول ، فإنّ التفاوت والاختلاف موجود بين هاتين الفئتين في كافة شؤون الحياة والموت ، وفي عالم البرزخ والقيامة (٢).

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٥٧.

(٢) ثمّة احتمالات أخرى في تفسير الآية المذكورة ومن جملتها ما ذكر من أنّ المراد من جملة (سواء محياهم ومماتهم) أنّ موت المجرمين الكافرين وحياتهم واحد لا فرق فيه ، فلا خير فيهم ولا طاعة لهم حال حياتهم ، ولا في موتهم ، فهم أحياء لكنّهم أموات ، وعلى هذا التّفسير فإنّ كلا الضميرين يعودان على المجرمين. والاحتمال الآخر : أنّ المراد من الحياة يوم القيامة ، أي أنّ المؤمنين والكافرين لا يتساوون عند الموت وعند بعثهم يوم القيامة.

٢١٢

أمّا الآية التالية فإنّه في الحقيقة تفسير لسابقتها وتعليل لها ، إذ تقول : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، فكل العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق ، وأن يحكم العدل والحق كلّ مكان ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين ، فيكون هذا الأمر استثناء من قانون الخلقة؟

من الطبيعي أنّه يجب أن يتمتع أولئك الذين يتحركون حركة تنسجم مع قانون الحق والعدالة هذا ، ولا يحيدون عنه ببركات عالم الوجود وينعمون بألطاف الله سبحانه ، كما يجب أن يكون أولئك الذين يسيرون عكس هذا الطريق ويخالفون القانون طعمة للنّار المحرقة ، ومحطا لغضب الله عزوجل ، وهذا ما تقتضيه العدالة.

ومن هنا يتّضح أنّ العدالة لا تعني المساواة ، بل العدالة أن يحصل كلّ فرد على ما يناسبه من المواهب والنعم حسب مؤهلاته وقابلياته.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين ، إذ تقول : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

وهنا سؤال يطرح نفسه ، وهو : كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه؟

غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عند ما يضرب صفحا عن أوامر الله سبحانه ، ويتبع ما تمليه عليه شهواته ، ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقّا ، فقد عبد هواه ، وهذا عين معنى العبادة ، إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة.

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو

__________________

إلّا أن ظاهر الآية هو ما ذكرناه أعلاه.

٢١٣

عبادة أحبار اليهود ، فيقول القرآن ـ مثلا ـ في الآية (٦٠) من سورة يس : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ).

ويقول في الآية (٣١) من سورة التوبة : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما قالا : «أما والله ما صاموا لهم ، ولا صلوا ، ولكنّهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم ، وعبدوهم من حيث لا يشعرون» (١).

غير أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش ، الذين إذا ما عشقوا شيئا وأحبوه صنعوا على صورته صنما ثمّ عبدوه وعظموه ، وكلما رأوا شيئا آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأوّل وتوجهوا إلى عبادة الثّاني ، وعلى هذا فإنّ إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه (٢).

إلّا أنّ تعبير : (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أكثر انسجاما مع التّفسير الأوّل.

أما في مورد جملة : (أَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) فالتّفسير المعروف هو أنّ الله سبحانه قد أضلهم لعلمه بأنّهم لا يستحقون الهداية ، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء قد أطفأوا بأيديهم كلّ مصابيح الهداية وحطموها ، وأغلقوا في وجوههم كلّ سبل النجاة ، ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق ، فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته ولطفه ، وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، وكأنّما ختم على قلبهم وسمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة.

وما كلّ ذلك في الحقيقة إلّا آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير ، ونتيجة مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها.

ولا صنم في الحقيقة أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كلّ أبواب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٢ ، صفحة ٢٠٩.

(٢) تفسير الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٣٥.

٢١٤

الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟ وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» (١).

إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أنّ متبعي الهوى هؤلاء قد اختاروا طريق الضلالة طريقا لهم عن علم ودراية ، لأنّ العلم لا يقارن الهداية دائما ، كما لا تكون الضلالة دائما قرينة الجهل.

إنّ العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية ، فعليه كي يصل إلى مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم ، وألا يكون كأولئك الكفار العنودين الذين قال بحقهم القرآن : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٢) (٣).

إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة أنّ مرجع الضمائر في الآية إلى الله سبحانه ، لأنّها تقول : (أَضَلَّهُ اللهُ (عَلى عِلْمٍ) وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ).

ممّا قلناه يتّضح جيدا أنّ الآية تدل ـ من قريب أو بعيد ـ على مذهب الجبرية ، بل هي تأكيد على أصل الإختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه.

لقد أوردنا بحوثا أكثر تفصيلا وإيضاحا حول ختم الله على قلب الإنسان وسمعه ، وإلقاء الغشاوة على قلبه في ذيل الآية (٧) من سورة البقرة (٤).

* * *

ملاحظات

١ ـ أخطر الأصنام صنم هوى النفس

قرأنا في حديث أنّ أبغض الآلهة إلى الله هوى النفس ، ولا مبالغة في هذا الحديث قط ، لأنّ الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٩٨٧ ، وتفسير روح البيان ، وتفسير المراغي ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) النمل ، الآية ١٤.

(٣) تفسير الميزان ، المجلد ١٨ ، صفحة ١٨٧.

(٤) المجلد الأول ، التّفسير الأمثل ، ذيل الآية (٧) من سورة البقرة.

٢١٥

مهمة ، أما صنم الهوى وأتباعه ، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى ارتكاب أنواع المعاصي ، والانزلاق في هاوية الانحراف.

وبصورة عامّة ، يمكن القول بأنّ لهذا الصنم من الخصوصيات ما جعله مستحقا لصفة أبغض الآلهة والأصنام ، فهو يزين القبائح والسيئات في نظر الإنسان حتى يصل إلى درجة يفخر عندها بتلك الأعمال الطالحة ، ويكون مصداقا لقوله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١).

٢ ـ أفضل طريق لنفوذ الشيطان هو اتباع الهوى : فما دام الشيطان لا يمتلك قاعدة وأساسا يستند إليه في داخل الإنسان ، فلا قدرة له على الوسوسة ودفع الإنسان الى الانحراف والمعصية ، وما تلك القاعدة والأساس إلّا اتباع الهوى وهو ذات الشيء الذي أسقط الشيطان وأرداه ، وطرده من صف الملائكة ، وأبعده عن مقام القرب من الله.

٣ ـ إنّ اتباع الهوى يسلب الإنسان أهم وسائل الهداية ، وهي الإدراك الصحيح للحقائق ، ويلقي الحجب على عقل الإنسان وعينه ، وقد أشارت هذه الآيات إلى هذا الموضوع بصراحة بعد ذكر مسألة اتباع الهوى واتخاذه إلها ، وآيات القرآن الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة أيضا.

٤ ـ إنّ اتباع الهوى يوصل الإنسان إلى مرحلة محاربة الله ـ والعياذ بالله ـ كما ابتلي بها إمام عباد الهوى ـ أي الشيطان الرجيم ـ فاعترض على حكمة الله سبحانه لمّا أمره بالسجود لآدم ، واعتبره أمرا عاريا عن الحكمة!

٥ ـ عواقب اتباع الهوى مشؤومة وأليمة ، بحيث أنّ لحظة من لحظات اتباع الهوى قد يصاحبها عمر من الندامة والأسف والحسرة ، ولحظة ـ يتبع فيها الهوى ـ قد تجعل كلّ حسنات الإنسان وأعماله الصالحة التي عملها طوال عمره هباء منثورا ، ولذلك ورد التأكيد على الحيطة واليقظة في هذا الأمر والتحذير الشديد منه

__________________

(١) الكهف ، الآية ١٠٤.

٢١٦

في آيات القرآن والرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في الحديث المعروف عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل ، أما الهوى فإنّه يصد عن الحق ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة» (١).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه سئل : أي سلطان أغلب وأقوى؟ قال : «الهوى» (٢).

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «إن الله تعالى يقول : وعزتي وعظمتي ، وجلالي وبهائي ، وعلوي وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا جعلت همه في آخرته ، وغناه في قلبه ، وكففت عنه ضيعته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وأتته الدنيا وهي راغمة» (٣).

وورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم» (٤).

وأخيرا ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلّا لأحد ثلاثة : صاحب سلطان جائر ، وصاحب هوى ، والفاسق المعلن» (٥).

وفي هذا الباب آيات وروايات كثيرة غنية المضمون.

وننهي هذا الحديث بجملة عميقة المعنى ذكرها البعض كسبب نزول ، وكشاهد على مرادنا ، فيقول أحد المفسّرين : طاف أبو جهل بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة ، فتحدثا في شأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو جهل : والله إني لأعلم أنّه صادق.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، صفحة ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) أصول الكافي ، المجلد ٢ باب أتباع الهوى الحديث ١.

(٥) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، صفحة ٧٦.

٢١٧

فقال له : مه ، وما دلك على ذلك؟

قال : يا أبا عبد شمس ، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين ، فلما تم عقله ، وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنّه صادق.

قال : فما يمنعك من أن تصدقه وتؤمن به؟

قال : تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة! واللات والعزى لن أتبعه أبدا.

فنزلت الآية : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (١).

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٢٧.

٢١٨

الآيتان

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

التّفسير

عقائد الدهريين :

في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد ، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصّة منهم ، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقا ، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهرا بالله ، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله ، فتقول الآية أولا : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) فكما يموت من يموت منا ، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ ، والجملة الأولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد ، أمّا الجملة الثانية فتشير إلى إنكار

٢١٩

المبدأ.

والجدير بالانتباه أنّ هذا التعبير قد ورد في آيتين أخريين من آيات القرآن الأخرى ، فنقرأ في الآية (٢٩) من سورة الأنعام : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

وجاء في الآية (٣٧) من سورة المؤمنون : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

إلّا أنّ التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب ، ولم يرد إنكار المبدأ والمعاد معا إلّا في هذه الآية مورد البحث.

ومن الواضح أنّ هؤلاء إنّما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم واضطرابهم منه الذي قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.

وقد ذكر المفسّرون عدّة تفاسير لجملة (نَمُوتُ وَنَحْيا) :

الأوّل : وهو ما ذكرناه ، بأنّ الكبار يغادرون الحياة ليحل محلهم المواليد.

الثّاني : أنّ الجملة من قبيل التأخير والتقديم ، ومعناها : إنّنا نحيا ثمّ نموت ، ولا شيء غير هذه الحياة والموت.

الثّالث : أنّ البعض يموتون ويبقى البعض الآخر ، وإن كان الجميع سوف يموتون في النهاية.

الرّابع : أننا كنا في البداية أموات لا روح فينا ، ثمّ منحنا الحياة ودبت فينا.

غير أنّ التّفسير الأوّل هو أنسب الجميع وأفضلها.

وعلى أية حال ، فإنّ جماعة من الماديين في العصور الخالية كانوا يعتقدون أنّ الدهر هو الفاعل أو الزمان في هذا العالم ـ أو بتعبير جماعة آخرين : إنّ الفاعل هو دوران الأفلاك وأوضاع الكواكب ـ وكانوا ينهون سلسلة الحوادث إلى الأفلاك ، ويعتقدون أنّ كلّ ما يقع في هذا العالم بسببها (١) ، حتى أنّ جماعة من فلاسفة

__________________

(١) احتمل البعض احتمالا خامسا في تفسير هذه الجملة ، وهو أنّها إلى عقيدة التناسخ التي كان يعتقد بها جمع من

٢٢٠