الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

«سورة الجاثية»

محتوى السورة :

هذه السورة ـ وهي سادس الحواميم ـ من السورة المكية ، وقد نزلت في وقت كانت المواجهة بين المسلمين ومشركي مكّة قد اشتدت وسادت الأجواء الاجتماعية في مكّة ، ولذلك فإنّها أكّدت على المسائل المتعلقة بالتوحيد ، ومحاربة الشرك ، وتهديد الظالمين بمحكمة القيامة ، والتنبيه إلى كتابة الأعمال وتسجيلها ، وكذلك التنبيه إلى عاقبة الأقوام المتمردين الماضين.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول :

١ ـ عظمة القرآن المجيد وأهميته.

٢ ـ بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.

٣ ـ ذكر بعض ادعاءات الدهريين ، والردّ عليها بجواب قاطع.

٤ ـ إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين ـ كبني إسرائيل ـ كشاهد على مباحث هذه السورة.

٥ ـ تهديد الضالين المصرين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديدا شديدا.

٦ ـ الدعوة إلى العفو والصفح ، لكن مع الحزم وعدم الانحراف عن طريق الحق.

٧ ـ الإشارات البليغة المعبرة إلى مشاهد القيامة المهولة ، وخاصة صحيفة

١٨١

الأعمال التي تشتمل على كلّ أعمال الإنسان دون زيادة أو نقصان.

وتبدأ هذه السورة بصفات وأسماء الله عزوجل العظيمة كالعزيز والحكيم ، وتنتهي بها أيضا.

واسمها مقتبس من الآية ٢٨ منها ، و «الجاثية» تعني الجثو على الركب ، وهي إشارة الى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة ، في محكمة العدل الإلهية تلك.

وقد ذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان اسما آخر لهذه السورة غير مشهور ، وهو (الشريعة) مستلهم من الآية (١٨) من هذه السورة.

فضل تلاوة السورة :

نقرأ في حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ حاميم الجاثية ستر الله عورته ، وسكن روعته عند الحساب» (١).

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أنّ لا يرى النّار أبدا ، ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها ، وهو مع محمّد» (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، بداية سورة الجاثية.

(٢) تفسير البرهان ، بداية سورة الجاثية ، المجلد ٤ ، ص ١٦٧.

١٨٢

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

التّفسير

آيات الله في كلّ مكان :

قلنا : إنّ هذه هي السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المتقطعة (حم) وهي تشكل مع السورة الآتية ـ أي سورة الأحقاف ـ سور الحواميم السبعة.

وقد بحثنا مرارا في تفسير الحروف المتقطعة في بدايات سورة البقرة وآل

١٨٣

عمران ، وكذلك في الحواميم.

يقول المرحوم الطبرسي في بداية هذه السورة : إنّ أحسن ما يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة. ثمّ ينقل عن بعض المفسّرين ، أنّ تسمية هذه السورة بـ (حم) للإشارة إلى أنّ هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.

نعم ، إنّ كتاب النور والهداية والإرشاد وحل المعضلات ومعجزة نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالدة هذا ، يتركب من هذه الحروف البسيطة ، وغاية العظمة أن يتكون أمر بهذه الأهمية من هذه الحروف السهلة البسيطة.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١).

«العزيز» هو القوي الذي لا يقهر ، و «الحكيم» هو العارف بأسرار كلّ شيء ، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقة ، ومن الواضح أنّ الحكمة التامة والقوّة اللامحدودة من لوازم تنزيل مثل هذا الكتاب العظيم ، وهما غير موجودتين إلّا في الله العزيز المتعال.

والطريف أنّ هذه الآية قد وردت على هذه الهيئة في بداية أربع سور من القرآن الكريم ، ثلاث منها من الحواميم ـ وهي المؤمن والجاثية والأحقاف ـ والأخرى من غير الحواميم ، وهي سورة الزمر. وهذا التكرار والتأكيد يهدف إلى جلب انتباه الجميع إلى عمق أسرار القرآن وعظمة محتواه ، لئلا ينظروا ببساطة وعدم تدبر إلى أية عبارة أو تعبير من تعابيره ، ولئلا يظنوا أنّ هذه الكلمة أو تلك لا محل لها ولا فائدة من ذكرها ، لكي لا يقنعوا بحدّ معين من فهمه وإدراكه ، بل ينبغي أن يكونوا في سعي دؤوب للتوصل إلى أعمق ممّا أدركوه.

__________________

(١) (تنزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : (هذا تنزيل الكتاب) ، ثمّ إنّ (تنزيل) مصدر جاء هنا بمعنى اسم المفعول ، وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، وتقدير الكلام : هذا كتاب منزل ...

١٨٤

وهنا نكتة تستحق الالتفات ، وهي أنّ صفة (العزيز) قد وردت أحيانا لوصف نفس القرآن ، مثل : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (١) ، فإنّه عزيز لا تصل إليه أيدي الذين يقولون بعدم فائدته ، ولا ينقص مر الزمان من أهميته ، ولا تبلى حقائقه ولا تفقد قيمتها ، ويفضح المحرفين أو من يحاول تحريفه ، ويشق طريقه إلى الأمام دائما رغم كل ما يوضع أمامه من عراقيل.

وقد تأتي هذه الصفة في حق منزله جل وعلا ، كما في هذه الآية ، وكلاهما صحيح.

ثمّ تناولت الآية التي بعدها بيان آيات الله سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس ، فقالت : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ).

إن عظمة السماوات من جانب ، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة ، من جانب آخر ، ونظام خلقة الأرض وعجائبها ، من جانب ثالث ، يكون كلّ منها آية من آيات الله سبحانه.

إنّ للأرض ـ على قول بعض العلماء ـ أربع عشرة حركة ، وتدور حول نفسها بسرعة مذهلة ، وكذلك تدور حول الشمس بحركة سريعة ، وأخرى مع المنظومة الشمسية ضمن مجرّة «درب التبانة» ، وهي تسير في طريق لا نهاية له ، وسفر لا حدّ له ، ومع ذلك فهي من الهدوء والاستقرار بمكان ، بحيث يستقر عليها الإنسان وكل الموجودات الحية فلا يشعرون بأي اضطراب وتزلزل ، حتى ولا بقدر رأس الإبرة.

وهي ليست بتلك الصلابة التي لا يمكن معها أن تزرع ، وتبني عليها الدور والبنايات ، ولا هي رخوة ولا يمكن الثبات عليها ، والاستقرار فيها.

وقد هيئت فيها أنواع المعادن ووسائل الحياة لمليارات البشر ، سواء الماضون منهم والحاضرون والآتون ، وهي جميلة تسحر الإنسان ، وتفتنه.

والجبال والبحار وجو الأرض ـ أيضا ـ كلّ منها آية وسرّ من الأسرار.

__________________

(١) سورة فصلت ، ٤١.

١٨٥

غير أنّ علامات التوحيد هذه ، وعظمة الله تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون ، أي طلاب الحق والسائرون في طريق الله ، أمّا عمي القلوب المغرورون المغفلون ، فهم محرومون من إدراكها والإحساس بها.

ثمّ انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ، فقالت : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

كما ورد في العبارة المعروفة والمنسوبة إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «أتحسب انّك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر» ، وكلّ ما هو موجود في ذلك العالم الكبير يوجد منه نموذج مصغر في داخل جسم الإنسان وروحه.

إنّ خصاله وصفاته مركبة من خصال الكائنات الحية وصفاتها ، وتنوع خلقته عصارة مجموعة من حوادث هذا العالم الكبير.

إنّ بناء خلية من خلاياه كبناء مدينة صناعية عظيمة مليئة بالأسرار ، وخلق شعرة منه ـ بخصائصها وأسرارها المختلفة التي اكتشفت بقدرة العلم وتطوره ـ آية عظيمة من آيات الله العظيم.

إنّ وجود آلاف الكيلو مترات من العروق والشرايين والأوردة الكبيرة والصغيرة ، والأوعية الدموية الصغيرة جدّا والشعيرات المتناهية في الصغر في بدن الإنسان ، وآلاف الكيلومترات من طرق المواصلات وأسلاك الاتصالات في سلسلة الأعصاب ، وكيفية ارتباطها واتصالها بمركز القيادة في المخ ، والذي هو مزيج فذّ من العقد والأسرار ، وقوي في الوقت نفسه ، وكذلك طريقة عمل كلّ جهاز من أجهزة البدن الداخلية وانسجامها العجيب في مواجهة الأحداث المفاجئة ، والدفاع المستميت للقوى المحافظة على البدن ضد هجوم العوامل الخارجية ... كلّ واحد من هذه الأمور يشكل ـ بحد ذاته ـ آية عظمى من آيات الله سبحانه.

وإذا تجاوزنا الإنسان ، فإنّ مئات الآلاف من أنواع الكائنات الحية ، ابتداء من الحيوانات المجهرية وحتى الحيوانات العملاقة ، بخصائصها وبناء أجهزتها

١٨٦

المختلفة تماما ، والتي قد يصرف جمع من العلماء كلّ أعمارهم أحيانا لمطالعة حياة وسلوك نوع واحد منها ، ومع أنّ آلاف الكتب قد كتبت حول أسرار هذه المخلوقات ، فإنّ ما نعلمه عنها قليل بالنسبة إلى ما نجهله منها ... كلّ واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه ، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.

لكن ، لماذا يعيش جماعة عشرات السنين في ظل هذه الآيات ، ويمرون عليها ، دون أن يطلعوا حتى على واحدة منها!؟

إنّ سبب ذلك هو ما يقرره القرآن الكريم من أنّ هذه الآيات خاصّة للمؤمنين وطلاب اليقين وأصحاب الفكر والعقل ، ولأولئك الذين فتحوا أبواب قلوبهم لمعرفة الحقيقة ، بكلّ وجودهم الظامئ للعلم واليقين ليرتووا من صافي نبعه وفيضه ، فلا تعزب عن نظرهم أدنى حركة ولا أصغر موجود ، ويفكرون فيه الساعات الطوال ، ليجعلوا منه سلما للارتقاء إلى الله سبحانه ، وسجلا لمعرفته جلّ وعلا ، وليذوبوا في مناجاته ، وليملؤوا أقداح قلوبهم من خمرة عشقه فينتشوا منها.

وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب أخرى لكلّ منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الأخرى ، وكل منها آية من آيات الله تعالى ، وهي مواهب «النور» و «الماء» و «الهواء» ، فتقول : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

إنّ نظام «النور والظلمة» ، وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كلّ منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّا ، وهو عجيب في وضعه وسنته وقانونه ، فإذا كان النهار دائميا ، أو أطول من اللازم ، فسترتفع الحرارة حتى تحترق الكائنات الحية ، ولو كان الليل سرمدا ، أو طويلا جدّا لانجمدت الموجودات من شدّة البرد.

ويحتمل في تفسير الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما ، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار ، في فصول السنة ، فيعود

١٨٧

نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الاختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه ، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الأخرى.

والطريف أنّ العلماء يقولون : بالرغم من التفاوت الشديد بين مناطق الأرض المختلفة من ناحية طول الليل والنهار وقصرهما ، فإنّنا إذا حسبنا مجموع أيّام السنة فسنرى أنّ كلّ المناطق تستقبل نفس النسبة من أشعة الشمس تماما (١).

ثمّ تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي ، أي «المطر» والذي لا كلام في لطافة طبعه ورقته ، ولا بحث في قدرته على الإحياء ، وبعثه الحياة في كلّ الأرجاء ومنحها الجمال والروعة.

ولم لا يكون كذلك ، والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان ، وكثير من الحيوانات الأخرى ، والنباتات؟

ثمّ تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح .. تلك الرياح التي تنقل الهواء المليء بالأوكسجين من مكان إلى آخر ، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية ، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحارى والغابات لتصفيته ، ثمّ إعادته إلى المدن.

والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية ـ أي الحيوانات والنباتات ـ متعاكسة في العمل تماما ، فالأولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون ، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين ، ليقوم التوازن في نظام الحياة ، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.

إنّ هبوب الرياح ، إضافة إلى ذلك فانّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل ، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك ، وينمي

__________________

(١) وردت بحوث مفصلة حول اختلاف الليل والنهار ، في سورة البقرة ـ ذيل الآية ١٦٤ وفي سورة آل عمران ذيل الآية ١٩٠ ، وفي سورة يونس ذيل الآية ٦ ، وفي ذيل الآية ٧١ من سورة القصص.

١٨٨

المراتع الطبيعية والغابات ، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات ، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة ، ويحفظ الماء من التعفن والفساد ، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها (١).

والطريف أنّ هذه الآيات تتحدث أوّلا عن آيات السماء والأرض وتقول في نهاية الآية الأولى : إنّها آيات «للمؤمنين» ، ثمّ تتناول الحديث في خلق الكائنات الحية فتقول في نهاية الآية الثانية : إنّها آيات «للموقنين» ، وبعد ذلك تتكلم في أنظمة النور والظلمة ، والرياح والأمطار ، ثمّ تقول : إنّها آيات للذين «يعقلون».

إنّ هذا التفاوت في التعبير لعله بسبب أنّ الإنسان يطوي ثلاث مراحل في سيره إلى معرفة الله سبحانه ليصل إلى هدفه ، فالأولى مرحلة «التفكر» ، والثانية مرحلة «اليقين» والعلم ، وبعدها مرحلة «الإيمان» أو ما يسمى بعقد القلب ، ولما كان الإيمان أشرف هذه المراحل ، ثمّ يأتي بعده اليقين ، وفي المرحلة الثالثة يأتي التفكير ، فقد وردت هذه المراحل حسب هذا الترتيب في الآيات المذكورة ، وإن كانت المراحل من ناحية الوجود الخارجي تبدأ بمرحلة التفكر ، ثمّ اليقين ، ثمّ الإيمان.

وبتعبير آخر فإنّ أهل الإيمان يرتقون إلى هذه المرحلة من خلال مشاهدة آيات الله سبحانه ، أمّا الذين ليسوا منهم فليصلوا إلى مرحلة اليقين أو إلى مرحلة التفكر على أقل التقادير.

وقد ذكر المفسّرون في هذا الباب وجوها أخرى أيضا ، وما قلناه هو الأنسب.

وتقول الآية الأخيرة ، إجمالا للبحوث الماضية ، وتبيانا لعظمة آيات القرآن وأهميتها : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ).

هل أنّ كلمة «تلك» إشارة إلى آيات القرآن ، أم إلى آيات الله والعلامات الدالة

__________________

(١) لقد وردت بحوث مفصلة حول آثار الرياح والأمطار في ذيل الآيات ٤٦ ـ ٥٠ من سورة الروم.

١٨٩

عليه في الآفاق والأنفس ، والتي مرّت الإشارة إليها في الآيات السابقة؟

كلّ محتمل ، إلّا أنّ الظاهر هو أنّ المراد الآيات القرآنية بقرينة التعبير بالتلاوة ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآيات القرآنية آيات الله سبحانه في كلّ عالم الوجود ، وعلى هذا فيمكن الجمع بين التّفسيرين (فتأمل!).

وعلى أية حال ، فإنّ (التلاوة) من مادة (تلو) أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقبا ، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير بالحق إشارة إلى محتوى هذه الآيات ، وهو أيضا إشارة إلى كون نبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوحي الإلهي حقّا. وبعبارة أخرى ، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الاستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.

وحقّا إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شيء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (١).

وعلى قول «الطبرسي» في مجمع البيان ، فإنّ الحديث إشارة إلى قصص الأقوام الماضين ، وأحداثهم التي تبعث على الإعتبار بهم ، في حين أنّ الآيات تقال للدلائل التي تميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم ، وآيات القرآن المجيد تتحدث عن الإثنين معا.

حقا إنّ للقرآن الكريم محتوى عميقا من ناحية الاستدلال والبراهين على التوحيد ، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد ـ أو أرضية صالحة ـ وتدعوا كلّ مرتبط بالحق الى الطهارة والتقوى ، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

* * *

__________________

(١) للتعبير بـ (بعد الله) محذوف ، والتقدير : فبأي حديث بعد حديث الله.

١٩٠

الآيات

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠))

التّفسير

ويل لكلّ أفاك أثيم :

رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام الله مدعما بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد ، فلا يترك أثرا في قلوبهم القاسية.

أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق ، فتقول : أوّلا : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ).

«الأفاك» صيغة مبالغة ، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّا ، وتقال أحيانا لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

١٩١

و «الأثيم» من مادة إثم ، أي المجرم والعاصي ، وتعطي أيضا صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيدا أنّ الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام آيات الله سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم ، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب ، لا أولئك الصادقون الطاهرون ، فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ، ونقاء سريرتهم.

ثمّ تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا ، فتقول : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) (١) ولهذا فإنّه بحكم تلوثه بالذنب والكذب ، والغرور والكبر والعجب ، يمر كأن لم يسمع كلّ هذه الآيات ، وكأنه أصم أو أنّه يعتبر نفسه كذلك ، كما ورد لك في الآية (٧) من سورة لقمان : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً).

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد ، فتقول : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فكما أنّه آذى قلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين وآلمهم ، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضا ، لأنّ عذاب القيامة تجسم لأعمال البشر في الحياة الدنيا.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكر سبب نزول لهذه الآية والآية التي تليها ، واعتبروهما إشارة إلى أبي جهل أو النظر بن الحارث ، ذلك أنّهم كانوا قد جمعوا قصصا وأساطير من العجم ليلهوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الحق.

لكن من الواضح أنّ هذه الآية لا تختص بهم ، بل ولا بمشركي العرب أيضا ، فهي تشمل كلّ المجرمين الكاذبين المستكبرين في كلّ عصر وزمان ، وكلّ الذين يصرون كأن لم يسمعوا آيات الله سبحانه ونداءات الأنبياء وكلمات الأئمّة والعظماء ، لأنّها لا تنسجم مع شهواتهم وميولهم ورغباتهم المنحرفة ، ولا تؤيد أفكارهم الشيطانية ، ولا توافق عاداتهم الخاطئة وأعرافهم البالية وتقاليدهم العمياء.

__________________

(١) يمكن أن تكون عبادة (يسمع آيات الله) جملة مستأنفة ، أو هي وصف آخر لـ (كل).

١٩٢

نعم ، بشّر كلّ أولئك بالعذاب الأليم.

ولما كان العذاب لا ينسجم مع البشارة ، فإنّ هذا التعبير ورد من باب السخرية والاستهزاء.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) (١).

في الحقيقة ، توجد لدى هؤلاء الجاهلين الأنانيين حالتان :

الأولى : أنّهم غالبا ما يسمعون آيات الله فلا يعبؤون بها ، ويمرون عليها دون اهتمام وتعظيم ، فكأنّهم لم يسمعوها أيضا.

والأخرى : أنّهم إذا سمعوها وأرادوا أن يهتموا بها ، فليس لهم من رد فعل إزاءها إلّا الاستهزاء والسخرية. وكلهم مشتركون في هاتين الحالتين ، فمرّة هذه ، وأخرى تلك ، وبناء على هذا فلا تعارض بين هذه الآية والتي قبلها.

والطريف أنّها تقول أوّلا : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) ثمّ لا تقول : إنّه يستهزئ فيما بعد بما علم ، بل تقول : إنّه يتخذ كلّ آياتنا هزوا ، سواء التي علمها والتي لم يعلمها ، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئا أو يستهزئ به وهو لم يفهمه أصلا ، وهذا خير دليل على عناد أولئك وتعصبهم.

ثمّ تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ولم لا يكون الأمر كذلك ، فإنّ هؤلاء كانوا يريدون أن يضفوا على أنفسهم الهيبة والعزة والمكانة الاجتماعية من خلال الاستهزاء بآيات الله سبحانه ، إلّا أنّ الله تعالى سيجعل عقابهم تحقيرهم ومذلتهم وهوانهم ، ويبتليهم بعذاب القيامة المهين المذل ، فيسبحون على وجوههم مصفّدين مكبّلين ثمّ يرمون على تلك الحال في جهنم ، ويلاحقهم مع ذلك تقريع ملائكة العذاب وسخريتهم.

ومن هنا يتّضح لماذا وصف العذاب بالأليم في الآية السابقة ، وبالمهين هنا ،

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ ضمير (اتخذها) لا يعود على (شيئا) ، بل على (آياتنا).

١٩٣

وبالعظيم في الآية التالية ، فكلّ منها يناسب نوعية جرم هؤلاء وكيفيته.

وتوضح الآية التالية العذاب المهين ، فتقول : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ).

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنّم أمامهم وسيصلونها في المستقبل ، يمكن أن يكون ناظرا إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم ، وهو تعبير مألوف ، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر ، تركه وراء ظهره ، والقرآن الكريم يقول : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (١).

وقال جمع من المفسّرين أيضا : إنّ كلمة (وراء) من مادة المواراة ، وتقال لكلّ شيء خفي على الإنسان وحجب عنه ، سواء كان خلفه ولا يراه ، أم أمامه لكنّه بعيد لا يراه ، وعلى هذا فإنّ لكلمة (وراء) معنى جامعا يطلق على مصداقين متضادين (٢).

وليس ببعيد إذا قلنا : إنّ التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول ، فمثلا نقول : إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك ، أي إنّ تناول الغذاء يكون علة لذلك المرض ، وهنا أيضا تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم المهين.

وعلى أية حال ، فإنّ الآية تضيف مواصلة الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئا من أثقالهم ، وأنّها ستغني عنهم من الله شيئا ، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم ، حيث : (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ).

ولما لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير ، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب الله ونار غضبه : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

__________________

(١) سورة الدهر ، الآية ٢٧.

(٢) قال البعض أيضا : إنّ كلمة (وراء) إنّ أضيفت إلى الفاعل أعطت معنى الوراء ، وإن أضيفت إلى المفعول أعطت معنى الأمام. روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٤٣٩. لكن لا دليل على هذا المدعى.

١٩٤

ولقد استصغر هؤلاء آيات الله سبحانه ، ولذلك سيعظم الله عذابهم ، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم الله في العذاب الأليم!

إن هذا العذاب عظيم من كلّ الجهات ، فهو عظيم في خلوده ، وشدته ، وباقترانه بالتحقير ، والإهانة ، وعظيم في نفوذه إلى نخاع وقلوب المجرمين ..

نعم .. إنّ الذنب العظيم ، أمام الله العظيم ، لا يكون جزاؤه إلّا العذاب العظيم.

* * *

١٩٥

الآيات

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

التّفسير

كل شيء مسخر للإنسان :

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات الله ، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع ، فتقول : (هذا هُدىً) فهو يميز بين الحق والباطل ، ويضيء حياة الإنسان ، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم

١٩٦

ومنزلهم المقصود ، لكن : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).

«الرجز» يعني الاضطراب والاهتزاز وعدم الانتظار ، كما يقول الراغب في مفرداته ، وتقول العرب : رجز البعير إذا تقاربت خطواته واضطرب لضعف فيه.

وتطلق هذه الكلمة أيضا على مرض الطاعون والابتلاءات الصعبة ، أو العواصف الثلجية الشديدة ، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك ، لأنّ كلّ هذه الأمور تبعث على الاضطراب والتزلزل وعدم الانتظام والانضباط ، وإنّما يقال لأشعار الحرب (رجز) لأنّها مقاطع قصيرة متقاربة ، أو لأنّها تلقي الرعب والاضطراب بين صفوف الأعداء.

ثمّ تحول زمان الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الأولى لهذه السورة ، فتعطي المشركين دروسا ، بليغة مؤثرة في توحيد الله سبحانه ومعرفته.

فتارة تدغدغ عواطفهم ، وتقول : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

من الذي أودع في مادة السفن الأصلية خاصية الطفو على الماء وعدم الغطس؟ ومن الذي جعل الماء فراشا ناعما حركتها حتى استطاعت أن تسير فيه بكلّ سهولة ويسر؟ ومن الذي أمر الرياح أن تمرّ على سطح المحيطات بصورة منتظمة لتحرك السفن وتسيرها؟ أو يحل قوّة البخار محل الهواء ليزيد من سرعة هذه السفن العظيمة؟

نحن نعلم أنّ أكبر وسائط نقل الإنسان وأهمها في الماضي والحاضر هي السفن الصغيرة والكبيرة ، والتي تنقل على مدار السنة ملايين البشر ، وأكثر من ذلك البضائع التجارية من أقصى نقاط العالم إلى المناطق المختلفة ، وقد تكون السفن أحيانا بسعة مدينة صغيرة ، وسكانها بعدد سكانها ، وهي مجهزة بمختلف الوسائل والأموال.

١٩٧

حقا لو لم تكن هذه القوى الثلاث ، أفيكون بمقدور الإنسان أن يحل مشاكل حمله ونقله بواسطة المراكب العادية البسيطة؟ حتى هذه المراكب والوسائط البسيطة هي بحدّ ذاتها من نعمه سبحانه ، وهي فعالة في مجالها.

والطريف أنّ الآية (٣٢) من سورة إبراهيم تقول : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أمّا هنا فإنّ الآية تقول : (سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ) لأنّ التأكيد هناك كان على تسخير البحار ، ولذلك اتبعتها بقولها : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) أمّا هنا فإنّ الآية ناظرة إلى تسخير الفلك ، وعلى أية حال ، فإنّهما معا مسخران للإنسان بأمر الله سبحانه ، وهما في خدمته.

إنّ الهدف من هذا التسخير هو أن تبتغوا من فضل الله ، وهذا التعبير يأتي عادة في مورد التجارة والنشاطات الاقتصادية ، ومن الطبيعي أنّ نقل المسافرين من مكان الى آخر في ضمن هذا التسخير.

والهدف من الاستفادة من فضل الله هو إثارة حسن الشكر لدى البشر ، لتعبئة عواطفهم لأداء شكر المنعم ، وبعد ذلك يسيرون في طريق معرفة الله سبحانه.

كلمة «الفلك» ـ وكما قلنا سابقا ـ تستعمل للمفرد والجمع.

ولمزيد من التفصيل حول تسخير البحار والفلك ، ومنافعها وبركاتها ، راجعوا ذيل الآية (١٤) سورة النحل.

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية ، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة ، فتقول : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ).

فقد كرّمكم إلى درجة أنّ سخر لكم كلّ موجودات العالم ، وجعلها في خدمتكم ولتأمين مصالحكم ومنافعكم ، فالشمس والقمر ، والرياح والمطر ، والجبال والوديان ، والغابات والصحاري ، والنباتات والحيوانات ، والمعادن والمنابع الغنية التي تحت الأرض ، وبالجملة فإنّه أمر كلّ هذه الموجودات أن تكون في خدمتكم ،

١٩٨

ومطيعة لأمركم ، ومنفذة لإرادتكم ، لتتمتعوا بنعمه ومواهبه سبحانه ، ولا تذهلوا في سكرة الغفلة عنه.

ومما يستحق الانتباه أنّه يقول : (جَمِيعاً مِنْهُ) (١) فإذا كانت كلّ النعم منه ، وهو خالقها وربها ومدبرها جميعا ، فلما ذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره ، ويتسكع على اعتبار المخلوقات الضعيفة ، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها ، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره ، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه!! إنّه يتحدث مع عباده بكلّ لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره ، فمرّة بحديث القلب ، وأخرى بلسان الفكر ، والهدف واحد من كلّ ذلك ، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

وقد أوردنا بحثا مفصلا حول تسخير مختلف موجودات العالم في ذيل الآيات ٣١ ـ ٣٣ من سورة إبراهيم.

ثمّ تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق ، فحولت الخطاب إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ).

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية ، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة ، وألفاظهم بذيئة ، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية ، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم بكلّ رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم ،

__________________

(١) ثمّة احتمالات عديدة في إعراب (جميعا منه) وتركيبها ، فقد احتمل الزمخشري في الكشاف احتمالين : الأول : إنّ (جميعا منه) حال لـ (ما في السموات وما في الأرض) أي إنّها جميعا مسخرة لكم لكنّها منه سبحانه. والآخر : إنّه خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هي منه جميعا. واحتمل البعض أيضا أن تكون تأكيدا لـ (ما في السموات وما في الأرض).

١٩٩

فتعبد المسافة بينهم وبين الحق.

إنّ حسن الخلق والصفح ورحابة الصدر يقلل من ضغوط هؤلاء وعدائهم من جهة ، كما أنّه يمكن أن يكون عاملا لجذبهم إلى الإيمان وإقبالهم عليه.

وقد ورد نظير هذا الأمر الأخلاقي كثيرا في القرآن الكريم كقوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١)

إنّ التصلب في التعامل مع الجاهلين والإصرار على عقوبتهم لا يثمر في العادة ، بل إن تجاهلهم والاعتزاز بالنفس أمامهم هو الأسلوب الناجح في إيقاظهم ، وهو عامل مؤثر في هدايتهم.

وليس هذا قانونا عاما بالطبع ، إذ لا يمكن إنكار وجود حالات لا يمكن معالجتها ومواجهتها إلّا بالغلظة والشدّة ، غير أنّها قليلة.

والنكتة الأخرى هنا أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله ، إلّا أنّ (أيّام الله) قد أطلقت على أيّام خاصّة ، للدلالة على عظمتها وأهميتها.

لقد ورد هذا التعبير في موضعين من القرآن المجيد : أحدهما في هذه الآية ، والآخر في سورة إبراهيم ، وله هناك معنى أوسع وأشمل.

وقد فسّرت «أيّام» في الرّوايات الإسلامية بتفاسير مختلفة ، ومن جملتها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بأنّ أيّام الله ثلاثة : يوم قيام المهدي ، ويوم الموت ، ويوم القيامة (٢).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه» (٣).

وعلى أية حال ، فإنّ هذا التعبير يبين أهمية يوم القيامة ، يوم تجلي حاكمية الله

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية ٨٩.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد ٢ ، صفحة ٥٢٦.

(٣) المصدر السابق.

٢٠٠