الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-55-6
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٩٢

علاقتهم بالله سبحانه ، فهم يرفعون أكفهم إلى الله ويرجون رحمته ، فيتنعمون بها ، ويرتوون منها ، ويتمتعون بشفاعة أوليائه.

من هنا يتّضح أنّ نفي وجود صديق وولي ونصير في ذلك اليوم لا ينافي مسألة الشفاعة ، لأنّ الشفاعة أيضا لا تحصل إلّا بإذن الله تعالى.

والطريف أنّ الآية قرنت وصفه سبحانه بكونه عزيزا ورحيما ، والأوّل إشارة إلى قدرته اللامتناهية التي لا تعرف الهزيمة والضعف ، والثّاني إشارة إلى رحمته التي لا حدود لها ، والمهم أن تكون رحمته عين قدرته.

وقد روي في بعض روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من جملة : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) وصي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وشيعته (١).

ولا يخفى أنّ الهدف منها هو بيان المصداق الواضح.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٦٢٩.

١٦١

الآيات

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

التّفسير

شجرة الزقوم!

تصف هذه الآيات أنواعا من عذاب الجحيم وصفا مرعبا يهز الأعماق ، وهي تكمل البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول يوم الفصل والقيامة ، فتقول : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فهؤلاء المجرمون هم الذين يأكلون هذا النبات المر القاتل ، والخبيث الطعام النتن الرائحة.

«الزّقوم» كما قلنا في تفسير الآية (٦٢) من سورة الصافات ـ على قول المفسّرين وأهل اللغة ، اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرّة خشنة اللمس منتنة الرائحة ، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب ، كان المشركون يعرفونها ، وهي

١٦٢

شجرة عصيرها مرّ ، وإذا أصابت البدن تورّم (١).

ويعتقد البعض أنّ الزقوم في الأصل يعني الابتلاع (٢) ، ويقول البعض : إنّها كلّ طعام خبيث في النّار (٣).

وجاء في حديث أنّ هذه الكلمة لما نزلت في القرآن قال كفار قريش : ما نعرف هذه الشجرة ، فأيّكم يعرف معنى الزقوم؟ وكان هناك رجل من أفريقية قال : هي عندنا التمر والزبد ـ وربّما قال ذلك استهزاء ـ فلما سمع أبو جهل ذلك قال مستهزئا : يا جارية زقمينا ، فأتته الجارية بتمر وزبد ، فقال لأصحابه : تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمّد (٤).

وينبغي الالتفات إلى أنّ «الشجرة» تأتي في لغة العرب والاستعمالات القرآنية بمعنى الشجرة أحيانا ، وبمعنى مطلق النبات أحيانا.

و «الأثيم» من مادة إثم ، وهو المقيم على الذنب ، والمراد هنا الكفار المعاندون المعتقدون ، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.

ثمّ تضيف الآية : (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ).

«المهل» ـ على قول كثير من المفسّرين وأرباب اللغة ـ الفلز المذاب ، وعلى قول آخرين ـ كالراغب في المفردات ـ هو درديّ الزيت ، وهو ما يترسب في الإناء ، وهو شيء مرغوب فيه جدا ، لكن يبدو أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

«والحميم» هو الماء الحار المغلي ، وتطلق أحيانا على الصديق الوثيق العلاقة والصداقة ، والمراد هنا هو المعنى الأول.

على أي حال ، فعند ما يدخل الزقوم بطون هؤلاء ، فإنّه يولد حرارة عاليه لا تطاق ، ويغلي كما يغلي الماء ، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنّه

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير روح البيان ، تفسير روح المعاني.

(٢) لسان العرب مادة «زقم».

(٣) مفردات الراغب مادة (زقم).

(٤) تفسير القرطبي ، المجلد ٨ ، صفحة ٥٥٢٩ ذيل الآية (٦٢) من سورة الصافات.

١٦٣

يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.

ثمّ يخاطب سبحانه خزنة النّار ، فيقول : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ).

«فاعتلوه» من مادة العتل ، وهي الأخذ والسحب والإلقاء. وهو ما يفعله حماة القانون والشرطة مع المجرمين المتمردين ، الذي لا يخضعون لأي قانون ولا يطبقونه.

«سواء» بمعنى الوسط ، لأنّ المسافة إلى جميع الأطراف متساوية ، وأخذ أمثال هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أنّ الحرارة أقوى ما تكون في الوسط ، والنّار تحيط بهم من كلّ جانب.

ثمّ تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء فتقول : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) (١) وبهذا فإنّهم يحترقون من الداخل ، وتحيط النّار بكلّ وجودهم من الخارج ، وإضافة إلى ذلك يصب على رؤوسهم الماء المغلي في وسط الجحيم.

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (١٩) من سورة الحج حيث تقول : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ).

وبعد كلّ أنواع العذاب الجسمي هذه ، تبدأ العقوبات الروحية والنفسية ، فيقال لهذا المجرم المتمرد العاصي الكافر : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فأنت الذي كنت قد قيدت البؤساء فباتوا في قبضتك تظلمهم كيف شئت ، وتعذبهم حسبما تشتهي ، وكنت تظن أنّك قوي لا تقهر ، وعزيز لا يمكن أنّ تهان ويجب على الجميع احترامك وتقديرك.

نعم ، أنت الذي ركبك الغرور فلم تدع ذنبا لم ترتكبه ، ولا موبقة لم تأتها ، فذق الآن نتيجة أعمالك التي تجسدت أمامك ، وكما أحرقت أجسام الناس وآلمت

__________________

(١) عذاب الحميم من قبيل الإضافة البيانية ، أي إنّ هذا الماء المحرق عذاب يصب على هؤلاء.

١٦٤

أرواحهم ، فليحترق الآن داخلك وخارجك بنار غضب الله والماء المغلي الذي يصهر ما في بطونهم والجلود.

وجاء في حديث أنّ النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ يوما بيد أبي جهل وقال : «أولى لك فأولى» فغضب أبو جهل وجرّ يده وقال : بأي شيء تهددني؟ ما تستطيع أنت وصاحبك أن تفعلا بي شيئا ، إنّي لمن أعز هذا الوادي وأكرمه.

والآية ناظرة إلى هذا المعنى ، فتقول : عند ما يلقونه في جهنم يقولون له : ذق يا عزيز مكّة وكريمها (١).

ويضيف القرآن الكريم في آخر آية ـ من الآيات مورد البحث ـ مخاطبا إيّاهم : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) فكم ذكّرناكم بحقّانية هذا اليوم وحقيقته في مختلف آيات القرآن وبمختلف الأدلة؟!

ألم نقل لكم : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ)؟ (٢).

ألم نقل : (كَذلِكَ النُّشُورُ)؟ (٣).

ألم نقل : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)؟ (٤).

ألم نقل : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟ (٥).

وخلاصة القول : قد قلنا لكم الحقيقة وأوضحناها بطرق مختلفة ، لكن لم تكن لكم آذان تسمعون بها.

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد ٢٥ ، صفحة ١٣٥ ذيل الآيات مورد البحث ، وتفسير روح المعاني ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي.

(٢) سورة ق ، الآية ١١.

(٣) سورة فاطر ، الآية ٩.

(٤) سورة التغابن ، الآية ٧.

(٥) سورة ق ، الآية ١٥.

١٦٥

بحث

العقوبات الجسمية والروحية :

نحن نعلم ، وطبقا لصريح القرآن ، أنّ للمعاد جانبا جسميا ، وآخر روحيا ، وعلى ذلك فمن الطبيعي أن تكون العقوبات والمثوبات متصفتين بهما كذلك ، ولذلك أشير في آيات القرآن الكريم والرّوايات الإسلامية إلى كلا القسمين ، غاية ما في الأمر أنّ انتباه الناس وإحساسهم لمّا كان منصبا على الأمور الجسمية غالبا ، لذلك يلاحظ أنّ التفصيل في العقوبات والمثوبات المادية أكثر ، لكن لا يعني هذا أن الإشارة إلى المثوبات والعقوبات المعنوية قليلة.

وقد رأينا في الآيات أعلاه نموذجا لهذا المطلب ، فمع ذكر عدّة أقسام من العقوبات الجسمية الأليمة ، هناك إشارة وجيزة عميقة المحتوى إلى الجزاء الروحي الذي سينال المستكبرين.

وتلاحظ في آيات أخرى من القرآن الإشارة إلى المثوبات الروحية أيضا ، فيقول الله تعالى في موضع : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١).

ويقول في موضع آخر : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٢).

وأخيرا يقول في موضع ثالث : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٣).

ولا يخفى أنّه لا يمكن وصف اللذائذ المعنوية غالبا وخاصّة في ذلك العالم الواسع ، ولذلك فقد أشير إليها في القرآن إشارة غامضة عادة ، أمّا العقوبات الروحية التي تكون بالتحقير والإهانة ، التوبيخ والتقريع ، والأسف والهم والحزن ، فقد وصفتها الآيات وأوضحتها ، وقد قرأنا نماذج منها في الآيات أعلاه.

* * *

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٧٢.

(٢) سورة يس ، الآية ٥٨.

(٣) سورة الحجر ، الآية ٤٧.

١٦٦

الآيات

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧))

التّفسير

المتقون ومختلف نعم الجنّة :

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النّار ، فإنّ هذه الآيات تذكر المواهب والنعم المعدة لأهل الجنّة ، لتتضح أهمية كلّ منهما من خلال المقارنة بينهما.

وقد لخصت هذه المواهب في سبعة أقسام :

الأولى : هي (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (١) على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو

__________________

(١) ممّا يستحق الانتباه أنّ (أمين) قد ذكر وصفا للمقام ، فكأن مقام أهل الجنّة أمين بنفسه ولا يخون أهل الجنّة مطلقا ، ومثل هذه التعبيرات تأتي عادة للتأكيد والمبالغة.

١٦٧

خوف ، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا ، من الغم والأحزان ، ومن الشياطين والطواغيت.

ثمّ تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

إن التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كلّ فرد من أهل الجنّة ، فهي تحت تصرفه ، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة ، لأنّ حدائق الجنّة وبساتينها غير متساوية ، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنّة.

وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة ، فتقول : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ).

«السندس» يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة ، وأضاف البعض قيد كونها مذهّبة.

و «الإستبرق» هي الأقمشة الحريرية السميكة ، ويعتقد بعض المفسّرين وأهل اللغة أنها معربة من الكلمة الفارسية (أستبر) أو (ستبر) أي السميك. ويحتمل أن يكون أصلها عربيا مأخوذا من البرق أي التلألؤ ، حيث أنّ لهذه الأقمشة بريقا خاصّا.

طبعا ، ليس في الجنّة حرّ شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنّة بارتداء هذا الملابس ، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ كلماتنا وألفاظنا ـ هذه التي وضعت لرفع حاجات الحياة اليومية في دنيانا ـ عاجزة عن وصف مسائل ذلك العالم الكامل العظيم ، بل هي قادرة على الإشارة إليها وحسب.

واعتقد البعض أنّ اختلاف هذه الألبسة إشارة إلى تفاوت مقامات القرب بين أصحاب النعيم.

١٦٨

ثمّ إنّ كون أهل الجنّة متقابلين مع بعضهم البعض ، وزوال أي تفاوت وتكبر لأحد على آخر ، إشارة إلى روح الأنس والأخوة التي تسود مجالسهم ، تلك المجالس والحلقات التي لا يرى فيها إلّا الصفاء والمودّة وتسامي الروح.

وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم ، فتقول : (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ).

«الحور» جمع حوراء وأحور ، وتقال لمن اشتد سواد عينه ، واشتد بياض بياضها. و «العين» جمع أعين وعيناء ، أي أوسع العين ، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه ، فإنّ الآية تصف عيون الحور العين الجميلة الساحرة. وقد ذكرت محاسنهن الأخرى بأسلوب رائع في آيات أخرى من القرآن.

ثمّ تناولت الآية الأخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنّة فقالت : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) فلا توجد في الجنّة تلك هنا المشكلات والصعوبات التي كانوا يعانونها في تناول فاكهة الدنيا ، فإنّها قريبة منهم وفي متناولهم ، وعلى هذا فليس هناك بذل جهد لاقتطاف الأثمار من الأشجار العالية ، إذ (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (١).

وإليهم يرجع اختيار الفاكهة التي يشتهونها : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢).

ولا أثر هنا للأمراض والاضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر تناول الفواكه ، وكذلك لا خوف من فسادها وقلتها ، فهم في راحة وأمن واطمئنان من الجهات.

وعلى أية حال ، فإذا كان الزقوم طعام أهل النّار الذي يغلي في بطونهم كغلي الحميم ، فإنّ طعام الجنّة هي الفواكه اللذيذة الخالية من كلّ أذى وإزعاج.

خلود الجنّة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم الله سبحانه على المتقين ، لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق ، ولذلك تقول الآية :

__________________

(١) سورة الحاقة ، الآية ٢٣.

(٢) سورة الواقعة ، الآية ٢٠.

١٦٩

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى).

والطريف أنّ القرآن الكريم قد بيّن كون نعم الجنّة خالدة بتعابير مختلفة ، فيقول تارة : (خالِدِينَ فِيها) (١) ويقول أخرى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (٢) أمّا لماذا عبر بـ (الْمَوْتَةَ الْأُولى) فسيأتي بيانه في التأملات ، إن شاء الله تعالى.

وأخيرا يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها ، فيقول : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فإنّ كمال هذه النعم إنما يتم عند ما يخلو فكر أصحاب الجنّة من احتمال العذاب ، وعدم انشغالهم به ، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات ، فإنّ الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه ، ويطمئنهم بأنّ لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلا. وبتعبير آخر ، فإنّ غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا ، وهم في خوف وقلق منها ما داموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم ، وهذه الآية تمنحهم الاطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : إنّ بعض المؤمنين يقضون مدّة في الجحيم بذنوب اقترفوها ، ليتطهروا منها ، ثمّ يدخلون الجنّة ، فهل تشملهم الآية المذكورة؟

ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال ، بأنّ الآية تتحدث عن المتقين ذوي الدرجات السامية ، والذين يردون الجنّة من أوّل وهلة ، أما الفئة الأخرى فهي ساكتة عنهم.

ويحتمل أيضا أنّ هؤلاء عند ما يدخلون الجنّة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى النّار ، بل يبقون من الأمن الدائم ، وهذا يعني أنّ الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء وحالهم بعد دخولهم الجنّة.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى جميع النعم السبعة ، وكنتيجة لما مر

__________________

(١) ورد هذا التعبير في آيات كثير من القرآن ، ومن جملتها : آل عمران ـ ١٥ ، ١٣٦ النساء ـ ١٣ ، ١٢٢ ، المائدة ـ ٨٥ ، وغيرها.

(٢) سورة هود ، الآية ١١٠.

١٧٠

تقول : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

صحيح ، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات ، إلّا أنّ من المسلّم أن تلك الأعمال جميعا لا تستحق كلّ هذه النعم الخالدة ، بل هي فضل من الله سبحانه ، إذ جعل كلّ هذه النعم والعطايا تحت تصرفهم ووهبهم إيّاها.

هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء لم يكونوا قادرين على كسب كلّ هذه الحسنات ولا على فعل الحسنات لو لم يشملهم فضل الله وتوفيقه ، ولطفه ، فهو الذي منحهم العقل والعلم ، وهو الذي أرسل الأنبياء والكتب السماوية ، وهو الذي غمرهم بتوفيق الهداية والعمل.

نعم ، إنّ استغلال هذه المنح العظمى ، والوصول إلى كلّ تلك العطايا والثواب ، إنّما تمّ بفضله سبحانه إذ وهبهم إيّاها ، ولم يكن هذا الفوز العظيم ليحصل إلّا في ظل لطفه وكرمه.

* * *

بحث

ما هي الموتة الأولى؟

قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه ، أنّ أصحاب الجنة لا يذوقون إلّا الموتة الأولى ، وهنا تطرح أسئلة ثلاثة :

الأول : ما المراد من الموتة الأولى؟ فإنّ كان المراد الموت الذي تنتهي به الحياة الدنيا ، فلما تقول الآية : (لا يَذُوقُونَ)

(فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) في حين أنّهم قد ذاقوها ، وعليه يجب أن يأتي الفعل بصيغة الماضي لا المضارع؟

وللإجابة عن هذا السؤال اعتبر البعض (إلّا) في جملة (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى)

__________________

(١) احتملت عدّة احتمالات في إعراب (فضلا) : أحدها : إنّها مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : فضلهم فضلا ، والآخر : أنّه مفعول لأجله ، أو أنّها حال.

١٧١

بمعنى (بعد) ، وقالوا : إنّ معنى الآية هو أنّهم لا يذوقون موتا بعد موتتهم الأولى.

وقدّر البعض الآخر تقديرا في الكلام فقالوا : إنّ التقدير هو : إلّا الموتة الأولى التي ذاقوها (١).

الثاني : هو : لماذا ورد الكلام عن الموتة الأولى فقط ، في حين أننا نعلم أنّ الإنسان يذوق الموت مرّتين : مرّة عند انتهاء حياته ، وأخرى بعد حياة البرزخ؟

وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال عدة إجابات كلها غير مرضية ، فآثرنا عدم ذكرها لعدم استحقاقها الذكر.

والأفضل أن يقال : إنّ الحياة والموت في البرزخ لا يشبهان أبدا الحياة والموت العاديين ، بل إنّ حياة القيامة تشبه الحياة الدنيا من وجوه عديدة بمقتضى المعاد الجسماني ، غاية ما هناك أنّها في مستوى أعلى وأسمى ، ولذلك يقال لأصحاب الجنّة : لا موتة بعد الموتة الأولى التي ذقتموها ، ولما كانت الحياة والموت في البرزخ لا شباهة لهما بحياة الدنيا وموتها لذا لم يرد الكلام حولهما (٢).

السؤال الثّالث هو : إنّ عدم وجود الموت في القيامة لا ينحصر بأصحاب الجنّة ، بل أصحاب النّار لا يموتون أيضا ، فلما ذا أكّدت الآية على أصحاب الجنّة؟

للمرحوم الطبرسي جواب رائع عن ذلك ، فهو يقول : إنّ ذلك بشارة لأهل الجنّة ، بأن لهم حياة خالدة هنيئة ، أما أصحاب النّار الذين يعتبر كلّ لحظة من لحظات حياتهم موتا ، وكأنّهم يحيون ويموتون دائما ، فلا معنى لهذا الكلام في حقهم.

وعلى أية حال ، فإنّ التعبير هنا بـ (لا يَذُوقُونَ) إشارة إلى أنّ أصحاب الجنّة لا يرون ولا يعانون أدنى أثر من آثار الموت.

وجميل أنّ نقرأ في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّ الله تعالى يقول لبعض أهل

__________________

(١) بناء على هذا فإنّ الاستثناء أعلاه منقطع أيضا لأنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون مثل هذا الموت ، بل ذاقوه من قبل (فتأمل!).

(٢) الحياة والموت في البرزخ في ذيل الآية (١١) من سورة المؤمن.

١٧٢

الجنّة : «وعزتي وجلالي ، وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلنّ لهم اليوم خمسة أشياء : ألا إنّهم شباب لا يهرمون ، وأصحاء لا يسقمون ، وأغنياء لا يفتقرون ، وفرحون لا يحزنون ، وأحياء لا يموتون» ثمّ تلا هذه الآية : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١).

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٦٣٤.

١٧٣

الآيتان

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

التّفسير

ارتقب فإنهم مرتقبون!

قلنا : إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه ، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم ، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها ، وما هو مبيّن أيضا بين البداية والنهاية هو التأكيد على مواعظ القرآن ونصحه.

تقول الآية الأولى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فمع أنّ محتواه عميق جدا ، وأبعاده مترامية ، لكنه بسيط واضح ، يفهمه الجميع ، وتقتبس من أنواره كلّ الطبقات ، أمثاله جميلة رائعة ، وتشبيهاته واقعية بليغة ، وقصصه حقيقية تربوية ، دلائله واضحة محكمة ، وبيانه مع عمقه بسيط سهل ، مختصر عميق المحتوى ، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية ، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر ، فينبه الغافلين ،

١٧٤

ويعلم الجاهلين ، ويذكر من كان له قلب.

وقد ذكر بعض المفسّرين تفسيرا آخر لهذه الآية ، يكون معنى الآية طبقا له : إنّك وإن كنت أميّا لم تدرس وتتعلم ، لكنك تستطيع أن تقرأ بكلّ يسر وسهولة هذه الآيات العميقة الغنية المحتوى ، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي. غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وهذه الآية ـ في الواقع ـ شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرات في سورة القمر : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟! لكن لما كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر الله ، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف ، فقد هددتهم الآية الأخيرة وحذرتهم فقالت : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) فانتظر ما وعدك الله بالنصر على الكفار ، ولينتظروا الهزيمة والخسران ...

انتظر نزول عذاب الله الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين ، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية ، ليعلم أي الانتظارين هو الصحيح؟

بناء على هذا ، ينبغي أنّ لا يستفاد أبدا من الآية أنّ الله سبحانه يأمر نبيّه أن يكف كليا عن إبلاغهم رسالته ، وينهي نشاطه وفعالياته وجهاده ، ويكتفي بأنّ يكون منتظرا للنتيجة ، وإنّما هو نوع تهديد لأولئك المتعصبين عسى أن يستيقظوا من سباتهم ، وينتبهوا من غفلتهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ «ارتقب» في الأصل مأخوذة من الرقبة ، ولما كان من ينتظر شيئا يمد رقبته نحوه دائما ، فقد جاءت بمعنى انتظار الشيء ومراقبته.

١٧٥

٢ ـ إنّ الآيات إعلاء تبين بوضوح أنّ القرآن الكريم لا يختص بطبقة خاصّة أو قوم معينين ، بل هو لإفهام الجميع وتذكيرهم وإثارة تفكرهم ، وعلى هذا ، فإنّ أولئك الذين يجعلون القرآن مجموعة من المفاهيم المبهمة الألغاز المحيرة التي لا يفهمها ولا يعلمها إلّا طبقة خاصّة ، بل وحتى هذه الطبقة لا تفهم منه شيئا ولا تدرك أبعاده ، غافلون في الحقيقة عن روح القرآن.

إنّ القرآن يجب أن يحيا بين الناس ويحضر بينهم حيثما كانوا ، في المدينة والقرية ، في الخلاء والملأ ، في المدار الابتدائية والجامعات ، في المسجد وميادين الحرب ، وفي كلّ مكان يوجد فيه إنسان ، لأنّ الله سبحانه قد يسّره ليتذكر الجميع ويقتبسوا من أنواره ما يضيئون به حياتهم.

وكذلك قضت هذه الآية ببطلان أفكار أولئك الذين حبسوا القرآن في إطار طريقة تلاوته وقواعد تجويده وتعقيداتها ، وأصبح همهم الوحيد أداء ألفاظه من مخارجها ، ومراعاة آداب الوقف والوصل فتقول لهم : إنّ كلّ ذلك من أجل التذكر الذي يكون عامل حركة وباعثا على العمل في الحياة ، فإنّ رعاية ظواهر الألفاظ صحيح في محله ، إلّا أنّه ليس الهدف النهائي ، بل الهدف هو فهم معاني القرآن لا ألفاظه.

٣ ـ ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن ، وأنى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال» (١).

اللهمّ اجعلنا ممن يتعظ بالقرآن العظيم ، ويتذكر ويتدبر فيه ، ويجعل حياته في جميع أبعادها تبعا لمفاهيمه وأحكامه.

اللهمّ امنحنا من ذلك الأمن الذي وهبته المتقين ، فجعلتهم مطمئنين موقنين

__________________

(١) تفسير روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٤٣٣.

١٧٦

أمام عواصف الأحداث والمصاعب الجمة التي تعترضهم.

إلهنا ... إنّ مواهبك لا تحصى ، ورحمتك لا تحد ، وعذابك أليم ، وليست أعمالنا بالتي تجعلنا مؤهلين لنيل رحمتك والنجاة من عذابك.

اللهمّ فانشر علينا من رحمتك ، وأفض علينا من فضلك الذي وعدت به المتقين من عبادك ، وإلّا فلا سبيل لنا إلى جنتك الخالدة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الدخان

* * *

١٧٧
١٧٨
١٧٩

سورة

الجاثية

مكيّة

وعدد آياتها سبع وثلاثون آية

١٨٠