الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

وكم هي جميلة التعابير القرآنية في هذا المجال ، وذلك عند ما تصف البعض بأنّهم ذو وصدور منشرحة وأرواح واسعة ، وتصف البعض الآخر بأنّهم ذو وصدور ضيقة ، كما ورد في الآية (١٢٥) من سورة الأنعام : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ).

هذا الموضوع يتّضح بصورة كاملة في حالة دراسة أوضاع وأحوال الأشخاص ، فالبعض لهم صدور منشرحة رحبة تتسع لاستيعاب أيّ مقدار من الحقائق ، في حين أنّ البعض الآخر على العكس ، إذ أنّ صدورهم ضيقة وأفكارهم محدودة لا يمكنها أحيانا استيعاب أيّ حقيقة ، وكأن عقولهم محاطة بجدران فولاذية لا يمكن اختراقها. وبالطبع لكلّ واحد منهما أسبابه.

فالدراسة الدائمة والمستمرة والاتصال بالعلماء والحكماء الصالحين ، وبناء الذات وتهذيب النفس ، واجتناب الذنوب وخاصة أكل الطعام الحرام ، وذكر الله دائما ، كلها أسباب وعوامل لانشراح الصدر ، وعلى العكس فإنّ الجهل والذنب والعناد والجدل والرياء ، ومجالسة أصحاب السوء والفجار والمجرمين وعبيد الدنيا والشهوات ، كلّها تؤدّي إلى ضيق الصدر وقساوة القلب.

فعند ما يقول القرآن الكريم : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً). فهذه الإرادة وعدم الارادة ليست اعتباطية وبدون دليل. بل هي نابعة من اعماقنا وذواتنا في البداية.

وقد ورد حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام جاء فيه : «أوحى الله عزوجل إلى موسى : يا موسى لا تفرح بكثرة المال ، ولا تدع ذكري على كلّ حال ، فإن كثرة المال تنسي الذنوب ، وإن ترك ذكري يقسي القلوب» (١).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، جاء فيه : «ما جفت الدموع إلّا

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، الصفحة ٥٥ ، الحديث ٢٣.

٦١

لقسوة القلوب ، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب» (١).

كما ورد في حديث ثالث أنّ من جملة كلام الله سبحانه وتعالى مع موسى عليه‌السلام «يا موسى لا تطول في الدنيا أملك ، فيقسو قلبك ، والقاسي القلب مني بعيد» (٢).

وأخيرا ، ورد حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام جاء فيه : «لمتان : لمة من الشيطان ولمة من الملك ، فلمّة الملك الرقة والفهم ، ولمّة الشيطان السهو والقسوة» (٣).

على أية حال ، فإن من يريد انشراح صدره وإزالة القساوة من قلبه ، عليه أن يتوجه نحو البارئ عزوجل كي يبعث الأنوار الإلهية في قلبه كما وعد بذلك الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعليه أن يصقل مرآة قلبه من صدأ الذنوب ، ويطهّر روحه من أوساخ هوى النفس والوساوس الشيطانية ، استعدادا لاستقبال المعشوق ، وأن يسكب الدموع خوفا من الله وحبا له ، فإنّ في ذلك تأثيرا عجيبا لا نظير له على رقّة ولين القلب ورحابة الروح ، وفي المقابل فان جمود العين هو إحدى علامات القلب المتحجر.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٧٠ ، الصفحة ٥٥ ، الحديث ٢٤.

(٢) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب القسوة الحديث (١).

(٣) نفس المصدر السابق الحديث (٣).

٦٢

الآيات

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين عن (عبد الله بن مسعود) أنّ جمعا من الصحابة ملّوا وتضجّروا ، فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حدّثنا حديثا يزيل السأم من نفوسنا والملل من قلوبنا ، فنزلت أول آية من الآيات المذكورة أعلاه معرّفة القرآن بـ (أحسن الحديث) (١).

__________________

(١) سبب النّزول ورد باختلاف يسير في تفسير (الكشاف) المجلد الرابع ص ١٢٣ وفي تفسير (القرطبي) و (الآلوبسي) و (أبو

٦٣

التّفسير

الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبل الحقّ.

الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرق إلى هذا الأمر ، كي تكمل حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوّة ، إذ تقول الفقرة الأولى من الآية : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).

ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم ، حيث تشرح الخصائص المهمّة للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له :

أمّا الخاصية الأولى فهي (كِتاباً مُتَشابِهاً)

المقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض ، فلا تعارض فيه ولا تضادّ ، وكلّ آية فيه أفضل من الأخرى والمتماثل من حيث اللطف والجمال والعمق في البيان.

وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان ، والتي مهما اعتنى بصياغته فإنّها لن تخلو من الاخطاء والاختلافات والتناقضات ، خصوصا عند ما يتسع مجالها وتأخذ أبعادا أوسع ، إذ تلاحظ أنّ بعضها في قمّة البلاغة ، والبعض الآخر عادي وطبيعي ، ودراسة آثار الكتّاب الكبار المعروفين في مجالي النثر والشعر هي خير شاهد على هذا الموضوع.

أمّا كلام الله المجيد فليس كذلك ، إذ نرى فيه انسجاما خارقا ، وتناسقا لا نظير له في المفاهيم والفصاحة والبلاغة ، وهذا بحدّ ذاته يجعل آيات القرآن تحكم وتشهد بأنّه ليس من كلام البشر.

__________________

ـ الفتوح الرازي) وغيرها ، وذلك في ذيل آيات البحث.

٦٤

أما الخاصية الثّانية فهي (مَثانِيَ) ـ أي المكرر ـ

وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه ، التكرار الذي لا يملّ منه الإنسان ، وإنّما على العكس من ذلك ، إذ يتشوق لتلاوته أكثر ، وهذه إحدى أسس الفصاحة ، إذ يعمد الإنسان أحيانا إلى التكرار وبصور مختلفة وأساليب متنوعة ، وذلك إذا أراد التأكيد على أمر ما وجلب الانتباه إليه والتأثّر به ، كي لا يملّ السامع أو يضجر منه.

إضافة إلى أنّ مواضيع القرآن المكررة تفسّر إحداها الأخرى ، وتحل الكثير من ألغازه عن هذا الطريق.

بعضهم اعتبرها إشارة إلى تكرار تلاوة القرآن وبقائه غضا طريا من جراء تكرار تلاوته.

والبعض الآخر اعتبرها إشارة إلى تكرار نزول القرآن ، فمرّة نزل دفعة واحدة على صدر الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك في ليلة القدر ، ومرّة أخرى بصورة تدريجية استمرت لفترة (٢٣) عاما.

ومن المحتمل أن يكون المراد من التكرار هو ملاءمة القرآن لكلّ زمان ، وانكشاف بعض الأمور الغيبية فيه بمرور السنوات.

والتّفسير الأوّل أنسب من بقية التفاسير ، رغم عدم وجود أيّ تعارض بين الجميع ، بل من الممكن أن تكون جميعها صحيحة (١).

أمّا الخاصية الثّالثة فهي تقشعر منه الجلود

وهذه الخاصية للقرآن فهي مسألة نفوذه وتأثيره العميقين والخارقين (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ).

__________________

(١) قال الزمخشري في الكشاف : إن (مثاني) يمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مصلّى) وتعني المكرّر ، ويمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مبنى) من التثنية بمعنى التكرار ، الكشاف ، المجلد الرابع ، الصفحة ١٢٣.

٦٥

إنّه لوصف وتجسيد لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق القلوب ، إذ أنّه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئا من الخوف والرهبة ، الخوف الذي يكون أساسا للصحوة ولبدء الحركة ، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس مسئولياته المختلفة. ثمّ تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات الله وتتبعها السكنية والاستقرار.

هذه الحالة التدريجية التي تبيّن مراحل (السلوك إلى الله) المختلفة ، يمكن إدراكها بسهولة ، فالقلوب تقشعر فور ما تسمع آيات التهديد والتحذير النازلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ تهدأ فور ما تسمع آيات الرحمة.

التفكير بذات الله ومسألة أبديته وأزليته وعدم محدوديته يوجد عند الإنسان حالة من الرهبة في كيفية معرفة الله ، إلّا أنّ دراسة آثار ودلائل ذاته المقدسة في الآفاق والأنفس تمنح الإنسان نوعا من الارتياح والهدوء (١).

والتأريخ الإسلامي مليء بالشواهد على التأثير العجيب للقرآن في قلوب المؤمنين ، وحتى غير المؤمنين من أصحاب القلوب المستعدة لتقبل الإيمان ، فالجاذبية أو النفوذ الخارق للقرآن دليل واضح على أنّ القرآن كتاب نزل من السماء بواسطة الوحي.

وقد ورد حديث عن (أسماء) ، جاء فيه (كان أصحاب النّبي حقا إذا قرئ عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم) (٢).

أمير المؤمنين عليه‌السلام وصف هذه الحقيقة بأفضل وجه في الخطبة الخاصة بالمتقين ، إذ قال : «أمّا الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ،

__________________

(١) (تقشعر) من مادة (قشعريرة) وقد ذكر اللغويون والمفسّرون معاني مختلفة ومتقاربة بعض الشيء ، فالبعض قال : إنّها تعني انكماش جلد البدن (حالة نصيب الإنسان أثناء خوفه) والبعض قال : إنّها الرجفة التي تصيب الإنسان في حالة الخوف ، والبعض الآخر قال : إنّها تعني وقوف شعر البدن ، وفي الحقيقة فإنّ كلّ حالة من هذه الحالات ملازمة للأخرى.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٦٩٣ ، عن التأثير العميق والخارق لآيات القرآن ، أوردنا روايات عديدة في ذيل الآية ٩٢ من سورة آل عمران.

٦٦

يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم».

وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بيّن تلك الخصائص : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ).

حقا إنّ القرآن نزل لهداية الجميع ، لكن المتقين وطلاب الحقّ والحقيقة هم المستفيدون ـ فقط ـ من نوره ، أمّا أولئك الذين تعمدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم أمام نور القرآن الكريم ، والذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد فقط لا يستفيدون من نور القرآن ، وإنّما يزدادون ضلالة من جراء عنادهم وعدائهم ، لذلك فإن تتمة الآية تقول : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده ، ويحكم بناء أساسها بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة ، ولذلك لا تتنافى إطلاقا مع إرادة الإنسان وحريته.

الآية التالية تقارن بين مجموعة من الظالمين والمجرمين ، ومجموعة من المؤمنين الذين استعرضت أوضاعهم فيما قبل ، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر وضوحا في هذه المقارنة ، إذ تقول : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) كمن هو آمن في ذلك اليوم ولا تمسّه النّار أبدا؟!.

الملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها ، هي قوله تعالى : (يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) وكما هو معروف فإنّ الوجه أشرف أعضاء جسم الإنسان ، لأنّ فيه (العينان والفم والأذنان) التي هي أهم حواسّ الإنسان ، وأساسا فإنّ تشخيص الإنسان إنّما يتمّ عن طريق وجهه ، ولهذه الخصائص الموجودة في الوجه ، فإنّ

__________________

(١) هذه العبارة فيها محذوف ، التقدير (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن لا تمسه النار).

٦٧

الإنسان عند ما يحسّ أنّ هناك خطرا سيصيب وجهه ، فإنّه يضع يديه وما يمكن من أعضاء جسمه أمام وجهه كدرع لدرء ذلك الخطر.

إلا أن أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدم وجوههم كوسيلة دفاعية ، لأنّ أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل ، كما ورد في الآية (٨) من سورة يس : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ).

قال البعض : بما أنّ أهل جهنم يرمون على وجوههم في النّار ، لذا فإنّ الوجه هو أوّل عضو من أعضاء الجسم يحترق في نار جهنم ، كما ورد في الآية (٩٠) من سورة النمل : (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).

والبعض الآخر قال : إنّ هذه العبارة كناية عن عجز أهل جهنم من الدفاع عن أنفسهم مقابل نار جهنم.

التفاسير الثلاثة ـ هذه ـ لا تتعارض مع بعضها ، ويمكن أن تعطي جميعها مفهوم الآية.

ثم تضيف نهاية الآية : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

نعم ، إنّ ملائكة العذاب هي التي توضح لهم هذه الحقيقة المرّة والمؤلمة ، إذ يقولون لهم : إنّ أعمالكم ستبقى معكم وستعذبكم ، وهذا التوضيح هو تعذيب روحي آخر لهؤلاء.

وممّا يلفت النظر أنّ هذه العبارة لا تقول : ذوقوا عقاب ما كنتم تكسبون ، وإنّما تقول لهم : ذوقوا ما كنتم تكسبون ، وهذا شاهد آخر على مسألة تجسيد الأعمال يوم القيامة.

إنّ ما قيل لحدّ الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة ، والآية التالية تتحدّث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء ، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا ، قال تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ

٦٨

لا يَشْعُرُونَ).

فالإنسان لا يتألم كثيرا إن أصيب بضربة كان يتوقعها ، إلّا أنّه يتألم كثيرا إن وجهت إليه ضربة من طرف لم يتوقع أن تصدر منه ، كأن تصدر عن أقرب أصدقائه ، أو يلحق به أذى من أمور حيوية جدا ومحبوبة له كالماء الذي هو مصدر حياة الإنسان ، أو من نفحة النسيم التي هي مصدر نشاطه ، أو من الأرض الهادئة التي هي مقر استراحته وأمنه.

نعم ، إنّ نزول العذاب الإلهي بواسطة هذه الطرق يعدّ أمرا مؤلما جدّا ، كالذي أصاب قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون وقارون وأمثالهم ، إذ لم يكن أي أحد منهم يتوقع أن يصيبه العذاب بواسطة إحدى الطرق المذكورة أعلاه.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي ، وإنّما يشتمل أيضا على عقوبات نفسية : (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (١).

نعم ، فإن أصيب الإنسان بمصيبة في هذه الدنيا ، ثمّ خرج منها مرفوع الرأس حافظا لماء وجهه ، فهذه الحالة ليست بعار وخزي على الإنسان ، إنّما العار والخزي للإنسان الذي يخرج من هذه الدنيا رذيلا وذليلا ، ومبتلى بعذاب فاضح يريق ماء وجهه ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته.

* * *

بحث

وردت عدّة روايات في ذيل الآيات مورد البحث تجسّم أمامنا آفاقا أوسع مهما يفهم من الآية.

__________________

(١) كلمة (خزي) تعني الذلّ والهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).

٦٩

إذ نقل العباس عم النّبي ، حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء في ، «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» (١).

ومن الواضح أن الشخص الذي يخشى الله ويتأثر من ذلك الى هذه الدرجة لا بدّ أن تتوفر فيه حالة التوبة والانابة ، ومثل هذا الشخص سيكون موردا لعفو الله ومغفرته حتما.

وروي عن (أسماء) إذ قالت عند ما سئلت عن أصحاب رسول الله فقالت : (كان أصحاب النّبي حقا إذا قرئ عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم). وأضاف الراوي : سئلت أسماء : هل عندنا أحد يغمى عليه أو يفقد الوعي عند ما يسمع آيات القرآن المجيد ، فأجابت أسماء : أعوذ بالله تعالى من الشيطان ، (أي إنّه من عمل الشيطان) (٢).

هذا الحديث ـ في الحقيقة ـ جواب لأولئك المتصوفة الذين يعقدون الاجتماعات والحلقات ، ويقرءون فيها بعض الآيات والأذكار ، ثمّ يقومون ببعض الحركات بعنوان حالة الوجد والسرور ، ثمّ يشرعون بإطلاق بعض الصيحات وإظهار أنفسهم وكأنّهم قد أغشي عليهم ، ويحتمل أن البعض يغشى عليه فعلا. مثل هذه الأمور لم ينقلها أحد أبدا بشأن أصحاب الرّسول ، وما هي إلّا بدعة ابتدعها المتصوفة.

وبالطبع يمكن أن يندهش الإنسان أحيانا وقد يغشى عليه من شدّة خوفه من البارئ عزوجل ، وهذا الأمر يختلف كثير عن ممارسة الصوفيين الذين يعقدون الحلقات للذكر التي ذكرناها آنفا.

* * *

__________________

(١) (مجمع البيان) ذيل آيات البحث ، كما نقل هذه الرواية أبو الفتوح الرازي والقراطبي مع شيء من الاختلاف.

(٢) أورد الآلوسي هذا الحديث في روح المعاني ، المجلد ٢٣ ، الصفحة ٢٣٥ ، كما أورده بعض المفسّرين في ذيل الآية.

٧٠

الآيات

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

التّفسير

قرآن لا عوج فيه :

الآيات ـ هنا ـ تبحث خصائص القرآن المجيد أيضا ، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال.

ففي البداية تتحدّث عن مسألة شمولية القرآن ، إذ تقول الآية الكريمة : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

حيث تمّ فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة ، وعواقب الذنوب الوخيمة ، ونصائح ومواعظ ، وأسرار الخلق ونظامه ، وأحكام وقوانين متينة.

٧١

وبكلمة أنّه وضح فيه كلّ ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال ، لعلهم يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

وممّا يذكر أنّ «المثل» في اللغة العربية هو الكلام الذي يجسّم الحقيقة ، أو يصف الشيء ، أو يشبه الشيء بشيء آخر ، وهذه العبارة شملت كلّ حقائق ومواضيع القرآن ، وبيّنت شموليته.

ثم تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن ، إذ تقول : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (١).

في الحقيقة ، تمّ هنا ذكر ثلاث صفات للقرآن :

الأولى كلمة (قرآنا) التي هي إشارة إلى حقيقة أنّ الآيات الكريمة ستبقى تتلى دائما ، في الصلاة وفي غير أوقات الصلاة ، في الخلوات وفي أوساط الناس ، وعلى طول التاريخ الإسلامي حتى قيام الساعة ، وبهذا الترتيب فإن آيات القرآن ستبقى نور الهداية المضيء على الدوام.

الصفة الثّانية هي فصاحة وحلاوة وجاذبية هذا الكلام الإلهي ، الذي عبّر عنه بـ (عربيا) لأنّ إحدى معاني العربي هي الفصاحة ، والمقصود منه هنا هذا المعنى.

الصفة الثّالثة ، ليس فيه أي اعوجاج ، فآياته منسجمة ، وعباراته ظاهرة ويفسّر بعضها البعض (٢).

الكثير من اللغويين وأصحاب التّفسير قالوا : إنّ (عوج) (بكسر العين) تعني الانحرافات المعنوية ، في حين أنّ (عوج) بفتح العين ، تعني الاعوجاج الظاهر.

ومن النادر استعمال العبارة الأولى في الاعوجاج الظاهري ، ما في الآية (١٠٧) من سورة طه : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) لهذا فإنّ بعض اللغويين يعتبرونها أكثر

__________________

(١) الموقع الإعرابي لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال لـ (القرآن) التي ذكرت من قبل ، ولكون كلمة (قرآنا) لا تحمل طابع الوصف فقد قال البعض : إنّها توطئة للحال الذي هو (عربيا) وذهب البعض الى أنها بمعنى (مقروءا) وتعطي معنى الوصف ، والبعض قال : إنّها منصوبة على المدح بتقدير فعل.

(٢) كلمة (عوج) جاءت بصورة نكرة في سياق النفي ، وتعطي معنى النفي العام لعدم لوجود أي انحراف وانعطاف في القرآن.

٧٢

عمومية (١).

وعلى أية حال ، فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم ـ بكل هذه الصفات التي ذكرناها ـ هو (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية السابقة انتهت بعبارة : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) وهنا انتهت بعبارة : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لأنّ التذكّر يكون دائما مقدّمة للتقوى و «التقوى» هي ثمرة شجرة «التذكر».

ثمّ يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله مصير الموحّد والمشرك ، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل ، إذ يقول : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) (٢).

أي إنّ هناك عبدا يمتلكه عدّة أشخاص ، كلّ واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر معين ، فهذا يقول له : نفذ العمل الفلاني ، والآخرة ينهاه عن تنفيذ ذلك العمل ، وهو في وسطهم كالتائه الحيران ، لا يدري أي أمر ينفّذ ، فالأمران متناقضان ومتضادان ، ولا يدري أيّا منهما يرضيه؟

والأدهى من كلّ ذلك أنّه عند ما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته ، يرميه على الآخر ، والآخر يرميه على الأوّل ، وهكذا يبقى محروما محتاجا عاجزا تائها. وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ).

فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح ، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض ، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة ، ويعمل تحت رعاية فرد يدعمه في كلّ شيء وفي كلّ أمر وفي كلّ مكان. فهل أنّ هذين الرجلين متساويان (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً).

__________________

(١) يراجع (مفردات الراغب) و (لسان العرب) وغيرها من التفاسير.

(٢) «متشاكسون» : أصلها من (شكاسة) وتعني سوء الخلق والتنازع والاختصام ، ولهذا يقال «متشاكس» لمن يتخاصم ويتنازع بعصبية وسوء خلق.

٧٣

هذا المثال ينطبق على (المشرك) و (الموحد) فالمشرك يعيش في وسط المتضادات والمتناقضات ، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد ، فلا استقرار في حياته ولا اطمئنان ولا مسير واضح يسلكه. أما الموحّدون فإنّهم يعشقون الله وحده ، وفي كلّ الأحوال يلجؤون إلى ظلّ لطفه ، ولا تنظر عيونهم إلى سواه ، فطريقهم ونهجهم واضح ، ومصيرهم ونهايتهم واضحة أيضا.

وجاء في حديث لأمير المؤمنين عليه‌السلام «أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله» (١).

وورد في حديث آخر عنه أيضا «الرجل السلم للرجل حقا عليّ وشيعته» (٢).

وفي نهاية الآية يقول تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فالله سبحانه وتعالى بذكره لتلك الأمثال يرشدكم إلى أفضل السبل ، ويضع تحت تصرفكم أوضح الدلائل لتشخيص الحقّ عن الباطل ، فالبارئ عزوجل يدعو الجميع إلى الإخلاص وفي ظل الإخلاص تكون السكينة والراحة ، فهل هناك نعمة أفضل من هذه ، وهل هناك أمر آخر يستحق الحمد والشكر أكثر من هذه النعمة؟!

ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة ، إذ أنّ حبّ الدنيا والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وتتمّة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك ، تتحدث الآية التالية عن نتائج الشرك والتوحيد في موقف القيامة.

إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوابة القيامة ، وتبيّن لكلّ البشرية أنّ قانون الموت عامّ ، وشامل للجميع : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣).

__________________

(١) نقله (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) في شواهد التنزيل.

(٢) نقله العياشي في تفسيره مجمع البيان ، ذيل آيات البحث.

(٣) عبارة (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) على الظاهر تعطي معنى موت الجميع في الوقت الحاضر ، وهي من قبيل (المضارع المتحقق الوقوع) الذي يأتى أحيانا بصورة حال وأحيانا اخرى بصورة الماضي.

٧٤

نعم ، فالموت من الأمور التي تشمل جميع الناس ، ولا يستثنى منه أحد ، فهو طريق يجب أن يمرّ به الجميع في نهاية المطاف.

قال بعض المفسّرين : إنّ أعداء رسول الله كانوا ينتظرون وفاته ، وكانوا في نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يموت في نهاية الأمر ، فالقرآن ـ هنا ـ أجابهم بالقول : إن مات رسول الله فهل تبقون أنتم خالدين ، هذا ما نصت عليه الآية (٣٤) من سورة الأنبياء : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ).

ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة ، ليجسم المجادلة بين العباد في ساحة المحشر ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).

«تختصمون» : مشتقّة من (اختصام) وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو مجموعتين تحاول كل ، منهما تفنيد كلام الأخر ، فأحيانا يكون أحدهم على حقّ والآخر على باطل ، وأحيانا يكون الاثنان على باطل ، كما في مجادلة ومخاصمة أهل النّار فيما بينهم ، وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الحكم عاما أم لا.

قال البعض : إنّ المخاصمة تقع بين المسلمين والكفار.

وقال البعض الآخر : إنّها تقع بين المسلمين أنفسهم ، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قال : لم يكن أحد فينا يفكر في أن يقع خصام فيما بين المسلمين ، وكنّا نقول : كيف نختصم نحن وربّنا واحد ، ونبيّنا واحد وديننا واحد؟ فلما كان يوم صفين وشدّ الفريقان الذين كانا مسلمين (حيث كان أحدهما مسلما حقيقيا والآخر يدعي الإسلام) بالسيوف على بعضهما البعض ، قلنا : نعم ، الآية تشملنا نحن أيضا (١).

ولكن الآيات التالية تبيّن أنّ المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة ، والمشركين المكذبين من جهة اخرى.

لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام عمر بن الخطاب ، فقال : إنّ رجالا من المنافقين

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٨ ، الصفحة ٤٩٧.

٧٥

يزعمون أنّ رسول الله قد توفّي والله رسول الله ما مات ، ولكنّه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، وو الله ليرجعنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات؟.

وقال الرّاوي : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلّم الناس ، فلم يلفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة؟ ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال الراوي : قال أبو بكر : على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلّا أن يتكلم ثمّ تلا أبو بكر هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ).

قال الرّاوي : فو الله لكأنّ الناس يعلموا أنّ هذه الآية ما نزلت حتى تلا أبو بكر ثمّ قال عمر : والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها فعفرت (١) حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني ، رجلاي (٢).

* * *

__________________

(١) غفرت : وحشت

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلد الرابع ، الصفحات ٣٠٥ و ٣٠٦ ، نقلا عن الكامل لابن الأثير ، المجلد الثّاني ، الصفحة ٣٢٣ و ٣٢٤ ، مع شيء من التلخيص.

٧٦
٧٧

بداية

الجزء الرابع والعشرون

من

القران الكريم

٧٨

الآيات

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

التّفسير

أولئك الذين يصدقون كلام الله :

هذه الآيات تواصل البحث الخاصّ بموقف الناس في ساحة المحشر ، وتخاصمهم في تلك المحكمة الكبرى ، وتقسم آيات بحثنا إلى مجموعتين هما (المكذبون) و (المصدقون).

والقرآن الكريم يعطي صفتين لأصحاب المجموعة الأولى ، أي «المكذبين» ، قال تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ).

الكافرون والمشركون يكذبون كثيرا على البارئ عزوجل ، فأحيانا يعتبرون الملائكة بنات الله ، وأحيانا يقولون : عيسى هو ابن الله ، وأحيانا اخرى

٧٩

يعتبرون الأصنام شفعاء لهم عند الله ، وأحيانا يبتدعون أحكاما كاذبة في الحلال والحرام وينسبونها إلى الله ، وما شابه ذلك.

وأمّا الكلام الصادق الذي أنزل إليهم وكذّبوه فهو القرآن المجيد.

خاتمة الآية تبيّن في جملة قصيرة جزاء أمثال هؤلاء الأفراد ، قال تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (١).

أمّا المجموعة الثّانية فقد وصفها القرآن الكريم بوصفين ، إذ قال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

فبعض الرّوايات الواردة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام فسّرت : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) بأنّها تعود على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و (صَدَّقَ بِهِ) تعود على علي عليه‌السلام (٢) ، وبالطبع فإن المقصود من ذلك هو باين مصداقية الآية ، لأنّ عبارة : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) دليل على شمولية الآية.

ومن هنا يتّضح أنّ تفسير الآية المذكورة أعلاه بأن المراد شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو مهبط الوحي والمصدق به في نفس الوقت ، فهو أيضا من قبيل بيان مصداق الآية وليس بيان المفهوم العام لها.

لذلك فإنّ مجموعة من المفسّرين فسّروا عبارة قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) بأنّه يعني كلّ الأنبياء و (صَدَّقَ بِهِ) يعني أتباعهم الحقيقيين ، وهم المتقون.

وهناك تفسير آخر للآية ، لكنّه أوسع وأكثر شمولية من التفاسير الأخرى ، رغم أنّه لم يحظ كثيرا باهتمام المفسّرين ، لكنّه أكثر انسجاما مع ظاهر الآيات ، والتّفسير هو أن (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) ليس منحصرا في الرّسل فقط ، وإنّما يشمل كلّ الذين يبلغون نهج الأنبياء ويروجون كلام الله ، وفي هذه الحالة فلا يوجد أي

__________________

(١) «مثوى» : من مادة (ثواء) وتعني الإقامة المستمرة في مكان ما ولهذا فإنّ (مثوى) هنا تعني المكان والمنزل الدائم.

(٢) مجمع البيان ذيل آيات البحث.

٨٠