الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-50-5
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٦٠٧

العالم ، وكانت في حركة دائبة ، وليست مثل السفن العادية التي لها مرفأ تتجه إليه مقتدية بالنجوم.

لقد كان الهدف السفينة نفسها ، والنجاة من الغرق ، حتى غاظ الماء واستوت على الجودي.

إضافة إلى ذلك فإنّ بعض الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة تنقل عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف في الدين» (١).

٣ ـ تفسير «ومن يقترف حسنة ...»

«اقترف» في جملة : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) مأخوذة في الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة ، أو من الجروح الحاصلة ، حيث تكون أحيانا علامة على شفاء الجرح وتحسنه ، هذه الكلمة استخدمت فيما بعد في الاكتساب سواء كان حسنا أو سيئا.

ولكن كما يقول الراغب ـ فإن هذا المصطلح استخدم في السيئات أكثر ممّا هو في الحسنات (بالرغم من أن الآية التي نبحثها استخدمته في الحسنات). لذلك فإن هناك مثل معروف يقول : الاعتراف يزيل الاقتراف.

والطريف في الأمر أنّ بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و (السدّ) أن المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمّد (٢).

وجاء في حديث ذكرناه سابقا عن الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام : «اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».

__________________

(١) نقل (الحاكم) هذا الحديث عن ابن عباس في المجلد الثّالث (المستدرك) ص ١٤٩ ، ثمّ يقول : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) مجمع البيان ـ نهاية الآيات التي نبحثها ، وتفسير الصافي والقرطبي.

٥٢١

وواضح أنّ المقصود من هذه التفاسير أن معنى اكتساب الحسنة لا يتحدد بمودّة أهل البيت عليهم‌السلام ، بل له معنى أوسع وأشمل ولكن بما أن هذه الجملة وردت بعد قضية مودّة ذي القربى ، لذا فإن أوضح مصداق لاكتساب الحسنة هو هذه المودّة.

٤ ـ مكان نزول هذه الآيات

هذه السورة (سورة الشورى) من السور المكّية ، كما قلنا في البداية ، إلّا أن بعض المفسّرين يعتقدون أن هذه الآيات الأربع (٢٣ ـ ٢٦) نزلت في المدينة ، وسبب النّزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.

وأيضا فإنّ الرّوايات التي تفسر أهل البيت بعلي وفاطمة وابنيهما الإمام الحسن والحسين عليهما‌السلام تناسب هذا المعنى ، لأنّنا نعلم أن زواج علي من سيدة النساء عليهما‌السلام تمّ في المدينة ، وولادة الحسن والحسين عليهما‌السلام كانتا في العام الثّالث والرابع الهجري على ما رواه المؤرخون.

* * *

٥٢٢

الآيات

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

التّفسير

يقبل التوبة عن عباده :

هذه الآيات تعتبر استمرارا للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها ، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت عليهم‌السلام.

فأوّل آية تقول : إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي ، بل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) ويجردك من قابلية إظهار هذه الآيات.

٥٢٣

وفي الحقيقة ، فإن هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف ، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوة ، وجاء بالآيات البينات والمعاجز ، وشمله النصر الإلهي ، فلو كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته ، كما ورد في الآيات (٤٤) إلى (٤٦) من سورة الحاقة : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ).

وقد ذكر بعض المفسّرين احتمالات اخرى في تفسير هذه الجملة ، إلّا أن ما قلناه أعلاه هو أفضل وأوضح التفاسير كما يظهر.

ونلاحظ أيضا أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي أنّه يعتبر أجر الرسالة في مودّة أهل بيته وأنّه يكذب على الخالق في هذا الأمر : (جاء ذلك وفقا للبحث في الآيات السابقة) إلّا أن الآية أعلاه نفت هذه التهمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن بالرغم من هذا ، فإن مفهوم الآية لا يختص بهذا المعنى ، فأعداء الرّسول كانوا يتهمونه بهذه التهمة في كلّ القرآن والوحي كما تقول الآيات القرآنية الأخرى ، حيث نقرأ في الآية (٣٨) من سورة يونس : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ).

وورد نفس هذا المعنى باختلاف بسيط في الآيات (١٣) و (٣٥) من سورة هود ، وقسم آخر من الآيات القرآنية ، حيث أنّ هذه الآيات دليل لما انتخبناه من تفسير للآية أعلاه.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) (١).

فهذه هي مسئولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقا لحكمته ، وإلّا

__________________

(١) لاحظوا أنّ «يمح» هي في الأصل كانت (يمحو) حيث سقطت الواو لأن الرسم القرآني ـ عادة ـ هكذا ، مثل (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) (الإسراء ـ ١١) و (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (العلق ـ ١٨) ، إلّا أنّه وفقا للرسم الحديث فإن الواو تذكر في جميع هذه الكلمات ، إلّا أنّها تحذف في القرآن غالبا.

٥٢٤

فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أن من الاخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا العمل مخفيا ذلك عن علم الخالق : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

وكا قلنا في تفسير الآية ٣٨ من سورة فاطر ، فإنّ (ذات) لا تعني في اللغة العربية عين الأشياء وحقيقتها ، بل هو مصطلح من قبل الفلاسفة (١) ، حيث أن ذات تعني ـ (الصاحب) ، عندها سيكون مفهوم جملة : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إن الخالق عليم بالأفكار والعقائد المسيطرة على القلوب ، وكأنما هي صاحبة هذا القلب ومالكته.

وهذه إشارة لطيفة إلى استقرار الأفكار وحاكميتها على قلوب وأرواح الناس (فدقق في ذلك).

وبما أن الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحا أمام العباد ، لذا فإن الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير إلى أن الأبواب التوبة مفتوحة دائما : ولذا تقول الآية محل البحث : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ).

إلّا أنكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالا اخرى ، فلا تتصوروا أن ذلك يخفى عن علم الخالق ، لأنّه : (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

وقلنا في سبب النّزول الذي ذكرناه في بداية الآيات السابقة ، أنّه بعد نزول آية المودّة ، قال بعض المنافقين وضعفاء الإيمان : إنّ هذا الكلام افتراه محمّد على الخالق ، ويريد به أن يذلنا بعده لأقربائه ، عندها نزلت آية : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ردّا عليهم ، وعند ما علموا بنزول هذه الآية تندم بعضهم وبكى وبات قلق البال ، في ذلك الوقت نزلت الآية : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ...) وبشرتهم بغفران

__________________

(١) راجع مفردات الراغب.

٥٢٥

الذنب إذا تابوا إلى الله توبة نصوحا.

أمّا آخر آية فتوضح الجزاء العظيم للمؤمنين ، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول : إنّ الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). بل : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا. (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).

وقد تمّ ذكر تفاسير مختلفة لأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين ، حيث أن بعض المفسّرين حدد ذلك في طلبات معينة ، منها :

أنّه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر.

ومنها أنّه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم.

ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لإخوانهم.

ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد ، حيث أن الخالق سيستجيب أي طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنّه سيهبهم من فضله أمورا قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها ، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية بخصوص المؤمنين.

وورد في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : «الشفاعة لمن وجبت له النّار ممن أحسن إليهم في الدنيا» (١).

ولا يعني هذا الحديث العظيم في معناه اقتصار الفضل الإلهي بهذا الأمر فحسب ، بل يعتبر أحد مصاديقه الواضحة.

* * *

__________________

(١) تفسير «مجمع البيان» نهاية الآيات التي نبحثها.

٥٢٦

الآيات

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

سبب النّزول

نقل عن الصحابي المعروف (خباب بن الأرث) أن الآية الأولى : (وَلَوْ بَسَطَ) ... نزلت فينا ، وذلك بسبب أنّنا كنّا ننظر إلى الأموال الكثيرة لبني قريظة وبني النظير وبني القينقاع من اليهود ، وكنّا نرغب بامتلاكنا لمثل هذه الأموال ، إلّا أن هذه الآية نزلت وحذرتنا من أن الخالق لو بسط لنا في الرزق فسوف نطغى (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، وتفسير القرطبي (نهاية الآية التي نبحثها).

٥٢٧

وفي تفسير (الدر المنثور) ورد حديث آخر ، وهو أن هذه الآية نزلت في أهل الصفّة ، لأنّهم كانوا يأملون بتحسن وضع دنياهم (١).

وهناك تفصيل في نهاية الآيات بخصوص أصحاب الصفة ومن هم؟

التّفسير

المترفون الباغون :

قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين ، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال : لماذا نرى البعض منهم فقراء ، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ).

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده ، وهذا يحدث بسبب : (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).

فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقا لمصلحته ، فلا يعطيه كثيرا لئلا يطغى ، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر.

وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (٦) و (٧) من سورة العلق : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

وهو حقّا كذلك ، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة ، وأنّه عند ما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة ، ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات ، ويفعلون ما لا ينبغي فعله ، ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض.

وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي)

__________________

(١) ينقل الدر المنثور هذا الحديث عن الحاكم والبيهقي وأبي نعيم (ج ٦ ص ٨).

٥٢٨

ليس الظلم والجور ، وإنّما (بغى) تعني (طلب) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر ، لأن عبارة : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض ، مثل : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) (١) و (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٢).

صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضا ، إلّا أنّها متى ما تذكر مع كلمة (في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج ، فلما ذا إذن نرى أشخاصا لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيرا في الدنيا ولم يمنعهم الخالق ، سواء على مستوى الأفراد ، أو الدول الناهبة والظالمة؟

وفي الجواب على هذا السؤال يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أن بسط الرزق أحيانا قد يكون أسلوبا للامتحان والاختبار ، لأن جميع الناس يجب أن يختبروا في هذا العالم ، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال.

وأحيانا قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة ، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم ، ونحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات ، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل ، كالخوف ، والقتل ، والتلوث الخلقي ، والقلق بأنواعه المختلفة.

فأحيانا تكون الثروة غير المحدودة نوعا من العقاب الإلهي الذي يشمل

__________________

(١) يونس ، الآية ٢٣.

(٢) آية ٤٢ من نفس هذه السورة.

٥٢٩

بعض الناس ، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة ، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التاسعة بأدنى حالاتها! ، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا ، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.

السؤال الآخر هو : ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيرا فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق ، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟

وللجواب على هذا السؤال نقول : إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحيانا ، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتما ، بل بسبب أعماله ، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقا لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة ، وسنة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الأطهار عليهم‌السلام.

ولكن عند ما يبذل الإنسان منتهى جهده ، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه ، عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر ، فلا يجزع ، ولا ييأس ، ولا ينطق بالكفر ، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضا.

وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبدا مع الطغيان عند بسط الرزق ، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال ، مثل : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).

صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد ، إلّا أنّه لا يمنعهم أو يحرمهم ، لذا فإن الآية التي بعدها تقول : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ).

ولماذا لا يكون هذا : (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)؟

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق ، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب ،

٥٣٠

فعند ما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح وترسلها على شكل سحب إلى السماء ، ثمّ تقوم طبقات الجو العليا الباردة بتكثيفها ، ثمّ تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة ، ثمّ تتحول أخيرا إلى قطرات مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض ، وتنفذ فيها دون تخريب.

نعم ، فلو دققنا النظر في هذا النظام ، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية فيه ، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كلّ حاجات العباد وتشملهم ألطافه العديدة.

ولا بدّ القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع ، كما يقول العديد من المفسّرين وبعض علماء اللغة ، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأخرى النافعة والضارة.

لذا ، فبعد تلك الجملة وردت عبارة : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ).

يا له من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة ، ونمو النباتات وتنظيف الهواء ، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية ، والخلاصة في جميع المجالات.

فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية ، فإنّ عليه أن يتوجه نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعند ما تشرق الشمس ، كي يشاهد الجمال واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كلّ مكان.

وقد تكوه الاستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذورا مشتركة مع (غوث) المأخوذة من الإغاثة ، ولهذا السبب فإن بعض المفسّرين اعتبر الكلمة أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته (١).

ولهذه المناسبة ـ أيضا ـ فإن الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : الغوث يقال في النصرة ، والغيث في المطر.

٥٣١

وقدرة الخالق ، حيث تقول : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ).

فالسموات بعظمتها ، بمجراتها وكواكبها ، بملايين الملايين من النجوم العظيمة اللامعة ، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها. والأرض بمنابعها الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه ... هذا من جانب.

ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء ، كأنواع الطيور ، ومئات الآلاف من الحشرات ، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة ، والزواحف ، والأسماك بأنواعها وأحجامها ، والعجائب المختلفة الموجودة في كلّ نوع من هذه الأنواع ، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل إلى كنهها بعد آلاف السنين من البحوث لملايين العلماء ، كلّ ذلك هو من آيات الخالق.

والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة ، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان ، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق ، ويبيّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود ، بلسان حاله.

وتقول الآية في نهايتها : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (١).

أمّا ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة ، ويمكن اعتبار الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية ٧ من نفس هذه السورة والآية ٩ من سورة التغابن).

__________________

(١) (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف ، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي ، مثل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جدا على شكله المضارع.

٥٣٢

وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو : هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم القيامة ، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحيانا أن كلمة (دابة) تطلق على غير الإنسان. وهنا ستطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان للحساب. في حين أنّها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف؟

وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (٣٨) من سورة الأنعام : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).

وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب ، فما المانع من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة لإرجاع جميع هذه الأمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من الحشر والحساب لها (اقرأ شرحا أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية ٣٨ من سورة الأنعام).

ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل لـ (بث) ، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها ، ثمّ إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أن العديد من الأحياء ـ (على مدى التاريخ) ـ انتشرت بشكل عجيب ، ثمّ انقرضت واختفت فيما بعد. كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق ، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول : يحيي ويميت (أي الخالق).

وبهذا فإنّ قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية.

النجوم السماوية الآهلة :

من الاستنتاجات المهمّة التي نستنتجها من خلال هذه الآية ، أنّها تدل على وجود مختلف الأحياء في السماوات ، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي

٥٣٣

للعلماء بهذا الخصوص ، إلّا أنّهم يقولون وعلى نحو الإيجاز : هناك احتمال قوي بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات حية ، إلّا أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة ، من خلال : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ).

وما يقوله بعض المفسّرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير سديد ، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معا ، وكذلك لا يصح ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة ، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية.

ويمكن استفادة هذا المعنى أيضا من خلال الآيات القرآنية المتعددة الأخرى.

وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه قال : «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور» (١).

وهناك روايات اخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب «الهيئة والإسلام» لمزيد من المعلومات).

وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية ، لذا يطرح سؤال في هذا المجال ، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا؟

الآية الأخرى تجيب على هذا السؤال وتقول : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

ثم إن هذا الجزاء ليس جزاء على جميع أعمالكم القبيحة ، لأنّه (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ـ كلمة نجم ـ المجلد الثّاني ـ ص ٥٧٤ ، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.

٥٣٤

ملاحظات

علّة المصائب :

ومن الضروري الانتباه إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الآية :

١ ـ تبيّن هذه الآية وبوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي (بالرغم من وجود بعض الاستثناءات التي سنشير إليها فيما بعد).

وبهذا الترتيب سيتوضح لنا جانب من فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية.

والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه نقل عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «خير آية في كتاب الله هذه الآية ، يا علي ما من خدش عود ، ولا نكبة قدم إلا بذنب ، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه ، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده» (١).

وهكذا فإنّ هذه المصائب إضافة إلى أنّها تقلل من حمل الإنسان ، فإنها تجعله يتزن في المستقبل.

٢ ـ بالرغم من عمومية الآية وشمولها كلّ المصائب ، لكن توجد استثناءات لكم عامّ ، مثل المصائب والمشاكل التي أصابت الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم‌السلام بهدف الاختبار أو رفع مقامهم.

وأيضا المصائب بهدف الاختبار التي تشمل غير المعصومين. أو المصائب التي تحدث بسبب الجهل أو عدم الدقة في الأمور وعدم الاستشارة والتساهل والتي هي آثار تكوينية لأعمال الإنسان نفسه.

وبعبارة اخرى فإن الجمع بين الآيات القرآنية المختلفة ـ والأحاديث ـ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، ص ٣١ (نهاية الآيات التي نبحثها) وقد ورد ما يشبه هذا الحديث في (الدر المنثور) وتفسير (روح المعاني) مع بعض الاختلاف وذلك في نهاية الآيات التي نبحثها ، والأحاديث في هذا المجال كثيرة.

٥٣٥

يقتضي التخصيص في بعض الموارد بالنسبة لهذه الآية العامة ، وليس هذا موضوعا جديدا ليكون محل نقاش بعض المفسّرين.

وخلاصة القول فإنّ هناك غايات مختلفة للمصائب والمشاكل التي تصيب الإنسان ، حيث تمّت الإشارة إليها في المواضيع التوحيدية وبحوث العدل الإلهي.

فالملكات تنمو وتتكامل تحت ضغط المصائب ، ويكون هناك حذر بالنسبة للمستقبل ، ويقظة من الغرور والغفلة وكفارة للذنب و ...

وبما أن أغلب أعمال الأفراد لها طبيعة جزائية وتكفيرية ، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك بشكل عام.

ولذا فقد ورد في الحديث أنّه وعند ما دخل علي بن الحسين عليه‌السلام على يزيد بن معاوية ، نظر إليه يزيد وقال : يا على ، ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (إشارة إلى أنّ مأساة كربلاء هي نتيجة أعمالكم).

إلّا أنّ الإمام عليه‌السلام أجابه مباشرة : «كلا ما نزلت هذه فينا ، إنّما نزل فينا : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا من أمر الدنيا ، و، لا نفرح بما أوتينا» (١).

وننهي هذا الكلام بحديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام فعند ما سئل عن تفسير الآية أعلاه قال : تعلمون أن عليا وأهل بيته قد أصيبوا بالمصائب من بعده ، فهل كان ذلك بسبب أعمالهم؟ في حين أنّهم أهل بيت الطهر ، والعصمة من الذنب ، ثمّ أضاف : نص إنّ رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كلّ يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب ، إنّ الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب (٢).

٣ ـ البعض يشكك في أن يكون المقصود من المصائب في هذه الآية مصائب

__________________

(١) تفسير علي بن بن إبراهيم طبقا لنور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨٠.

(٢) أصول الكافي طبقا لنور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٨١.

٥٣٦

الدنيا ، لأن الدنيا هي دار العمل وليس دار الثواب والجزاء.

وهذا خطأ كبير ، لوجود آيات وروايات متعددة تؤّكد أن الإنسان يرى ـ أحيانا ـ جانبا من نتيجة أعماله في هذه الدنيا ، وما يقال من أن الدنيا ليست دارا للجزاء ولا تتم فيها تصفية جميع الحسابات ، لا يعني عدم الجزاء بشكل مطلق ، حيث أن إنكار هذه الحقيقة يشبه إنكار البديهيات ، كما يقول المطّلعون على المفاهيم الاسلامية.

٤ ـ أحيانا قد تكون المصائب جماعية ، وبسبب ذنوب الجماعة ، كما نقرأ في الآية (٤١) من سورة الروم : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وواضح أن هذا يختص بالمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بالمصائب بسبب أعمالها.

وورد في الآية ١١ من سورة الرعد : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

وهذه الآيات تدل على وجود ارتباط وعلاقة قريبة بين أعمال الإنسان والنظام التكويني للحياة ، فإذا سار الناس وفقا لأصول الفطرة وقوانين الخلق فستشملهم البركات الإلهية ، وعند فسادهم يفسدون حياتهم.

وأحيانا قد يصدق هذا الأمر بخصوص آحاد الناس ، فكل إنسان سيصاب في جسمه وروحه أو أمواله ومتعلقاته الأخرى بسبب الذنب الذي يرتكبه ، كما جاء في الآية أعلاه (١).

على أية حال ، فقد يتصور البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي. لذا فإن آخر آية في هذا البحث تقول : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي

__________________

(١) الميزان ، المجلد ١٨ ، ص ٦١.

٥٣٧

الْأَرْضِ) (١). وفي السماء بطريق اولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أن كلّ عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له؟

وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم ، فاعلموا : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

قد يكون الفرق بين (الولي) و (النصير) هو أن الولي هو الذي يقوم بجلب المنفعة ، والنصير هو الذي يقوم بدفع الضرر ، أو أن الولي يقال لمن يدافع بشكل مستقل ، والنصير يقال لمن يقف إلى جانب الإنسان ويقوم بنصرته.

وفي الحقيقة فإن آخر آية تجسد ضعف وعجز الإنسان ، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته (٢).

* * *

مسائل مهمّة

الاولى : مصائبكم بما كسبت أيديكم :

يتصور العديد من الناس أن علاقة أعمال الإنسان بالجزاء الإلهي مثل العقود الدنيوية وما تحتويه من الأجر والعقاب ، في حين قلنا ـ مرارا ـ إن هذه العلاقة أقرب ما تكون إلى الارتباط التكويني منه إلى الارتباط التشريعي.

وبعبارة اخرى فإنّ الأجر والعقاب أكثر ما يكون بسبب النتيجة الطبيعية والتكوينية لأعمال الإنسان حيث يشملهم ذلك. والآيات أعلاه خير شاهد على هذه الحقيقة.

وبهذا الخصوص هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نشير إلى بعضها

__________________

(١) «معجزين» من كلمة (إعجاز) إلّا أنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه ، حيث يقتضي معناها ذلك.

(٢) في ظلال القرآن ـ المجلد السابع ص ٢٩٠.

٥٣٨

لتكميل الموضوع :

١ ـ ورد في إحدى خطب نهج البلاغة : «ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش ، فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها ، لأن الله ليس بظلام للعبيد ، ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم ، وتزول عنهم النعم ، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم ، ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد» (١).

٢ – وهناك حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام في (جامع الأخبار) حيث يقول : «إنّ البلاء للظالم أدب ، وللمؤمن امتحان ، وللأنبياء درجة ، وللأولياء كرامة» (٢).

وهذا الحديث خير شاهد للاستثناءات التي ذكرناها لهذه الآية.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام في الكافي أنّه قال : «إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ، ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها ، ابتلاه بالحزن ليكفرها» (٣).

٤ ـ وهناك باب خاص لهذا الموضوع في كتاب أصول الكافي يشمل ١٢ حديثا (٤).

وكل هذه هي غير الذنوب التي صرحت الآية أعلاه بأن الخالق سيشملها بعفوه ورحمته ، حيث أنّها ـ بحد ذاتها ـ كثيرة.

الثانية : اشتباه كبير

قد يستنتج البعض بشكل خاطئ من هذه الحقيقة القرآنية ويقول بوجوب الاستسلام لأي حادثة مؤسفة ، إلّا أن هذا الأمر خطير للغاية ، لأنّه يستفيد من هذا الأصل القرآني التربوي بشكل معكوس ويستنتج نتيجة تخديرية.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الخطبة ١٧٨.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ٨١ ، ص ١٩٨.

(٣) الكافي ، ـ المجلد الثّاني ، كتاب الإيمان والكفر ـ باب تعجيل عقوبة الذنب ـ الحديث ٢.

(٤) المصدر السابق.

٥٣٩

فالقرآن لا يقول أبدا بالاستسلام حيال المصائب وعدم السعي لحل المشاكل ، والركون للظلم والجور والمرض ، بل يقول : إذا شملتك المصائب بالرغم من سعيك ومحاولاتك لدفعها ، فاعلم أن ذلك هو كفارة الذنوب التي قمت بها وارتكبتها ، عليك أن تفكر بأعمالك السابقة ، وتستغفر لذنوبك ، وتصلح نفسك وتكتشف نقاط ضعفك.

وإذا ورد في الروايات أن هذه الآية من أفضل آيات القرآن ، فذلك بسبب تأثيرها التربوي المهم ، ومن جانب آخر تقوم بتخفيف هموم الإنسان ، وتعيد الأمل وعشق الخالق إلى قلبه وروحه.

الثّالثة : من هم أصحاب الصفة؟

الذين يذهبون إلى زيارة قبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، يشاهدون مكانا مرتفعا قليلا عن الأرض في زاوية المسجد وقرب القبر الشريف حيث عزلت أطرافه بشكل جميل عن باقي المسجد ، كما أن الكثير ينتخب هذا المكان لتلاوة القرآن والصلاة.

هذا المكان يذكرنا بمكان (الصفّة) وهو المحل الذي هيأه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجموعة من الغرباء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم مأوى سوى المسجد (١).

توضيح :

أوّل شخص غريب اعتنق الإسلام ولم يكن يملك مكانا في المدينة هو شاب من أهل اليمامة يسمى (جويبر) حيث أن قصة زواجه الشهيرة مع (الذلفاء) تعتبر من أجمل حوادث محاربة الفواصل الطبقية في التاريخ الإسلامي.

__________________

(١) «صفة» على وزن (غصّة) وتعني في اللغة الصيفية المغطاة بسعف النحل.

٥٤٠